الفصل الأول

أن نعيش اللحظة الحاضرة

إنه الآن، فقط الآن … بعدَ قليلٍ هذا أمرٌ آخَر؛ سيكون طائر العقعق قد طار، والشمس ستُصبِح أعلى في السماء، وسيتراجع ظِلُّ السياج إلى الوراء أكثر. لن يكون ذلك أفضل أو أقلَّ كمالًا؛ سيكون فقط مُختلفًا.

إذن يجب التوقُّف الآن، والإحساس بالهواء البارد الواخِز في الأنف، والإنصات للأصوات الخافتة. تأمَّلوا هذا الضوء الآتي من شمس شتاءٍ ثلجي، وابقَوا هنا أطول فترةٍ مُمكِنة، دون انتظار شيء مُحدَّد. من المهم ألا ننتظر شيئًا، وإنما أن نبقى بكلِّ بساطةٍ في محاولة لإدراك هذا الثراء اللانهائي للحظة؛ كُتَلُ الثلج التي تسقط من الأشجار مُحدِثةً ضجة خفيفة، هذا الضوء الأبيض المائل للازرقاق لِظلِّ السياج، تملمُل الغراب باحثًا عن دفء ضوء الشمس. كلُّ شيء ينضَحُ بالكمال. لا ينقص هذه اللحظة أيُّ شيء كي تملأنا بالرضا.

حالة الوعي الكامل، هي أن نكون بكل بساطة حاضرين في هذه اللحظة من النعمة، هذه اللحظة العادية والمُضيئة.

figure
لوحة «طائر العقعق» (١٨٦٨-١٨٦٩) لكلود مونيه (١٨٤٠–١٩٢٦)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد ٠٫٨٩ × ١٫٣٠ متر، متحف أورسيه، باريس.

للحصول على نهار شتائي رائع كهذا اليوم، لا بدَّ من هواء صافٍ ومُتلألئ بنُدَف الثلج؛ ما يكفي من البرد، دون رياح أو القليل منها. ولا بدَّ أن يأتي الدفء مباشرة من أشعة الشمس وليس من ذوَبان الثلج. فلا يجب لقوى الطبيعة أن تتراخى.

هنري ثورو، «مذكرات (فبراير ١٨٥٤)»

أخذ القرار بعيش اللحظة الحاضرة

تُعلِّمنا حالة الوعي الكامل، كيف نفتح عيونَنا. إنه أمرٌ مهم؛ لأنه يُوجد حولنا باستمرار عوالِم لا نكترث لها. هنا والآن. إننا نستطيع وُلُوج هذه العوالم بإيقاف الجَرَيان التلقائي لأفكارنا وأفعالنا.

من المُؤكَّد أن ما يُهيِّئ هذا الوُلوج، هي لحظات من إدراك جَمال ما حولنا؛ كالشمس، والثلج، وطائر العقعق في لوحة مونيه. لكنه أيضًا اتخاذ القرار بذلك، وهذا مُمكِن في كثيرٍ من اللحظات؛ اتِّخاذ القرار بأن تلمسَنا الحياة، أن تتواصل معنا، وأن تصفعَنا أيضًا. إنها مسألةُ فعلٍ واعٍ وإرادي. هو أن نُقرِّر فتْح روحنا لكلِّ ما هو حاضر، بدلًا من الاختباء في إحدى قلاعنا الداخلية؛ التأمُّلات القلقة، التفكير، التأكيدات، التوقعات.

إنه فعل تحرُّر. إنه تحرُّر من تفكيرنا بالمستقبل أو بالماضي. إن حالة الوعي الكامل تُعيدنا إلى الحاضر. إنها تُحرِّرنا من الأحكام المُسبَقة، لتُعيدنا إلى الحضور. إنَّ روحنا مُزدحِمة بكثيرٍ من الأشياء؛ بعضها مُهم، بعضها الآخر قد يكون جديرًا بالاهتمام، ومنها ما ليستْ له أي أهمية. كلُّ ذلك يُمثِّل حواجز أمام الرؤية؛ حواجز أمام التواصُل مع العالم. إنَّنا بحاجةٍ إلى الماضي وإلى المستقبل، بحاجةٍ إلى الذكريات، والمشاريع المستقبلية. لكنَّنا أيضًا بحاجةٍ إلى الحاضر. الماضي يهمُّنا، والمستقبل أيضًا. فلسفة اللحظة ليست أن نقول إن الحاضر «أكثر أهمية» من المستقبل ومن الماضي، وإنما أكثر هشاشة، وعلينا حمايته. هو ما سيختفي من وَعيِنا حالَما يهزُّنا شيء، أو يشغلنا أمر. يجِب أن نُعطيه مساحة أوسع؛ كي يُوجد.

أن نشعُر أكثر من أن نُفكِّر؛ الوعي المغمور

التأمُّل بوعي كامل لا يعني «تحليل» اللحظة الحاضرة، أو على الأقل ليس كما نظن.

إنه اختبار اللحظة، الإحساس بها بكلِّ كياننا، ودون كلام. قد لا نكون مُعتادين على — أو قد لا يكون مُريحًا بالنسبة لنا — أن نقضي أوقاتًا طويلةً من حياتنا دون كلام. من الصعب البقاء صامِتِين، لكنَّنا نستطيع القيام به. أما مسألة التوقُّف عن «التفكير» واختبار تجربة التواصُل مع أحاسيسنا الداخلية، فأيًّا كان رأيُنا فيها، فإنَّنا قد عِشنا هذه التجربة سابقًا. إنَّ ما يحدُث حقًّا، ويذهب أبعدَ من الكلام، موصوفٌ بدقَّة في هذا المقطع من «رسالة اللورد شاندوس»؛ إنها قصة رائعة للكاتب النمساوي هوجو فون هوفمانستال: «منذ ذلك الحين، أعيش حياةً سيصعب عليكم اكتشاف كُنهها، ما دامت تجري خارج الروح ودون أفكار … سيصعُب عليَّ أن أُوضِّح لكم من أي مادةٍ هي مصنوعة هذه اللحظات الهانئة. ها هي تعجز كلماتي ثانيةً؛ لأن ما يحدُث ليس له اسم، ولا يُمكِن أصلًا تسميته. إنها هذه التباشير التي تأتيني لتملأ، في تلك اللحظات، التجلِّيات اليومية حولي كجرار بدفق طافح بالحياة الكثيفة والمُثيرة. لا أستطيع إلا أن أتوقع منكم فَهمي دون أمثلة. وألتمس منكم الغفران على هذه التداعِيات السخيفة؛ مَرشُّ ماء، مجرفة عشب متروكة، كلب يتمدَّد في حقل، مقبرة بائسة، مُعاق، بيت ريفي صغير، كل ذلك قد يُصبِح في لحظةٍ مادةَ وحيٍ لي. قد يأخذ أيٌّ من هذه الأشياء، وآلاف من الأشياء الأخرى، التي قد تغضُّ عنها العين العادية دون اهتمام، وبشكلٍ مُفاجئ، في لحظة، ودون قصدٍ منِّي، وجودًا من السمُوِّ والتأثر لدرجة أن أيَّ كلمة لوصفه تبدو لي شديدة السطحية.»

figure

يقول أحد الحُكَماء البوذيين: «لا يقوم الوعي الكامل بالاستجابة لما يراه، إنه يرى بكلِّ بساطة، ويفهم دون كلام.» في لحظاتٍ مُعيَّنة قد تُساعِدنا الكلمات بشكلٍ كبير؛ تَسمية ألَمٍ أو فرحٍ ما قد تُساعِدنا على تحمُّله، تجاوُزه، فَهمه، أو تذوُّقه. لكنها لا تستطيع فعل شيءٍ أمام شرح تعقيد حالةٍ ما نعيشها. حتى إنها قد تمنع، تُزوِّر أو حتى تُبدِّد التجربة التي نعيشها. هناك لحظات يُفضَّل فيها ألَّا نقول شيئًا. علينا أحيانًا عبور حقيقة ما نعيشه بشكلٍ مختلف، بإحساسه واختباره.

نستطيع أن نتكلَّم هنا عمَّا يُسمَّى ﺑ «الوعي المغمور» لوصف هذه الحالة الخاصة جدًّا لوجداننا حين يكون مأخوذًا بشكلٍ كثيف، لكن دون نتاجٍ فكري إرادي، حيث نكون فقط «داخل التجربة».

figure

الطابع الكثيف للتجربة

في أحد دروس التأمُّل بالوعي الكامل، أذكُر كيف طلب منَّا مُدرِّبنا القيام بتمرين فريد من نوعه، إنه أحد تلك التمارين التي يفهم سرَّها حكماء التأمل؛ لقد طلب منَّا أن نقوم بخطوةٍ نحو الأمام. وبعد عدة ثوانٍ من الصمت قال لنا: «والآن، حاوِلوا ألا تكونوا قد قُمتُم بخطوَتِكم تلك.» حتى تلك اللحظة لم أكن قد سمعتُ مُطلقًا، أو عشت، تجربة بهذا الوضوح عن عدم جدوى الندَم. ولم أفهم بالضبط قبلها بوضوحٍ هذا الفرق بين التعليم عبر الشرح والتعليم عبر التجربة. في حالة المفاجأة والحيرة تلك، حالة التردُّد واضطراب الفكر، وجسدي لا يعرف ماذا سيفعل في تلك اللحظة؛ عندها تمَّ إيصال هذه الفكرة عن عدَم إمكانية أو جدوى الندم.

يُعلِّمنا الوعي الكامل أن التجربة هي بنفس أهمية المعرفة؛ القراءة عن التأمل ليس كعَيشه. الانصات إلى تمارين التأمل من خلال قُرص مضغوط ليس كالقيام بهذه التمارين. لا تَحلُّ التجربة، بوصفها طريقًا نحو ما هو واقعي، محلَّ الوعي أو الذكاء، لكنها تُكمِّلهما. وليس هناك ما هو أيسر من التجربة، يكفي أن نُعطي أنفسنا الوقت الكافي وأن نتوقَّف للحظةٍ لعيشها، أن نرى، نسمع، ونشعر. يجب فقط أن نُوقِف الفعل والحركة. قوموا بذلك الآن. توقفوا عن القراءة. توقفوا الآن. أغلقوا عيونكم، وأدركوا. سجِّلوا في أذهانكم بماذا هي مجبولة تجربتكم. فقط الآن وهنا. الآن لمدة لحظة. لا يوجد شخص آخر يستطيع أن يقوم بذلك بدلًا منكم، ولا يستطيع أي شخص أن يتأمل عوضًا عنكم. أغمِضوا عيونكم.

«الدرس الأول»

العَيش هو عيش اللحظة الحاضرة. لا نستطيع العيش في الماضي، ولا في المستقبل. لا نستطيع سوى التفكير بهما، تحليلهما، الشعور بالندم، بالخوف، أو الأمل تجاههما. وأثناء ذلك لن نكون موجودين بشكلٍ فعلي. أن نعيَ بشكلٍ مُتكرِّر غِنى اللحظة الحاضرة يعني أن نعيش أكثر. إنَّنا نعرف ذلك، هذا شيء أكيد، فقد قرأناه وسمعناه، حتى إننا فكَّرنا به. إن كلَّ هذا ليس سوى ثرثرة، يجب أن نقوم بذلك الآن، بشكلٍ فعلي. فلا شيء يحلُّ محلَّ عيش اللحظة الحاضرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤