الفصل السادس عشر

أن نتخلَّى عن إصرارنا

ليس جسدها العاري هو الذي يُفاجِئنا في البداية، وليست هذه التفصيلة الغريبة للغطاء الأبيض المفروش على تلٍّ مَليء بالحصى، حيث بدأت بعض الأعشاب بالظهور. ولا هذه الوضعية الجميلة والمُرتبِكة لقدمَيها. لا، إن ما يُفاجِئنا، هي نظرتها، ووجهها الخالي من أي انفعالٍ وكأنه وجهُ مُنتصِر. إنه تعبيرُ اليقين المُطمئن هذا. وهذه النظرة كأنها تقترح علينا أن ننظُر إلى يدِها اليُسرى، وغصن الزيتون الذي تحمله كغنيمة نصر أو إثبات أو حُجة؛ غصن الزيتون الذي يُشير إلى السلام والأمل.

خلفها جبلٌ مُمزَّق. حين ننظر إليه عن قُرب نكتشف أنه ليس جبلًا من الحجارة وإنما أبنية مُهدَّمة. وهذا السياج الذي يُحيط بالحقول هو قبورٌ عليها صلبانٌ بائسة.

figure
لوحة «الأمل» (١٨٧٠-١٨٧١) لبيير بوفي دي شافان (١٨٢٤–١٨٩٨)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد ٠٫٧٠٥ × ٠٫٨٢ متر، متحف أورسيه، باريس.

رسم بوفي دي شافان هذه اللوحة بعد سنةٍ واحدة من الحرب الفرنسية-البروسية عام ١٨٧٠ والتي أُهينَ فيها بلده بخسارة سريعة، مُؤدِّية إلى سقوط الإمبراطورية الثانية. لقد سمَّاها «الأمل»، وتلقَّى عليها كثيرًا من النقد. ولكن ما الذي كان يريده النُّقاد؟ هل كانوا يريدون أن تحمل سلاحًا بدلًا من غصن الزيتون، كي تذهب إلى الحرب، أو ربما مِجرفة كي تُعيد بناء ما تهدَّم؟

إنها لا تُبالي الآن وأبدًا بأي نوع من الانتقام. لا تُبالي في هذه اللحظة بفكرة القيام بأي فعل. هذه الفتاة التي لا تملك قوةً إلَّا جسَدها النحيل والعاري. إنها تأخذ وقتها، وتعي. إنها تشعُر، وتنقل ما تشعُر به عن المصائب التي مرَّت، وعن وعيها أيضًا للزمن الجديد الآتي.

ونُلاحِظ أخيرًا بالقُرب من يدها اليُمنى، التي تضعها برقَّة على الغطاء الأبيض، أن هناك شُجَيرة سنديان صغيرة تندفع نحوَ السماء.

أين هو وجَعي؟
لم يعُد لديَّ وجَع.
إنه ليس سوى لغطٍ
على حافة الشمس.
بول فور، «أغنية عند الصباح»

التوقُّف عن المقاومة

عندما نمرُّ بصعوباتٍ فإننا نسعى بشكل طبيعي لحلها. نُحاوِل التخلص منها، أو تغييرها، أو حتى الهروب منها. ولكن هناك صعوبات لا تُجدي معها هذه المحاولات نفعًا؛ كتلك الصعوبات الموجودة داخلنا (بعض أفكارنا ومشاعرنا)، أو تلك المِحَن التي لا نستطيع حيالها شيئًا، أو تلك التي لم تحدُث بعد (توقُّعاتنا القلِقة). إذن قد يكفينا أحيانًا أن نتوقَّف عن الاعتراض والمُقاوَمة؛ أن نتخلى عن عاداتنا السلوكية أمام الآلام، ونقبل أنها لن تفعل شيئًا أكثر من تعقيد المشكلات، وجعلها أكثر إرباكًا وألمًا.

عندما تسيرون على شاطئ رملي تاركين أقدامكم تغُوص في الماء ثم في الرمل تحته، فإن الرمل سيُشكِّل غيومًا صغيرة مُعكِّرًا الماء. إذا أردتُم أن يصير الماء صافيًا من جديد، تعرفون جيِّدًا أنكم لا تستطيعون أن تُزيلوا غيوم الرمل الصغيرة هذه بأقدامكم أو بأيديكم؛ لأنكم عندها ستقومون بتشكيل غيومٍ رملية أخرى. وكلما حاوَلتم أكثر، صار الماء عكرًا أكثر. فلا حلَّ آخر غير البقاء دون حركة، والسماح لهذه الغيوم الرملية بالبقاء، وانتظار سقوطها من جديد. عندها تستطيعون مراقبة الماء الصافي حول أقدامكم. الغيوم الرملية هذه هي التجارب المُؤلِمة في حياتنا. ولكي نرى بشكلٍ أوضح ينصحنا التأمُّل بالوعي الكامل بأن نتوقَّف عن محاولة التحكم بها، وبأن نكتفي بمراقبتها، وهي تستقرُّ ببطءٍ في قعْر الماء.

كتبت الفيلسوفة سيمون فاي: «لنُحاوِل تخفيف المشكلات باستخدام النيات وليس قوة الإرادة … إن الطريقة الوحيدة هي مُناشَدة الذات لأنها ستُساعِدنا على تخفيف تصلُّب العضلات التي لا علاقة لها بالأمر. فلا شيء أكثر غباءً من تقلُّص العضلات وشدِّ الفكِّ بسبب فكرة، أو قصيدة شِعر أو مشكلة!»

figure

ولكن إذا لم تكن أفعالنا هي الحلُّ وإنما النيَّات، فإلى أين يجب علينا أن نتَّجِه عندما نكون مُحاصَرين، وكأننا نغُوص ببطءٍ في النهر؛ عندما نتوقَّف عن التقدم، ولا نستطيع التراجُع. ماذا نفعل إذن؟

التوقُّف كي نتنفَّس

أمام المعاناة والشِّدَّة علينا قبل كل شيءٍ أن نبدأ بالتنفُّس.

لكننا نُفضِّل عادةً التفكير في المشكلة وتأنيب أنفسنا؛ لأن ذلك سيبدو لنا أكثر مُلاءمةً وأكثر واقعيةً أو أكثر فعالية، خصوصًا حين نكون في صُلب المشكلة. وبعد فترة قصيرة نُدرِك أن قلقنا كان عبثيًّا. ولكننا نُدرِك ذلك مُتأخِّرًا، ونُفضِّل في أغلب الوقت أن ننسى الأمر برمَّته، والتفكير بشيءٍ آخر، وذلك بانتظار المشكلات اللاحقة حيث سيبدأ كل شيءٍ من جديد.

يقترح علينا التأمُّل بالوعي الكامل أن نبدأ دومًا بالتنفُّس، وأن نتمرَّن على التعامل مع المعاناة عندما تأتي. وفي اللحظة التي تكون فيها موجودة، علينا ألا نسعى إلى إلغائها، أو إيجاد حلٍّ لها، أو حتى السعي لأن نكون أحسن حالًا. فقط علينا البقاء حيث نحن بمرافقة النفس، كصديقٍ قديم لا يعرف بعدُ كيف ينصحنا، لكنه هنا معنا، وسيبقى بقربنا. وعلينا أن نُدرِك أنَّ وجوده، هذا الوجود الجميل، ربما هو أكثر أهمية من المشكلة ذاتها.

figure
figure

ومع الوقت، سيُعطي تنفُّسنا بوعي كامل تأثيرًا مُرخِيًا. وفي الوقت الذي تزيد فيه الاجترارات من صلابة أفكارنا ومشاعرنا، فإنَّ التأمُّل بوعي كامل سيزيد من طراوتها، كما يزيد اللهب من طراوة الشمعة. فلنُبقِ تجاربنا المُزعِجة في ضوء الوعي الكامل، حتى عندما نشعُر أننا مُتعَبون وواهنون، وأن ذلك لن يُغيِّر المشكلة. لماذا يجب دومًا «البدء» بمواجهة المشكلة؟ ماذا لو نبدأ، من وقتٍ لآخر، بتغيير طريقة استجابتنا للمشكلة؟

لماذا يجِب دومًا البدء بمواجهة المشكلة؟ ماذا لو نبدأ، من وقتٍ لآخر، بتغيير طريقة استجابتنا للمشكلة؟

ملجأ اللحظة الراهنة

حين نتوقَّف كي نتنفَّس، وحتى عندما يكون كل شيء مُؤلمًا، نستطيع أن نشعُر كأنَّنا نحتمي في مَلجأ؛ كقاربٍ يحتمي من العاصفة في ميناء أو خليج. صحيحٌ أن العاصفة مستمرة، لكننا في أمان. هو ملجأ غير مثالي ومُؤَقَّت، لكنه يبقى ملجأً. بتنفُّسنا نفهم أننا أحياء، وأن ذلك جوهري، وأنَّ كلَّ شيءٍ آخر يُمكِنه الانتظار، على الأقل بضع لحظات.

أن نحتميَ في اللحظة الحاضرة لا يعني أنَّنا حلَلْنا المشكلة، أو أننا وجدْنا حلًّا. لا، فالمشكلة لا تزال موجودة، والحلُّ لن ينبثِق من النفَس، وقد لا يكون هناك حل. ولكن رغم بقاء المشكلة، فقد وجدْنا مكانًا آمنًا نستطيع من خلاله مُراقَبتها دون أن نُناضِل ضِدَّها خوفًا من أن نُغمَر بها أو أن نغرق.

أن نتنفَّس أثناء المِحَن، هو أن نضع روحنا في مكانٍ آمن، ليس من أجل الهرب من الواقع، وليس كي ننتقل إلى الفعل، وإنما كي نختار أن نرى بشكلٍ أوضح؛ أن نختار إفساح المجال للهدوء، وإعطاء فرصة لذكائنا. مهما فعلتُ ومهما فكَّرتُ، ستبقى المشكلة، إنها هنا الآن. لكنني أنا هنا أيضًا، موجود وحَي. وبقدْر ما أستطيع، سأستمر بالعَيش، وسأستمر بالتنفُّس لأن شيئًا ما سيتغيَّر. يجب عليَّ فقط قبولُ أنَّني لا أعرف بعدُ ما الذي سيتغيَّر ولا متى.

«الدرس السادس عشر»

ماذا يعني العُدول عن الإصرار؟ إنه ليس الهروب من الواقع عبر صرْف الانتباه («هيَّا، عليَّ أن أُبدِّل أفكاري»)، أو الإقناع الذاتي («استرخِ، وكلُّ شيءٍ سيكون على ما يُرام»)؛ هذه أشياء نقوم بها دائمًا، ونعرِف أنَّ ذلك قد ينجح أحيانًا، لكن ليس دائمًا. إنَّ العدول عن الإصرار هو شيءٌ آخر، وقد يكون شديد المنفعة أيضًا؛ إنه البقاء هنا حاضرًا، في حالة عقلية خاصَّة. إنه أن نبقى حاضرين، وأن نتوقَّف عن محاولة السيطرة على المشكلة أو إيجاد حلٍّ لها. فقط علينا البقاء هنا، والوثوق بما سيأتي. دون سذاجة، وإنما بفضول، ويقظة دائمة؛ كالسبَّاح الذي يُوقِف كلَّ جُهد، ويترك نفسه يحمله تيَّار النهر. إنه ليس حالة من الكسل، وإنما حالة من الحضور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤