قادة ذهبوا

(١) الأب هنري لامنس: المستشرق البلجيكي اليسوعي

لا حاجة إلى أن نبين لقرائنا ما ينجم من الفوائد الجمة من تشكيل جمعية تاريخية في سورية كما وصفها الأب لامنس، بل يأخذنا العجب من عدم إنشائها حتى الآن، لا سيما أن بلاد الشام من الأقطار التي توفرت فيها الآثار التاريخية، ونحن الأوروبيون نبني آمالًا طيبة على جمعية تاريخية يكون أعضاؤها شرقيين؛ لأن أبناء البلاد ينالون بزمن قليل ما لم ينله الغرباء بعد الجهد الجهيد، وإذا تشكلت هذه الجمعية بادرت الجمعيات الأوروبية إلى مكاتبتها، فتقوى بذلك على إتمام مشروعات علمية ذات شأن خطير.

الدكتور ج. كمبفماير
متمشرق ألماني

توارى وجه الأب هنري لامنس في ظلمة القبر، فانطوت صفحة مجيدة من محققي تاريخنا المجيد، وآثارنا الدالة على من سلكوا هذه الطرق قبلنا.

كان لامنس لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجًا مشعلًا، حياة كلها عمل لا تعرف الملل، وعزم لا يفله الكلل، لقد ترك فيما كتبه هذا العلامة المفكر منارة للتائهين في مجاهل التاريخ، يقرءون على ضوئها الوهاج سطور المعضلات المبهمة، ويفكون أختام الأمس، عاش الرجل مجردًا عن الأهواء، وكتب منزهًا عن الغرض لا يتعثر علمه بدينه، فمات بريء الذمة.

حرث كرم ربه من الصبح إلى المساء، واشتغل من الفجر إلى العتمة، فاستحق دينار ربه حلالًا زلالًا، لقد ترك آثارًا تدل عليه فلننظر إليها باحترام وإجلال.

لقد أحيا الأب لامنس آثار لبنان، فعلى لبنان أن يمجده.

لقد أحيا لامنس صفحات مجيدة من تاريخنا العربي، فلنكتب اسمه في أمثل صفحة من هذا التاريخ.

كان لامنس ضيفنا، ولكنه ضيف فعل ما عجز عنه رب البيت، فلنتعاون على تكريم ذكرى هذا الضيف الذي لم يحسب قط أنه غريب، فمنذ أربعين عامًا كتب «هيا بنا على درس تاريخنا»، ثم درسه فأحياه.

أرأيت هذه «النا» في تاريخنا ما أعذبها وأحلاها في ذلك الفم الطاهر، لقد أنطق لامنس خرائب لبنان المبعثرة، وخلق من صخورنا الأرملة لسانًا فصيحًا يخبر بأعمال السلف، وجعل من قلمه دعامة تقيها الانهيار، ولكن يد الجهل محت كثيرًا مما أبقت يد الدهر منها؛ إذ لم تتحقق فكرة الأب لامنس بتأسيس جمعية وطنية تصونها (راجع كلمة الدكتور كمبفماير).

إن لبنان يا لامنس، بقلاعه وحصونه، ومعاقله وكهوفه، بكنائسه المسيحية، وهياكله الوثنية، من قرن رأسه إلى كعب رجليه، من الشمال إلى الجنوب، يذكر وجهك الصابر على معارجه وأوديته، وجباله وقممه، وهو يقف اليوم حيال قبرك يرثي ذلك الجهاد الصامت والثبات الباش.

حدثتنا في ما كتبت عن آثارنا كأنك ابن عمنا، وواحد منا، وقمت تحثنا على حفظ آثارنا، وتقرئنا سطور أمجادنا بالمدلِّ، فليشاركنا اليوم في تمجيد ذكرك من أرخت معابدهم، وانتزعت ذكراهم من فم العوادي.

إن ابني بلدي، أدونيس والزهرة، يمشيان معي في موكب مجدك، فهل تقبل تمجيدهما لك؟ لست أشك في ذلك، فأنت عشت للتاريخ، والتاريخ لا دين له، وهما من أبطاله الخالدين، هما بطلا الأساطير اللبنانية العالمية، أنعشت سيرتهما الحياة العقلية زمنًا في هذا الجبل الذي سرحت بصرك في آثاره، ثم شاء ربك أن تنام على ساحله الضحوك تناجيك نجومه الساهرة وشمسه المتجردة، فنم بأمان الله يا لامنس.

لو مات لامنس في غير لبنان لتولت الحكومة دفنه ولو كان راهبًا، ما كان لامنس للآباء اليسوعيين وحدهم، بل كان للبنان وللعرب أجمعين، فمن لنا بأمة تعيده تمثالًا يذكرنا بأياديه البيضاء على تاريخها المجيد، إن لامنس أحيا الأمة وآثارها، فلتحتفل الأمة على الأقل بذكراه.

أين أنتم يا هواة الأدب! ألم تعينوا بعد تلك الساعة التي نجتمع فيها لتعظيم رجل خلق العظمة من صخورنا، والمجد ما نمر به ولا نشعر بفخامته! ففي مفرق كل قمة من قممكم تاريخ شعب هداكم إليه لامنس.

لست أدرس الآن ما تركه هذا الكاهن من آثار، ولست أنقد وأحلل، فأنا لم أقرأ من آثاره إلا ما نُشر في بيروت، ولكن هذا يكفيني لأكتب مقرًا بفضل رجل على أمة منثورة تحت سماء الله الواسعة، فهل يضيع فضل رجل في أمة شيمتها عرفان الجميل؟ اللهم لا.

إننا لا ننصف الأب لامنس إذا لم نعرف عن شعورنا نحوه بأثر فخم يذكرنا بفضله علينا، وهذا أقل ما يجب نحو هذا الراحل الجبار، فهلموا يا أصحابنا إلى إحياء ذكرى علامة جليل، أيموت رخيصًا من أنفق أغلى ما يملك على درس بلادنا دراسة عميقة هي ذخيرة لنا؟ فهذا الفقيد العظيم متمشرق فاهم، وليجز الله عنا العلماء الفهماء، فهم سرج الأزمنة.

عرفت لامنس في وادي عين كفاع الرهيب، عرفته يوم كان نشيطًا يفر مثل الطوير، ويتسلق جبلنا «العاصي» ليصعد إلى الكهف الأشدق، ليكتب عن «دير القطين» ويصف «سيدة البزاز» (تسريح الأبصار، ج١، ص٩٢).

كنت يومذاك فتى لا أعرف عن لامنس إلا أنه «بادري» كما قال لي معاز الضيعة، ولامنس لم يلتفت إلي إلا مرة ليأخذ عني اسم الدير والكنيسة كما يعرفان، وأنا ما كنت أطمع منه إلا «بصليب وأيقونة ومسبحة»، ولكنني لم أظفر بشيء غير تخزق ثيابي، فعدت إلى الضيعة ليضحك مني رفاقي، وأنعت أنا هذا البادري بالبخل، ومنذ تلك الساعة لم أر وجهه قط، ولم أعرفه فيما بعد إلا من صورته المطبوعة لا أذكر أين.

وجاء بعده بادري يحمل مطرقة يكسر بها الصخور، فلم أذهب إليه بعد خيبتي الأولى، وأظنه زموفن الجيولوجي.

فهل حمل لامنس على صعود جبالنا ودخول كهوفنا المخيفة غير خدمة العلم؟ فلننهض إذًا جميعنا لتكريم العلم والعلماء المخلصين بشخص هذا الفقيد الغالي.

إنني أوجه كلمتي إلى الذين عرفوا لامنس، ومن منا لم يعرفه! من منا لم يقرأ شيئًا من فصوله الرصينة، وكتبه الثمينة التي تلقي الأشعة الثاقبة على ظلمات تاريخنا، إنني أوجه كلمتي خصوصًا إلى أدباء الشباب الذين سيرون معينًا أصفى من عين الديك في آثار لامنس، فقد عبد لنا الطرق القلقة المجاز، فلنتذكر جميعًا هذا الغريب الذي أحب بلادنا حبًّا جمًّا، ومات تحت سمائها، فلنجعل ذكره ممجدًا.

أنا عالم أن شعار لامنس كشعار رهبانيته «المجد لله الأعظم»، فالله نسأل أولًا أن يجزي من عمل لمجده، ثم نسأل الناس أن يحملوا قسطهم من الجزاء «الفاني» تشجيعًا للأحياء واعترافًا بفضل المحسنين.

(٢) عمر في يومه الأسود

لا أظنني أمنح عمر فاخوري وسامًا بعد الموت؛ إذ أكتب عنه هذه الكلمة المغمومة، لقد تناولت عمر في ما مضى جملة وتفاريق، والعهد بآخر كلمة غير بعيد، كنت فيها مصورًا ومقارنًا وباحثًا جهد الطاقة.

لست آسف على سنوات عجاف يعيشها عمر ويمشي فيه أدبه مشية السرطان في بدنه، لقد أحسن القضاء صنعًا إذ جذب ثنيي الطوال المرخى، وأراح عمر من بقاء هو فيه:

عليل في مكانين
من الأسقام والدين

كما قال الجاحظ عن نفسه في آخر العمر.

عدت عمر أول مرة فخلتني أمام مومياء تحدثني، فارتعت ثم تجلدت لئلا أريعه، ولعله قد رأى ذلك في وجهي حتى قال لي: وجهك أصفر!

فأجبته: الدرب طويل، والسلم عال، وأنا ابن ستين، فاصبر علي قليلًا يعد جمالي الهارب!

فابتسم ابتسامة دميمة جدًّا وقال: تتهكم عليك إذا لم تجد واحدًا غيرك.

فقلت: ما وجدت ترياقًا لسم الحياة أشفى من الهزء بها وبناسها.

•••

رأيت اليرقان قد خلع على عمر كل ما عنده من زعفران، فسألته عما به، فأجاب بعد سكوت لا أجد له نعتًا: قلة العافية، وعناء الحمية، الغمرة انجلت، ولكن …

قلت: دعنا من لكن، السلامة غنيمة يا أخي.

فأطرق ولم يجب، وأطرقت مثله ألوم نفسي، وطال السكوت فقلت له: متى تعود إلى عشك؟

فأجاب بهز شفتيه، فعلمت أن لليرقان أحلافًا تشد أزره في حرب عمر، ثم مشى بيننا حديث متقطع موجع، انصرفت على أثره بأمل قصير الخطى.

وبلغني أن عمر عاد من عند أمه، فهرعت لأهنئه بالسلامة فقالت لي الخادمة: معلمي في السبيتال.

فقلت: والست؟

فأجابت: معه، فكملت طريقي إلى المستشفى الأميركي فلم أستطع مقابلته، وتلفنت مرارًا أسأل عن صحته، فكان الجواب بردًا وسلامًا.

ثم فصل بيني وبينه الصيف، فما ضيعت اللبن فيه، وعاد عمر إلى بيته فجئته مستكشفًا، فرأيته لا حيًّا يرجى ولا ميتًا فيسلى، وتسقطت رأيه في نفسه فوجدته عريض الأمل، كبير الرجاء، وقعدنا حيث اعتدنا أن نجلس فلم يشك عمر الداء بل شكا سوء الحال وقلة الوفاء.

رجونا أن يكون سفيرًا أحمر فإذا به يمسي شهيدًا أخضر، وتباحثنا الغد، فإذا بصاحبي متبرم ساخط، تعاون عسره ومرضه على هيكله الواهي، عاف عمله في الإذاعة انتصارًا لوطنه فذاعت القلة في كيسه، وخسر موردين: الإذاعة وكلية الآداب، وأثقل دينه ظهره، لم يبق له غير جراية وظيفته الحكومية وهي لا تسد ثغرة العقاقير، فاضطر إلى بيع أعز المقتنى، وكانت مكتبته كبش المحرقة.

قال لي: غدًا — وغدًا بمعناها اللبناني الواسع — أدع كل هذا وانصرف إلى العمل حرًّا.

فقلت: وما نويت أن تعمل؟

قال: أعود إلى المحاماة، وأعلم معك إذا اقتضت الحال.

وحدقت إليه لعلي أدرك عمق يأسه ومدى ألمه، فرأيت بريق زجاجتيه قد تضاءل، وزيت قنديله قد شح، فقلت له: يا قليل العقل، تعود إلى المحاماة والتعليم بعدما خيمت في الشاطئ يا أبا منذر؟

فانفرجت شفتاه زهاء ميليمتر ولم يجب، فقلت له: كفاك الله شرهما يا عزيزي، فالذي لم يسهل عليك عمله شابًا يعتاص عليك كهلًا، أما سمعت قول المثل اللبناني: بعد ما كبر وشاب حطوه في الكتاب؟

قال: ولم لا تقول شيخًا؟

قلت: لكيلا أصير أنا هرمًا.

فضحك ضحكة فزعتني، ليس بينها وبين ضحكة الهيكل العظمي فرق كبير.

كان عمر قليل الكلام معافى، فكيف به وقد هد حيله اليرقان، وله كبد مقروحة، لا يبيعه أحد بها كبدًا ليست بذات قروح، كان يعاني مرضًا كالنعاس يهد ولا يؤلم.

وثنيت عنان الحديث صوب النوادر والفكاهة فوجدته لا ينشط لها، فعدت إلى دار المكشوف أحدث صديقنا الشيخ فؤاد حبيش عن الخطر العتيد.

•••

وفي خطرة ثانية سألت الشيخ الحبيشي عن حال عمر فقال لي: بخير، كان هنا، فقلت في قلبي: إذن ما أبعد الموت عنك يا مارون، إن صح عمر وسلم.

وذهبت إليه لأهنئه بالسلامة فوجدتني أقول: عفوًا، لا تخدع نفسك، توق ما استطعت، ما أراك كما أشتهي.

فأجاب، ما كنت يومًا في حياتي كما تروم أنت، أحس أنني أتحسن، ولا أدري إذا كنت أبلغ المرتبة التي أجلس فيها أمام قدح من عرقك المثلث، وخمرتك الدهرية.

فقلت: الله كريم.

ونظرت إليه فخلتني أرى ملامح رجل من وراء برقع، وأنني أمام شبح يمثل عمر، وقرأت أن أحدهم حمل إلى عمر وسام الاستحقاق اللبناني فقلت: ولم هذه العجلة؟ خامرني ريب فيها فسألت أصحابنا فقالوا: لا، ولكنني رجعت إلى نفسي وقلت: إنه فأل غير مليح.

وعدت من «فرصة الربيع» ومعي لأخي عمر شيء من تلك التي شبه بها سليمان حب الشولمية في نشيد إنشاده، وما وضعت الأثقال لأفعل كما قال الأخطل عن قطار فلسطين، حتى حمل إلي الأثير صوت الأستاذ رئيف خوري يؤبن صديقنا عمر، فضربت المكتب بجمع يدي وهجم الدمع إلى الخدود، ولكنه لم يتجاوزها، كعادته في المصائب الجلى.

إن حصة عمر محفوظة وستبقى مختومة على «السدة»، ولا ترى النور إلا حين نشربها في عين كفاع مع إخوان عمر وأصدقائه، صانعين هذا لذكر كاتب عظيم مات.

سنصنع هذا الذكر ركن من أركان هذه النهضة، لذكر موظف عاش نظيف اليد والجيب، ما مد يده قط، ولا اشتهى مقتنى غيره، عاش لا يفصل بينه وبين الناس ذاك التعنقص الذي يتنكر به بعض الأدباء والمتأدبين لأصحابهم متى وظفوا.

كان لا طائفيًّا، ولكنه لم يتشدق يومًا بذم الطائفية كأصحابنا الأشد تعصبًا من الكهان، ثم يتفانون غيرة على الأوطان، كان عمر لا يصيح ولا يماحك ولا يداهن ولا يصانع، فظل حيث هو لأنه لا يحسن المداجاة والمصانعة والمداهنة؛ لأنه أبيٌّ ثابت يزدري المنافقين والزنادقة الذين يكرون مع كل خيل مغيرة.

ترك ما ترك من موارد رزق تعصبًا لبلاده وانتصارًا لها، ولم يشعر أحد بما صنع، ولو فعل ذلك غيره لأقام الدنيا وأقعدها.

عاف موارد رزقه وعاش مكثورًا عليه ليتضامن مع بلاده، فعل كل ذلك صامتًا؛ لأنه ليس من الذين يجعلون من الحبة قبة ومن القبة جبة؛ لأنه من غير الذين يجمزون كالقبابيط في حقل المراتب، ويدعسون على جثث أصدقائهم ليرتقوا درجة ويكسبوا ليرة ورقًا.

إن هذا الاستطراد يجرني إلى الكلام عن شخصيته، لم يكن عمر حسودًا ولا حقودًا، كان على ما فيه من شمم وإباء لا يزهى ولا يتكبر، كان محبًّا وإذا أبغض أعرض وازدرى، وخرج بالصمت عن لا ونعم كصاحبه بشار.

كان فمه نظيفًا لا يتبذل حتى في المجالس الخاصة التي كنا نعطي فيها المرح حقه، فكان يقابل تلك النكات الصارخة بربع ابتسامة، ويشارك بكلمات كان يستعد لتأديتها استعداد طالب غير واثق من ذاكرته.

ولم يكن عمر عدوًا في ثياب صديق، ولم يكن من الذين يقتلون الرجل ويمشون في جنازته شاقين الجيوب حزنًا على الفقيد الغالي، أما في الأدب فكان مؤمنًا ولكنه غير ممارس الطقوس المنظمة، يصلي لآلهة الفن بما يدور على لسانه، لم يكن أديبًا محترفًا بل كان أديبًا هاويًا، كان كسميه الشاعر عمر — غفر الله لهما — موكلًا بالجمال يتبعه، كان لعمر بن أبي ربيعة لذة النظر كما زعم، وكانت لعمر فاخوري لذة العمل الفني، وما معشوقاته غير الكلمات اللواتي يؤلف بينهن ولا يجعلهن ضرائر، أولع بالجديد ولم يتنكر للقديم فكان من خير من كتبوا بلسان العرب من المحدثين.

وأخيرًا مات هذا النسر وعينه إلى القمة، لم ينظر قط إلى الأوحال التي يتمرغ بها بعض زرازير الأدب.

لا أقول أن خسارة الأدب العربي لا تقدر أو لا تعوض، فحسب الذرية ما تركه لها عمر من نماذج، وقد لا يصنع أجمل منها لو عمر كمتوشالح.

(٣) في ذكرى عمر١

لقد أشبعت عمر درسًا في حياته وبعد مماته، أما الآن فسأتحدث إليكم كما يطيب لي أن أتحدث، ولعله يطيب لكم.

أفلا يعنينا من الأديب غير تعبيره وتفكيره؟ فأين نحن من أخلاقه؟ ألسنا أحوج إلى هذا منا إلى غيره من الخصال؟!

مساكين أهل «الفن» حتى قبورهم
عليها تراب الذل دون الخلائق

أسرجوا الخيول، واقرعوا الطبول، أي خيول يا سادة؟ خيول الفكر لتجلي في ميادين الورق، وطبول الخطب لتقرع في حفلات التكريم والذكرى، مسكين الأديب يعيش على الكلام ويموت على الكلام، فكل ما يعمل للأدباء عندنا هو من بضاعتهم تلك: «حكي بحكي»، والذي مات بداء الحكي غمًّا نحاول أن نحييه بالحكي، ثم نعد هذا خلودًا.

خلود، نعم، قال جبران: يقولون لن تعرف قدرك حتى تموت، لقد أصابوا، فمن يا ترى يعرف طبيعة البذور التي تطرح في الأرض قبل أن تنبت؟

هذي غير تلك يا جبران، وأنا لست على رأيك في هذا القول، لا أريد أن أموت ليعرف الناس قدري، فيومٌ حلو جميل، وأمسية أو عشية نتمتع بها بمثل هذا الاجتماع بكم يا سادة، يسوى ألف خلود أدبي بعد الموت، وما هذه الآمال والأماني إلا تعلة البائسين، وجلهم من الأدباء.

هذه علكة كالتي يُلهون بها الأولاد عن أكل لباب اللوز حين يستأجرونهم لتكسيره، ما لنا ولهذا الخلود الكاذب، أنعيش فقراء منكوبين بجيوبنا؟ أينعم بخيرات الأرض لننعم نحن فيما بعد بحفلة تكريم؟ أليس كل راحل عظيمًا؟ أليس كل ميت عبقريًّا؟

أنا لا أقول ما قاله الحجاج: والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه، يظهر أن عمامته تلك كانت أرثَّ وأعتق من عمامة نقولا الترك التي سأل الأمير بشيرًا أن يعتقها مع ذلك الشروال.

وبعد فلنفرض أن أديبًا عظيمًا مات، فمن يشعر بموت هذا الأديب غير المصابين مثله بداء الكلام؟ يموت رجل وارم الكيس، منتفخ الصندوق، فتهتز الأرض بالطول والعرض، حكومة وشعبًا، ويموت الأديب الألمعي فلا يشيعه غير جيرانه وإخوانه.

وبعد هذا، ماذا؟ اسمعوا، علينا أن نقيم لنوابغنا آثارًا مشهودة لنحث شبابنا على اقتفاء آثارهم، فقد كادت لحية لبنان أن تنصل، علينا أن نعزز الأديب حيًّا ليقتدي به النشء ويكون للوطن غيره، وإلا انقطع النسل الأدبي، فهذا الأديب العظيم الذي اجتمعنا لإحياء ذكراه الليلة، أتعرفون ماذا حل به قبل لفظ روحه؟ لقد مات معوزًا وكفى، وما يوم حليمة بسر، فلننتقل إلى أدبه.

قرأت بعد موته صفحة من إنشائه فكدت أنكرها لو لم يثبت لي ذلك خطه، تسمعون، ولا شك بالعملية القيصرية، هكذا كان عمر يضع مواليده، اثنان كانا مقلين مجيدين: جبران وعمر، وكلاهما كان صائغًا متأنقًا، وقد عرفت ذلك أثناء اطلاعي على مخلفاتهما التي لم تبع كمخلفات الجيش.

كان عمر صريحًا لا يواري ولا يوارب، وحسبك منه قوله: «فإذا بما يفيض من عبقرية جبران يروي بطاح المستقبل، بينما عبقرية شوقي مسفوحة على هضاب الماضي، وشوقي من الشرق وجبران من الغرب، فلا يلتقيان إلى يوم القيامة، ويغلب على الظن أن الشرق سيظل كامرأة لوط، في موكب الزمان، ناظرًا إلى ورائه فيمسخه الله صنمًا من ملح؛ أي من دموع جوامد، على حد قول أندره جيد الذي يزعم أن لوط ضاجع ابنتيه في إحدى منعطفات التاريخ، وهو ناظر إلى المستقبل.»

أجل، كان لعمر فصول ولكنها روائع حقًّا؛ لأنها ملك صاحبها وعليها ماركته المسجلة.

أما وقد انتهيت من عمر، فلا بد من كلمة دعت إليها الحال، أما حان للأدباء أن يدعوا الشكوى؟ فأصحاب أرميا كفوا البكاء.

الأدباء من المواطنين، ولهم على الدولة ما يطالب به كل مواطن منكوب بزلزال، ولهم أسوة بمن ذهبت الثلوج والعواصف بموزه وليمونه.

الأدباء دعاة الأمة ولهم على الدولة ما له عليها كل رجل من رجالها، فأناشد الله من يعنيهم الأمر أن لا يتركوا الأديب حتى يموت ليتبرعوا بتجهيزه.

إن يومًا هانئًا على وجه الأرض لخير من كل ما يعمل له وهو في بطنها، إذا ذهبت النفس فلا أسف على الجيفة.

وأنتم أيها المحتفون بذكرى عمر، هلموا بنا نعمل أثرًا يحيي ذكرى عمر في غير هذه القاعة أيضًا، أخرجوا «الأديب إلى السوق» فينعم بمشاهدة أبطاله، لقد كثرت ضيوف المكتبة الوطنية، وإنني لأخاف أن تضيق صدورهم يومًا فتعلو صيحتهم، ويتكلم كل منهم على هواه، فما يفهم الحداث إلا التراجم، فهبوا بنا نخرج الخالدين إلى الهواء الطلق.

رحم الله من سمع ووعى، والسلام عليكم.

(٤) المونسينيور فغالي

في مدرسة أكثر من متواضعة نشأ المونسينيور ميخائيل الفغالي؛ حيث نشأ قبله أخوه المطران بطرس، تلك المدرسة الصغيرة الجاثمة على كتف جسر المدفون، في مزرعة اسمها كفر شخي كانت ملعب صبانا، كان نخلة يوسف — أي المونسينيور فغالي — أكبر مني قليلًا، فكنا صديقين صغيرين، وعشنا كذلك كبيرين، والرأي مختلف.

لا تبارح مخيلتي صورة صديريته الديما — من حياكة فغال — ذات صفين من الأزرار الزجاجية الرخيصة، ولست أنسى شراويلنا البيض المصنوعة من المقصور، وكانت بذلة الأحد والعيد غنبازًا من الجوخ الرصاصي شتاء، ومن الحرير المحاك في بيت شباب أو الستي كروزا صيفًا، أما اللباس الفرنجي فلم يكن له أثر.

كان يرعانا ويعلمنا كاهن جليل اسمه الخوري مارون شكور، وهو ابن كفر عبيدا ضيعة نخلة يوسف، كان معلمنا رحمه الله عارفًا بأصول العربية معرفة دقيقة، وبارعًا في «الليشيات» أي لماذا رفعوا اسم كان، ونصبوا اسم إن مثلًا، فكان يحملنا من تلك الأثقال ما استطاع لا ما نستطيع.

وكان نخلة يوسف في الصف الأعلى، فكنت أستفتيه فيما يشكل علي من مسائل، وما يفوتني من «درر» الليشيات، وكان صديقي كريم الأخلاق لا يستثقل أن يجيب على أسئلة طالب في الثالثة عشرة، لم أكن في ذلك العهد أحسن درس الأخلاق ومع ذلك كنت أعجب بهدوء نخلة يوسف ورزانته، وأحاول أن أترصن مثله ولا أقدر.

كانت ابتسامته حائرة ولكنها صافية خالية من كل معنى إلا معنى المحبة، وكان قدوتنا في اجتهاده، فلا يخلو من كتاب، إن لم يكن في يده، فهو تحت إبطه أو في جيبه.

ومات في تلك السنة — ١٨٩٩ — البطرك يوحنا الحاج، فهب شعراء المدرسة يرثونه ويتفجعون عليه، خائفين على الطائفة بعده، وانتخب المطران إلياس الحويك بطركًا، وكان هوى رئيس المدرسة — الخوري بطرس بوصعب — مع المطران أبي نجم، فغمرت المدرسة موجة يأس وخسرنا «الفادوس»، ثم كان الرضى والتسليم فاقترح معلمنا وراعينا على الشعراء من كبار التلامذة، أن يهنئوا صاحب الغبطة الجديد، فقال الكثيرون منهم شعرًا، قال معلمي الأول طنوس حنا إلياس من عين كفاع:

قد سدت يا بدر السعادة والهدى
وبدا ضياك لكل مغو فاهتدى

وقال الخوري مارون شكور، مدرس البيان في مدرسة مار ساسين فغال:

أحن إلى النظم الرقيق توددًا
وقلبي بحب الغيد لن يتقيدا

وقال نخلة يوسف كفر عبيدا:

ألا أيها النشوان من خمرة الذعر
أفق لا تخف أُمِّنت من نوب الدهر٢

هذا هو المونسينيور فغالي في مار ساسين فغال، وافترقنا سنة ثم اجتمعنا في مدرسة مار يوحنا مارون الإكليريكية، وهناك في الغابة التي تلف دير كفر حي التاريخي، جددت مع صديقي نخلة يوسف ذكرى سنديانات مدرسة مار ساسين فغال، كنت كبرت قليلًا وأصبحت أقدر على إدراك معاني الحياة فصارت عشرتي ألذ، كانت لنا حركات تستفز الأساتذة وتضحك التلامذة، فكان المرحوم نخلة يفوز من حركاتي بالغنم وأفوز أنا بالغرم.

لم أكن أبالي بما عند جبابرة الأساتذة من بطش في سبيل توطيد عرشهم، خاطروني مرة في مدرسة مار ساسين على التدخين في قاعة الدرس فدخنت، وكان الجالس سعيدًا على عرش «المناظرة» حنا الخور حاقل — الخوري ميخائيل الخوري، كاهن رعية مار مارون، في بيروت سابقًا — فأنزلوا بي عقابًا شديدًا، أطعمت الخبز اليابس راكعًا في المائدة مدة أسبوعين فقط، ومع ذلك لم أثب فتركت في مار يوحنا مارون قصصًا خالدة.

وأخيرًا صح الصحيح ولبى صديقي نخلة دعوة نعمة روح القدس التي لم تحل علي، فبعثوه إلى فرنسا حيث أتم دروسه الإكليريكية، وهكذا حدت عن ذلك الدرب وافترقنا، ثم اجتمعت به بعد الكهنوت أكثر من مرة، وتبادلنا «النظريات» في حياتنا، وكان آخر اجتماع في مكتبي بعاليه، جلسنا ساعات نتذاكر الماضي ونستعرض شريط حياتنا الماضية، فعشنا بها هنيهة.

كان صديقي غير مغرور، فرأيته بحلاه الذهبية من سلسلة وصليب وخاتم وأزرار حمراء، أكثر منه تواضعًا في صديرية الديما، وشروال المقصور، لم يتغير فيه شيء غير علمه العميق وثقافته الواسعة، قد زودت طلابًا كثيرين أموا فرنسا ببطاقات توصية فكان يحسن استقبالهم في باريس، ويمد لهم يد المعونة غير مدخر شيئًا من وسعه، فيمهد العقبات التي تقف في وجوههم، كان يقابل كل لبناني وسوري، على اختلاف الملل والنحل، ببشاشة وعناية، فكان كما قال مار بولس: صرت للكل حتى أربح الكل.

لندع الآن نخلة يوسف ولنقل كلمتنا في المونسينيور فغالي، كان هذا الكاهن الفاضل نموذج البساطة اللبنانية في حركاته وسكناته وفي أساليب حياته، لم ينصل لونه اللبناني في الغرب، فرغمًا عن تزييه بالسمت الأوروبي كنت ترى سيماء كهنة لبنان في القرن التاسع عشر بادية على وجهه النقي، وهو أحد الذين شرفوا لبنان في الغرب، وبنوا مدماكًا بارزًا في صرحنا العلمي العالمي، فالمونسينيور فغالي ظل لبنانيًّا حتى في لهجته وحديثه، رأى منه الغرب لونًا لبنانيًّا لم يعرفه من قبل، عرفهم بلغتنا اللبنانية العامية الفصيحة، المنفوخة فيها الروح اللبنانية، وحسبك كتابه المعنون لهجة كفر عبيدا.

كان رحمه الله عالمًا بالآداب المشرقية والمغربية، عارفًا لها كل المعرفة، علم لغة العرب وآدابها في كلية الآداب ببوردو، وفي مدرسة باريز الوطنية للغات الشرقية الحية، فأحيا ذكر نوابغنا الذين كانوا أساتذة لغة الضاد ينشرونها في أربعة أقطار المسكونة.

قد أريتك في مطلع كلمتي أنه قال الشعر عربيًّا، لتعلم أنه رجل خدم وطنه ولغته، فإذا ذكر القروم منا كان كالسمعاني والتولاوي والحاقلاني وغانم وغيرهم، حق لنا أن نضيف الخوري ميخائيل إلى ذلك الفهرست الطويل، وإلى عمله في حقل العلم يمكننا أن نضيف عمله الخصيب في القضية اللبنانية، فقد عهد إليه بأمور جسام فحل معضلاتها.

قلت له في عاليه: أعرفك يا خوري ميخائيل رجل علم وأخلاق وفضيلة، فأريتنا أنك تصلح أيضًا للسياسة، فأجاب بالتفاتة إلى فوق، وكثيرًا ما كان يعبر بهذه الالتفاتة البليغة، ويستغني عن الكلام الفارغ.

لست أعدد ما كتبه المونسينيور فغالي من تآليف فهذا لا يعنيني الآن، فالذي يهمني أن أتحدث عنه هو ما قلته، وإني أختمه بقولي: كان صديقي رحمه الله، على علمه الواسع، كما قال الإنجيل عن يوحنا: قصبة مرضوضة، لا يصيح ولا يماحك ولا يطفي سراجًا مشعلًا.

(٥) فؤاد سليمان الأديب والشاعر

فؤاد سليمان في نظري وحدة شعرية لا تتجزأ، هو شاعر في كل ما خطه قلمه من منظور ومنثور، قد يكون شعره كشعر غيره، أما نثره فذو طابع خاص، وكتابه «درب القمر» ديوان شعر له مقوماته وخواصه التي لا تجدها عند غيره، وربما كان هذا الكتاب على صغره، خير ما أنتجه شبابنا في الفترة التي عاش فيها فؤاد سليمان، كأني بهذا الأديب الشاعر نظام مستقل في كون الأدب، له شمسه وكواكبه ونجومه، وكل في فلك يسبحون، فحيثما تصادفه تنبئك عنه خصلتان: عاطفة من نار آكلة، وكلمة من حديد محمى.

هو شاعر الألم وكاتبه، فكل ما نراه على موائد الآلام يتجسد في جمل كتبها قلمه الناري، ما رأيته مرة إلا تخيلت الزئبق الرجراج، لا يستقر على حال من القلق، هو دائمًا متحفز للقفز، فكأن في داخله لولبًا يدور أفقيًّا، نصف ابتسامة بل ابتسامة كالجهشة، وضحكة لا تفتح لك بابًا للانطلاق، ما نسيت يوم عرفته في دار المكشوف فقلت له: كيف يكون سوط النار الذي يسوق أبو شبكة به الشعراء كما قلت؟

فأطرق إطراقة من يتهيأ للوثوب ثم قال: مثل السوط الذي تستعمله أنت في نقدك لهم.

ما أسرع ما أمسى فؤاد سليمان، وا أسفاه، كلمات نرددها، وأكبر هم الأديب هو أن يستحيل في الغد كلمات تجد لها رواة ومرددين، أجل هذا هو ملكوت الأدب الذي يموت العباقرة على رجائه ويعدون به أنفسهم، كان فؤاد من المؤمنين بألوهة الحرف، وكان يقول الصحيح ولو حرقت الكلمة فمه كما يقول المثل اللبناني، والكلمة دعامة الحياة وركيزة صرح الإنسانية، بل هي قوة غير منظورة تلقنها الحياة من يستطيعون تأدية رسالة الحق.

إن تلك الكتلة البشرية التي كان اسمها فؤاد سليمان قد كانت ثورة قائمة برأسها، كانت عاصفة تخبئ تحت جناحيها ابتسامة البرق وقهقهة الرعد، فهو وصاحبه أبو شبكة توأمان، وإن ابتعدا نسبًا يجمع بينهما الشكل والمزاج والعاطفة، كلاهما غنَّيا قلبيهما أولًا، وهذه المنعطفات والقمم ثانيًا، كلاهما ربيبا القرية اللبنانية، فكان لها من شعرهما ونثرهما نصيب، انفتحت أذنا فؤاد سليمان على رنين الجرس المتأرجح في القبة، وكان ملعب صباه تلك البيادر المنبسطة حد بيته في فيع، تلك البلدة الجاثمة على صلعة الجبل، لعب الشاعر ومرح في تلك المطارح الحلوة فانطبعت صورها في نفسه لتستحيل فيما بعد شعرًا طليًّا، كما تستحيل قبلات النحلة لثغور الزهر شهدًا.

لفؤاد سليمان ثلاثة آثار: ديوان شعر، ودرب القمر، وما كتبه بتوقيع تموز، وهذه الآثار وإن اختلفت موضوعًا، هي واحدة من حيث الروح والمحبة والبغض، لقد بكر فؤاد في الحنين إلى أيام الطفولة ومراتع الصبا، فكأنه كان شاعرًا بقرب وفود ذلك الضيف الثقيل عليه.

كان هذا الأديب مناضلًا في درب القمر وفي تموزياته، كان يغضبه كل شذوذ حتى شذوذه هو، فيحتدم غيظه وتخرج الكلمة من تحت قلمه كأنها حديدة خارجة من الكير تقطر دمًّا وتشع نورًا ونارًا، فإذا تصفحنا ديوانه رأيناه يبكر في التوبة، ففي عام واحد، عام ١٩٣٤، نشر أولى قصائده «إلى أين» وختمها بهذا البيت:

يصفق الوادي لأعراسنا
إذ يسمع الوادي صدى القبلتين

وفي العام نفسه نظم «مزمور الخلاص» الذي يقول فيه:

أتوب عن الماضي المجمر باللظى
وأغسل أدراني بقارورة العطر

فكأنه ما شب حتى شاب، ولكنه رغم توبته في شعره ظل حاد الشهوات فتخيل الزنبق، وهو رمز الطهر عند البشر، كأنه يحس ما نحس من شهوات لحمية، فقال في ابتسامة الزنابق البريئة:

ما للزنابق فوق النبع خالعة
عذارها وشباب النبع يغويها

أظنها صورة لم تمر في خاطر شاعر، وما أكثر مواليد قرائح الشعراء.

أما ألفاظ فؤاد وصوره الشعرية فأرى الكثير منها منتزعًا من محيطه، وهذا أثر المربى فينا، فاسمع كيف يخاطب واحدة في قصيدة «عابرة طريق»:

ليس من عجنتي ولا من خميري
فاتركيني أسر وحيدًا وسيري

أما الموت أبعده الله، فكنت أراه في شعره أني اتجهت في ديوانه، كقوله:

إذا تلقين في عيني همًّا
وفي وجهي اصفرارات المغيب

وكما يقول في قصيدة عنوانها «مقبرة»:

أنا وجه القبر تلقين على
جبهتي الصفراء أشباح المنايا
غلغلت في كل ضلع غصة
وجنازات تهادت في الحنايا

أرأيت هذا الشعر الزوالي؟ حقًّا إن خاطر الإنسان دليله.

وبعد فلنطوِ صفحة الفناء لنرى بعض نماذج من ألوان الحب الجارف، ففي قصيدة «الهوى المكتوم» يخاطب حبيبة بشأن ثغر لها، خاف أن تجعله وقف ذرية فقال لها:

خليه لي وحدي على طهره
أنا اللظى، والناس ماء وطين

وفي قصيدة «عذراء» يقول:

إن في صوتك الحنون جراحًا
ألف آه تموج فيه وآه
أنا أهوى على شفاهك شيئًا
غل في فتحة الشفاه وناه

أنظرت إلى ألفاظه؟ فلفظة غل، وفتحة، وعجيني، وخميري قروية لبنانية مائة بالمائة، وما أكثر الفصيح في لهجتنا، فليته لم يستعمل إلا الفصيح الخالص.

ليس شعر فؤاد سليمان ألفاظًا منمقة مرصوفة، ولكنه كلام يحيا بما في قلب قائله من حرارة محييه، ليس هو من أصحاب الرموز وإن قال في قصيدة «العرس الأسود»:

يا حلمي الأشقر يا رفة
طافت بقلب أخرس معتم

وإذا ما تصفحنا درب القمر رأينا أن نثره فيه كديوانه شاعرية؛ ولذلك عددته ديوان شعر، فإذا واجهت «مرايا لم تعد تضيء» اقشعر بدنك لتلك التعابير التي تصف البيت في غياب ربه، لقد أظلم كل شيء في عيني الابن البر، ثم ما لبث ذلك الظلام أن انقشع حين عاد الولد إلى عشه وملأت الخيرات البيت.

أما مقال «طفولتي» فأقول ولا أحسب أني أغالي، إنه أروع مقال قرأته في هذا الموضوع، فهذا التجريد الذي وفق إليه فؤاد جعل الطفولة كائنًا حيًّا وكأنه من لحم ودم.

قلت إن فؤاد سليمان ابن بر بوالديه، وهل يعبر كما عبر إلا من كانت له محبته؟ اسمع ما يقول في وصف وجه أمه: «أمي … من ألوان عود الصليب وجه أمي، وكأن الذي حاكه مرة، حاكه وقطع يده لئلا يحوك مثله.»

وفي «مطارف من أرجوان» منتهى حرية الفكر، وقد استحال فيها فؤاد الأديب، عالمًا نفسيًّا حين حلل نفسية الشاعر وحاجاتها.

أما مقال «درب القمر» فنشيد أناشيد شولميته القرية اللبنانية، وفي «مرايا لم تعد تضيء» نفحة طاغورية.

اقرأ تصويره فيها للبيت والأم المهجورين، هناك تجد صورة البيت اللبناني العتيق تامة الخطوط، فكأنك ترى بعينيك ما يحدثك عنه هذا الأديب الشاعر.

واقرأ «حبة رمل» وقابل بين ما قاله في النبي محمد الرسول الأعظم، وبين ما كتبه غوت شاعر ألمانيا العظيم، لترى أن الموت يقطع الأوتار ولا يرحم، إنها «حبة رمل» ولكنها جبل من شعر.

وفي مقال «في موكب التائهين»: تسمع شاعرًا بوهيميًّا يقول: «أنا هنا في سكرة معربدة محمومة طائشة، حيوان يمشي مع حيوانات، بهيمة تعيش مع بهائم، ملعون من ملاعين الدنيا، أجر جناحي المنتف ورائي على الدروب وفي الشوارع، أنا هنا لم أطلق بعد، متى أتمكن يا صديقي من أن أنفلت من قيود المرأة والتراب، وأوهام اللحم والدم ومقاييس الزمن، فأصبح إنسانًا كاملًا؟»

لقد أخطأت يا فؤاد، فلو صار كما تمنيت لكنت لا شيء، فلولا اللحم والدم، وما على المائدة من مغريات ومقبلات، ما كان لنا فؤاد سليمان.

وبكلمة عابرة أقول: إن درب القمر أنشودة لبنانية أصيلة، كتب الله لها الخلود، وشاعرها يجلي حين يصوب قلمه نحو الينابيع والكروم، وكل ما يمت إلى القرية بصلة.

أما ما كتبه هذا الأديب بتوقيع تموز فقد تصفحته من أوله إلى آخره، حتى وصلت إلى أوراق بيضاء لم يمهل الموت تموز ليسودها ويبيض وجه الأدب، لا أدري لماذا عرتني رعشة عندما وقعت عيني على تلك الوريقات البيضاء، أحسست أن دمعة رقصت بين أهدابي مع أن دمعي في الحوادث غال.

أجل، لم يبق لنا من فؤاد سليمان غير هذه الجزازات من تلك الصحيفة وهاتيك المجلة، ولكنها جزازات تتضمن روحًا كانت تتردد في لحم فؤاد ودمه، فأبقت للذرية هذا التراث الحي.

ففي «التموزيات» يثور فؤاد على كل اعوجاج وقع تحت عينيه، يثور للإنسانية المعذبة كما في الكلمة التي عنوانها «إنسان مدود»، وهو في كل ما كتب في الواقع ما تخلى عن بيانه ولا تجرد من خياله، يخاطب الناس من علٍ مهما علوا، ويقذفهم بكلام كأنه القنابل، ويزدريهم ولا يبالي، وقد يتفق له تهكم مر يأتيه عفوًا، فيبدو جميلًا كقوله: «صرنا نخشى على البيت اللبناني أن ينهار، فالمرأة مشغولة بقضيتها، أعطوها حقها وخلصونا، جربوها فقد تصلح ما أفسدناه نحن.»

وما أبلغ كلمته، بل ما أصدق قائلها حين تحدث عن لص سرق الشاعر ميشال طراد صاحب جلنار، قال: «ما كنا نعلم أن الشاعر الجميل الذي لم يبق شاعر في لبنان إلا وسرق منه لفظًا وطيبًا ولونًا.»

إنها كلمة لها ما بعدها، ذكرتها قصدًا، وموعدنا في التفصيل حين ندرس الشعر العامي اللبناني.

وأخيرًا هذه صورة الشاعر والأديب الذي كانت النار تندلع من عينيه، والكهرباء ترعد أعصابه، هذه صورة ذاك الذي كنا ندعوه فؤاد سليمان يوم كان بيننا، أما اليوم فلا أجد له لقبًا؛ لأن الأسماء والألقاب مبتذلة كلها، فعلى بنات الشعر اللبنانيات أن يجددن عهد النواح على «تموز».

(٦) خمسة في عام واحد: الحداد، المطران، المازني، محمود طه، البعيني

لم يفجع الأدب العربي في تاريخه المديد — كما فجع في عام واحد — بجمهرة خيرة من أدبائه وشعرائه وكتابه، فبعد موت جرير والفرزدق ثم شوقي وحافظ في عام واحد، لم يصب الأدب العربي بما أصيب به هذا العام — ١٩٥٠ — قد توارت خمسة وجوه من دنيا الأدب: خليل مطران، عبد القادر المازني، محمود علي طه، يوسف البعيني، والخوري يوسف الحداد، عمل كل من هؤلاء الخمسة جهده بل فوق مجهوده، فازدادت اللغة العربية ثروة ضمت إلى تراثها القديم.

الخوري يوسف الحداد

مشى الخوري يوسف الحداد في طليعة موكب الأبد، كما عاش أربعة وثمانين عامًا معلمًا ومربيًا، لم يسأم الحياة كزهير، فظل يكتب وينظم رغم ما كف الدهر من بصره، ترك مئات من رجال هذا الزمان الذين علمهم وهذبهم، وترك مسرحيات منها المترجم ومنها الموضوع، وكتب قصة طويلة — المروءة — وحبر مقالات رائعة في كتابيه: اللبنانية، والنجوى.

كان هذا الكاهن وقفًا على أمرين: ثوبه وعلمه، كان ثوبه يزجيه دائمًا نحو الكمال، وكان علمه يحثه دائمًا على بلوغ المدى الأبعد، والعلم من توابع وزوابع الإكليريكي الحق، لا يعني هذا أن الخور أسقف يوسف الحداد تبتل فعاف كل مسئولية عيلية، فكان كراهب امرئ القيس لا شغل له إلا إمالة السليط بالذبال المفتل، كان الرجل معلمًا وأبًا ومربيًا، حملته الأقدار عبء وصاية بني أخيه، فربى وعلم كما يفعل الأب المستطيع، فهذا الكاتب الذي نراه في كتاب النجوى يحث على الادخار كان عدو كيسه، وعظ الآخرين وما اتعظ هو، لم يجعل مخزنه عبَّه بل جعله في العقول والقلوب، كان في القول معلم اقتصاد من الطراز الأول، أما في العمل فاتكل على قول معلمه: لا تهتموا بما للغد … وكان ربه عند ظنه فمات مكفيًّا كما عاش عزيزًا.

لا يعرف الخوري يوسف الحداد الأب إلا أقرب الناس إليه، ضحى بكل ما يملك ولم يترك خلفه غير فضله وتلاميذه، كان مربيًّا حقًّا، كان للمعارف والتربية يوم لم تكن لهما وزارة في لبنان.

قالوا عن الأخطل ضيق عليه دينه، وابن عمتي هذا ضيق عليه ثوبه في دنياه وأدبه، فعسى أن يوسع عليه في آخرته، وعلى ذكر الآخرة أقول: كنت أجده لما بلغ الثمانين خائفًا من الرحلة العتيدة، على قلة الزاد لها، كما كان يقول تواضعًا، قلت له مرة: شد حيلك يا بيه … أنت قادم على كريم، ولسانك طيب، وقلبك تقي، والله لا يحب غير هذين.

كثيرًا ما كنا نتفلسف ضاحكين لنخفي الذعر، وكنت أشجعه كلما التقينا حتى قلت له مرة: تتذكر هذا البيت؟

كلما قلت متى ميعادنا
ضحكت هند وقالت: بعد غد

فأجاب: وكيف! أتظنني خرفت؟ هذا لعمر.

فقلت له: هذا لسان حال الدنيا معك، لا تخف.

فضحك ضحكته المعهودة، وكنا كلما التقينا بعد ذلك يقول لي: كيف حال هند من صوبك؟

وأجيبه: ما زالت تضحك وتقول بعد غد.

وتطيب نفسه ويقول: سبحان مُقسم الأرزاق! الذي لم يوافق عمر وافقنا نحن.

خليل مطران

هذا هو الكاهن الأديب الذي سبق القافلة المجيدة إلى واحة الموت، وتلاه في هذا المضمار غير المرغوب فيه الشاعر العظيم خليل مطران، الذي أعده — كما عد القدماء بشار بن برد — جسرًا يصل القديم بالحديث، فمطران مجدد في تصوره وتفكيره وخطته الشعرية، قلد مخيلته الصور الرائعة الطريفة التي قلما خلت منها قصيدة من روائعه المشهورة، إنه أحد أقانيم الثالوث الشعري في القرن العشرين، كان هؤلاء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران يتبارون عند كل حدث خطير يحدث في الشرق، وإن توسعنا قلنا عند كل نكبة عالمية، فكان حافظ يأتي ثالثًا، إلا في عهد شبابه فقد جلى مرات، أما مطران فأستطيع أن أعده مجليًّا — عند الحاجة — في شبابه وكهولته، وقد سكت في شيخوخته، بينما ظل أخوه شوقي يرسل الصرخة أثر الصرخة حتى قضى، وقضي له بالزعامة ولم ينازعه فيها منازع.

ولمطران أيد بيضاء ليس على الشعر وتجديده، بل على النثر أيضًا وخصوصًا المترجم منه، فقد عمل الرجل كثيرًا وأفاد كثيرًا، وصلى خلفه في هيكل الشعر خلق كثير، فهو حقًّا فجر مدرسة جديدة، إنه الشاعر الإبداعي كما عده الدكتور إسماعيل أدهم، ولئن قصر عن شوقي في التعبير فقد فاته في التصوير والتفكير.

عبد القادر المازني

ثم كانت الخسارة الجلى بالمازني الأديب الكبير المحبوب، البعيد عن العنجهية والادعاء، كان هذا الأديب الظريف يعمل ساكنًا ويكتب صامتًا.

حاول في فجر شبابه أن يكون شاعرًا فما أعجبه شعره، فانصرف أولًا إلى دراسات في الشعراء القدماء، فكان أول من اهتدى إلى ابن الرومي، فكتب عنه فصولًا رائعة شائقة دلت على ذوق فني رفيع، ثم تناول بشارًا فكان الأسبق إلى دراسة هذين الشاعرين دراسة أصولية.

وأخيرًا اهتدى المازني إلى نفسه، وعثر حين طوف في دنيا الثقافة على أسلوبه الذي عرف به فكان أسلوبًا خاصًّا نقرؤه مسرورين مغتبطين، قلما مر أسبوع لم يكتب فيه المازني فصولًا مختلفة، ولكن بدون ضجة وقعقعة، فهو بمقدار كاتب نضال؛ لأنه كتب ليعيش، فكان يجلي في الميدان ولا يترك خلفه غبارًا يؤذي العيون، ولا صهيلًا وصليلًا يصم الآذان، بل كانت طعناته صامتة، لا أجد أصدق وصفًا لها من قول عنترة:

برحيبة الفرغين يهدي جرسها
بالليل معتس الذئاب الضرم

مسكين المازني إذا صدق الخبر الذي قرأت، وأن أولاده في حاجة بعد أن ألقي كاسبهم في قعر مظلمة، كما قال الحطيئة مسترحمًا عمر بن الخطاب، ولكن أين ظلمة البئر من ظلمة القبر! إن هذا حيف، فعلى الأمم أن تراعي أدباءها كما تراعي جنودها الذين يموتون في ساحة الجهاد، أليس هذا جهادًا؟ أليس حامل القلم أخا حامل السيف في ساحة النضال عن الأمم؟

أذكر أنني قرأت بعد موت ولي الدين، أن ابنه كان يلم أعقاب السكاير في شوارع العاصمة وسككها وليس من يأبه له ويذكر فضل أبيه، رحم الله عبد القادر المازني وجبر خاطر الأمة المكسورة وأعاضها مازنيًّا آخر، ولعل مازنينا لو بعث ساعة لقال لنا: لو كنت من مازن.

محمود علي طه

أما الفقيد الرابع، وهو المهندس محمود علي طه، فشاعر مجدد ينحو نحو شعراء الوقت في لبنان، وله قصائد غراء، يحق لنا أن نقول في هذا الشاعر ما قيل في أبي تمام: إنه مات ولم يستمتع بخاطره.

كان له شعر رائق طريف يطبع على غرار الشعر الحديث، وإن لم تنقطع الصلة كل الانقطاع بينه وبين القديم، وإن نهج شعراء الفرنجة في أساليب الكلام، لقد انطفأ خبر هذا الشاعر كأنه لم ينظم دواوينه «الملاح التائه» و«أشباح وأرواح» و«ليالي الملاح» فما أرخص موت الأدباء والشعراء.

يوسف البعيني

أما الخامس فهو الأديب يوسف البعيني أحد أعضاء العصبة الأندلسية في البرازيل، شاء هذا الكاتب الأديب أخيرًا أن يكون ناقد العصبة فكتب في النقد فصولًا، ولكن الموت عجل عليه قبل أن نستطيع الحكم على ما كان يرجى منه من خير أدبي، بيد أن ناقد العصبة كفيٌّ ووفيٌّ على قلة ما كتب.

إنني أنظر إلى الغد نظرة خشية، فعسى أن يحل أدباء الشباب محل هؤلاء الجهابذة الذين تواروا في عام واحد، والحبل على الجرار، أرجو أن يقدر الشباب المسئولية الملقاة على عاتقهم، فهم خلفاء هؤلاء الأدباء الذين ذهبوا، فليعدوا العدة.

على الجيل الطالع أن يتعمق في دراسة الأصول، وأن يتبحر في متون اللغة وهوامشها، وأن يعب من ينابيع الثقافة الحديثة، وإذا لم يجد دلوًا فليعب بيديه من نهر العلوم والآداب العالية، وإلا فإني أخشى أن يصح فينا قول الحجاج في إحدى خطبه: ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون؟ إن العلم أوشك أن يُرفع، ورفعه ذهاب العلماء، أما أنا فلا أزعم زعم الحجاج المتشائم، بل أتجلد وأقول مع السموأل:

وما قل من كانت بقاياه مثلنا
شباب تسامى للعلى وكهول

(٧) إبراهيم عبد القادر المازني

المازني كاتب متفرد، هام حينًا في أودية الشعر، ثم اهتدى إلى شخصيته فعرف ذاته، أدرك أنه لن يصير شاعرًا محلقًا فمال عن القول المنظوم إلى الكلام المنثور فخلد بنثره في دنيا الأدب، انفصل المازني عن أقرانه — حسين والعقاد والرافعي والزيات وهيكل — بأسلوبه الشخصي المستملح، فكان نسيج وحده كما عبر أسلافنا القدماء، تعرفه حين تقرأ مقالًا له، وإن كان غير ممهور، وتلك سمة الكاتب الفذ.

ليست معرفتي به على قدر إعجابي بما تفرد به من حلو الكلام ومره، فأنا لم أره غير مرة في الحياة، التقينا عند المصور الشهير أسعد دقوني، وكان مرافقه الخاص يوم جاء لبنان الصحافي العصامي المرحوم جبران التويني، فتعارفنا على يده، وكان تسليمنا وداعًا كما قال الشاعر.

رأيت فيه يومئذ رجلًا أعرج قليل الظل، ذا عينين كأنهما محاجر مسك ركبت فوق زئبق، ثم كنت أقرأه بإمعان وأستقري أخلاق من خلال ما يكتب، فإذا بي أراه جبارًا ولا ذا عنجهية وإن كان ذا عاهة، فهو في نظري إن صدقت تلك اللحظة العابرة، حمل كتاب عصره الوديع، لا يتنفش ولا يتفرعن، لم يغرق في السياسة لأذنيه، لم يكن أهوج الحزبية، فظل حيث هو لم يته في مجاهل السياسة، فعاش أديبًا ومات أديبًا.

كان «أمن» عبد القادر كما كان يسميه ذاك الناظر الأخن، مثال الأديب العربي المثقف، وإن زعم لنا أنه لم يعرف من النحو غير اسمه، لم يقطع المازني الصرة بينه وبين القديم، ولم يتنكر للجديد، فجاءت عبارته حلوة ذات ألوان طريفة حديثة، ليست بالقديمة الغريبة ولا هي بالجديدة المبتذلة، تلمع شخصيته في خلال سطوره، حتى في المواضيع الجافة التي لا تجد فيها الشخصية منفدًا تبرز منه.

لم يرفض المازني الألفاظ العامية الفصيحة، ثم استكفى بروحه الفنية عن الالتجاء إلى الفصاحة والبلاغة؟ فكان له من ظرفه وخفة روحه أكبر عون على نفخ الحياة في كتابته التي تستحلى وتستملح، ناهيك بأنه الكاتب اللبق الذي لا يتعالى ولا يطرق المواضيع التي تظهره بمظهر العلماء الكبار، بل يعالج — وخصوصًا حين شيخ — المواضيع المتصلة بالحياة اليومية، قلما عناه أن يناقش فيلسوفًا كبيرًا عالميًّا ليريك أنه من أقرانه أو أعظم منه، كما يهم من يخطئ بالأقلام الحسابية الأربعة أن يناقش أينشتين، وقد يخطئه ولا يستحي، إن المازني يفعل غير ذلك فاسمع كيف يحدثنا عن نفسه في مقال عنوانه «في الكتب»:

وتمنيت وأنا أدير عيني في كتبي على رفوفها، لو أن هؤلاء الألمان الذين يتفلسفون علينا بما لا نفهم، بينوا لنا أو لي أنا على الأقل، ماذا يريدون أن يقولوا: عجيب أمرهم والله! قرأت مرة لأحدهم وأظنه «هجل» كتابًا في فلسفة التاريخ فخرجت منه كما دخلت، وقلت لنفسي: إما أني حمار، وإما أن هذا الرجل لا يحسن العبارة عما في رأسه، ولكنني أفهم عن غيره، فلماذا أراني لا أفهم عنه!

ودارت الأيام ووقع في يدي كتاب لرجل أميركي اسمه دريبر، يكتب كما يكتب خلق الله، لا الألمان، فإذا فيه فصل طويل عن العرب يعد تطبيقًا لنظرية هجل التي لم أفهمها، فسألت نفسي: لماذا لم يكتب «هجل» كما يكتب هذا الرجل؟ ثم عدت أسألها وأتعجب: لماذا فهم «دريبر» عن «هجل» ولم أفهم أنا عنه؟

وأسأت الظن بنفسي، واعتقدت أن بي نقصًا في التدريب العقلي، وراجعت هجل وكررت إلى هؤلاء الألمان المعوصين كرة المصمم المستميت، ولكن مضغ الجلاميد أعياني، فنفضت يدي منهم ومن نفسي يائسًا، وقلت: يا هذا، لقد صدق القائل: كل ميسر لما خلق له، وأنت لم تخلق لتقرأ فلاسفة الألمان، فارجع عنهم وانج بنفسك منهم.

ألا ترى معي أن أستاذًا غير المازني لا يعترف هذا الاعتراف، بل يعد ألف هجل حمارًا.

والمازني قرض الشعر أولًا كما سبق القول، ولكنه لم يصر على النظم مغالطًا نفسه، بل أدرك ما في شعره من سماجة، فعدى عن النظم الذي كان يجيء فيه بالغث، ويحسب أنه صنع شيئًا، ولم يكتف المازني بإرشاد نفسه، بل كثيرًا ما نصح غيره ليعدي عما لا يجيد فيه، تراه مثلًا في آخر عبارة من كتابه «قبض الريح» ينصح أحد رفاقه في الشوط الأدبي الأول، قائلًا له: إن «الأستاذ» — أي الدكتور طه حسين — ليحسن جدًّا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل، إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية.

أجل لم تطب نفس المازني بشعره فارعوى حين ضل، وانصرف إلى النثر فأحسن صنعًا؛ لأنه لم يبل الأدب العربي بمنظومه بل أسكره بمنثوره، فكان نثره هذا مرقاة له فعرج إلى سماوات الفن، فهو ولا شك واحد من أعاظم كتابنا الفكهين الساخرين.

لست أحدثك عن كتبه المشهورة؛ لأنك تعرفها، «فحصاد الهشيم» وهو أشهر ما يقرأ من كتبه، يقبل عليه النشء لما فيه من دراسات أدبية دقيقة لابن الرومي وبشار، فالمازني كان أسبق أدباء جيله إلى التعرف إلى هذين الشاعرين الكبيرين، فكتب عنهما فصولًا تغني من شاء التعرف إليهما عن المجلدات الضخمة، وقد يكون حبه العبث باللحى الكبيرة صغيرًا هو الذي هداه إلى شاعرية ابن الرومي الفذة فكتب عنها دراسته القيمة.

فإبراهيم المازني كما يعترف في مذكراته «قصة حياة» يقول: «لا أعرف ما سر حبي للحى في وجوه الناس، ولكني أعترف أني ما رأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة، إلا نازعتني نفسي أن أجعل لها من أصابعي مشطًا، وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس في زمننا يحلقونها أو يقصرونها ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستغناء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة.»

ولا أحدثك عن كتابه «صندوق الدنيا» — فهذا أيضًا في متناول الناس، وقد أقبلوا عليه أيما إقبال — ولا عن كتابه «قبض الريح» الذي مر ذكره سابقًا، فهذه الكتب اشتهر بها المازني، وهي معروفة من دنيا القلم، ولم يسود وجهه من كتبه الأولى غير قصته «إبراهيم الكاتب»، شاء أديبنا الكبير أن يكتب قصة فكتبها، فكانت قصتها قصة تطول، كما عبر قبلنا صاحبه ابن الرومي.

إخالك أدركت ما في عناوين كتب المازني من طرافة وغرابة، وهذه سجية الناقد الأصيل، فالمازني ناقد في جميع ما يكتب، وقصصي في كل فصل حبره، وأكثر قصصه طرافة وأحلاها هي تلك الأقاصيص التي تتصل بذاته اتصالًا وثيقًا، وخصوصًا في الفصول التي كتبها في مجلة «الرسالة» وغيرها بعد ظهور تلك الكتب، ففي مقالة: «عجوة ببيض» وغيرها يذكرني بقصص الجاحظ وأخباره، وإن كانت هذه من نوع آخر.

لقد حلت بالأستاذ نكبة البرامكة حين صبحه أولاده وزوجه بطلب الفلوس، ولكن «العجوة بالبيض» هونت عليه الكارثة التي حلت به، وتعزى الكاتب الفارغ الجيب بالكلمة المأثورة التي خاطب بها زوجه مسليًا نفسه: «أنفقي ما في الجيب يأت ما في الغيب، لا بأس، لا بأس، سيرزقنا الله.»

بيد أن الكاتب لم يرزق، فعاش غير ميسور، ومات مكثورًا عليه، ولولا صرخة رفيق الرحلة الأولى لتاه بنوه في الأزقة، كما تاه من قبل ابن ولي الدين لامًّا أعقاب السكاير عن أرصفة شوارع القاهرة.

قلت لك فيما مر إن المازني «كاتب جامع»، ولكنه متئد السير في كل ما يكتب، يهز هزًا لا يلوي، ولا يفرض آراءه وأفكاره على الناس فرضًا، أسمعه يحدثنا في عام ١٩٣٥ عما أسميناه منذ أعوام «الجامعة العربية»، وقد سماه هو في ذلك الوقت «القومية العربية»، ومما قال فيها: «لقد أحطنا قوميتنا بمثل سور الصين، ولو أن هذه القومية العربية لم تكن إلا وهمًا لا سند له من حقائق الحياة والتاريخ لوجب أن نخلقها خلقًا، فما للأمم الصغيرة أمل في حياة مأمونة، وما خير مليون من الناس، مثلًا؟ إن أية دولة تتاح لها الفرصة، تستطيع أن تثب عليهم وتأكلهم أكلًا بلحمهم وعظمهم، ولكن مليون فلسطين إذا أضيف إليه مليونا الشام، وملايين مصر والعراق، مثلًا يصبحون شيئًا له بأس يتقى.»

قد يقال: ولكن هذا ليس إلا حلمًا، فنقول: نعم إنه الآن حلم لا أكثر، ولعله لا يتراءى إلا لآحاد يعدون على الأصابع في كل بلد، ولكنه على كونه حلمًا، ليس أعز ولا أبعد منالًا مما تحلم به أمم أخرى في هذا العصر، وبالأمم حاجة إلى أحلام، والأحلام ضرورة من ضرورات الحياة للأفراد والجماعات، ومن لا حلم له لا أمل له ولا مستقبل، فلماذا يعيش إذن؟!

هذه بعض خطوط من صورة أديبنا المازني، وإذا أردنا أن نرسم لكاتب عظيم مثله صورة تامة الخطوط، فمثل هذا الإطار لا يتسع لمثل هذه المادة الغريرة، فكتاب بكامله يكاد لا يفي بالمازني، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فشكرًا لمحطة الشرق الأدنى التي تذكرنا في كل مناسبة بإخواننا الذين طواهم الموت، وكم في التذكر من منافع وعبر.

رحم الله المازني، وما أحوج الأدب العربي إلى بضعة كتاب من طرازه، فينتعش لسان الضاد وتدب الحياة في كتبه، فالرجل كان غني النفس على بؤسه، كريمًا معطاء على خصاصته، وربما كان البؤس مصدر هذه الثروة الأدبية. من يدري!

(٨) المنفلوطي ورسالة الغفران

ليتك تترك الأموات يرقدون في قبورهم مطمئنين فمالك ولهم … إلخ.

من رسالة كاهن

أبتِ وأستاذي.

لا إخالك ناسيًا ما كنت تقوله لنا، ونحن صغار لم تطرر شواربنا بعد، عن وقفتنا أمام ربنا حفاة عراة، حين لا يشفع بنا غير أعمالنا الصالحة، وسيدتنا مريم العذراء، ولست أنسى تغنيك بهذا النشيد: إن قلبي في هوى مريم … من كان للعذراء عبدًا فلن يدركه الهلاك أبدًا …

أما الأديب فيدان مرتين؛ مرة: بحسب ناموس دينه، وأخرى: بحسب ناموس الأدب، فلا تجزع ولا تخف، فقبور الأدباء معرضة للنبش كل ساعة، ولا يقام على نابشها حد زياد في «البتراء»، فهنيئًا لمن ينبش النقاد قبره وينقل آثاره الثمينة إلى متحف الفن، ويا ويله إذا لم يكن فيه غير عظام نخرة.

وبعد، فإن معضلة الأسلوب أو القالب أو المنوال قد شغلت العقل العربي أجيالًا، فاحتال لها جماعة في كل عصر بأخذ الحبل من طرفيه، لم يعافوا القديم جملة اتقاء ثورة غوغاء الأدب وهم أكثر من السوقة وأشد خطرًا، وأخذوا من الجديد بمقدار إرضاء لنفوسهم الظامئة إلى ورد غير الحياض المطحلبة، أما المجددون الذين تمردوا وخاطبوا الناس بلسانهم فأنكرهم جيلهم وكان كأورشليم، قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، فعاشوا في أمتهم كالدجاجة الغريبة لا تصادف إلا مناقير من فولاذ تغرز في رقبتها.

أمامي الآن مقدمة ابن خلدون فاسمع ما يقول في هذا الشأن:

فما كان من الكلام منظومًا وليس على تلك الأساليب — أي أساليب القدماء — فلا يكون شعرًا، وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء؛ لأنهما لم يجريا على أسلوب العرب.

فهل من حرج علي إن وقفت من هذه الشهادة التي ينقلها إلينا ابن خلدون موقف المرتاب الشاك! فإما أنه يشهد بالزور، أو أن شيوخه هؤلاء شيوخ حقًّا لم تبق منهم الأيام قوة تميز بين شعراء المتنبي والمعري، ومهما يكن من أمر هذه الشهادة فهي دليل على تمسك العرب بالقالب حتى صيروا التعابير العربية كحصى «الدومنو» وحجارة النرد يسوقها الزهر، وينزلها منازل لا يشتهيها اللاعب، أما الفنان فينظر إلى ألفاظه ككائن حي يستمد الحياة مما حوله، وإن كان للصينيين قوالب حديدية يحصرون فيها أرجل بناتهم فلا تنمو ولا تكبر، فالقالب العربي فعل أكثر من هذا بعقولنا، فما أفقر أديبًا لا أداة له من الكلام إلا ما قاله آباؤه وجدوده، وإن لم يعبر كما عبروا فقد كفر.

إننا نعجز عن خلق تعبير جديد فنحتج لضعفنا بتقديس الأسلوب، ومن استعرض آثار العرب رأى ثورات الزعماء في كل جيل، ونحاة وبلغاء يقمعونها، أما الجبار الذي خرج على أساليب القدماء وأغراضهم وتعابيرهم فهو المتنبي وقد سمعت ما يقوله فيه ابن خلدون ويسنده إلى شيوخه.

ولكن ما نعاه فيلسوف المؤرخين على أبي الطيب أصبح اليوم دعامة خلوده، فكأن هذا الشاعر الأعظم قد نظم شعره لهذا الجيل الكفاحي، ففيه مرعى لكل نفس غير بلهاء كأشياخ ابن خلدون الذين يجاريهم طه حسين، فقد سمعته يختتم كلمته في حفلة الجامعة المصرية للمتنبي بقوله: إن فن المتنبي لا يعجبه، وهذا ما توقعته من طه بك فلا بد للدكتور من مخالفة ليقال: قال، وطه كما أراه يعتق شيئًا فشيئًا، ولا يبعد أن تستهويه الماوية والسجنجل، فهو يمشي الوراب كالسرطان ولا نعلم أي وكر يملأ.

مسكين أدبنا المريض بسل الأسلوب وسرطان القالب، إنه لا يؤمن إلا بتعازيم الكهان ورقى الحواة ولا يعرف من الطب إلا الكي، وهو خير دواء لكثيرين من هواته، يخدعك طلاء هذا الأدب حتى إذا رزته عرفت أنه دنانير ولكنها من «شوكلاته»!

سقنا هذه الكلمة لحديثنا عن المنفلوطي، والمنفلوطي جدول يخرخر ونهر ثرثار تقطعه غير خالع نعليك ولا تشمر بكرم فضاح كالتي حدثنا عنها الريحاني في ملوك العرب، المنفلوطي من مناجذ الأدب الذين لا يهنأ لهم عيش إلا في قرض الجذور، ونحن إلى من يغرس جديدًا أحوج منا إلى من يقرض، فالقارضون عندنا لا يحصون، وقلما ينامون قبل أن يكسبوا بيتًا.

لا أدري لماذا صرت أرى المنفلوطي رخوًا مترهلًا كالمرأة الهركولة التي تعتمد على يديها ورجليها لتنهض، وتكاد تقعد لولا التشدد كهريرة الأعشى، فأدب المنفلوطي أدب مفلطح منتفش اغترت الصحف بخرزاته وودعاته، فلقبته «أمير البيان» فتطوح في حقول الأقدمين كلاقطي السنابل «العفَّارين» وتاه في الجادات كجامعي لفافات التبغ، ولن أعدل عن رأيي هذا فيه حتى تستبدل مقاييس الأدب وعباراته بغيرها فيصير الرطل كيلو والذراع مترًا.

ما خدع المنفلوطي عن نفسه حتى جاء بهذه المفرقعات، إلا كذب بعضنا على بعض، وإننا ما فتئنا نفعل هكذا بالأحياء الذين يبعطون في جهلهم ولا يتأدبون حاسبين النبوغ في اجترار التعابير كالعنزة القائلة.

لقد فتشت آثار المنفلوطي كلها فما عثرت بتعبير شخصي لهذا النابغة، فهل بين الناطقين بالضاد من يدلني على واحد، ثم لا يثنيه هذا الضعف أن يجترئ على المعري ويلخص رسالة الغفران بأسلوب منفلوطي، فتنكرت لنا كالذين يتلبسون بقبع المرفع والبربارة، ولو لم يقل المنفلوطي إنها رسالة الغفران لجهلناها، فقد استحال فيها أدب المعري معرة، واستناب المنفلوطي نفسه عن علي بن منصور.

رحم الله «ع. م» أحد رسامينا القدماء، فقد خبرونا أنه كان يصور الغزال ويكتب اسمه تحته ليعرف الناظر أنه يرى صورة غزال لا صورة ضبع، إن «ع. م» في الرسامين كالمنفلوطي في المنشئين، ولم تعدم البلاد ممن يعدون «ع. م» مصورًا بارعًا، وكأني بمنفلوطينا قد استضعف خيال المعري فبدأ رسالة الغفران — غفر الله له — حيث أراد، وأخذ يروح فيها ويجيء كسيارة يدورها سائق عكش في كوع ضيق.

قد بدأها كما شاء هو فرأى نفسه في صحراء مد البصر، وما أكثر ما يرى المنفلوطي نفسه في الصحارى؛ حيث لا حارس ولا ناطور، بل ما أكثر أحلام هذا الرجل وأقرب إعفاءاته، وما أطول نومه فكأنه اليربوع أو الغرير، عفوًا أين الغرير منه وقد نام ألف سنة في رسالة الغفران، تحرش المنفلوطي بالمعري، ثم بجبران في قصة «صراخ القبور» فكان كولد يخربش على الحيطان قبالة فنانين حاذقين، وجاء عمله في رسالة الغفران كعمل صيقل أبله يذهب بجوهر السيف ليجعله لماعًا أبيض، وإن شئت فقل ليعيده حديدة، أو كحراث عثر وهو ينقب أرضه على قطعة أثرية فجلاها بسحوق كسر الجرار ليزيل زنجارها، فخمشها وعراها من هيبة الدهور وجلال الأجيال، وهكذا فات البصير — أمير البيان — ما أدركه الأعمى الذي لم يعجب شعره ابن خلدون وأشياخه.

لقد مسخ المنفلوطي رسالة الغفران مسخًا لا يغتفر لصبية الكتاب، فكان كالقصاص، بل من أين للمنفلوطي براعة ذاك، فالقصاص لا يهمل الخطوط التي تريك ملامح أبطاله، أما المنفلوطي ففاته هذا، اقرأ تر كيف غاب عنه ما فيها من جمال فبدل التعابير الأثرية بكلام مزيف مصقول، ولم يعجبه، يا سبحان الله، من كلام المعري إلا «فبعلت بالأمر» التي لا تدل إلا على ذوق المنفلوطي، فأبقاها.

هل من معترض إذا سمينا المنفلوطي محيي الموءودات، فقد أحيا لنا الكثيرات منهن مثل: فثأته عنه، والفينة بعد الفينة، وعين ثرة، ثجاجة، وقليب أي بئر … عدا عن الصحراء التي حل فيها محل ابن القارح، ثم خلق أيضًا في الجنة دهليزًا — كالذي كان يأكل فيه المعري — وهذا شيء غريب عجيب لا يلهمني إلا أن المنفلوطي كان يسكن بيتًا ذا دهليز، فالمعري الذي عاش في دهليز أبدي ما خطر بباله قط أن يجعل في جنة الله حتى ولا في الجحيم دهليزًا كهذا الذي خلقه المنفلوطي.

قال المتمشرق جيب في مجلة الدروس الشرقية الإنكليزية (ص٣١٦، سطر ٢٢، مجلد ٥): إن المنفلوطي كان متأثرًا بالأدباء السوريين، وأيد كلامه بتلخيصه رسالة الغفران التي لخصها زيدان قبله، ولم يتعرض الأستاذ جيب لهذا التلخيص المشوه بكلمة. نعم إن المنفلوطي حذا حذو زيدان كما قال جيب، ولكن زيدان لخص هذه الرسالة تلخيصًا أمينًا، ولم يستضعف المعري، فقدم لنا خلاصة ترينا هيكل رسالة الغفران فقرة فقرة وعظمًا عظمًا، أما تلخيص المنفلوطي فلا يظفر منه إلا بفقاعات منفلوطية، كالتي يعجب بها بعضنا ويخالها الأدب كله، أما صاحبهم ففشل فشلًا مخزيًا في تلخيص رسالة الغفران، وفي قصة العقاب التي كتبها على نسق قصة «صراخ القبور» كما سترى، فكان فيهما — كما هو في كل ما كتب — رصاف ألفاظ يلهو بها لهو الوليد بالقطع الخشبية، يبني منها قصرًا أو قبة، حتى إذا وفق إلى رصف تلك القطع في مواقعها صفق له أبوه، وقبلته أمه بين عينيه إعجابًا بذكائه وإكبارًا لنبوغه.

إن تعابير المنفلوطي في كل ما يكتب هي هي بعينها، شاحبة صفراء كقوس الشنفرى، أو كبني يربوع الأخطل، أما سياق تفكيره فواحد، كل ليلة غدافية الإهاب، وكل حقل مد البصر، وكل وقت تَمضَّى إلا أقله، وكل رؤيا يبدؤها بقوله: رأيت فيما يرى النائم … وقد يكتب صفحات فلا تدري ماذا يريد، فتأتي معانيه كحبة قمح في عدل تبن، ولا أتخيله إلا كأولئك الواعظين الذين يعيدون مواعظهم على الناس بشحمها ولحمها وعجرها وبجرها.

فكرت كثيرًا بما أشبه به آثار المنفلوطي وأسلوبه وتعابيره، وطلبت فلم أجد له مثلًا إلا الروبل الروسي والمارك الألماني، وإن أردت مثلًا تراه بعينيك فانظر إلى الظرف والزكرة المنفوخين وترحم على نحاة العرب، فلحكمة سامية خلقوا حرف التنفيس، واذكر بالخير صاحبنا بشارًا وقل لعشيقته عبدة: عجلي فقد كاد صاحبك ينفزر …

لقد ضاق التفكير بالمنفلوطي فلجأ إلى قوالبه المعلومة وأخذ يرجعها، كساعة «الكوكو» التي تقلقك زمنًا قبل أن تعد الثانية عشرة، أليس عجيبًا أن نسعى إلى التجديد بكل ما فينا من قوة ورغبة، ثم ننصر هذا العتيق ونسميه جسرًا وهو قنطرة نافرة الغلق.

وأخيرًا إن شئت إدراك فهم المنفلوطي لرسالة الغفران، فاقرأ كلام إبليس وبشار في الرسالة وقابله بتلخيص المنفلوطي، ثم قل سبحان من يخلق لكل جمل عبقريًّا كالمنفلوطي.

إني أفرح كثيرًا بما أقرأ من محاولات شبابنا في التجديد، وسأجعل همي الإخلاص لهم وللفن فأعرض عليهم ما أفهم وأدرك، ولا غرض لي إلا تحسين نسل الأدب، وأسعد أيامي يوم أزيل فيه من أدمغتهم عقيدة الأسلوب والقالب، لينظروا إلى التعبير ككائن حي ينفخ فيه الأديب الفنان من روحه، ففي قوالب العرب ما بطل، وفيها الصالح لهذا الزمان، فلنميز بين الاثنين، إذا كان الناس يحسنون نسل القطط، والسكاف يجدد قوالبه كل عام، فكيف بالأديب وهو الخالق المبدع!

إني لا أحترم ولا أقدس إلا الأدب الصحيح، وسيان عندي قديمه وجديده، وسواء عندي أجاء من غلام مغرور أم صدر عن شيخ وقور.

إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا، فإن استمرأتم زادنا زدناكم منه، وإلا فارفعوا أيديكم عن قدورنا، فلا بد لهذا الفول من كيال.

(٩) أبو الفضل الوليد

كان اسمه إلياس طعمة حين كنا في مدرسة الحكمة رفيقين في الصف العربي، يعلمنا بيانها وقواعدها الخوري يوسف بو صعب، ثم انقضى ذلك العام الدراسي عام ١٩٠٥، فترك إلياس المدرسة إلى غير رجعة وكان آخر عهدي به.

قضى في بيته ثلاثة أعوام كانت من أطيب العمر كما قال، ألف خلالها مسرحيات عديدة: شعرية ونثرية، منها: ما وضعها ومنها ما عربها، حتى إنه نظم نشيد الأناشيد وصدره بمقدمة، ويزعم إلياس أنه لما هاجر عام ١٩٠٨ أضاع تلك الدفاتر في إحدى رحلاته؛ ولذلك لم نضع نحن الوقت في سرد أسمائها، وفي ١٥ نيسان سنة ١٩١٣ أصدر في المهجر جريدته «الحمراء» تيمنًا باسم حمراء الأندلس وقريته اللبنانية «قرنة الحمراء»، فعاشت تلك الجريدة أربع سنوات خلقت في أثنائها روحًا قومية عربية قلما تجدها، وإذا وجدتها فلا تجد تلك الحماسة والعصبية حتى الهوس.

قلت: كان اسمه إلياس طعمة، ولكنه «في تشرين الأول من عام ١٩١٦ اتخذ كنية أبي الفضل واسم الوليد، وقيدهما في سجل الحكومة البرازيلية فأصبحا رسميين شرعيين يعرف ويعامل بهما.»

يقول أبو الفضل الوليد «إنه لم يغير اسمه؛ لأنه غير عربي، بل لأنه ابتذال وقصد به علم النبي اليهودي، فهذا الاسم حمله أحد أجداد العرب وهو إلياس بن مضر بن نزار».

إن جنون إلياس بحب العروبة وكرهه اليهودية أنساه أن الكتاب المنزل تدين به العروبة التي يقدسها قد جاء فيه: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (سورة الأنعام: ٨٥)، وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (سورة الصافات: ١٢٣).

ومن الصدف الغريبة أن يهاجر إلياس في نيسان، وأن ينشئ جريدته «الحمراء» في نيسان، وأن يعود إلى وطنه في نيسان، وأن تبارحنا نفسه الكبيرة في ٢٩ نيسان يوم الثلاثاء سنة ١٩٤١.

أما هدف الأديب الشاعر في الحياة فقد عبر عنه بما يلي: «لولا بياض أمله لما شهد الملأ سواد ورقه، ولولا حبه لقومه ووطنه لما أضاع في الكتابة أحسن العمر، فليس هو إلا صاحب دعوة له عقيدة ملية وطريقة سياسية، حمل القلم لإظفارهما ولإظهارهما فكتب للعزم والعمل لا للعب والكسل، فكان نثره ونظمه مبديين لشعوره وإيمانه ورجائه.»

إنه مجاهدٌ قديم، حارب حتى تكسر سلاحه، وبعد ما قام بالفرض ووفَّى بالعهد هجر الدواة وسائر الأدوات، ولم يعتزل إلا لتيقنه أنه لم يبق للقدم مفزع وللسهم منزع، فحكى قائدًا رومانيًّا كان يعود من بقاع الحرب إلى بقاع الحرث، وما كان ناثرًا وناظمًا ليعد كاتبًا وشاعرًا، وما اتخذ الأدب حرفة ليدارمه لكن بلاغًا ورسالة، فلا يصح إلا به وبأمثاله قول الرسول في حديثه الشريف: «يوزن مداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة فلا يفضل أحدهما الآخر.»

وينتقل أبو الفضل الوليد إلى وصف خلقه ليعرفه الآتون بعده، فكأنه رحمه الله قد أدرك أنه سيهمل وينسى، فدون بقلمه تذكرة نفوسه فقال: «إنه طويل القامة، قوي البنية، متناسب الأعضاء حنطي اللون، كبير الرأس، كثيف الشعر، واسع الجبهة، أزج الحاجبين، أنجل العينين، عسلي الحدقتين، ضخم الأنف، غليظ الفم، عريض الذقن والصدر، طلق المحيا، حسن المقابلة، لين الجانب، حلو الحديث، لطيف الحس، شديد الطرب، صبور جليد، محب للحلم والرحمة والإحسان، ذو أنفة وعفة، ونزاهة وشهامة، مترفع في العزلة، متواضع في العشرة، حافظ للعهد، وفي بالوعد، غضوب للحق، ولوع بالعدل.»

أما في وصف أدبه فيقول: «ما كان التهاب فكري إلا من اضطراب نفسي واضطرام قلبي، فالفضل في إلهامي لروح العروبة التي لاحت لي من ورائها روح عليين.

إني أموت كما عشت عربيًّا آملًا مشوقًا، وأود أن تضم جسماني تربة دمشق الطيبة. هناك تهيم روحي في البادية، وتنشق نفحاتها الطاهرة، وتطرب لهدير الوادي. تلك رقدة أشتهيها وأعلل نفسي بها، وأراها خير مكافأة لي إذا كنت مستحقًا.»

ومشى إلياس الخطى التي كتبت عليه حتى استولى على أمد العروبة فقال: «وإذا لم تكن عروبة إلا بالإسلام فإنني عربي مسلم مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.»

هذا ما كتبه أبو الفضل الوليد معرفًا الذرية بشخصيته ونفسيته، أما ما ذيل به أكثر كتبه فهاك بعضه، آملًا أن تصدق ما تقرأ، فرفيقي وصديقي إلياس كان غريب الأطوار كما ستعلم حين أتحدث أنا عنه كما أعرفه، أما الآن فلنر رأيه هو في نفسه، قال تحت عنوان «شهادة عدل وكلمة حق»:

أبو الفضل الوليد عبقري نابغة متفرد مندر، أشهر من أن يعرف وأكبر من أن ينعت ويوصف، إن هو إلا الحكيم الأعظم والشاعر الأنظم، وكل ما كتبه يعد من نفائس الأدب العال، وعليه طابع ممتاز من الإجادة والابتكار، ألف في اللغة والتاريخ والأدب والشعر والتمثيل والغناء والنقد والاجتماع والرواية والسياسة والفلسفة، فكان عقله من العقول المحيطة التي لا يخفى عنها شيء ولا يفوتها أمر، فأصبح رب الصناعتين وحامل الرايتين، الحكيم الأخير والفيلسوف الأكبر، وشاعر العرب الأمثل ونجي الملأ الأعلى.

إنه الشاعر الملي، والفيلسوف ذو البصيرة النيرة والسياسي المطلع الخبير، كل بيت من شعره قصيدة، وكل جملة من نثره مقالة، وله في الإنشاء ميزة يفطن لها الأريب فيقر بأنها معجزة.

لقد برز بما ابتكره واحتكره على المتقدمين والمتأخرين، ما كان التهاب فكره وقلبه ونفسه إلا من شعلة سماوية، وليس لهذا الجيل بل للأجيال الآتية أن تفيه حقه وتعرف فضله وقدره، فقد كان ظهوره قبل أوانه، وعلى غير استعداد من أهل زمانه.

إن هذه الشهادة تقرأها في آخر كتبه جميعها، ما عدا «رياحين الأرواح» و«أحاديث المجد والوجد»، وعندما طبع أول ديوان كتب على جلده ما يلي:

رياحين الأرواح الرقين الأول من قصائد الملهم الذي نظم الشعر عقودًا، والحكيم الذي ضرب النثر نقودًا، صاحب الطرب الأعلى والوطر الأمدي، أشعر من شعر وأكتب من كتب، ملك النثر والنظم، المبداع المجواد السيد أبي الفضل الوليد.

أما جلود دواوين شعره الأخرى فاكتفى لها بوشم شاعر العرب فقط.

لقد انتهى بعض ما قاله أبو الفضل الوليد، وجاء دوري الآن لأقول أنا فيه ما أعرفه، رافقته في مدرسة الحكماء فتصادقنا، ولكني كنت أرى فيه صديقًا تخشى بوادره، كان ذا عنجهية، أرستقراطي الطلعة في غنبازه الحريري الذي كان يتفرد بلبسه دوننا، فكأن العروبية فيه طبع لا تطبع، كان أستاذنا الخوري يوسف بو صعب يداوره ولا يجابهه، حتى قال مرة على إثر خروج إلياس من الصف غاضبًا: أبوه من بيت طعمة، وأمه من بيت طوبيا، وجدها الشنتيري وكيف تريده لينًا مطيعًا.

كان يجلس وحيدًا لا يأخذ ولا يعطي، فكأنه صف مستقل عن الصف، وكذلك كان في الخارج، فكأنه لا يعنيه من المدرسة شيء كما يريد أن يعنيها منه شيء؛ ولهذا تركها دون أن يتم دروسه.

كان مستبدًا برأيه حتى في التعليم، فإذا سيره الأستاذ على غير هواه تنفس كالهر وتأهب للنزال، لم يكن يهمه من الدروس إلا نظم الشعر، ينظمه في الصف وفي قاعة الدرس، وفي الكنيسة حتى، ورآه المناظر الخوري يوسف الخوري يخربش على ورقة في الكنيسة وقت القداس فقال له: هذا بيت الله!

فأجابه إلياس: وأنا أنظم له ترنيمة ليس فيها ركاكة ترانيم حنا بو صعب.

وبلغت الكلمة أستاذنا الصعبي، وكان يحب إلياس ويراعيه كثيرًا فسأله: أية قصيدة تعني من قصائد حنا بك بو صعب؟

فأجابه إلياس: أعني يا خالق الأكوان يا باري الورى.

فقال الخوري: وما الذي لا يعجبك فيها؟

فقال إلياس: إنه يخاطب الله بلغة النحاة فيقول فيها: يا عالمًا، هل إن حنا ينصرف.

فقال الخوري: هذا حلو، كيف لم يعجبك!

فقال إلياس: لم يعجبني لأن الله وعبيده لا يستعملون مثل هذه اللغة في الابتهال.

وأخيرًا سكت الخوري، وكانت دائمًا الكلمة الأخيرة لتلميذه الطاهر إلياس.

كانت ذاكرة إلياس قوية جدًّا، وكان شديد الميل إلى الغريب من المفردات فيحفظ منها الكثير، وكان يترنح طربًا حين يسمع الوحشي منها في الشعر الجاهلي وغيره، فتلتقطه ذاكرته فلا يفلت منها فيما بعد.

وكان إلياس يعيش على هواه، يركب رأسه ساعة يشاء فيجمح ثم يثوب ويسلس قياده لمعلميه ورفاقه، تراه وديعًا كالحمل، وفي جلسة واحدة يلبس جلد النمر وينقلب شموسًا لا يؤتى من قبل ولا من دبر، بدوي في ثوب حضري، غريب الأطوار، ولعل هذه الغرابة كانت من أول أسباب هجرته التي كان في غنى عنها، أما حبه السياسة فكان فيه ككل ابن بيت لبناني عتيق، إن الفريكة التي شهرها الريحاني لا تخوم بينها وبين قرنة الحمرا، وبين الريحاني وأبي الفضل الوليد قرابة لعل للنسب والمكان يدًا فيها، فأم أمين من بنات عم إلياس طعمة، وهكذا كانت العروبة عندهما فوق الجميع، ولأجلها فاه إلياس بكلمة الشهادتين وهذا ما لم يفعله أمين.

هذه هي الفكرة الجارفة فيما خطته يد أبي الفضل، ولا أعد ما نقلته عنه في مدح نفسه إلا من غرور العبقرية ولا بدع، فالعبقرية والجنون يمشيان في صعيد واحد.

لم يُمدح إلياس كما يشتهي فتولى هو بنفسه مدح نفسه، فأطنب وغالى وأغرق، كان أبيًّا لا يستجدي التقريظ من أحد، ورأى أنه مغموط الحق فحك جلده بظفره، وإلى هذا أشار في كتابه «التسريح والتصريح» فقال: «أعرف كثيرين من الشعراء والكتاب يكتبون بأيديهم تراجمهم وتقاريظهم فينشرها لهم أصحاب الجرائد على علاتها لصداقة أو قرابة أو شفاعة أو طماعة، وبعض صحافتنا اتخذها محترفوها مهنة للخداع والكذب، فقد تحيي بالريحان من يرجمه الناس، وتجعل الجاهل عالمًا والسارق محسنًا، فرب صحافي برشوة أو أكلة أو سكرة صير الفدم فريد عصره والفسل وحيد مصره، وبورقة عملة يملأ ورقة جريدة من صورة الراشي وشماريخ الألقاب والنعوت، فالذي يشاء يصبح أمير البلاد وزعيم العباد، وعميد الكتاب وسيد الشعراء.»

وكأني بإلياس قد أخذ حقه بيده بعد ما رأى ما لحق به من حيف، فما كان كغيره — كما قال — شاعر نهر ولا بحر، ولا شعب ولا قطر، ولا فيلسوف شرق ولا علامة غرب، ولا أمير شعراء ولا رئيس كتاب، بل نصب نفسه ملك الشعر والنثر وكفى.

أبو الفضل الشاعر

شاعر مطبوع، خلق ليقول شعرًا، كان يحكي شعرًا إذا شاء، وظل يقول الشعر حكيًا معربًا، فهو في هذا ضريب عبد المحسن الكاظمي وإن لم تكن له الديباجة الكاظمية، يعني أبو الفضل الوليد أن يؤدي فكرة لا أن يبدع فنًّا، وإن ادعى الخلق والإبداع، فقلما تقع في دواوينه الأربعة على صورة بيانية، ولكن نفسه تحن كثيرًا إلى الخلق الذي يزعم أنه سبق إليه المتقدمين والمتأخرين، فهو في ديوانه الأول «رياحين الأرواح» يناجي «العصفور» سائلًا إياه أن يجود عليه بشيء من إبداعه:

أيها العصفور قل لي
أتغني أم تصلي
هذه تغريدة قد
طيرت قلبي وعقلي
أبت بالإنشاد فوقي
أن تكن بالنظم مثلي
زادك الله جمالًا
في التغني والتفلي
أعطني وزنًا جديدًا
لم يكن للشعر قبلي

أرأيت هذا التوق وهذا الوجد! فهو يتمنى أن تكون له لغة العصافير وأناشيدها، أدرك أبو الفضل المدرسة الجديدة ولم يتأثر بها، بل نستطيع القول إنه ازدراها، كان يزرع حقله بعقله كما يقولون؛ ولهذا يقول لنا: «في شعري هذا لهجة صادقة، وطريقة جديدة، وقد فتحت فيه أبوابًا لم تطرق، ومهدت للشعراء سبلًا، فما نظمت قط مسترزقًا أو متملقًا، وما طمعت بنظم ذليل في مال قليل، فما أسقطه متاعًا إذا طرح في الإعدام على الأقدام، وشر البلية من ذي رأس خفيف وكيس ثقيل.»

إن صدق اللهجة والإباء وعزة النفس ملء دواوينه الأربعة، أما الطريقة الجديدة والأبواب التي فتحها فما هبت علي منها نسمة، إلا إذا كان التجديد فيما قال: «وأحببت الشعر مصفى منقى لا جوازات فيه، ولا قواف مكررة، ولم أستعمل كلمة أعجمية ولو راسخة في التعريب غيرة على الأصيل من الدخيل.»

أشهد أنه في هذا صادق، وصادق أيضًا حين يقول: «كثيرًا ما لا يكون الشعر لصاحبه، أما أنا فصاحب شعري، تناثر من قلبي زهرًا عن غصن وريشًا من جناح، فعلى طريق الحياة نثرت شعوري ثم نظمته في شعري، فما شعري إلا تذكار لمروري في هذه الدنيا، وكنت أود أن لا أترك أثرًا ولا أبقي خبرًا، فأكون كعصفور يلقي غردة ويمر وهو غير مكترث لما تردد في الفضاء.»

إن في هذا المنثور شعرًا كثيرًا لا نجد مثله في منظوم الوليد، الذي يرى الشعر سليقة وفطرة لا صناعة وفكرة، فأبو الفضل سليقي يقول فيعرب كما قال ذاك الشاعر عن نفسه، طويل النفس كابن الرومي وإن لم تكن له معانيه الغريبة، قد يتفقان في وحدة القصيدة ويختلفان في أن الوليد لا حشو عنده ولا ركاكة، تمنى أبو الفضل لو وضع أوزانًا جديدة ليكون ذا بدعة وإبداع كما قال، ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا، وما عبر في قريضه إلا عن آماله وأمانيه بعريان الكلام، البعيد عن الخيال الشعري المنمق العبارة.

والشعر في نظر رفيقي إلياس نبوءة حقًّا؛ ولهذا قال في مقدمة الرياحين: «كان اليهود يقولون تنبأ؛ أي قال الشعر، فالنبي في عرفهم هو الشاعر، وقد كانوا — وأيم الحق — مصيبين، فما الزبور والأسفار والنبوءات إلا قصائد، وما داود وسليمان وسائر الأنبياء إلا شعراء، وكفى بنشيد الأناشيد شعرًا غزليًّا يخلب القلوب ويسلب الألباب، إن التوراة رُقن — دواوين — شعر مجموعة، وهي كتاب اليهود، ولكل أمة كتاب هو كتاب شعرها، تذكر به ما كان وتأمل أن يكون.»

ويعرفنا أبو الفضل الوليد بديوان «رياحين الأرواح» فيقول إنه مظهر الروح المتأثرة، وكذا يكون شعر الصبا والفتوة، فهذا كتاب الوليد حقًّا ولا أسميه عبثًا كما سمى المعري ديوان البحتري؛ إذ لا يحق لي ولا لغيري أن نعبث بالشاعر الصادق الذي يكشف لنا خبايا نفسه.

هذا الديوان غزل كأكثر الغزل، ولكن فيه وثبات كما في قصيدة مداعبة عذراء:

مجلسها صمت وإيجاز
ولحظها للقلب مهماز
ما لي على عفتها طاقة
تلك على المجروح إجهاز
من لي بها والدين دون الهوى
وفي يد القسيس عكاز
وصورة العذراء في خدرها
والسبحة البيضاء إيعاز
قسيسها ينهى ولا ينتهي
وهي عجين وهو خباز
إن قلت مولاتي عديني وفي
فالقلب من عينيك قفاز
قالت وقد عضت على كفها
لم أدر ما وعد وإنجاز
أرشده يا يسوع واغفر له
من أجلنا جرحك نزاز

أظن أنها قصيدة فريدة، وهي في نظري ريحانة دواوين إلياس الأربعة، لا ديوان رياحين الأرواح وحده.

وفي قصيدة «إلى فتاة ترهبت» رأيت هذا البيت في المحل الأرفع من سماوات الشعر، قال يذكر تلك الفتاة التي عاذت بالدير من شياطين العاشقين:

ولم أنس يومًا فيه جئتك زائرًا
فقلت «ألا هبي» فقلت «قفا نبك»

أجل هذه لقطات ترميها الآلهة في طرق أبنائها الشعراء، وهنيئًا لمن يقع على مثل هذه الكنوز.

أما ديوانه الثاني أو الرقين الثاني في لغته هو، فمصدر بصفحة كتبها الشاعر بخط يمينه، ليثبت إيمانه ويقينه بسمو العرب وحق العرب بسلطان لا يزول، إن قصائد هذا الديوان يدل عليها عنوان «أغاريد في عواصف» وهي قصائد أنين وحنين، وغزل ونسيب، وذكريات أوحتها إلى الشاعر هجرته، فكان من أمه قعيدة بيته في الحمراء، كأبي فراس من عجوز منبج، في هذا الديوان تتفجر عواطف إلياس بسبب ما أدرك من خيبة في هجرته، أصابه ما أصاب النعامة كما قالت العرب: ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين، وذهب هو في طلب الطريف فأضاع التليد، وذاك حظ كل من تدركه حرفة الأدب، فكم من معَّاز أو عتال هاجر فاغتنى، وكم من أديب لبيب لم يعط خبزه كفاف يومه، فاسمع كيف يخاطب نفسه:

أنطمع كالضليل بالوطر العالي
وأنت قليل الحظ والصبر والمال
أطرفة في العشرين فاجأك الردى
ويا ابن زريق مت من طول إهمال

وفي قصيدة خاصة بابن زريق يخاطبه فيها:

شفينا كلانا فمت وكدت
أموت، فجسمي براه السقام
فمثلك خضت بحارًا وجبت
قفارًا وشبت لفرط اهتمام

ويقول في قصيدة أخرى:

والحظ لما طلبت المجد أرجعني
صفر اليدين إذا فتشت لم أجد

ثم يختم هذه القصيدة موجهًا كلامه إلى والدته:

ماذا تقولين أو ماذا أقول إذا
عاد البنون إلى المأوى ولم أعد
لهفي على ولد يقضي الحياة بلا
أم، ولهفي على أم بلا ولد

وإذا شئت أن تتذكر أبا فراس فاسمع:

هناك وراء البحر أم حزينة
تكابد آلام الشهيدات من أجلي
أبيت أناجي طيفها قائلًا لها
رويدك إني كالألى فعلوا فعلي
لقد مات «دنتي» يائسًا في جهاده
وقد مات في المنفى «امرؤ القيس» من قبلي
وإني لأدعو كل ذي محنة أخي
فللشبل حنات إلى زأرة الشبل

وييأس إلياس فيرى الكون من وراء نظارة سوداء فيقول:

من يعط لا يوهب ومن يمنع ينل
كن مؤمنًا بالله واشبع دينًا

ثم يرى سبب شقاء هذا البلد في طوائفه، وإلى رجال الدين يعزو فقر البلاد فيقول فيهم:

متى ينتهي كهاننا وشيوخنا
فنخلص من حياتهم والعقارب
شقينا لنعماهم وراحتهم فهم
يسوقوننا كالعيس نحو المعاطب
يقولون صلوا واصبروا وتقشفوا
وتوبوا وصوموا واثبتوا في التجارب
وهم بين عواد وزق وقينة
لها عبثات باللحى والشوارب
يجوع ويعرى في الكهوف فقيرنا
ويشقى ويبكي صابرًا غير عاتب
وقد أكثروا ديباجهم ودجاجهم
وقالوا لشعب الله عش بالعجائب
فكم أكلوا القربان بعد فظيعة
وكم جحدوا الإيمان عند المكاسب
خلاصي، وما أغلاه لست أريده
إذا كان من خوري وقس وراهب
متى يهزم الغربان نسر محلق
وتبطش آساد الشرى بالثعالب

هذه هي «أغاريد في عواصف»، وسترى إلى أين سار هذا المتمرد مع العاصفة.

والديوان الثالث «الأنفاس الملتهبة» نظم في الحرب الكبرى الأولى، فجاء صورة للزمن الذي نظم فيه، طافحًا بحب الاستقلال الذي حنت إليه الأمة العربية وحاربت من أجله، فالشاعر في هجرته يحلم بالمجد العتيد ويتألم ويحن إلى أرض هجرها:

ذكرت بلادي والكواكب تسطع
ونفسي بما فوق الكواكب تطمع
وجدت لكي أرعى نجومًا كثيرة
ولكن نجمي بينها ليس يطلع

فهو في هذا ينظر إلى قول المتنبي:

فلا تقنع بما دون النجوم
أبدًا أقطع البلاد ونجمي

ويرى الشاعر أن البلاد لا تنهض إلا بالسيف والقلم متعاضدين فيهتف:

صليل الظبى وصرير القلم
لفك القيود وشق الظلم
بدونهما لا حياة لنا
فهذا وذاك حياة الأمم

وشمرت الحرب عن ساقها فشمر إلياس معها، وأطربه زئير الحديد فصاح:

السيف يخطب فاسكت أيها القلم
لا خير في الحبر حيث الدمع ينسجم
السيف منه صلاح فاضربن به
إن النبي لنصر الله قد ضربا
إن أخفق الحق والإيمان في أُحد
فيوم بدر أزال الكفر والشغبا
أما تراجع محروسًا ومحترسًا
فالليث يرتد أحيانًا لكي يثبا

ويذكر مسقط رأسه في لبنان في تلك الأيام السوداء فيهتف:

لي أمة شطرت شطرين شطر نوى
وشطر موت فكيف الشمل يلتئم
قد مات أبناؤها حتف الأنوف على
مرأى الألوف فلم تنهض بها الهمم
وتوقهم بوعود العجم ضيعهم
فذمة العجم ألا تحفظ الذمم
يا ليت أعلامهم أكفانهم فلهم
منها حياة وللأبناء معتصم
لكنهم تحت رايات العدى سقطوا
صرعى، وفي أرضهم من قوتهم حرموا

حقًّا إنها صفحة طواها الشعراء وما أتوا على ذكرها إلا قليلًا، إني أضحك حين أقرأ اليوم هذه العبارة: الحرب الباردة، فأين برودة حرب اليوم من صقيع تلك؟! فما مرت حرب باردة في دنيا الله كتلك التي مرت على لبنان في حرب سنة ١٩١٤، ماتت الناس بعد ما أكلت الفئران والجرذان والحمير، والشعير من روث خيول العربات، أجل لقد أكلت الناس هذا وماتت ولم تطلق بارودة ولم تهز عصا.

وكأن إلياس حين سمى ديوانه الأخير «نفخات الصور» قد تخيل أمته راقدة، وهو رافائيل ينفخ في الصور ليبعث من في القبور، لا تستغرب هذا القول، فها هو الشاعر يصدر ديوانه هذا بما يلي:

لقد كان هذا الكتاب من الشعر وحيًا وتنزيلًا للعرفان والهدى، فالعواطف والأفكار التي تجيش في أبياته لا تكون إلا من نفحات علوية تنعش السماء بها الأرض، كيف لا وناظمها أبو الفضل الوليد قد نشأ مارونيا لبنانيًّا، وتخرج من مدارس نصرانية كهنوتية فكان معلموه قسيسين ورهبانًا، وتغرب في بلاد إفرنجية وأميركية أهلوها لاتين بحورهم تغرق الشرقيين، فمن يصدق أن من هذه تربيته يشعر ويفكر بما لا يدور في خلد عربي مسلم في مكة، إن هذا إلا دليل على أن شعره موحى به إليه ومنزلٌ عليه، فليس هو مسئولًا عنه، إنما الله وليه فيما كتبت يده لخير العرب والمسلمين، وقد تدرج حسه حتى حببت العروبة إليه الإسلام وهو روحها وجوهرها.

ثم يختم هذه الصفحة من تاريخ حياته بهذه الكلمة: «فإذا لم يكن نبيًّا — أي أبو الفضل الشاعر — لا شك بأنه ملهم من خاتم النبيين.»

أما النبوءة فلا، أما الإلهام فهذا فيض من النفس، ونفس إلياس تهدر في أعماقها العروبة ثم تجري أنهارًا جارفة في «نفخات الصور»، وليس أصدق من عناوين قصائد هذا الديوان في الدلالة عليه، وهذه هي أولًا: «الرؤيا النبوية» وفيها يقول أبو الفضل:

تشوقت حتى زارني الطيف مؤنسًا
وأشرق نور الطلعة النبوية

ويبلغ الوليد الجنة فيرى على بابها رضوان لابسًا من الإضريج أفخر حلة، ويدخل الجنة ويشرب من رحيق الحور والولدان بأكواب من در وقوارير من فضة، حتى إذا ما توغل في الجنة بلغ حضرة من على العرش استوى، فرأى:

غمامة عليين تستر نوره
ترفع رب العرش عن كل هيئة

ويتحير إلياس في ذلك الموقف ويعجز عن الوصف كما عجز مار بولس من قبل، فيسمع صوتًا يناديه: دعوتك فاسمع أنت صاحب دعوة.

وكن منذرًا بين الورى ومبشرًا
وبلغ جميع المسلمين وصيتي
فشعرك وحي منزل في جهالة
كما نزل القرآن في الجاهلية
تشجع وآمن يا وليد فأنت لي
رسول وفي الإبلاغ فضل الرسالة
أنا المصطفى المبعوث للحق والهدى
وقد صحفوا في مصحفي كل آية
وقل لجميع المسلمين تجمعوا
وصونوا وقار الأمة العربية

ويمضي إلياس في البلاغ المبين الذي تجلى له في تلك الرؤيا، فيسدي إلى العرب نصحًا جزيلًا صادقًا لقنه إياه الرسول — عليه الصلاة والسلام — كما زعم.

وينقطع الهاتف فيجفل مرتاعًا من الصمت، ويأسف لانقطاع الرؤيا وما أشمه من حسنات عدن من نفحات طيبة، ويختم هذه الكلمة بقوله:

وفي الشعر ريحان وراح وكوثر
فما في من ري وريا لأمتي

أما المطولات الآخر فهذا بعض عناوينها: «المشرقية، المغربية، المقدسية، الشامية، العراقية، المصرية، الأموية، الأندلسية»، وكأنها معارضة لنونية ابن زيدون، وفيها ينحي على جماعة الغرب باللوم والشجب فيقول:

المريمات مذلات فواطمنا
كما تذل الأناجيل الفراقينا
وللقلانس هزء من عمائمنا
وهي التي صغرت في عين قاضينا
فما لنا قوة إلا بسيدنا
محمد، فهو يرعانا ويحمينا

ثم تلى هذه القصيدة «الدمشقية والصحابية والجندية»، وفيها يحيي الراية العربية بقوله:

بروحي وأهلي راية عربية
لها النصر في سود المعارك باسم
حماها النبي المصطفى واستحبها
وناسجها جبريل والله راسم

ثم يذهب في حسن تعليل ألوانها الأربعة مذهبًا موفقًا، وبعد رفع هذا العلم لا بد من أن يأتي الجهاد، ففي القصيدة الجهادية يتغنى ما شاء، ثم تليها قصيدة «الشهادية» وهي من مطولات الديوان وقد ختمها بقوله:

تمنيت مع فتيان قومي شهادتي
ولكنني أهوى الحياة لأثأرا

ويختم الشاعر رقينه الرابع برباعيات وسباعيات بنى قوافيها على حروف الهجاء.

أما رأي الشاعر في ديوانه هذا فهو: «إنها من نوع الأيبوبة — الملاحم — عند الإفرنج، فهي ملحمة العرب الكبرى، وتفوق الملاحم التي نظمها اليونان واللاتين والإفرنج بعظمة المعاني، ومتانة المباني.»

ولأبي الفضل الوليد غير هذه الدواوين الشعرية الأربعة «منغمة غافر ولبانة» التي لم تقع في يدي، ولكني تعرفت إليها وعرفت مكانتها في الشعر مما كتبه أبو الفضل الوليد في آخر دواوينه، قال كعادته في تعريفها:

هي منغمة شعرية نظمها أبو الفضل الوليد من أجل مصر، وضعت على أسلوب جديد وطريقة مبتكرة جمعا محاسن الأدب الرفيع، ولا بدع فناظمها قد تفرد بإبداعه وإنذاره في النظم والنثر، وجاء بالعجب العجاب.

قال خبير مطلع على المناغم عند الإفرنج إن «منغمة غافر ولبانة» أجمل المناغم التي تلوتها وشهدتها، فهي تحفة هذا الفن وكان نظمها على نسق مبتكر، فشبهها أحد قارئيها بواجهة جوهري معروضة فيها الجواهر على اختلاف أنواعها وألوانها، والخبير يظنها تأليف موسيقي لا تأليف شاعر لما حوته من الصناعة الموسيقية، ولما تلاها أحد الموسيقيين قال: «هذا تنزيل لا تلحين.»

قلت: وعنا لأمر الأستاذ سعيد تقي الدين.

أبو الفضل الثائر

لأبي الفضل الوليد أربعة كتب نثرًا: «أحاديث المجد والوجد»، وهو حكايات مستوحاة من التاريخ العربي في الشرق والغرب، وهذا الكتاب ككل كتبه ودواوينه لحمته وسداه العروبة والقومية، وفي نهاية ستة فصول سماها رسائل بها ينتهي إلى كتابة ما سماه «الفاتحة الوطنية»، وفيها يقول: «يا مالك السماوات والأرض وقابض الدول والسلاطين، خلص الشرق من الغربيين، ونجنا من مكايد الأجنبيين، واجعلنا متدينين غير مغالين، أحرارًا مستقلين، غير مسيطر عليهم ولا متفرنجين، فنعيش ونموت عربًا سوريين.»

ولا يكتفي بهذا بل يكتب «تعليمًا» جديدًا على نسق التعليم المسيحي الذي يتلقنه الناشئون على هذا الدين فيقول:
س: أعربي أنت؟

ج: نعم أنا عربي بنعمة الله وذمة العرب.

س: من هو العربي؟

ج: هو المنحدر من السلالة العربية أو المولود في الأرض العربية.

س: ما هي الأرض العربية؟

ج: هي كل أرض أهلها عرب ومستعربون.

س: هل سورية منها؟

ج: نعم وهي من صميمها، فأنا عربي سوري.

إلى أن يسأل:
س: ماذا يريد العربي المخلص للعرب؟

ج: يريد لهم دولة عامة، وراية جامعة، ولغة واسعة.

وأخيرًا:
س: أتحافظ على هذا المذهب؟

ج: نعم، به أعيش وعليه أموت.

أما كتاب «القضيتين» فموضوعه يدور حول السياستين الشرقية والغربية، ومما يسديه فيه لقومه من النصح قوله: «ليعمل للتوفيق أهل العصبية من المسلمين والنصارى فيكونوا خير العاملين، فمن الكبائر أن يخجل العرب والنصارى أمام العرب المسلمين، فما أجمل تعاون المسلمين والنصارى على الأجانب والخوارج.»

إن كرام العرب والنصارى مخلصون لأمتهم، متعلقون بعروبتهم، يفضلون حكم بدوي على حكم أجنبي، ويرون المنقصة أن ينوب عنهم ويكون كهان لهم منهم زعماء، إلى أن يقول: «لا أوطان في الوطن ولا طوائف في الأمة.»

وفي كتاب «المآلك» أي الرسائل يكتب في العلم والفن والاجتماع والفلسفة، فلا يدع شيئًا من الشئون والشجون إلا ألم به، وكأن المعاملة وخصوصًا المالية منها قد نغصت عيشه، فقال: «ثلاثة لا تفتحها إلا عند اللزوم بابك وكيسك وفمك، وأشد الخطر في فتح الكيس الذي يغلق القلب، فتحصيل الدين أشبه شيء بقلع الأضراس ونتف الشعر، ومجاولة الدائنين للمديونين كمجاولة السباع ومزاولة الأفاعي.»

ويختم هذا الكتاب برأي في الأدب فيقول: «الأدب حتى الرفيع منه كان منه إضرار وإضلال وليس إلا نوعًا من الملاهي، ولم ينفع الناس في كل أطوارهم إلا العلم الثابت الصحيح.»

وفي كتابه «التسريح والتصريح» ولعله آخر ما ألف يتعرض للغة، فينظر فيها نظرة فاهم، ويتشدد كثيرًا حتى يصفي اللغة من كل عجمة، فينصح لمن يريد أن يتخلص منها بتاتًا أن يقول في الجلنجين ورسل؛ لأنه مصنوع من الورد والعسل، وفي الفالوذج دمعسل لأنه معمول من دقيق وماء وعسل!

وهذه أيضًا تذكرنا بما نحته سعيد تقي الدين من مفردات خالدة.

ويتعرض أبو الفضل للكتابة فيثني على الخط العربي، ويقرع دعاة العامية تقريعًا عنيفًا، ويدعو إلى التكلم بالفصحى.

ثم يتعرض للركالة في الكتب الدينية، كما فعل الشدياق من قبل، ويدعو العلماء من الكهان إلى تهذيب لغتها، ويرى «في قصص التوراة ما يخجل من تلاوته الخليع، ناهيك أنه يعلم الفاسق ما يجهل، فحول وجهك عما فيها من دعارة بني إسرائيل بل بني عزرائيل».

أما الآن وقد انتهينا من هذه الدارسة، فهل كنت تحلم يا أخي إلياس، أن رفيقك مارون الذي كانت نكتته توجعك سوف يكتب عنك هذا الفصل؟ لقد كنت بك رفيقًا كما كنت لك صديقًا، وأنا قبل وبعد مولعٌ بإحياء الموءودين من أعلامنا.

١  أُلقِيت هذه الكلمة في دار المكتبة الوطنية ببيروت.
٢  لهجة الحق، ص٢١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤