الفصل الثالث

المشهد الأول

دن لذريق والفيرة
الفيرة : لذريق، ماذا صنعت؟ إلى أين تأتي يا منكود الطالع؟
دن لذريق : جئت لأتابع سيري في طريق شقائي.
الفيرة : أنَّى لك هذه الجرأة وهذه الخيلاء الجديدة، وكيف تظهر في هذه الأمكنة التي ملأتها حدادًا، أجئت إلى هنا تتحدَّى طيف الكنت؟ ألست قاتله؟
دن لذريق : حياته كانت عارًا عليَّ، وشرفي سامَ يدي هذا البطش.
الفيرة : ولكن أتلجأ إلى بيت صريعك؟
وهل جرى أن قاتلًا اتخذ بيت قتيله موئلًا؟
دن لذريق : إنما أتيته لأستسلم إلى ولي الدم فيه، فلا تنظري إليَّ بهذه الدهشة. أطلب الموت بعد أن أعطيتُه. وغريمي هو غرامي، وقاضيَّ هو شيمان.
حُقَّ لي أن أموت حين أَثَرْتُ حفيظتها١ فوافيت ولا مطمع لي إلا سماع الحكم عليَّ من فمها، وتناول الضربة القاضية من يدها.
الفيرة : أولى لك أن تتوارى عن عينها، وتفرّ من غضبها، وتتقي سورة حزنها في بدء شبوبها. اذهب ولا تتعرَّض للفورة الأولى، وللنزوات التي تدفعها إليها عوامل حقدها.
دن لذريق : لا، لا وهيهات أن يبلغ حنقها، والعذاب الذي ينالني منها، ما هو حقيق بأن يبلغه، فإني لو قدرت على مضاعفة غضبها لتعجيل أجلي لاجتنبت مئة ميتة ستُعنّيني.
الفيرة : شيمان في القصر غارقة في البكاء، ولن تعود منه إلا مصحوبة بمن يُخشى بأسه.
فاهرب يا لذريق إني أسألك مستعطفة، وأنقذني من هذه الحيرة، ماذا يقول الذين قد يرونك الآن في هذا المكان، أتريد أن يتهمها واشٍ — وفي ذلك نهاية بؤسها — بأنها فسحت لقاتل أبيها أن يتحرم بحماها.

أزف معادها … ها هي آتية … أراها.

لأيسر الخطب على شرفها — يا لذريق — أن تختبئ.

المشهد الثاني

دن سنش وشيمان والفيرة
دن سنش : أجل يا سيدتي يجب أن تسفكَ دماءٌ عزيزة شفاء لغضبك المشروع، وإرقاء لدموعك.
ولست محاولًا بالإسهاب في الكلام تلطيف ما بك أو تعزية قلبك، ولكن إذا تسنى لي أن أضطلع بخدمتك فاستخدمي سيفي للاقتصاص من المجرم، واجعلي غرامي قاضيًا لغُرمك، فبأمر منك يشتدّ ساعدي، ويأتي العجب العجاب.
شيمان : وا حربا!
دن سنش : أبتهل إليك أن تتقبلي مني ما أعرض من خدمتي.
شيمان : أخشى تكدير الملك وقد وعدني بإنصافي.
دن سنش : تعرفين أن القضاء يسير سيرًا بطيئًا، فيغلبُ إفلات الجناة منه، لكثرة مطاولته، وذهاب الدموع هدرًا من جراء ريبه ومهله؛ فأذني لفارس أن ينتقم لك بسلاحه، فيختصر طريق الثأر، ويعجل القصاص.
شيمان : هذا آخر علاج، فإذا تحتم وظللتَ على هذا العزم وهذه الرقة لمصابي كان لك أن تأخذ بثأري.
دن سنش : هذا أشهى ما تصبو إليه نفسي، فأما وقد ساغ لي أن أرجوه فإنني أنصرف راضيًا.

المشهد الثالث

شيمان والفيرة
شيمان : يسرني بعد نفاد صبري أن أخلو، وأن أكشف لك بطلاقة ضميري ما في نفسي من أفاعيل الآلام، ففي وسعي أن أصعد زفراتي، وأن أظهرك على مكمن شجوني.
أبي مات يا الفيرة، وأول سيف تقلده لذريق هو الذي صرم به حبل أيامه.

ابكي، ابكي يا عيوني، وسيلي دموعًا.

شطر من حياتي قَذَفَ الشطر الآخر إلى القبر. وأكرهني بعد تلك الضربة القاضية على طلب الثأر للشطر المفقود من الشطر الموجود.
الفيرة : استريحي يا سيدتي.
شيمان : آه توصيني بالراحة وما أبعدها عما يقتضيني رزئي الفادح. من أين ألتمس تسكين ألمي في هذا المصاب الجلل، وأنا لا أستطيع أن أبغض اليد التي سبَّبته، وماذا أرجو سوى العذاب السرمد من تعقبي الإثم وأنا أحب الأثيم.
الفيرة : أيتمك من أبيك، وما زلت تهوينه!
شيمان : قليلٌ قولك إنني أهواه يا الفيرة، أنا أعبده، وهيامي به يعارض حقدي، هو العدو الذي أجد فيه الحبيب. وأحس على ما بي من شديد الغضب أنه في قلبي يقاتل أبي، يهاجمه، يُحرجه، يتاركه، يذود عن نفسه؛ تارةً قويًّا وطورًا ضعيفًا، وآنًا منتصرًا.
عراك قاس بين الغضب والصبابة يفطِّر فؤادي ولا يشطر نفسي، للهوى ما له عليَّ من سلطان، ولكنني لن أتردّد في متابعة واجبي، سأمضي بلا توقف في ما يدعوني إليه شرفي.

لذريق حبيبٌ إليَّ، وهيامي به يشجيني، ينحاز قلبي إليه غير أنني مرغمة على عدوانه، وأعرف من أنا، وأن أبي قد قُتل.
الفيرة : أتنوين تعقّبه؟
شيمان : آه، يا له من خاطر أليم، ويا له من تعقب أمعن فيه على الكره مني. أطلب رأسه وأخشى أن أُعطاه. سأموت على أثره وأريد أن أقتصّ منه.
الفيرة : دعي، دعي يا سيدتي هذا المطلب الفاجع، ولا تسومي نفسك شَرْعًا تَناهى في جفوته.
شيمان : كيف تقولين؟ أيقضى أبي وكأنه قد قتل بين ذراعي فيستصرخني دمه للانتقام ولا أستمع لصراخه؟
أيظن قلبي وقد أسرتْه عوامل صبوته أن حقّ أبي عليه يوفي بدموع لا تجدي؟ وهل أتحمّل غرامًا خادعًا يعوقني جُبْنًا عن بثّ ما بي ويخنق شرفي؟
الفيرة : صدقيني يا سيدتي إنك أبليتِ العُذر، فلا تشتدي كل هذه الشدة على من تحبين.
كلاكما عاشق ومعشوق. ولقد فعلت ما في وسعك، رفعت أمرك إلى الملك فلا تستعجلي حكمه، ولا تتمادَيْ في ما يزعجك من هذا التناقض الغريب.
شيمان : لا يسلم شرفي إلا بأن أثأر له، ومعاذير الهوى حجة للمبتلين به، على أنها مخجلة للقلوب النبيلة.
الفيرة : ولكنك تحبين لذريق وهو لم يكن ليغضبك.
شيمان : أعرف ذلك.
الفيرة : وبعد فماذا ترين أن تفعلي؟
شيمان : للاحتفاظ بشرفي وللنجاة من همي، سأنتصف منه فأفقده، وأموت على أثره.

المشهد الرابع

دن لذريق وشيمان والفيرة
دن لذريق : إيهًا، لا تجشمي نفسك عناءَ تعقبه، واضمني لها شرف الإيداء به.
شيمان : الفيرة! أين نحن؟ وماذا أرى؟
لذريق في بيتي … لذريق أمامي؟
دن لذريق : لا تبقي على دمي، وتذوّقي لذة قتلي، والانتقام مني غير مُدافعة.
شيمان : ويحي!
دن لذريق : أصغي إليَّ.
شيمان : أُحْتَضَر.
دن لذريق : امنحيني هنيهة.
شيمان : اذهب ودعني أقضي نحبي.
دن لذريق : أربع كلمات ولا أزيد، ثم لا تجيبيني إلا بهذا السيف.
شيمان : وا حربًا، أبهذا السيف، وما زال بليلًا بدم أبي.
دن لذريق : يا شيماني …
شيمان : وارِ هذا الشيء البغيض فهو يزيد جرمك وإبقاءك قبحًا في عيني.
دن لذريق : بل انظريه واستفزي به بغضاءك، لتضاعفي غضبك وتعجلي في الأخذ مني بطائلتك.
شيمان : إنه مضرج بدمي.
دن لذريق : غيّبيه في مهجتي، وأزيلي منه صِبْغ دمك.
شيمان : آه من جفوة طبعك، في يوم واحد تقتل الأب بالسيف والبنت بمرآك، وارِ هذا الشيء، لا أطيق رؤيته، تريد أن أُرعيك سمعي، وأنت تزهق روحي.
دن لذريق : أفعل ما تأمرين به على أن أختم بيدك حياتي الشقية وحاشا كلفي بكِ أن يداخله الجبن، فأندم على فعل كان حميدًا. فتكة أعجلها الحمق عن تقدير العواقب، وَصَمَتْ أبي وكستني عارًا، وتعلمين ما أثر اللطمة في النفس الكريمة، لَحِقَني ما لحقني من الوصمة فبحثت عن مقترفها، فرأيته فانتقمت لشرفي وشرف والدي، ولو وجب أن أعاود لعاودت، على أن غرامي نازعني طويلًا فقاومت والدي ونفسي في سبيل حبك، وحسبك منه، على جسامة تلك المساءة، أنه تركني حينًا أشاور نفسي في الإقدام أو الإحجام، فلما وازنت بين إغضابك أو تحمل الشنار أيقنت أن زندي سبق العذل٢ بزماعه،٣ وشكوت من حدة في طبعي جازت مداها، ولا شك أن جمالك كاد يرجح بكفته في الميزان لو لم أدفع سطواته بما مرَّ في خاطري، وهو أن رجلًا عَطِل من شرفه لا يكون لك أهلًا، وأن التي أحبتني حرًّا كريمًا ستبغضني جبانًا لئيمًا، مع ما لي في قلبها من المكانة الرفيعة، وإنني لو أطعت هواك وصبرت على الهوان لأصبحت غير خليق بعطفك، وأخلفتِ بي حسن ظنكِ.
أعود فأقول لك — وعلى ما بي من حزن وجزع — سأعود وأقول لك إلى آخر نسماتي — إنني أسأت إليك، وأُكرهتُ على هذه الإساءة، لأمحو عاري وأكون أهلًا لك فأما وقد وفيت دين الشرف، وقضيت حق أبي، فإنني لماثل لديك متوخيًا مرضاتك، فقد سعيت إليك لأقدم لك دمي مؤديًا ما يجب كما أديت ما وجب.

ولعلمي أن أبًا مات يستفزّك للاقتصاص من ذنبي أبيت أن أخبئ غريمك، فأقدمي وضحي لدمه بدم فتى يفاخر بأنه هو الذي أراقه.
شيمان : آه … إني وإن كنتُ عدوتك لا أستطيع ملامك، لفرارك من العار، وعلى تنوع الألوان التي أذوقها من العذاب لا أشكو منك بل أبكي لمصابي.
أعرف ما كان الشرف، وقد مسَّته تلك الشنعة، يدفع إليه قلبًا تحتدم فيه الحماسة.

فأنت لم تفعل إلا ما يفعله الفتى الأبر، بيد أنك بحرصك على واجبك علمتني الحرص على واجبي.

إقدامك المشئوم، والنصر الذي أحرزته أدَّباني، فقد ثأرت لأبيك وصنت شرفك، ومثل ما عناك من أمرك يعنيني من أمري، إذ إن لي شرفًا أصونه، وأبًا أنتقم له، يا ويلتي، إن حبي لك هو الذي يؤيسني في هذه المعضلة، ولو أن مصابًا آخرَ أيتمني لوجدت نفسي في سرورها بلقائك سلوانها الأوحد، وعزاءها الأوفى، ولَهان عليَّ العسير من ألمي حين تمتد إليَّ يد عزيزة وتكفكف عبراتي. ولكن كُتب عليَّ أن أفقدك بعد أن فقدته، فكفاحي لغرامي دين عليَّ لشرفي، وذلك الواجب الذي يُودي بي أداؤه يضطرني إلى العمل بنفسي على ثبورك.

فلا ترتقب من شغفي بك أن يعوقني عن أخذك بجريرتك، ومهما يشفع لك حبي فلا مناص لعزة نفسي أن تكافئ عزة نفسك.

لقد أبديت بإساءتك إليَّ أنك جدير بي فحُتِم علي وأنا أطلب قتلك أن أكون خليقة بك.
دن لذريق : لا تؤجلي إذن ما يدعوك إليه الشرف، فهو يطلب رأسي وأنا أهبك إياه، فاجعليه قربانًا لما يتخالجك من المأرب السامي. يعذب لدي وردُ الردى، ويسهل عليَّ حكمه، أما انتظارك بعد إجرامي إلى أن يقضي القضاء فتقصير في حق مجدك وإطالة لتعذيبي، وغاية سعادتي أن أموت بضربة من يدك الجميلة.
شيمان : إني لخصمك ولست بجلَّادك، تُقدِّم لي رأسك وما عليَّ أن آخذه، شأني أن أصوِّب إليه طعناتي، وشأنك الذود عنه وإنما أطلبه من غيرك لا منك، عليَّ مناجزتك،٤ وما عليَّ عقابك.
دن لذريق : دعي شفاعة الحب فيَّ لديك، وارجعي إلى كرم عنصرك فأجزيني من نفسي، يأبى ذلك الكرم يا شيماني أن تستعيري ساعد غيرك للانتقام مني، يدي هي التي أخذت بثأر أبي، وما أحرى يدك دون سواها أن تأخذ بثأر أبيك.
شيمان : لك الله من قاس، علامَ هذا الإصرار، قد انتقمت بلا معين، وتعينني على الاقتصاص منك، لأقتدين بقدوتك ولأصبرن حتى أقاسمك فخر الانتقام، لا أبي ولا ساعدي يقبلان بفضل حبك أو يأسك.
دن لذريق : وا حر قلباه من خلاف رأيينا في أمر الشرف، ألا أستطيع — جاهدًا ما جاهدت — أن أظفر منك بهذه المنة، بحق أبيك القتيل، بحق ما بيننا من الوداد عاقبيني تشفيًا، أو عاقبيني رحمة وإشفاقًا، فإن عاشقك المنكود الطالع ليؤثر الموت بيدك على البقاء وتبغضيه.
شيمان : رُح فلست لك بكارهة.
دن لذريق : كان حقًّا عليك أن تمقتيني.
شيمان : ما بيدي.
دن لذريق : ألا تبالين الملام وسوء المقالة، إذ يعلم الناس بأن ذنبي إليك لم يذهب بحبك لي، ماذا تشيع عنك يومئذ ألسنة الوشاة الحساد، أكرهيهم على السكوت، وتخلي عن الحوار، فأنقذي سمعتك بقتلي.
شيمان : ما أزداد إلا حُسنَ أحدوثة٥ بتركك حيًّا، وبودي أن يرتفع صوت النميمة من أعماق ظلماته، فهو إذن سيرفع إلى السماء كرامتي، ويستلين — حتى الوشاة — لجزعي إذ يعلمون أنني أعبدك وأستعدي عليك، فَوَلِّ ووارِ عن عيني السخينة من الحزن ذلك الإنسان الذي سأفقده على أنني أحبه، اخرج في سرٍّ من الناس تحت الليل، وحذار أن يروك فيتجنَّوا على شرفي وليس للسعاية نهزة تنتهزها إلا ترخصي في لقائك هنا، فلا تجعل لها سبيلًا إلى الريب.
دن لذريق : تبًّا لي!
شيمان : اذهب.
دن لذريق : علامَ عزمتِ؟
شيمان : إني وإن كانت شُعل الغرام تشغلني عن حنَقي، سأبذل ما في وسعي للأخذ بثأر والدي، ومع ما يقتضيني أداء هذا الواجب من الصلابة، فإن أمنيتي الوحيدة هي ألا أقدر على شيء.
دن لذريق : يا لأعجوبة الغرام!
شيمان : يا لنهاية البؤس!
دن لذريق : ماذا سامنا أبوانا من العبرات والحسرات.
شيمان : لذريق، من كان يظن ما أفضينا إليه؟
دن لذريق : ومن كان يتنبأ؟
شيمان : بأن سعادتنا وهي على وشك إبرامها تنقضي.
دن لذريق : وأن أملنا على مقربة من الميناء، وفي تمام الصفاء يسطو عليه عاصف مفاجئ فيحطمه.
شيمان : آه من الآلام المهلكة!
دن لذريق : آه من عبث الأسف!
شيمان : إليك عني. إليك عني. لن أصغي إليك.
دن لذريق : أستودعك الله. سأمضي لأعاني حياة خيرٌ منها الحِمَامُ ريثما يسلبنيها القضاء بخصومتك.
شيمان : إذا تحقق مرامي فعهدي إليك أنني لا أرضى بالبقاء بعدك هنيهة. وداعًا. اخرج واحرص أن لا يراك أحد.
الفيرة : سيدتي، مهما يُحِق بنا من الكوارث …
شيمان : لا تزعجيني بعد، دعيني أتنفس الصعداء، إنما تعلتي السكون، وحاجتي الليل أبكي تحت أستاره.

المشهد الخامس

دن دياج
دن دياج : لن يتسنى لنا أن نذوق غبطة غير مشوبة، ولا تتحقق أمانينا إلا وتخالطها الكآبة، فكلما واتتنا حوادث الدهر تخللها من الهموم ما يكدر علينا صفو مسراتنا.
قد تمت لي الهناءة وريب الزمان ينغصها عليَّ. أسبح في بحر من الابتهاج وأرتعد من الخوف. رأيت العدو الذي أهانني قتيلًا، وليس بوسعي أن أرى اليد التي ثأرت لي منه، أبحث عن ولدي مُعملًا فكري في طلبه ولا أجده، ومع كوني متداعيًا على حقوي أنشده في كل مظنة بالمدينة، أذيب ما أبقتْ لي الأيامُ من الهمة الواهية في ابتغاء نظرة أنظرها إلى هذا الظافر، في كل ساعة وفي كل مكان تحت هذا الظلام الدامس أتخيل أنني أعانقه، فما أعانق إلا طيفًا، فيخيِّب أملي هذا التصوّر الخادع، وتُخْلَق في أوهام تضاعف وَجَلي، ولا أقف على أثر لفراره، أخاف عليه من أصدقاء الكنت وأتباعه فهم غير قليل وكثرتهم تبلبل ذهني. لذريق إما قتيل وإما سجين يا لله … مخدوع بصري بما يلوح لي، أو هو سليلي ووحيدي وأملي أراه مقبلًا. لا ريب أنه هو.

استجيبت أدعيتي وزالت مخاوفي وهدأت أشجاني.

المشهد السادس

دن دياج ودن لذريق
دن دياج : لذريق، حمدًا لله، ما كان أظمأني إلى رؤيتك.
دن لذريق : وا أسفاه!
دن دياج : لا تمزج حزنًا بسروري، وأمهلني حتى ينطلق لساني بالثناء عليك، فقد وقفت من البسالة موقفًا لا تنكره عليك بسالتي، وحذوتَ حذوي بجرأتك الباهرة. لقد بُعِثَ بك أبطال يُباهي بهم مَحتدي،٦ منهم تحدرتَ ومني تلقيت الحياة، ضربة منك وهي الأولى عادلت جميع ضرباتي ونمت عن صدق حميَّتك، واتقاد عزيمتك، فبلَّغتكَ في أول بلاءٍ غايةَ شهرتي، يا ركن شيخوختي ويا ذروة سعدي، المسْ هذه اللمة البيضاء التي أعدتَ إليها كرامتها. تعال قَبِّل هذا العارض واعرف المكان الذي نضحت عنه فمحوت أثر الوصمة منه.
دن لذريق : ذلك الشرف إليك مرجعه، إنني لَسليلُكَ وربيب نعمتك وما كنت لأفعل أقل مما فعلت، فأنا مغتبط بما أرضاك عني ويزيد اغتباطي أن ضربتي الأولى قد أعجبت من أحسن إليَّ بالحياة. ولكن أجز لي بين مسراتك — ولا تأخذك الغيرة — أن أجسر وأنفِّس من كربتي، وأذن ليأسي أن ينطلق من مكمنه ما جهدت في كلامك من تهوينه عليَّ، ما بي من ندم على ما قدَّمتُ من خدمتك، ولكن أعِدْ إليَّ النعيم الذي سَلَبَتْهُ مني هذه الفتكة، تسلَّحَ ساعدي لثأرك ولم يَعُقْه غرامي، فضرب الضربة وقد آبَ منها بفخار، ولكنه أودى بنفسي، فلا تزدني حديثًا. قد خسرت من أجلك كل شيء، وكل ما كنتُ به مدينًا لكَ قد رددتُه عليك.
دن دياج : أرفع إلى غاية أسمى آية ظفرك، أعطيتك الحياة وأعدتَ إلي الشرف، فبقدر ما يفضل شرفي الحياة عندي رجح فضلك عليَّ اليوم فضلي عليك بالأمس، فأحر بك أن تستأصل هذه النزعات الضعيفة من قلبك النبيل، ليس لنا إلا شرف واحد. أما المعشوقات فما أكثرهنَّ، إنما الحب متاع ولكن الشرف واجب مقضي.
دن لذريق : ويحي، ما تقول؟
دن دياج : أقول ما ترغب في معرفته.
دن لذريق : أما كفاني أن انتقامي لشرفي جاء انتقامًا مني حتى تسومني تبديلًا في هواي، الخيانة في الحب من شيمة المحارب الرعديد والعاشق الغادر، فلا تلحق بوفائي ظنَّة تَمسّه، واعتددني كريم النفس، ولا تسمْني النكث بالعهد. لعلاقتي أمكن من أن تنفصم بمثل ما تصف، ولو فاتني فيها الأمل، لكن بذمتي مدعاة إلى الحفاظ، فأما وأنا من هواي بحيث لا أملك شيمان ولا أطيق عنها صبرًا، فقد أصبح الموت — وهو مبتغاي — أخفّ آلامي.
دن دياج : لم يحن الوقت لتلتمس الحِمام، فإن مليكك ووطنك في حاجة إلى ذراعك. الأسطول الذي ذاع نبؤه قد دخل الميناء متوهمًا أنه يفاجئ المدينة وينهب البلاد.
سيهبط المغاربة ويهاجمون أسوارنا بلا جلبة مستعينين بمد البحر ومَدَد الظلام. القصر في اضطراب والشعب في هلع، لا يُسمَع إلا صخب، ولا يرى إلا دموع، وفي هذه الفوضى العامة أتاح لي التوفيق أن وجدت في بيتي خمس مئة من أصحابي، قدموا جميعًا حين علموا بما حلَّ بي، يحدوهم الولاء، ليعرضوا عليَّ الأخذ بثأري، على أنك سبقتهم ولكن سواعدهم الشديدة تؤثر الاصطباغ بدماء البربر، فامض وسر على رأسهم إلى حيث الشرف يهيب بك، إن عصابتهم الكريمة لتأبى سواك زعيمًا. اذهب وذُد صدمة أولئك الأعداء القدماء، فإن أردت الموت فالقه هناك كريمًا، انتهز هذه الفرصة وقد سنحت لك، واقرض مليكك سلامته بتهلكتك، بل عد من ذلك العراك وعلى جبينك الغار ولا يُقصَرْ مجدك على الانتقام من إساءة، بل تَوخَّ له غاية أبعد، وأكره بشجاعتك ذلك الملك على الغفران وشيمان على السكوت، وإذا كنت محبًّا لها، فاعلم أن عَوْدَك مستظهرًا هو الذريعة المثلى لتملّك قلبها. على أن الوقت أعزّ من أن يضاع في الكلام. دعنا من الإطالة وطرْ إلى المعترك. تعال اتبعني. سر إلى القتال وأرِ المليك أن ما فقده بالكنت يجده فيك.
١  حفيظة: الغضب والحمية.
٢  العذل: الملامة.
٣  الزماع: المضاء في الأمر والعزم عليه.
٤  مناجزتك: مبارزتك.
٥  الأحدوثة: ما يتحدث به.
٦  محتدي: أصلي وشرفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤