الرسالة الرابعة

من العلوم الناموسية والشرعية في كيفية معاشرة إخوان الصفاء وتعاوُن بعضهم مع بعض وصِدْق الشفقة والمودة في الدين والدنيا جميعًا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لإخواننا، أيَّدهم الله حيث كانوا من البلاد، أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم ويتحاورون فيه أسرارهم. وينبغي أن تكون مذاكرتهم أكثرها في علم النفس والحس والمحسوس والعقل والمعقول، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية ومعاني ما تضمنها موضوعات الشريعة، وينبغي أيضًا أن يتذاكروا العلوم الرياضيات الأربعة؛ أعني العدد والهندسة والتنجيم والتأليف، وأما أكثر عنايتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى.

وبالجملة ينبغي لإخواننا، أيَّدهم الله تعالى، ألَّا يعادوا علمًا من العلوم أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها؛ وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية؛ من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد وعلة واحدة وعالم واحد ونفس واحدة محيطة جواهرها المختلفة وأجناسها المتباينة وأنواعها المفننة وجزئياتها المتغايرة.

وقد ذكرنا في الرسالة الثانية أن علومنا مأخوذة من أربع كتب: أحدها الكتب المصنفة على ألسنة الحكماء والفلاسفة من الرياضيات والطبيعيات، والآخر الكتب المنزلة التي جاءت بها الأنبياء، صلوات الله عليهم، مثل التوراة والإنجيل والفرقان وغيرها من صحف الأنبياء المأخوذة معانيها بالوحي من الملائكة وما فيها من الأسرار الخفية، والثالث الكتب الطبيعية وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج وحركات الكواكب ومقادير أجرامها وتصاريف الزمان واستحالة الأركان وفنون الكائنات من المعادن والحيوان والنبات وأصناف المصنوعات على أيدي البشر، كل هذه صور وكنايات دالات على معاني لطيفة وأسرار دقيقة يرى الناس ظاهرها ولا يعرفون معاني بواطنها من لطيف صفة الباري، جل ثناؤه.

والنوع الرابع: الكتب الإلهية التي لا يمسها إلا المطهَّرون: الملائكة التي هي بأيدي سفرة كرام بررة، وهي جواهر النفوس وأجناسها وأنواعها وجزئياتها وتصاريفها للأجسام وتحريكها لها وتدبيرها إياها وتحكُّمها عليها، وإظهار أفعالها بها ومنها حالًا بعد حال، في ممر الزمان وأوقات القرانات والأدوار، وانحطاط بعضها تارةً إلى قعر الأجسام، وارتفاع بعضها تارةً من ظلمات الجثمان، وانبعاثها من نوم الغفلة والنسيان، وحشرها إلى الحساب والميزان، وجوازها على الصراط ووصولها إلى الجنان، أو حبسها في دركات الهاوية والنيران، أو مُكْثها في البرزخ أو وقوفها على الأعراف، كما ذكر الله تعالى في قوله: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وفي قوله تبارك وتعالى: وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وهم الرجال الذين في بيوت أذِن الله أن تُرْفَع ويُذْكَر فيها اسمه لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وهذا حال إخواننا الفضلاء الكرام، فاقتدوا بهم أيها الإخوان تكونوا مثلهم. وقد بيَّنَّا في رسائلنا كل ما يحتاج إليه إخواننا من أهل هذه العلوم.

(١) فصل في ماذا ينبغي لإخواننا أيَّدهم الله إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقًا

وينبغي لإخواننا، أيَّدهم الله، حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقًا مجددًا أو أخًا مستأنفًا أن يعتبر أحواله ويتعرَّف أخباره ويجرِّب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده؛ ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودَّة وحقيقة الأخوة أم لا؟ لأن في الناس أقوامًا طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة جائرة، فمنهم خيِّر وشرير، وكفور وشكور، وذو أمانة وغدَّار، وحليم وسفيه، وسخي وبخيل، وشجاع وجبان، وحسود وودود، وفاجر وعفيف، وجزوع وصبور، وشرِه وقنوع، وسلِس وشرِس، وفظ غليظ ولطيف رقيق، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل، ومحب ومبغض، وموافق ومخالف، ومنافق ومخلص، وناصح وغاش، ومتكبر ومتواضع، وعدو وصديق، ومؤمن وزنديق، وعارف ومنكر، ومقبل ومدبِر، وما شاكَل هذه الأخلاق المحمودة والمذمومة مضادات بعضها لبعض.

واعلم أن شر هذه الطوائف كلها مَنْ لا يؤمن بيوم الحساب، وشر الأخلاق: كبر إبليس، وحرص آدم، وحسد قابيل، وهي أمهات المعاصي.

واعلم أن الناس مطبوعون على أخلاقهم بحسب اختلاف تركيب مزاج أجسادهم وبحسب اختلاف أشكال الفلك في أصل مواليدهم. وقد بيَّنَّا في رسالة الأخلاق هذا بشرحه.

واعلم أن من الناس مَنْ هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة، وأن العادات الرديئة تقوِّي الأخلاق الرديئة، والعادات الجميلة تقوِّي الأخلاق المحمودة، وهكذا حكم الآراء والاعتقادات، فإن من الناس مَنْ يرى ويعتقد في دينه ومذهبه أنه حلال له سفك دم كل مخالف له في مذهبه مثل اليهود والخوارج وكل مَنْ يكفر بالرب.

ومن الناس مَنْ يرى ويعتقد في دينه ومذهبه الرحمة والشفقة للناس كلهم ويرثي للمذنبين ويستغفر لهم، ويتحنَّن على كل ذي روح من الحيوان ويريد الصلاح للكل، وهذا مذهب الأبرار والزهاد والصالحين من المؤمنين، وهكذا مذاهب إخواننا الكرام.

(٢) فصل في كيف يجب أن يكون الصديق

فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقًا أو أخًا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير، والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشرى المماليك والأمتعة التي يشترونها.

واعلم أن الخطْب في اتخاذ الإخوان أجلُّ وأعظم خطرًا من هذه كلها؛ لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعًا، وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحدًا فتمسك به فإنه قُرَّة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة؛ لأن إخوان الصدق نصرة على دفع الأعداء وزين عند الأخلَّاء وأركان يُعتمد عليهم عند الشدائد والبلوى، وظهر يستند إليهم عند المكاره في السراء والضراء، وكنز مذخور ليوم الحاجة وجناح خافض عند المهمات، وسُلَّم للصعود إلى المعالي، ووسيلة إلى القلوب عند طلب الشفاعات، وحصن حصين يُلْتَجَأ إليه يوم الروع والفزعات، فإن غبت حفظوك، وإن تضعضعت عضدوك، وإن رأوا عدوًّا لك قمعوه، والواحد منهم كالشجرة المباركة تدلَّت أغصانها إليك بثمرها وأظلَّتك أوراقها بطيب رائحتها وسترتك بجميل فيئها، فإن ذكرت أعانك وإن نسيت ذكَّرك، يأمرك بالبر ويسابقك إليه، ويرغِّبك في الخير ويبادرك إليه، ويدلك عليه ويبذل ماله ونفسه دونك.

فإذا أسعدك الله يا أخي بمن هذه صفته فابذل له نفسك ومالك، وقِ عرضه بعرضك، وافرش له جناحك، وأَوْدِعْه سرك، وشاوره في أمرك، وداوِ برؤيته عينك، واجعل أُنْسَك إذا غاب عنك ذكره والفكر في أمره، وإنْ هفا هفوةً فاغفر له، وإن زلَّ زلَّة فصغِّرها عنده ولا توحشه فيخاف من حقدك، واذكر من سالف إحسانه عند إساءته ليأنس بك ويأمن غائلتك؛ فإن ذلك أسْلَم لوده وأدْوَم لإخائه.

(٣) فصل في أن من الناس من لا يصلح للصداقة

واعلم يا أخي أن من الناس مَنْ لا يصلح للصداقة والأخوَّة والمقاربة أصلًا البتة، فانظر مَنْ تصحب وتعاشر، ولا تغترَّ بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها، ولا بحلاوة العاجل من قبل النظر في مرارة عاقبتها، فإذا أردت اتخاذ أخ أو صديق فاعتبر أولًا أحواله واختبر أخلاقه وسلْه عن مذهبه واعتقاده، وانظر في عاداته وسجيَّته وشمائله وحركاته، فإنه لا يخفى على المتفرس بواطن الأمور إذا نظر إلى ظواهرها.

واعلم بأن من الناس مَنْ يتشكل بشكل الصديق ويدلِّس عليك بشبه الموافق ويُظْهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره؛ فلا تغترَّ أو تتيقَّن.

واعلم أن أعمال الناس في ظاهر أمورهم تكون بحسب أخلاقهم التي طُبِعوا عليها وبحسب عاداتهم التي نشئوا عليها، أو بحسب آرائهم التي اعتقدوها، فإذا رأيت الرجل معجبًا صلفًا، أو نكدًا لجوجًا، أو فظًّا غليظًا، أو مُمَاحِكًا مماريًا، أو حسودًا حقودًا، أو منافقًا مرائيًا، أو بخيلًا شحيحًا، أو جبانًا مهينًا، أو مكَّارًا غدرًا، أو متكبرًا جبارًا، أو حريصًا شرهًا، أو كان محبًّا للمدح والثناء أكثر مما يستحق، أو كان مزريًا لنظرائه أو كان مستحقرًا لأقرانه والناس ذامًّا لهم، أو متكلًا على حَوْلِه وقوَّته؛ فاعلم أنه لا يصلُح للصداقة وصفوة الأخوة؛ لأن هذه الأخلاق والآراء والعادات مفسدة لاعتقاده لإخوانه؛ وذلك أن مَنْ يختر المطالبة بما لا يجب له لا تسمح نفسه ببذل ما يجب عليه، وهكذا الحسود واللجوج والغضوب تمنعه هذه الأخلاق عن الإذعان للحق، وهكذا اللجاج والتكبر يمنعان عن قطع الجدال والخلاف، وكذلك الفظاظة والغلظة يمنعان من العذوبة والسهولة، والشراسة والغضب يهيجان على المكابرة.

وبالجملة كل هذه الأخلاق مفسِدة للمودة ومخالِفة لصفوة الأخوة مستثقلة للنفوس وموحشة للأُنْس والراحة ومنفِّرة لإلْف الطباع ومنغِّصة للعيش ومبغِّضة للحياة.

واعلم أن الصداقة لا تتمُّ بين مختلفين بالطبع؛ لأن الضدين لا يجتمعان، مثال ذلك السخي والبخيل فإنهما متضادان في الطبع فلا تتمُّ بينهما الصداقة ولا تصفو لهما المودَّة ولا يهنيهما العيش؛ لأنه إذا فعل السخي شيئًا مما يوجبه سخاؤه من بذل المال أو المعروف رآه البخيل بصورة المضيع قد فعل ما لا ينبغي ولا يجوز، وإذا فعل البخيل بطبعه شيئًا من إمساك المال مما يوجبه بخله رآه السخي بصورة مَنْ قد أتى منكرًا لا يحسن فعله، فيصير ذلك سببًا لعيب كل واحد منهما على صاحبه حتى يعتقد البخيل في السخي سُخْف الرأي وتضييع المال وترك النظر في العواقب، ويعتقد السخي في البخيل النذالة والدناءة وصغر النفس وقصور الهمة، فإذا وقع بينهما ودام صارت وحشة وتواترت حتى تصير عداوة وتصير العداوة إلى الصرامة.

وهذا القياس في كل خلقين مختلفين متضادين فإنهما يوجبان المنازعة، والمنازعة توجب المغالبة، والمغالبة تنتج المغايظة، والمغايظة توجب المباغضة، والمباغضة ضد الصداقة.

(٤) فصل في أن مَثَل اتخاذ الأصدقاء والإخوان كمَثَل اكتساب المال والذخائر

واعلم أن مَثَل اتخاذ الأصدقاء والإخوان كمثَل اكتساب المال والذخائر؛ وذلك أن من الناس مَنْ يُفنِي عمره في طلب صديق موافق فلا يجد، فمثله كمثل الذي يُفني عمره في طلب جمع المال فلا يقدر عليه، ومنهم مَنْ يكون مرزوقًا من كثرة المال، ومنهم مَنْ يحسن أن يكسب المال ولكن لا يحسن أن يحفظه، فهكذا حكم اتخاذ الإخوان والأصدقاء، ومنهم مَنْ لا يحسن حفظهم ومراعاة أمورهم فيصيرون إلى العداوة بعد الصداقة، وإلى المباغضة بعد المودَّة.

فينبغي لك أن يكون أكثر كدك وعنايتك — بعد اتخاذ الصديق — حفظه ومراعاة أمره وأداء حقوقه حتى لا تصير الصداقة عداوة بعد طول الصحبة بملالة أو ضجر أو شكوك أو ظنون أو شبهة تدخل في المودَّة أو نميمة ووشاية من مخالف له يسعى بينكما للفساد؛ فتفقَّد يا أخي هذا الباب ولا تغفل عنه.

واعلم يا أخي أن الإنسان كثير التلوُّن قليل الثبات على حال واحد؛ وذلك أنه قلَّ من الناس مَنْ تحدُث له حال من أحوال الدنيا، أو أمر من أمورها من غِنًى إلى فقر، أو من فقر إلى غنًى، أو من حضر إلى سفر، أو من عذوبة إلى تزويج، أو من ذل إلى عز، أو من عطلة إلى شغل، أو من بؤس إلى نعمة، أو من رفعة إلى ضعة، أو من ضعة إلى رفعة، أو من صناعة إلى تجارة، أو من صحبة قوم إلى صحبة آخرين، أو من رأي مذهب إلى مذهب، أو من شباب إلى شيخوخة، أو من صحة إلى مرض؛ إلا ويحدث له خلق جديد وسجيَّة أخرى، ويتغيَّر خلقه مع إخوانه، ويتلوَّن مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم؛ وذلك أن كل صداقة تكون لسبب ما، فإذا انقطع ذلك السبب بطلت تلك الصداقة إلا صداقة إخوان الصفاء، فإن صداقتهم قرابة رحِم، ورحِمهم أن يعيش بعضهم لبعض ويرث بعضهم بعضًا؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيف ما تغيَّرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغيَّر ولا تتبدَّل كما قال القائل:

وفي الجسم نفْس لا تشيب بشيبه
ولو أن ما في الوجه منه خراب
لها ظفر إن كَلَّ ظفر أُعِدُّه
ونابٌ إذا لم يبقَ في الفم ناب
يُغيِّر مني الدهر ما شاء غيرها
فأبلغ أقصى العمر وهي كعاب

وخصلة أخرى: أن أحدهم إذا أحسن إلى أخيه إحسانًا فلا يمنَّ عليه به؛ لأنه يرى ويعتقد أن إحسانه إلى نفسه. وإن أساء إليه أخوه لم يستوحش منه؛ لأنه يرى أن ذلك كان منه إليه، فمن اعتقد في أخيه مثل هذا واعتقد أخوه فيه مثل ذلك فقد أمن كل واحد من أخيه غائلته أن يتغير عليه في يوم من الأيام بسبب من الأسباب أو بوجه من الوجوه.

(٥) فصل في كيفية الاحتفاظ بالصديق

فينبغي إذا ظفرت بواحد منهم أن تختاره على جميع أصدقائك وأقربائك وعشيرتك وجيرانك الذين نشأت معهم فإنه خير لك من ولدك الذي من ظهرك، وأخيك من صلب أبيك، ومن زوجتك التي جعلت كل كسبك لها وجميع سعيك من أجلها، فاعرف حقه كما تعرف حقوقهم، بل ينبغي أن تؤثِره عليهم كلهم؛ لأن هؤلاء يحبونك من أجل منفعة تصل منك إليهم، ويريدونك من أجل مضرة تدفعها عنهم، فإذا استغنوا عنك زهدوا فيك ورغبوا في غيرك وخذلوك أحوج ما تكون إليهم، فأما هذا الأخ فليس يريدك من أجل شيء خارج عن ذلك، بل من أجل أنه يرى ويعتقد أنك إياه وهو إياك نفس واحدة في جسدين متقابلين، يسرُّه ما يسرُّك ويغمُّه ما يغمُّك، يريد لك منه مثل الذي تريد له منك. واعلم أن قلوب الأخيار صافية؛ لأن نفوسهم طاهرة، ولا تخفى عليهم خفيات الأمور؛ لأنها تتراءى فيها كما تتراءى في أعين البُصَراء ظواهر كليات الأمور، فلا تضمرنَّ لإخوانك الأصفياء خلاف ما تُظْهِر لهم، فإن ذلك لا يخفى عليهم ولا ينكتم عليهم منك.

فصل

واعلم بأن خير شيء يُرْزَقه الإنسان السعادة، وأن السعادات نوعان: داخل وخارج، فالذي هو داخل نوعان: أحدهما في الجسد والآخر في النفس، فالذي في الجسد كالصحة والجمال، والذي في النفس كالذكاء وحسن الخلق، والذي من خارج نوعان: أحدهما ملك اليد كالمال ومتاع الدنيا، والآخر الأقران من أبناء الجنس كالزوجة والصديق والولد والأخ والأستاذ والمعلم والصاحب والسلطان والرئيس، فمن أسعد السعادات أن يتفق لك يا أخي معلم رشيد عالم عارف بحقائق الأشياء والأمور، مؤمن بيوم الحساب، عالم بأحكام الدين، بصير بأمور الآخرة، خبير بأحوال المعاد، مرشد لك إليها، ومن أنحس المناحس أن يكون لك ضد ذلك.

واعلم أن المعلم والأستاذ أبٌ لنفسك وسبب لنشوئها وعلة حياتها، كما أن والدك أب لجسدك وكان سببًا لوجوده؛ وذلك أن والدك أعطاك صورة جسدانية، ومعلمك أعطاك صورة روحانية؛ وذلك أن المعلم يغذي نفسك بالعلوم ويربِّيها بالمعارف ويهديها طريق النعيم واللذة والسرور والأبدية والراحة السرمدية، كما أن أباك كان سببًا لكون جسدك في دار الدنيا ومربيك ومرشدك إلى طلب المعاش فيها التي هي دار الفناء والتغيير والسيلان ساعة بساعة، فسلْ يا أخي ربك أن يوفق لك معلمًا رشيدًا هاديًا سديدًا، واشكر الله على نعمائه السابغة.

(٦) فصل في أن في الناموس أقوامًا يتشبَّهون بأهل العلم

واعلم أن في الناموس أقوامًا يتشبَّهون بأهل العلم ويتدلَّسون بأهل الدين، لا الفلسفة يعرفونها ولا الشريعة يحققونها، ويدَّعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدرَكة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الطفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ وما شاكلها من المسائل في الأمور المتوهمة التي لا حقيقة لها في الهيولى، وهم شاكُّون في الأشياء الظاهرة الجلية، ويدَّعون فيها المحالات بالمكابرة في الكلام والحجاج في الجدل، مثل دعواهم أن قُطْرَ المربع مساوٍ لأحد أضلاعه، وأن النار لا تحرق، وأن شعاع البصر جسم يبلغ في طرفة العين إلى فلك الكواكب، وأن علم النجوم باطل، وما شاكل ذلك من الزور والبهتان، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون الذلقو الألسن العميان القلوب الشاكُّون في الحقائق الضالون عن الصواب.

واعلم أنهم محنة على العلماء، كذَّابون على الأنبياء عليهم السلام، ينتحلون ولا يتحققون، ويدعون ما لا يعرفون، ويتكلَّمون فيما لا يحسنون، وما هم إلا كما وصفهم رب العالمين جل اسمه: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ يهيمون في أودية ما يتوهمون، ويقولون ما لا يفعلون ولا يعلمون.

أعاذنا الله وإياك أيها الأخ ممن فيه هذه الصفات الذميمة ومن شرهم؛ فإنهم أعداء فاحذرهم.

(٧) فصل في أن من سعادة الإنسان أن يتفق له معلم ذكي

واعلم أيها الأخ أن من سعادتك أيضًا أن يتفق لك معلم ذكي جيد الطبع حسن الخلق صافي الذهن محب للعلم طالب للحق غير متعصب لرأي من المذاهب.

واعلم أن مثل أفكار النفوس قبل أن يحصل فيها علم من العلوم واعتقاد من الآراء كمثَل ورق أبيض نقي لم يُكْتَب فيه شيء، فإذا كُتِب فيه شيء حقًّا كان أم باطلًا فقد شغل المكان ومنع أن يُكتب فيه شيء آخر ويصعب حكُّه أو محوه.

فهكذا حكم أفكار النفوس إذا سبق إليها علم من العلوم واعتقاد من الآراء أو عادة من العادات تمكَّن فيها حقًّا كان أو باطلًا ويصعب قلعها ومحوها كما قال القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبي فارغًا فتمكَّنا

فإذا كان الأمر كما وصفت فينبغي لك أيها الأخ ألَّا تشغل بإصلاح المشايخ الهرمة الذين اعتقدوا من الصبا آراء فاسدة وعادات رديئة وأخلاقًا وحشة؛ فإنهم يتعبونك ثم لا ينصلحون، وإن صلحوا قليلًا قليلًا فلا يُفلحون.

ولكن عليك بالشباب السالمي الصدور الراغبين في الآداب، المبتدئين بالنظر في العلوم، المريدين طريق الحق والدار الآخرة، والمؤمنين بيوم الحساب، المستعملين شرائع الأنبياء عليهم السلام، الباحثين عن أسرار كتبهم، التاركين الهوى والجدل غير متعصبين على المذاهب.

واعلم أن الله تعالى ما بعث نبيًّا إلا وهو شاب، ولا أعطى لعبد حكمة إلا وهو شاب، كما ذكرهم ومدحهم فقال عز اسمه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وقال تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، وقال أيضًا، عز وجل: قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ.

واعلم أن كل نبي بعثه الله فأول مَنْ كذَّبه مشايخ قومه المتعاطون الفلسفة والنظر والجدل، كما وصفهم تعالى فقال: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.

(٨) فصل في أن مواهب الله كثيرة لا يُحصَى عددها

واعلم أن مواهب الله جل اسمه، كثيرة لا يُحْصَى عددها، ولكن يجمعها جنسان، تحت كل جنس أنواع كثيرة: أحدهما قنية جسدانية والآخر قنية نفسانية.

فمن القنية الجسدانية أحدها المال، ومن القنية النفسانية أحدها العلم، والناس في هاتين النعمتين العظيمتين على منازل أربع: فمنهم مَنْ قد رُزِق الحظ من المال والعلم جميعًا، ومنهم مَنْ قد حُرِمهما جميعًا، ومنهم مَنْ رُزِق المال ولم يُرْزَق العلم، ومنهم مَنْ رُزِق العلم ولم يُرْزَق المال.

فينبغي لإخواننا — ممن قد رُزِق المال والعلم جميعًا — أن يؤدي شكر ما أنعم الله جل وعز، به عليه بأن يضمَّ إليه أخًا من إخوانه ممن قد حرمهما جميعًا ويواسيه من فضل ما أتاه الله تعالى من المال؛ ليقيم به حياة جسده في دار الدنيا، ويرقده ويُعْلمه من علمه لتحيا به نفسه للبقاء في دار الآخرة، فإن ذلك من أقرب القربات إلى الله، وأبلغ لطلب مرضاته.

ولا ينبغي له أن يمنَّ عليه بما ينفق عليه من المال ولا يستحقره، ويعلم أن الذي حرم أخاه هو الذي أعطاه، وكما أنه لا يمن على ابنٍ له جسداني فيما يربيه وينفقه عليه من ماله ويورثه ما جمعه من المال بعد وفاته، كذلك لا يجب أن يمنَّ على ابنه النفساني؛ لأنه إن كان ذلك ابنه الجسداني فهذا ابنه النفساني، كما رُوِي أن النبي قال لعلي، عليه السلام: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة.» وقال : «المؤمن أخو المؤمن من أبيه وأمه.» وقال إبراهيم عليه السلام: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وقال عز وجل لنوح عليه السلام، حيث قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي قال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فبيَّن أن النسب الجسداني لا ينفع في الآخرة.

ولهذا المعنى قال المسيح عليه السلام، للحواريين: «جئت من عند أبي وأبيكم.» وقال الله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فهذه الأبوة نفسانية لا ينقطع نسبها كما قال النبي عليه السلام: «كل نسب ينقطع يوم القيامة إلا نسبي.» وقال: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، فإني لا أُغْنِي عنكم من الله شيئًا.» إنما أراد النسبة الجسدانية؛ لأنها تنقطع إذا اضمحلَّت الأجسام وبقيت النسبة النفسانية؛ لأن جواهر النفوس باقية بعد فراق الأجساد وإن كان يظن أن ابنه الجسداني يحيي ذكره بعد موته؛ فهذا أيضًا إن عاش أحيا ذكره في مجلس العلماء ومحاضر أهل الخير إذا نشر علمه، ويتوجَّه إليه ويترحَّم عليه كلما ذكره، كما نذكر نحن معلمينا وأستاذينا أكثر مما نذكر آباءنا الجسدانيين ونترحَّم على آبائنا، وإن كان يظن أن ذلك الابن الجسداني ربما ينفعه إذا كبر ويعينه على أمور الدنيا.

فهذا ربما بلغ في العلم والحكمة والخير والمرتبة عند الله تعالى أن يشفع بعلمه لمعلمه فينجو بشفاعته وهو لا يدري كما ذكر الله تعالى بقوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ.

وأما مَنْ رُزِق المال ولم يُرْزَق من العلم من إخواننا فينبغي له أن يطلب أخًا ممن قد رُزِق العلم ويضمه إليه ويواسيه هذا من ماله، ويُرْفِده هذا من علمه، ويتعاونان جميعًا على إصلاح أمر الدين والدنيا، وينبغي للأخ ذي المال ألَّا يمنَّ على الأخ ذي العلم بما يواسيه من ماله ولا يحتقره لفقره؛ لأن المال قنية جسدانية تقام بها حياة الجسد في دار الدنيا، والعلم قنية نفسانية تقام بها حياة النفس في دار الآخرة، وجوهر النفس خير من جوهر الجسد، وحياة النفس خير من حياة الجسد؛ لأن حياة الجسد إلى مدةٍ ما ثم تنقطع وتضمحل، وحياة النفس في الدار الآخرة تبقى مؤيدًا كما ذكر الله تعالى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى، وينبغي للأخ ذي العلم والحكم ألَّا يحسد أخًا ذا مال له، ولا يستحقره لجهله، ولا يفتخر عليه بعلمه، ولا يطلب منه عوضًا فيما يعلمه؛ لأن مثلهما في صحبتهما وتعاوُنهما، هذا لهذا بماله وهذا لهذا بعلمه، كمثل اليد والرِّجْل في اتصالهما بالجسد وخدمتهما وتعاونهما في إصلاح الجملة؛ وذلك لأن اليدين لا تطلبان من الرِّجْلَين إذا احتذت لهما نعلًا أو أخرجت منهما شوكة جزاءً ولا شكورًا، وكذلك الرِّجْلان لا تطلبان من اليدين إذا بلَّغتاهما إلى الموضع الذي شاءتا وتستَّرتا وهربتا به من خوف القطع جزاءً ولا عوضًا؛ لأنهما آلات جسد واحد، وقوام إحداهما بالأخرى، وهكذا أيضًا السمع لا يمن على البصر إذا أسمعه النداء، ولا البصر يمن على السمع إذا أراه المنادي؛ لأنهما قوتان لنفس واحدة كلٌّ منهما صلاح للأخرى في تعاونهما في خدمة النفس وطاعتهما في إدراكها المحسوسات.

فهكذا ينبغي أن يكون تعاون إخوان الصفاء في طلب صلاح الدين والدنيا؛ وذلك أن معاونة الأخ ذي المال للأخ ذي العلم بماله ومعاونة الأخ ذي العلم للأخ ذي المال بعلمه في صلاح الدين كمثل رجلين اصطحبا في الطريق في مفازة: أحدهما بصير ضعيف البدن معه زاد ثقيل لا يطيق حمله، والآخر أعمى قوي البدن ليس معه زاد، فأخذ البصير بيد الأعمى يقوده خلفه، وأخذ الأعمى ثقل البصير فحمله على كتفه، وتواسيا بذلك الزاد وقطعا الطريق ونجوَا جميعًا، فليس لأحدهما أن يمنَّ على الآخر في إنجائه له من الهلكة في معاونته؛ لأنهما نجوَا جميعًا بمعاونة كل واحد منهما صاحبه، والمعاونة لا تكون إلا بين اثنين أو أكثر، والأخ الجاهل كالأعمى والأخ الفقير كالضعيف، والأخ الغني كالقوي والأخ العالم كالبصير، والطريق هي صحبة النفس مع الجسد، والمفازة هي الحياة الدنيا والنجاة هي حياة الآخرة.

فهكذا مثل إخواننا المتعاونين في صلاح الدنيا والدين.

وأما مَنْ رُزِق العلم ولم يُرْزَق المال ولا يجد مَنْ يواسيه بالمال من إخواننا فينبغي له أن يصبر وينتظر الفرج؛ فإنه لا بد أن يؤيده الله عز وجل بأمر أو بأخٍ يخفِّف عنه ما يحتمله من ثقل الفقر، كما وعد لأوليائه فقال عز من قائل: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.

وينبغي له أن يعلم أن الذي رُزِقَ من العلم خير من الذي حُرِم من المال؛ لأن العلم سبب لحياة النفس في دار الدنيا والآخرة جميعًا، والمال سبب لإقامة حياة الجسد في دار الدنيا فقط، وفضل ما بين النفس والجسد وشرف جوهرها وفضل حياتها وفضل ذاتها، فقد تقدَّم ذكره، وينبغي له أن يتفكر في الذي حُرِم من المال والعلم جميعًا ليعرف نعمة الله عليه ويشكره على كل حال؛ ليستوجب المزيد كما وعد الله تعالى فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.

وأما مَنْ ليس بذي مال ولا علم من إخواننا فهو الذي له نفس زكية جميلة الأخلاق سليم القلب من الآراء الفاسدة، محب للخير وأهله صابر راضٍ بما قسم الله له من ذلك، فينبغي أن يُعْلَمَ أن الذي أعطى من حسن الأخلاق وسلامة القلب ومحبة الخير والرضا بما قُسِم له خير من الذي مُنِعَ من المال والعلم؛ لأننا نجد في الناس مَنْ أُعْطِي العلم والمال أو أحدهما ولم يُرْزَق من هذه الخصال التي ذكرناها شيئًا؛ وذلك أنَّا نجد أقوامًا علماء متفلسفين يصنِّفون الكتب في تحسين الأخلاق، ويأمرون الناس بها وهم أسوأ الناس خلقًا، ونجد أقوامًا ليس لهم علم كثير وهم مهذبو الأخلاق كما وصفنا، فقد تبين أن حسن الخلق من مواهب الله تعالى كما قيل في الخبر: «قد فرغ الله من الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل.» ومدح الله تعالى نبيه محمدًا بحسن الخلق حين قال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وقد قيل في الخبر: «إن الإنسان بحسن الخلق يدرك في الجنة درجة الصائم.» لأن حسن الخلق من أخلاق الملائكة وشيمة أهل الجنة كما ذُكِر في القرآن: وَقُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.

وسوء الخلق من أخلاق الشياطين وأهل النار الذين يحسد بعضهم بعضًا ويتباغضون ويلعن بعضهم بعضًا كما ذكر الله تعالى في القرآن: كلما دخلَتْ أُمَّة لعنت أختها، وقالوا: لا مرحبًا بهم إنهم صَالُو النار. قالوا: بل أنتم لا مرحبًا بكم. وهم في العذاب مشتركون.

(٩) فصل في ترتيب نفوس إخوان الصفا

واعلم أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربع مراتب: أولها صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور، وهي مرتبة أرباب ذوي الصنائع في مدينتها التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ وهم الذين نسميهم في مخاطبتنا ورسائلنا إخواننا الأبرار والرحماء.

وفوق هذه المرتبة مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض والشفقة والرحمة والتحنُّن على الإخوان، وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد، وإليه أشار جل ذكره بقوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأخيار والفضلاء.

والرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة، وإليها أشار بقوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وهم الذين نسميهم إخواننا الفضلاء الكرام.

والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا، وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا، وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد، وهي الممهِّدة للمعاد والمفارقة للهيولى وعليها تنزل قوة المعراج، وبها تصعد إلى ملكوت السماء فتشاهد أحوال القيامة من البعث والنشر والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط والنجاة من النيران، ومجاورة الرحمن ذي الجلال والإكرام، وإلى هذه الرتبة أشار بقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، وإليها أشار إبراهيم عليه السلام، بقوله تعالى: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وإليها أشار يوسف عليه السلام، بقوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وإليها أشار المسيح عليه السلام، بقوله للحواريين: «إني إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي أبي وأبيكم أتشفَّع لكم، فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله تعالى، ولا تهابوهم فإني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد.» وأشار إليها نبينا محمد : «إنكم تردون على الحوض غدًا.» وأحاديث مروية، كل هذه مشهورة عند أصحاب الحديث وإليها أشار سقراط بقوله يوم سُقي السم: «إني وإن كنت أفارقكم إخوانًا فضلاء؛ فإني ذاهب إلى إخوان كرام قد تقدَّمونا …» في كلام طويل، وإليها أشار فيثاغورث في الرسالة الذهبية في آخرها: «إنك إذا فعلت ما أوصيك عند مفارقة الجسد تبقى في الهواء غير عائد إلى الإنسية ولا قابل للموت.» وإليها أشار بلوهر ليوزاسف حين قال الملك لوزيره وكان من أهل هذه المقالة: «قل لي مَنْ أنت؟ فقال: من الذين يعرفون ملكوت السماء.» في حديث طويل، وإليها ندعو نحن إخواننا جميعًا والله يهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، وإليها أشار بقوله تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى وهي كل آية فيها صفة الجنان وأهلها ونعيمها.

(١٠) فصل في أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال

واعلم أن المطلوب من المدعوين إلى هذا الأمر أربعة أحوال: أولها الإقرار بحقيقة هذا الأمر، والثاني التصور لهذا الأمر بضروب الأمثال للوضوح والبيان، والثالث التصديق له بالضمير والاعتقاد، والرابع التحقيق له بالاجتهاد في الأعمال المشاكِلة لهذا الأمر، واعلم أن المُقِرَّ باللسان غير متصور له يكون مقلدًا، والمتصور له غير مصدق به يكون شاكًّا متحيرًا، والمصدِّق به غير المتحقق له بالاجتهاد بالعمل المشاكل لهذا الأمر يكون مقصرًا مفرطًا، والمكذِّب باللسان لهذا الأمر المُنْكِر له بقلبه يكون جاحدًا كافرًا، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ. واعلم أن المُقِرَّ لهذا الأمر بلسانه المتصور له بقلبه على حقيقته يجد من نفسه أربعة خصال لم يعرفها قبل ذلك: أحدها قوة النفس والنهوض من الجسد، والثاني النشاط في طلب الخلاص من الهيولى الذي هو جهنم النفوس، والثالث الرجاء والأمل بالفوز والنجاة عند مفارقة النفس الجسد، والرابع الثقة بالله واليقين بتمام الأمر وكماله.

(١١) فصل في أن كل مقر بهذا القرآن …

واعلم أن كل مقر بهذا القرآن وبكتب الأنبياء عليهم السلام وإخبارها عن الغيب فهم في ذلك على منازل أربع: إما مقر بلسانه غير مصدِّق بقلبه، أو مقر بلسانه ومصدق بقلبه غير عارف لمعانيه وبيانه، أو مقر ومصدِّق ومتبيِّن ولكن غير قائم بواجب حقه، فالمُقِرُّ بلسانه غير المصدق بقلبه هو الذي رُزِق من الفهم والتمييز قليلًا، فإذا فكَّر بعقله وميَّز ببصيرته ما يدل عليه ظاهر ألفاظ الكتب النبوية لا يقبله عقله؛ لأنه لا يتصور معانيها اللطيفة وإشاراتها الخفية فينكره بقلبه ويشك فيه، وأما مَنْ أقرَّ بلسانه وصدَّق بقلبه — وهو الذي يتفكر ويعلم أن مثل هذا الأمر الجليل الذي قد اتفقت على تحقيقه الأنبياء والأئمة المهديون والخلفاء الراشدون وصالحو المؤمنين وأقرَّ به فضلاء الناس والمميزون المستبصرون — لا يجوز أن يكون ليس له حقيقة،١ ولكن فهمه وتمييزه وعقله يقصر عن إدراكه وتصوره لها بحقائقها، وأما مَنْ قد عرف بيانه ولكن قصَّر في القيام بواجبه فهو الذي وفَّقه الله وأرشده واهتدى بحقائق هذه الأسرار المذكورة في كتب الأنبياء عليهم السلام ولكن لا يجد المعين له على القيام بنصرتها وواجب حقها؛ لأنه وحيد وليس كل أمر يتم بالوحدة، بل ربما يحتاج فيه إلى الجمع العظيم وخاصة أمر الناموس، فأقل ما يحتاج فيه إلى أربعين خصلة تجتمع في واحد من الأشخاص أو في أربعين شخصًا مؤتلفة القلوب.
(تمت رسالة كيفية عِشْرة إخوان الصفا، ويليها رسالة في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين.)
١  كذا في الأصل، ومفاده أن مجيئه على لسان الأنبياء وغيرهم من الحكماء يجعله أمرًا مقطوعًا به، أو يجعله أقرب ما يكون إلى الحقيقة، ومن غير الجائز أن يكون كذبًا، وفي الأصل ما فيه من تشويش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤