مقدمة

الحُضور … لا الفراغ

أتأمَّل كإلهٍ … وأبتسِم للكائنات التي لم أخلُقْها.

جيوم أبولينير، «كحول»

قبلَ كلِّ شيء، يُوجد ذلك الضوء الأصفر الكثيف لشمسٍ شتوية تشعُّ في الخارج. شمسٌ تَبهَر العيون، لكن لا تُدفِئ. ثم نكتشف وجود هذا الرجل المُسِنِّ الجالس دون حركة. لقد أدار وجهه عن مكتبه وعن الكتاب الذي يقرؤه؛ ربما كي يُفكِّر، أو كي يرتاح، أو يتأمَّل. تنزلق نظرتُنا إلى الجهة اليُمنى لتُلاحِظ الباب المُنخفِض للقبو، يجذبها فيما بعدُ الدَّرَج الحلزوني الشكل. وفي اللحظة التي تتهيَّأ لصعود الدرجات الأولى تكتشف النار التي تُطقطِق في المَوقِد والمرأة التي تُؤجِّج الجمْر. ثم تعود فتَتَّبِع صعود السلالم التي لا تقود إلا إلى الظُّلمة.

figure
لوحة «فيلسوف في حالة تأمُّل» (١٦٣٢) لرامبرانت (١٦٠٦–١٦٦٩)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد ٠٫٢٨ × ٠٫٣٤ متر، متحف اللوفر، باريس.

إنها لوحة صغيرة الأبعاد، والمكان الذي تُقدِّمه يبدو مُعتِمًا، ومع ذلك يتملكنا شعورٌ بالاتِّساع. إنها عبقرية رامبرانت، الذي يجعل نظرَتَنا تُسافِر في كل الأبعاد. يتملكنا هذا الشعور بشكلٍ أفقي، بدءًا من الجهة اليُسرى حيث يشعُّ ضوء الصباح، وفي الجهة اليُمنى حيث نجد النار الواهية التي تكاد تكون بلا فائدة؛ هذا الحوار بين شمسٍ تُضيء دون أن تُدفئ، والنار التي تُدفئ دون أن تُضيء؛ إنهما شمس الحِكمة ونار الشغَف؛ عنصرا الفلسفة الأساسيَّان؛ وإذا اتَّجْهنا بنظرِنا نحو الأعلى، إلى هذا الدَّرَج المُمتدِّ بشكلٍ حلزوني، الذي نجده يربط بين الأعماق السرية للقبو والظلام الغامض في الطابق الأول؛ وفي العُمق أيضًا بدءًا من وسط اللوحة حيث يجلس الفيلسوف وحتى دائرة الظلام التي تُحيط به. شعور الاتِّساع هذا يأتي من التَّلاعُب البارع بين ما هو مُخبَّأ وما هو مكشوف في اللوحة. إن ما يُهمُّ هو ما يُمكِننا تخيُّله؛ ما هو مرئي بالقُرب من النافدة، وما هو مُخبَّأ وراء باب القبو وفي أعلى الدَّرج. لكن ما هو أوسع من هذه الفضاءات المُخبَّأة التي مرَّت عليها عيوننا بسرعة لَهي روح الفيلسوف، عالَمه الداخلي؛ ظلمات وظلال، والقليل من الضوء، والقليل من الدفء، وروحٌ في حركة دائمة. أليس هذا هو حال عالَمِنا الداخلي؟

figure

أن نتأمَّل، يعني أن نتوقَّف

هذا يعني أن نتوقَّف عن الفعل، عن الحركة، عن البلبلة. ننسحِب قليلًا، نبتعِد مُنفرِدين عن العالم.

في البداية سيبدو لنا الأمر غريبًا؛ هناك فراغ (فراغ الحركة والفعل)، وانشغال (اضطراب الأفكار والأحاسيس التي نعي فجأةً وجودها). هناك شيءٌ ما ينقُصنا؛ معاييرنا، و«الأشياء التي يجِب القيام بها». لكن، فيما بعد، يظهر ارتياحٌ آتٍ من هذا الفراغ. هنا لا تجري الأمور كما في «الخارج» حيث تتمسَّك رُوحنا بعددٍ من الأشياء أو المشاريع، أو ربما القيام بفعلٍ ما، أو التفكير بموضوع مُعيَّن، حيث يبقى انتباهُنا مُنشغِلًا بمسألةٍ ما.

في هذه التجربة التأمُّلية الخالية من الفعل الظاهري، نحتاج إلى وقتٍ كي نعتادَها، لتكون رؤيتُنا أكثر وضوحًا؛ كما هي الحال في اللوحة، عند مرورنا من الضوء إلى العتمة، نكون حينها قد وصلْنا إلى دواخِلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدًّا منَّا، لكنَّنا لم نُجرِّب الذهاب إليها. كنا نتسكَّع في الخارج؛ في زمن الضغوط الحثيثة والتنبيهات المُتعِبة، حيث يبقى التواصل بذواتنا بورًا، ودواخلنا مهجورة، بينما كلُّ ما هو خارجنا كان أسهلَ في الوصول إليه وأكثرَ وضوحًا. في التجربة التأمُّلية، سنجِد في دواخلنا غالبًا أرضًا بلا طُرق مُعبَّدة. في البهو الذي يتأمَّل فيه الفيلسوف نجد قليلًا من الضوء، علينا إذن أن نفتح عيونَنا أكثر. في دواخِلِنا أيضًا، يُوجد قليل من الوضوح والطمأنينة، علينا إذن أن نفتح عيونَ رُوحِنا على اتِّساعها.

إننا نتوقع أو نأمُل أن نجد هدوءًا وفراغًا، لكننا نجد أنفسنا في سوقٍ كبيرة، صخَب، وفوضى. نتُوق إلى الوضوح، لكننا نجد الارتباك. وأحيانًا يُعرِّضنا التأمُّل للقلق والمعاناة؛ إنه يُعرِّضنا لما يجعلنا نتألم ونُحاوِل تجاهُله بالتفكير بشيءٍ آخر، بالانشغال بمكان آخَر.

تهدئة الاضطراب

يبدو الأمر يسيرًا ظاهريًّا، نظنُّ أنه يكفينا أن نجلس ونُغلِق عيوننا، لكن الأمر ليس كذلك. إنها البداية فقط. بداية لا بدَّ منها، لكنها ليست كافية.

إذن؟ … إذن يجِب البَدء بالعمل، أن نتعلم كيف ننظر، وكيف نبقى حاضرين هنا، لكن على بُعد خطوةٍ من العالم. هكذا، ونحن جالسون، وعيوننا مُغمَضة، نتعلَّم كيف نُصفِّي اختلاجاتنا.

إنها أول خطوة علينا تجاوُزها؛ أن نبقى صامِتِين، دون حركةٍ ما يكفي من الوقت إلى أن يأتي نوع من الهدوء يُغطِّي ثرثرة روحنا الداخلية، ما يكفي كي نرى بوضوحٍ أكثر، دون إصرار، أو رغبة بأن يتحقَّق الأمر فورًا؛ لأن ذلك قد يدفعنا إلى الفوضى. إذن؛ علينا ترْك كل شيء كي يأتي تلقائيًّا من دواخلنا.

أحيانًا يجب الانتظار طويلًا؛ لأنَّنا لا نستطيع استعجال هذه العملية. نودُّ ذلك، لكن لا نستطيع. فالتأمُّل يأخذ وقتَه، وقد تمضي أيام لا يتراءى لنا فيها شيء. هذا فظيع، أليس كذلك؟! خصوصًا في زمننا هذا المليء بالوعود الآنية، والنتائج المضمونة. يروي لنا حكماء فلسفة الزن قصصًا بهذا الشأن. ومثال على ذلك هذه القصة التي يسأل فيها تلميذ مُعلِّمه: «سيدي، كم من الوقت يلزمني كي أصِل إلى حالة صفاء الرُّوح؟» بعد فترة صمت، يُجيبه الفيلسوف: «ثلاثون سنة.» يقول التلميذ: «أوه … هذا وقتٌ طويل. ماذا إذا ضاعفتُ جهودي، إذا عملتُ بجهدٍ أكثر، نهارًا وليلًا، إذا لم أفعل شيئًا آخر؟» بقي الحكيم فترة طويلةً صامتًا، وقال في النهاية: «إذن، خمسون سنة …»

نكون حينها قد وصلْنا إلى دواخلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدًّا منَّا، لكننا لم نُجرِّب الذهاب إليها.

كيف يُمكِن أن نرى بوضوحٍ أكثر؟

لقد توقَّفْنا الآن، جلسْنا وأغمضنا أجفانَنا، ليس من أجل أن ننام، ولا لكي نستريح، وإنما كي نُدرِك؛ نُدرِكَ ما نختبِره، ونُجلِيَ هذه الفوضى، التي ليست سوى صدى العالم داخلنا. نُدرِك وجود طريقَين؛ ذلك الذي يمرُّ عبر التفكير (التدخُّل، التصرُّف، ليُّ عنق الحقيقة حسب هوانا، حسب وعيِنا أو جهودنا)، وذلك الذي يمرُّ عبر التجربة (إدراك الحقيقة عاريةً كما هي، تركها تُغلِّفنا، تسكُننا، تتشرَّبنا، في حالةٍ من الانتباه الشديد، تاركين كلَّ جهدٍ جانبًا).

في كلتا الحالتَين؛ التفكير والتجربة، نبقى في تواصُلٍ مع العالم، لفَهمه واستيعابه بوضوحٍ أكثر. كلا الطريقَين مِثاليَّان، لكلٍّ منهما طبيعته، ولا فضل لأحدهما على الآخر. إننا نحتاجهما معًا، وهما في حالة حركة فعَّالة.

كي نُيسِّر الأمر، لِنقُل إنَّ الطريق الأول هو انعكاس تجربتنا الفلسفية، والثاني (احتواء العالم دون التفكير بتفاصيله، والتفكير به دون كلمات، وما وراء الكلمات والمعاني)، هو طريق الوعي الكامل. إنَّ هذه التجربة التأمُّلية في حالة الوعي الكامل هي ما يُهِمنا في هذا الكتاب.

أن نكون حاضرين بوعي كامل

تقتضي حالة الوعي الكامل تكثيف حضورنا في اللحظة الراهنة؛ التوقُّف وتشرُّبها بدلًا من الهروب منها أو محاولة تغييرها، عبر الفعل أو التفكير.

حالة الوعي الكامل هي هذه الحركة التي يقوم بها الفيلسوف في اللوحة، حين يغضُّ البصر للحظةٍ عن عمله الذِّهني، مُنتقِلًا إلى فضاءاتٍ أخرى؛ ربما هضمُ واستيعاب نتاج تفكيره أو ما اكتشفه في تلك اللحظة، وربما الاستعداد للذهاب أبعدَ بالتوقُّف لحظةَ إدراك.

الوعي الكامل ليس حالة فراغ، وليس حالة تفكير؛ هو أن نتوقَّف كي نتواصَل مع تجربة العيش التي تبقى في حركةٍ دائمة والتي نحن بصدَد الشعور بها الآن، وكي نُراقِب طبيعة علاقتنا مع هذه التجربة، طبيعة حضورنا في هذه اللحظة.

إنها ما يحدُث الآن إذا قُمتم، وأنتم تقرءون ببطءٍ هذه السطور، بالانتباه إلى أنَّكم تتنفَّسون أيضًا، وتُدرِكون أحاسيس جسدِكم. الانتباه إلى وجود أشياء أخرى في ساحة بصركم غير هذا الكتاب، إلى الأصوات حولكم، إلى الأفكار التي تأخذكم إلى أماكن أخرى، أو تهمس لكم بالثناء على ما تقومون الآن بقراءته أو نقدِه.

الوعي الكامل هو هذه اللحظة التي تتهيَّئون أثناءها لطيِّ هذه الصفحة والانتقال إلى الصفحة التالية (ربما تكون يدُكم في حالة استعداد الآن، حتى قبل أن تقوموا بالانتهاء من قراءة هذه السطور)؛ فتتوقَّفون عند هذه الحركة وتُراقِبون؛ تُراقِبون تهيُّؤَكم الداخلي لطيِّ الصفحة، أن تقولوا لأنفسكم: «سأقلب هذه الصفحة.» بدلًا من أن تقوموا بهذه الحركة دون وعي منكم.

حالة الوعي الكامل، هي هذه؛ أن تبتكروا، للحظة، فضاءً صغيرًا كي «تروا ما تفعلون». ستقولون لي إنَّ طيَّ صفحة ليس أمرًا جديرًا بالاهتمام. هذا صحيح، ولكن من ناحية أخرى، سيكون ذلك مُفيدًا في لحظاتٍ أخرى كثيرة في حياتكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤