شراح المتنبي

وإليك تراجم بعض شراح المتنبي، ممن ورد ذكرهم في هذا الشرح … وقولنا هنا: «شراح المتنبي» إنما هو ضرب من التسامح؛ لأن منهم من لم يضع شرحًا بالمعنى المتعارف؛ أي إنهم لم يضعوا شروحًا تامَّة كاملة، وإنما تَصَدَّوا لشرح بعض مشكلات الأبيات، أو لنقد بعض الشراح فيما ذهبوا إليه من شرح وتفسير أو لسرقات المتنبي، مثل أبي السعادات بن الشجري، وابن فورجه، وأبي الفضل العروضي، وابن وكيع، والصاحب ابن عباد، وأبي بكر الخوارزمي، ولم نتبسط في هذه التراجم، ولم ننهج فيها منهجًا تحليليًّا يخرج بنا عما قصدنا إليه منها وهو التعريف بمن تتعثر بأسمائهم في هذا الشرح حتى تكون على بصيرة تامة بكل ما يتصل بهذا الشاعر المحظوظ، ومن ثم لم نَعْدُ أن نسرد لك في هذه التراجم تاريخ مولد المترجم له، وتاريخ وفاته، وطرفًا من أخباره وسيرته وتواليفه ومكانته العلمية وآراء الناس فيه.

ابن جني

أظنني في غير حاجة إلى التعريف بأن أبا الفتح عثمان بن جني هو أول من شرح المتنبي، فله بذلك فضل السبق، ومن ثَمَّ كان حقيقًا بأن نبدأ بترجمته …

•••

جاء في معجم الأدباء لياقوت وفي وفيات الأعيان لابن خلكان ما تلخيصه:

أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي: كان أبوه جني مملوكًا روميًّا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي — أقول: فهو إذن من أبناء يونان، لا من أبناء عدنان، وبعبارة أخرى: هو من أبناء الموالي، شأنه شأن أكثر حملة العلم، ونوابغ الشعراء والأدباء في الإسلام — وإلى أصله أشار بقوله:

فَإِنْ أُصْبِحْ بِلَا نَسَبٍ
فَعِلْمِي فِي الْوَرَى نَسَبِي
عَلَى أَنِّي أَئُولُ إِلَى
قُرُومٍ سَادَةٍ نُجُبِ
قَيَاصِرَةٌ إِذَا نَطَقُوا
أَرَمَّ الدَّهْرُ ذُو الْخُطَبِ١
أَوْلَاكَ دَعَا النَّبِيُّ لَهُمْ
كَفَى شَرَفًا دُعَاءُ نَبِي

ولد ابن جني بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة للهجرة، وتوفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة ٣٩٢ﻫ ببغداد، وكان أبو الفتح مُمتَّعًا بإحدى عينيه، وما أظرفه حين يقول لأحد أصدقائه:

صُدُودُكَ عَنِّي وَلَا ذَنْبَ لِي
دَلِيلٌ عَلَى نِيَّةٍ فَاسِدَهْ
فَقَدْ وَحَيَاتِكَ مِمَّا بَكَيْتُ
خَشِيتُ عَلَى عَيْنِيَ الْوَاحِدَهْ
وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَلَّا أَرَاكَ
لَمَا كَانَ فِي تَرْكِهَا فَائِدَهْ
وحدَّثوا أنه صحب أبا علي الفارسي٢ أربعين سنة، وكان السبب في صحبته له: أن أبا علي اجتاز بالموصل، فمر بالجامع وأبو الفتح في حلقة يُقرِئ النحو وهو شاب، فسأله أبو عليٍّ عن مسألة في التصريف فقصَّر فيها، فقال له أبو علي: تزبَّبْتَ وأنت حِصرِم … فسأل عنه، فقيل له: هذا أبو عليٍّ الفارسي، فلزمه من يومئذ، واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله، وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه؛ فلما مات أبو عليٍّ تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد، فأخذ عنه كثير من أعلام العلماء … وحدَّث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني يحضر بحلب عند المتنبي كثيرًا، ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه شيئًا من شعره، أنفةً واستكبارًا لنفسه، وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدرَه كثير من الناس … وسئل المتنبي بشيراز عن قوله:
وَكَانَ ابْنَا عَدُوٍّ كَاثَرَاهُ
لَهُ يَاءَيْ حُرُوفِ أُنَيْسِيَانِ٣

فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضرًا لفسره … وكان لابن جني من الولد عليٌّ وعالٍ وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء قد خَرَّجَهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط … ولابن جني شعر — ولكنه كسائر شعر العلماء — فمنه:

غَزَالٌ غَيْرُ وَحْشِيٍّ
حَكَى الْوَحْشِيُّ مُقْلَتَهُ
رَآهُ الْوَرْدُ يَجْنِي الْوَرْ
دَ فَاسْتَكْسَاهُ حُلَّتَهُ
وَشَمَّ بِأَنْفِهِ الرَّيْحَا
نَ فَاسْتَهْدَاهُ زَهْرَتَهُ
وَذَاقَتْ رِيحُهُ الصَّهْبَا
ءَ فَاخْتَلَسَتْهُ نَكْهَتَهُ٤
وقال الباخَرْزي في دمية القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما له، وما كنت أعلم أنه ينظم القريض، أو يسيغ ذلك الجريض٥ حتى قرأت له مرثية في المتنبي أولها:
غَاضَ الْقَرِيضُ وَأَوْدَتْ نُضْرَةُ الْأَدَبِ
وَصَوَّحَتْ بَعْدَ رِيٍّ دَوْحَةُ الْكُتُبِ٦
مَا زِلْتَ تَصْحَبُ فِي الْجُلَّى إِذَا انْشَعَبَتْ
قَلْبًا جَمِيعًا وَعَزْمًا غَيْرَ مُنْشَعِبِ٧
وَقَدْ حَلَبْتَ لَعَمْرِي الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ
تَمْطُو بِهِمَّةِ لَا وَانٍ وَلَا نَصِبِ٨
مَنْ لِلْهَوَاجِلِ يُحْيِي مَيْتَ أَرْسُمِهَا
بِكُلِّ جَائِلَةِ التَّصْدِيرِ وَالْحِقَبِ٩
قَبَّاءَ خَوْصَاءَ مَحْمُودٌ عُلَالَتُهَا
تَنْبُو عَرِيكَتُهَا بِالْحِلْسِ وَالْقَتَبِ١٠
أَمْ مَنْ لِبِيضِ الظُّبَا تَوْكَافُهُنَّ دَمٌ
أَمْ مَنْ لِسُمْرِ الْقَنَا وَالزَّغْفِ وَالْيَلَبِ١١
أَمْ لِلْجَحَافِلِ يُذْكِي جَمْرَ جَاحِمِهَا
حَتَّى يُقَرِّبَهَا مِنْ جَاحِمِ اللَّهَبِ١٢
أَمْ لِلْمَحَافِلِ إِذْ تَبْدُو لِتَعْمُرَهَا
بِالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْأَمْثَالِ وَالْخُطَبِ
أَمْ لِلصَّوَاهِلِ مُحْمَرًّا سَرَابِلُهَا
مِنْ بَعْدِ مَا غَرَبَتْ مَعْرُوفَةُ الشُّهُبِ١٣
أَمْ لِلْمَنَاهِلِ وَالظَّلْمَاءُ عَاطِفَةٌ
يُوَاصِلُ الْكَرَّ بَيْنَ الْوِرْدِ وَالْقَرَبِ١٤
أَمْ لِلْقَسَاطِلِ تَعْتَمُّ الْحُزُونُ بِهَا
أَمْ مَنْ لِضَغْمِ الْهِزَبْرِ الضَّيْغَمِ الْحَرِبِ١٥
أَمْ لِلْمُلُوكِ يُحَلِّيهَا وَيُلْبِسُهَا
حَتَّى تَمَايَسُ فِي أَبْرَادِهَا الْقُشُبِ١٦
بَاتَتْ وِسَادِي أَطْرَابٌ تُوَرِّقُنِي
لَمَّا غَدَوْتَ لَقًى فِي قَبْضَةِ النُّوَبِ١٧
عُمِّرْتَ خِدْنَ الْمَسَاعِي غَيْرَ مُضْطَهَدٍ
كَالنَّصْلِ لَمْ يَدَّنِسْ يَوْمًا وَلَمْ يُصَبِ
فَاذْهَبْ عَلَيْكَ سَلَامُ الْمَجْدِ مَا قَلِقَتْ
خُوصُ الرَّكَائِبِ بِالْأَكْوَارِ وَالشُّعُبِ

ومن شعر ابن جني:

رَأَيْتُ مَحَاسِنَ ضِحْكِ الرَّبِيعِ
أَطَالَ عَلَيْهَا بُكَاءُ السَّحَابْ
وَقَدْ ضَحِكَ الشَّيْبُ فِي لِمَّتِي
فَلِمْ لَا أُبَكِّي رَبِيعَ الشَّبَابْ
أَأَشْرَبُ فِي الْكَأْسِ، كَلَّا وَحَاشَا
لِأُبْصِرَهُ فِي صَفَاءِ الشَّرَابْ

ومنه:

تَحَبَّبْ أَوْ تَذَرَّعْ أَوْ تَأَبَّى
فَلَا وَاللهِ لَا أَزْدَادُ حُبَّا
أَخَذْتَ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِي
فَإِنْ رُمْتَ الْمَزِيدَ فَهَاتِ قَلْبَا

قال ياقوت: وقرأت بخط الشيخ أبي منصور بن الجواليقي: قال لنا أبو زكريا: رأيت بخط ابن جني: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الفَرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ علي أعرابي «طِيبَى لهم وَحُسنُ مآب» فقلت: «طُوبى» فقال: «طِيبى» فقلت ثانيًا: «طُوبى» فقال: «طِيبَى» فلما طال علي قلت: «طُوطُو» فقال الأعرابي: «طِي طِي» أما ترى إلى هذه النحيزَة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها حتى أنه استُكره على تركها فأبى إلا إخلادًا إليها! ونحو ذلك قال عمرو الكلبي وقد أنشد بعض أهل الأدب:

بَانَتْ نَعِيمَةُ وَالدُّنْيَا مُفَرِّقَةٌ
وَحَالُ مَنْ دُونِهَا غَيْرَانُ مَزْعُوجُ

فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مُزْعَجٌ، فجفا ذلك عليه، وقال يهجو النحويين:

مَاذَا لَقِينَا مِنَ الْمُسْتَعْرِبِينَ وَمِنْ
قِيَاسِ نَحْوِهِمُ هَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوا
إِنْ قُلْتُ قَافِيَةً بِكْرًا يَكُونُ بِهَا
بَيْتَ خِلَافِ الَّذِي قَاسَوْهُ أَوْ ذَرَعُوا
قَالُوا لَحَنْتَ وَهَذَا لَيْسَ مُنْتَصِبًا
وَذَاكَ خَفْضٌ وَهَذَا لَيْسَ يَرْتَفِعُ
وَحَرَّضُوا بَيْنَ عَبْدِ اللهِ مِنْ حُمُقٍ
وَبَيْنَ زَيْدٍ فَطَالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ
كَمْ بَيْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتَالُوا لِمَنْطِقِهِمْ
وَبَيْنَ قَوْمٍ عَلَى إِعْرَابِهِمْ طُبِعُوا
مَا كُلُّ قَوْلِيَ مَشْرُوحًا لَكُمْ فَخُذُوا
مَا تَعْرِفُونَ وَمَا لَمْ تَعْرِفُوا فَدَعُوا
لِأَنَّ أَرْضِيَ أَرْضٌ لَا تُشَبُّ بِهَا
نَارُ الْمَجُوسِ وَلَا تُبْنَى بِهَا الْبِيَعُ

قال ابن جني: وعلى نحو ذلك فحضرني قديمًا بالموصل أعرابي عقيلي جوثِيٌّ تميميٌّ، يقال له محمد بن العَسَّاف الشَّجري، وقلما رأيت بدويًّا أفصح منه، فقلت له يومًا — شَغفًا بفصاحته والتذاذًا بمطاولته، وجريًا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زَنْدِ فِطنته: كيف تقول: «أكرم أخوك أباك» فقال كذاك، فقلت له: أفتقول: «أكرم أخوك أبوك» فقال: لا أقول «أبوك» أبدًا فقلت: فكيف تقول: «أكرمني أبوك» فقال كذاك، قلت: ألست تزعمُ أنك لا تقول «أبوك» أبدًا؟ فقال «إيش هذا؟ اختلفت جهتا الكلام» فهل قوله اختلفت جهتا الكلام. إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولًا! فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تقطع به عبارتهم.

أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: «ولا الليلُ سابقٌ النهارَ» فقلت له: ما أردت؟ قال: أردت سابقَ النهار، فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأفصح، ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء؛ أحدها: أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم، والثاني: أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نص أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: «أردت كذا» وهو خلاف ما لفظ به، والثالث: أنهم قد ينطقون بالشيء وغيره أقوى منه استلانة وتخفيفًا، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزنَ؛ أي أقوى وأعربَ.

قال ابن جنِّي: وسألت الشجري صاحبنا، هذا الذي قد مضى ذكره، قلت له: كيف يا أبا عبد الله تقول: «اليوم كان زيد قائمًا؟» فقال: كذلك، فقلت: فكيف نقول: «اليوم إن زيدًا قائم؟» فأباها البتة، وذلك أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها؛ لأنها إنما تأتي أبدًا مستقبلة قاطعة لما قبلها عما بعدها وما بعدها عما قبلها، قلت له يومًا ولابن عمٍّ له يقال له غصن — وكان أصغر منه سنًّا وألين لسانًا: كيف تحقران «حمراء» فقالا: حُميراء، قلت: فصفراء قالا: «صفيراء» قلت: «فسوداء» قالا: «سويداء» واستمررت بهما في نحو هذا، فلما استويا عليه دسست بين ذلك «عِلْباء» فقلت: «فعلباء» فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: «عُليباء» وكان الشجري يقولها معه، فلما هم بفتح الباء استرجع مستنكرًا فقال إهْ «عُلَيْبَى» وأشم الفتحة دائمًا للحركة في الوقف، وتلك عادة …

قال ابن جني: فسألته يومًا: يا أبا عبد الله، كيف تجمع مُحرَنْجَمًا — وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله: يكسِّر فيقول: حَراجم، أم يصححُ فيقول: محرنجماتٌ، فذهب هو مذهبًا غير ذين فقال: «وإيش فرقه حتى أجمعه؟» وَصَدَق، وذلك أن المحرنجم هو المجتمع: يقولها مارًّا على شكيمته غير مُحِسٍّ لما أريده منه والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا: إذا أنت مررت بإبل محرنجمةٍ وأخرى محرنجمةً، وأخرى محرنجمة. تقول: مررت بإبل ماذا؟ فقال — وقد أحس الموضع — «يا هذا هكذا أقول: مررت بإبل محرنجمات» وأقام على التصحيح البتة استيحاشًا من تكسير ذوات الأربعة لِمُصاقبتها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها لا سيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تُعتَدُّ في كثيرٍ من المواضيع اعتداد الأصول حتى إنها لتلزم لزومها نحو: كوكب، وحوشب،١٨ وضَيْوَنَ،١٩ وهَزَنَبَرَانَ،٢٠ ودودرى،٢١ وقرنفُل، وهذا موضعٌ يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه، والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته، وسألته يومًا كيف تجمع سرحانًا؟ فقال: سراحين، قلت: فدكانًا، قال: دكاكين قلت: فقُرطانًا، قال: قراطين، قلت: فعثمان، قال عثمانون، قلت: هلَّا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين؟ فأباها البتة وقال: «إيش ذا؟ أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبدًا.» استوحش من تكسير العلم إكثارًا له لا سيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز فيه فعالين نحو: سكران وغضبان …

ونكتفي بهذا المقدار من التعريف بأبي الفتح بن جني شارح المتنبي، وإذا أردت الزيادة والوقوف على فهرس مؤلفاته فارجع إلى معجم الأدباء ج١٢ طبعة فريد الرفاعي.

الواحدي

وهذا الإمام أبو الحسن عليُّ بن أحمد بن محمد بن عليٍّ الواحدي النيسابوري أحد شراح المتنبي هو — كما قال ياقوت وابن خلكان وغيرهما — الإمام المصنف المفسر النحوي أستاذ عصره، وواحد دهره، أنفق صباه، وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاف على أعلام الأمة، وتتلمذ لأبي الفضل العروضي،٢٢ وقرأ النحو على أبي الحسن الضرير القَهَندَزي، ولازم مجالس الثعلبي٢٣ في تحصيل التفسير … ثم أخذ في التصنيف، وقعد للإفادة والتدريس سنين، وتخرَّج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرءوا عليه، وبلغوا محل الإفادة، وكان حقيقًا بكل احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرَائه على الأئمة المتقدمين وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بماضيهم. قال الحسن بن المظفر النيسابوري: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري هو الذي قيل فيه:
قَدْ جَمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ
عَالِمُنَا الْمَعْرُوفُ بِالْوَاحِدِي

قال ومن غرر شعره:

أَيَا قَادِمًا مِنْ طُوسَ أَهْلًا وَمَرْحبًا
بَقِيتَ عَلَى الْأَيَّامِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا
لَعَمْرِي لَئِنْ أَحْيَا قُدُومُكَ مُدْنَفًا
بِحُبِّكَ صَبًّا فِي هَوَاكَ مُعَذَّبَا
يَظَلُّ أَسِيرَ الْوَجْدِ نَهْبَ صَبَابَةٍ
وَيُمْسِي عَلَى جَمْرِ الْغَضَا مُتَقَلِّبَا
فَكَمْ زَفْرَةٍ قَدْ هِجْتَهَا لَوْ زَفَرْتُهَا
عَلَى سَدِّ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَمْسَى مُذَوَّبَا
وَكَمْ لَوْعَةٍ قَاسَيْتُ يَوْمَ تَرَكْتَنِي
أُلَاحِظُ مِنْكَ الْبَدْرَ حِينَ تَغَيَّبَا
وَعَادَ النَّهَارُ الطَّلْقُ أَسْوَدَ مُظْلِمًا
وَعَادَ سَنَا الْإِصْبَاحِ بَعْدَكَ غَيْهَبَا
وَأَصْبَحَ حُسْنُ الصَّبْرِ عَنِّيَ ظَاعِنًا
وَحَدَّدَ نَحْوِي الْبَيْنُ نَابًا وَمِخْلَبَا
فَأُقْسِم لَوْ أَبْصَرْتَ طَرْفِيَ بَاكِيًا
لَشَاهَدْتُ دَمْعًا بِالدِّمَاءِ مُخَضَّبَا
مَسَالِكُ لَهْوٍ سَدَّهَا الْوَجْدُ وَالْجَوَى
وَرَوْضُ سُرُورٍ عَادَ بَعْدَكَ مُجْدِبَا
فِدَاؤُكَ رُوحِي يَا ابْنَ أَكْرَمِ وَالِدٍ
وَيَا مَنْ فُؤَادِي غَيْرَ حُبِّيهِ قَدْ أَبَى

وأنشد له:

تَشَوَّهَتِ الدُّنْيَا وَأَبْدَتْ عَوَارَهَا
وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالرَّحْبِ وَالسَّعَهْ
وَأَظْلَمَ فِي عَيْنِي ضِيَاءُ نَهَارِهَا
لِتَوْدِيعِ مَنْ قَدْ بَانَ عَنِّي بِأَرْبَعَهْ
فُؤَادِي وَعَيْشِي وَالْمَسَرَّةُ وَالْكَرَى
فَإِنْ عَادَ عَادَ الْكُلُّ وَالْأُنْسُ وَالدَّعَهْ
وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة البسيط: وأظنني لم آل جهدًا في أحكام أصول هذا العلم حسب ما يليق بزمننا هذا وتسَعُه سِنُو عُمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله — وله الحمد — حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مَظَانِّه، وأخذته من معادِنِه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله،٢٤ وكان قد خنق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار، وقرأ عليهم وروى عنهم كأبي منصور الأزهري، روى عنه كتاب التهذيب وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي، وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري، وأبا الحسن الرُّخجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الأصم وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المصنفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخُل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عابني شيخي — رحمه الله — يومًا وقال: إنك لم تُبقِ ديوانًا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي تأتيه البعداء من أقصى البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار — يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي — فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب، لم أرم في غرض التفسير من كثب، ثم لم أُغِبَّ زيارته في يوم من الأيام حتى حال بيننا قدر الحِمام.
وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرس فيَّ، وتوسم الخير لديَّ، فتجرد لتخريجي، وصرف وكدَه إلى تأديبي، ولم يدخر عني شيئًا من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأَفْلاذِه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخصني بكتابه الكبير في علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية لابن مِهران، ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي، وكان واحد دهره، وباقعة عصره، في علم النحو، لم يلحق أحد مما سمعناه شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة في مقامه عندنا حتى استنْزَفْت غرر ما عنده، وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي — رحمه الله — وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري، وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما، وأخذت من كل واحد منهما حظًّا وافرًا بعون الله وحسن توفيقه، وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي السفوي عنه٢٥ وقرأت عليه بلفظي كتاب الزَّجَّاج بحق روايته عن ابن مقسم عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير، ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي — رحمه الله — وكان خير العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء، بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بالكشف والبيان عن تفسير القرآن، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار.
فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

وأصفَقَت عليه كافة الأمة على اختلاف نِحَلِهم، وأقرُّوا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وَصَحِبَه عَلِم أنه منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته؛ ليستدلَّ بها على أنه كان بحرًا لا يُنزَف، وغمرًا لا يُسْبَر، وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، منها: تفسيره الكبير وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن وغيرهما، ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطأتها طال الخطب ومَلَّ الناظرُ، وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب — أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه — مشتمل على ما نقمتُ على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارَّةً في صدره حتى يخرجه من ظلمة الرَّيب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمِّلُ مُرتاضًا في صنعة الأدب والنحو، مهتديًا بطرق الحِجَاج، مارحًا في سلوك المنهاج، فأما الجَذَع المُرخَى من المقتبسين، والرَّيِّض الكزُّ من المبتدئين، فإنَّه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غلقًا ضاع عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء ليل خانَه المصباح:

يُحَاوِلُ فَتْقَ غَيْمٍ وَهْوَ يَأْبَى
كَعِنِّينٍ يُرِيدُ نِكَاحَ بِكْرِ

ثُمَّ قال بعد كلام: إن هذا الكتاب عُجالة الوقت، وقبسَةُ العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حل وارتحل وإن أُنسِئَ الأجل، وأُرخِيَ الطوَلُ، وأنظرَني الليلُ والنهارُ، حتى يتلفع بالمشيب العِذارُ أردفته بكتاب أنضجه بنار الرَّوية، وأردده على رُواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته، ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعول في تيسير ما رمتُ، وله الحمدُ كلما قعدت أو قمت.

ابن فورجه

قال ياقوت — ونقله السيوطي في بغية الوعاة: هو محمد بن حمد بن محمد بن عبد الله بن محمود بن فورجه — بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم — البروجرديُّ، أديب فاضل مصنف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يرد فيه على أبي الفتح بن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجودًا سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ومن شعره:

أَيُّهَا الْقَاتِلِي بِعَيْنَيْهِ رِفْقًا
إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَا مَنْ قَلَاكَا
أَكْثَرَ اللَّائِمُونَ فِيكَ عِتَابِي
أَنَا وَاللَّائِمُونَ فِيكَ فِدَاكَا
إِنَّ لِي غَيْرَةً عَلَيكَ مِنِ اسْمِي
إِنَّهُ دَائِمًا يُقَبِّلُ فَاكَا

هذا وقد ضبطه ابن شاكر صاحب فوات الوفيات. هكذا: ابن فُوزَجَّه فقال: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الزاي وتشديد الجيم.

ابن القطاع الصقلي

قال ابن خلكان: هو أبو القاسم علي بن جعفر … إلى آخر النسب قال: كان أحد أئمة الأدب خصوصًا اللغة، وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال، أحسن فيه كل إحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطية، وإن كان ذلك قد سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وله عروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة، وكتاب لمح الملح، جمع فيه خَلقًا من شعراء الأندلس، وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية، وقرأ الأدب على فضلائها كابن البر اللغوي وأمثاله، وأجاد في النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الرواية ومن شعره في ألْثغ:

وَشَادِنٍ فِي لِسَانِهِ عُقَدٌ
حَلَّتْ عُقُودِي وَأَوْهَنَتْ جَلَدِي
عَابُوهُ جَهْلًا بِهَا فَقُلْتُ لَهُمْ
أَمَا سَمِعْتُمُ بِالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ

وله من قصيدة:

فَلَا تُنْفِدَنَّ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الصِّبَا
وَلَا تَشْقَيَنْ يَوْمًا بِسُعْدَى وَلَا نُعْمِ
وَلَا تَنْدُبَنْ أَطْلَالَ مَيَّةَ بِاللِّوَى
وَلَا تَسْفَحَنْ مَاءَ الشُّئُونِ عَلَى رَسْمِ
فَإِنَّ قُصَارَى الْمَرْءِ إِدْرَاكُ حَاجَةٍ
وَتَبْقَى مَذَمَّاتُ الْأَحَادِيثِ وَالْإِثْمِ

ومن شعره في غلام اسمه حمزة:

يَا مَنْ رَمَى النَّارَ فِي فُؤَادِي
وَأَنْبَطَ الْعَيْنَ بِالْبُكَاءِ
اسْمُكَ تَصْحِيفُهُ بِقَلْبِي
وَفِي ثَنَايَاكَ بُرْءُ دَائِي
ارْدُدْ سَلَامِي فَإِنَّ نَفْسِي
لَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الذِّمَاءِ
وَارْفُقْ بِصَبٍّ أَتَى ذَلِيلًا
قَدْ مَزَجَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ
أَنْهَكَهُ فِي الْهَوَى التَّجَنِّي
فَصَارَ فِي رِقَّةِ الْهَوَاءِ

وله شعر كثير، وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.

ابن الإفليلي

كان هذا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا بن مفرج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المعروف بابن الإفليلي٢٦ إمامًا من أئمة النحو واللغة، ترجمه ابن خلكان في بضعة أسطر، وذكره ابن بسام عرضًا كذلك، قال في بضعة أسطر لمناسبة تعرض ابن شهيد له في رسالة التوابع والزوابع إذ قال ابن شهيد: وأما أبو القاسم الإفليلي فإنه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل، على أنه متحامل علي، ومنتسب إليَّ … فقال ابن بسام نقلًا عن ابن حيان المؤرخ: كان ابن الإفليلي الذي به عرض قد بذَّ أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان العربي والضبط لغريب اللغة في أشعار الجاهلية والإسلام والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيورًا على ما يحمل من ذلك الفنِّ كثير الحسد فيه، راكبًا رأسه في الخطأ البيِّن إذا أنشب فيه، يجادل عليه ولا يصرفه صارف عنه، وعَدِمَ علم العروض ومعرفته مع احتياجه إليه وكمال صناعته به، فلم يكن له رسوخ فيه، وكان لحق الفتنة البربرية وَمَضَى الناس من حائر وظاعن، فازدلف إلى الأمراء الكائنين بقرطبة من آل حمود إلى أن نال الجاه، واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي بعد ابن بُرْد، فوقع كلامه نائيًا عن البلاغة؛ لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلمين، فلم يَجْرِ في أساليب الكتاب المطبوعين، فزَهد فيه، وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة إلا شَرْحه ديوان المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم والساسي والحمار وغيرهم، وطلب ابن الإفليلي وسجن بالمُطبِق، ثم أطلق … وقال ابن خلكان: كان متصدرًا بالأندلس لإقراء الأدب، وكان حافظًا للأشعار ذاكرًا للأخبار وأيام الناس، وكان عنده من أشعار أهل بلاده قطعة صالحة، وكان أشد الناس انتقادًا للكلام، صادق اللهجة، حسن المغيب، صافي الضمير، وكانت ولادته في شوال سنة ٣٥٢، وتوفي يوم السبت ١٣ ذي القعدة سنة ٤٤١، ودُفن في صحن مسجد خرب عند باب عامر بقرطبة.

الصاحب بن عباد

هو الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. قال ابن خلكان: كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما، وقال أبو منصور الثعالبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر؛ لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجَهْدُ وَصْفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه … ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله.

وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درِّها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:

وَرِثَ الْوِزَارَةَ كَابِرًا عَنْ كَابِرِ
مَوْصَولَةَ الْإِسْنَادِ بِالْإِسْنَادِ
يَرْوِي عَنِ الْعَبَّاسِ عَبَّادُ وِزَا
رَتِهِ وَإِسْمَاعِيل عَنْ عَبَّادِ

وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء؛ لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي عَلَمًا عليه.

وذكر أبو إسحاق الصابي في كتاب التاجي: أنه إنما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مؤيد الدولة بن بويه منذ الصبا، وسماه الصاحب، فاستمر عليه هذا اللقب، واشتهر به، ثم سُمي به كل من ولي الوزارة بعده، وكان أولًا وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن علي فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلًا عنده ومعظمًا نافذ الأمر، وأنشده أبو القاسم الزعفراني يومًا أبياتًا نونية من جملتها:

أَيَا مَنْ عَطَايَاهُ تُهْدِي الْغِنَى
إِلَى رَاحَتَيْ مَنْ نَأَى أَوْ دَنَا
كَسَوْتَ الْمُقِيمِينَ وَالزَّائِرِينَ
كِسًى لَمْ نَخَلْ مِثْلَهَا مُمْكِنَا
وَحَاشِيَةُ الدَّارِ يَمْشُونَ فِي
صُنُوفٍ مِنَ الْخَزِّ إِلَّا أَنَا

فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلًا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله — سبحانه وتعالى — خلق مركوبًا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخَزِّ بجبَّةٍ وقميص، وعمامة، ودُراعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمنا لباسًا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكم، واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بِغُررِ المدائح، وكان حسن الأجوبة رفع الضرابون من دار الضرب إليه رقعة في مظلمة مترجمة بالضرابين، فوقَّع تحتها: في حديد بارد. وكتب بعضهم إليه ورقة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه فوقع فيها: هذه بضاعتنا ردت إلينا. وحبس بعض عماله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يومًا فاطلع عليه فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخْسَئُوا فيها ولا تكلمون، ونوادره كثيرة.

وصنف في اللغة كتابًا سماه المحيط وهو في سبعة مجلدات رتبه على حروف المعجم كثَّر فيه الألفاظ وقلَّل الشواهد، فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الكافي في الرسائل، وكتاب الأعياد، وفضائل النيروز، وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — ويثبت إمامة من تقدمه، وكتاب الوزراء، وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته، وله رسائل بديعة ونظم جيد فمنه قوله:

وَشَادِنٍ جَمَالُهُ
تَقْصُرُ عَنْهُ صِفَتِي
أَهْوَى لِتَقْبِيلِ يَدِي
فَقُلْتُ قَبِّلْ شَفَتِي

وله في رقة الخمر:

رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتِ الْخَمْرُ
وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ
وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ

وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي: أن نوح بن منصور أحد ملوك بني سامان كتب إليه ورقة في السر يستدعيه؛ ليفوضَ إليه وزارته، وتدبير أمر مملكته، فكان من جملة أعذاره إليه: أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التحمل؟ وأخباره كثيرة.

قال ابن خلكان: وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة بأصطخر وقيل بالطالقان، وتوفي ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة بالري، ثم نقل إلى أصبهان — رحمه الله تعالى — ودفن في قبة بمحلة تعرف بباب دزيه، وهي عامرة إلى الآن، وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض.

قال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلًا يقول لي: لمَ لمْ تَرْث الصاحب مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجَمَتْني كثرة محاسنه فلم أدرِ بما أبدأ منها؟ وقد خفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، فقلت: قل، فقال:

ثَوَى الْجُودُ وَالْكَافِي مَعًا في حُفَيْرَةٍ

فقلت:

لِيَأْنَسَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَخِيهِ

فقال:

هُمَا اصْطَحَبَا حَيَّيْنِ ثُمَّ تَعَانَقَا

فقلت:

ضَجِيعَيْنِ فِي لَحْدٍ بِبَابِ دَزِيهِ

فقال:

إِذَا ارْتَحَلَ الثَّاوُونَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِمْ

فقلت:

أَقَامَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِيهِ

ذكر هذا البيَّاسي في حماسته، ورأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة، وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس وقعد للعزاء أيامًا، ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله:

أَبَعْدَ ابْنِ عَبَّادٍ يَهَشُّ إِلَى السُّرَى
أَخُو أَمَلٍ أَوْ يُسْتَمَاحُ جَوَادُ
أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَا بِمَوْتِهِ
فَمَا لَهُمَا حَتَّى الْمَعَادِ مَعَادُ

وتوفي والده أبو الحسن عباد بن العباس في سنة أربع أو خمس وثلاثين وثلاثمائة — رحمه الله تعالى — وكان وزير ركن الدولة بن بويه، وهو والد فخر الدولة ووالد عضد الدولة فناخسرو ممدوح المتنبي، وتوفي فخر الدولة في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، ومولده في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، والطَّالقاني — بفتح الطاء المهملة وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف — وبعد الألف الثانية نون: هذه النسبة إلى الطالقان، وهو اسم لمدينتين؛ إحداهما بخراسان والأخرى من أعمال قزوين، والصاحب المذكور أصله من طالقان قزوين، لا طالقان خراسان.

أبو بكر الخوارزمي

هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي — وهو كما قال ابن خلكان — ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ — قال ابن خلكان: كان أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، وكان إمامًا في اللغة والأنساب أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره، ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد وهو بأرَّجان فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب على البابِ أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وانبسط له، وأبو بكر المذكور له ديوان رسائل وديوان شعر، وقد ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة، وذكر قطعة من نثره ثم أعقبها بشيء من نظمه فمن ذلك قوله:

رَأَيْتُكَ إِنْ أَيْسَرْتَ خَيَّمْتَ عِنْدَنَا
مُقِيمًا وَإِنْ أَعْسَرْتَ زُرْتَ لمَامَا
فَمَا أَنْتَ إِلَّا الْبَدْرُ إِنْ قَلَّ ضَوْءُهُ
أَغَبَّ وَإِنْ زَادَ الضِّيَاءُ أَقَامَا

ومن شعره أيضًا:

يَا مَنْ يُحَاوِلُ صِرْفَ الرَّاحِ يَشْرَبُهَا
وَلَا يَفُكُّ لِمَا يَلْقَاهُ قِرْطَاسَا
الْكَاسُ وَالْكِيسُ لَمْ يَقْضِ امْتِلَاؤُهُمَا
فَفَرِّغِ الْكِيسَ حَتَّى تَمْلَأَ الْكَاسَا

وفيه يقول أبو سعيد أحمد بن شهيب الخوارزمي:

أَبُو بَكْرٍ لَهُ أَدَبٌ وَفَضْلُ
وَلَكِنْ لَا يَدُومُ عَلَى الْوَفَاءِ
مَوَدَّتُهُ إِذَا دَامَتْ لِخِلٍّ
فَمِنْ وَقْتِ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ

وملحه ونوادره كثيرة.

ولما رجع من الشام سكن نيسابور، ومات بها في منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه: أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راضٍ فعمل فيه:

لَا تَحْمَدَنَّ ابْنَ عَبَّادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ
يَدَاهُ بِالْجُودِ حَتَّى أَخْجَلَ الدِّيَمَا
فَإِنَّهُ خَطَرَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ
يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمَا

فبلغ ابن عباد ذلك، فلما بلغه خبر موته أنشده:

أَقُولُ لِرَكْبٍ مِنْ خُرَاسَانَ قَافِلٍ
أَمَاتَ خُوَارِزْمِيُّكُمْ قِيلَ لِي نَعَمْ
فَقُلْتُ اكْتُبُوا بِالْجَصِّ مِنْ فَوْقِ قَبْرِهِ
أَلَا لَعَنَ الرَّحْمَنُ مَنْ كَفَرَ النِّعَمْ

العميدي «صاحب الإبانة عن سرقات المتنبي»

قال ياقوت: أبو سعيد محمد بن أحمد بن محمد العَمِيدي: أديب نحوي لغوي مصنف، سكن مصر.

قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعيد العميدي: له أدبيات … مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، قال: وكان العميدي يتولى ديوان الترتيب، وعزل عنه — كما ذكر الروذباري — في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر، ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر، استخدم فيه عوضًا من ولي الدولة بن خبران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الذهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة. قال: وله تصانيف في الأدب، منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشرة مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم وعليه خطه، وقد قرئ عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةٍ، وكتاب الإرشاد إلى حَلِّ المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، وكتاب انتزاعات القرآن، وكتاب العروض، كتاب القوافي كبير.

قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود بن الدليل الصواف بمصر قال: أنشدنا أبو سعيد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:

إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرِي لَمْ أَجِدْ لِي
مَقَرَّ عِبَادَةٍ إِلَّا الْقَرَافَهْ
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمِ الْمَوْلَى اجْتِهَادِي
وَقِلَّةَ نَاصِرِي لَمْ أَلْقَ رَافَهْ

ابن وكيع

وهذا ابن وكيع هو — كما قال ابن خلكان والثعلبي — أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد الضبي، المعروف بابن وكيع التنيسي … شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بيَّنَ فيه سرقات أبي الطيب، سماه المنصف، وكان في لسانه عجمة، ومن شعره:

سَلَا عَنْ حُبِّكَ الْقَلْبُ الْمَشُوق
فَمَا يَصْبُو إِلَيْكَ وَلَا يَتُوق
جَفَاؤُكَ كَانَ عَنْكَ لَنَا عَزَاءً
وَقَدْ يُسْلِي عَنِ الْوَلَدِ الْعُقُوق

وله أيضًا:

إِنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ اللِّقَاءُ فَودُّنَا
بَاقٍ وَنَحْنُ عَلَى النَّوَى أَحْبَابُ
كَمْ قَاطِعٍ لِلْوَصْلِ يُؤْمَنُ ودُّهُ
وَمُوَاصِلٍ بِوِدَادِهِ يُرْتَابُ

وله أيضًا:

لَقَدْ شَمَتُّ بِقَلْبِي
لَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ
كَمْ لُمْتُهُ فِي هَوَاهُ
فَقَالَ لَا بُدَّ مِنْهُ

وقد ألمَّ بهذا المعنى بعضهم فقال:

لَا رَعَى اللهُ عَزْمَةً ضَمِنَتْ لِي
سَلْوَةَ الْقَلْبِ وَالتَّصَبُّرَ عَنْهُ
مَا وَفَتْ غَيْرَ سَاعَةٍ ثُمَّ عَادَتْ
مِثْلَ قَلْبِي تَقُولُ لَا بُدَّ مِنْهُ

ومثله قول أسامة بن منقذ:

لَا تَسْتَعِرْ جَلَدًا عَلَى هِجْرَانِهِمْ
فَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ صُدُودٍ دَائِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَيْهِم
طَوْعًا وَإِلَّا عُدْتَ عَوْدَةَ رَاغِمِ

وقال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ مرتضى الدين أبا الفتح نصر بن محمد بن مقلد القضاعي الشيزري المدرس كان بتربة الإمام الشافعي — رضي الله عنه — بالقرافة لابن وكيع المذكور:

لَقَدْ قَنعَتْ هِمَّتِي بِالْخُمُولِ
وَصَدَّتْهُ عَنِ الرُّتَبِ الْعَالِيَهْ
وَمَا جَهِلَتْ طَعْمَ طِيبِ الْعُلَا
وَلَكِنَّهَا تُؤْثِرُ الْعَافِيَهْ

فأنشدني لنفسه على البديهة:

بِقَدْرِ الصُّعُودِ يَكُونُ الْهُبُوطُ
فَإِيَّاكَ وَالرُّتَبَ الْعَالِيَهْ
وَكُنْ فِي مَكَانٍ إِذَا مَا سَقَطْتَ
تَقُومُ وَرِجْلَاكَ فِي الْعَافِيَهْ

ولابن وكيع أيضًا:

أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ
وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَا رَآهُ
فَقَالَ لِي: لَوْ هَوِيتَ هَذَا
مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ
قُلْ لِي إِلَى مَنْ عَدَلْتَ عَنْهُ
فَلَيْسَ أَهْلُ الْهَوَى سِوَاهُ
فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي
يَأْمُرُ بِالْحُبِّ مَنْ نَهَاهُ

قال ابن خلكان: وكنت أنشدت هذه الأبيات لصاحبنا الفقيه شهاب الدين محمد ولد الشيخ تقي الدين عبد المنعم المعروف بالخيمي، فأنشدني لنفسه في المعنى:

لَوْ رَأَى وَجْهَ حَبِيبِي عَاذِلِي
لَتَفَاصَلْنَا عَلَى وَجْهٍ جَمِيلِ

وهذا البيت من جملة أبيات، ولقد أجاد فيه وأحسن في التورية، ولابن وكيع كل معنى حسن، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بمدينة تِنِّيس، ودفن في المقبرة الكبرى في القبة التي بنيت له بها رحمه الله تعالى.

ووكيع بفتح الواو وكسر الكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، وهو لقب جده أبي بكر محمد بن خلف، وكان نائبًا في الحكم بالأهواز لعبدان الجواليقي، وكان فاضلًا نبيلًا فصيحًا من أهل القرآن والفقه والنحو والسير وأيام الناس وأخبارهم، وله مصنفات كثيرة، فمنها: كتاب الطريق، وكتاب الشريف، وكتاب عدد آي القرآن والاختلاف فيه، وكتاب الرمي والنضال، وكتاب المكاييل والموازين … وغير ذلك، وله شعر كشعر العلماء، وتوفي يوم الأحد لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ستٍّ وثلاثمائة ببغداد.

وقال ابن قانع: توفي عبدان الأهوازي سنة سبع وثلاثمائة بعسكر مكرم رحمه الله تعالى؛ والتنيسي بكسر التاء المثناة من فوقها وكسر النون المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة نسبة إلى تنيس مدينة بديار مصر بالقرب من دمياط.

الخطيب التبريزي

هو أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب، قال ابن خلكان: كانت له معرفة تامة بالأدب، من النحو واللغة وغيرهما، قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري، وأبي القاسم عبد الله بن علي الرقي، وأبي محمد الدهان اللغوي … وغيرهم من أهل الأدب، وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي، ومن أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال الساوي البغدادي، وأبي القاسم عبد الله بن علي … وغيرهم، وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي … وغيرهم من الأعيان، وتخرَّج عليه خلق كثير وتتلمذوا له، وذكره الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب الذيل وكتاب الأنساب وعدد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمَرْضِيِّ الطريقة، وذكر عنه أشياء. ثم قال: وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون فسكت عنه وكأنه ما أنكر ما قال، ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله.

وصنف في الأدب كتبًا كثيرة مفيدة: منها شرح الحماسة، وكتاب شرح ديوان المتنبي، وكتاب شرح سقط الزند وهو ديوان أبي العلاء المعري، وشرح المعلقات السبع، وشرح المفضليات، وله تهذيب غريب الحديث، وتهذيب إصلاح المنطق، وله في النحو مقدمات حسنة والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود، وله كتاب الكافي في علم العروض والقوافي، وكتاب في إعراب القرآن، سماه الملخص، رأيته في أربعة مجلدات، وشروحه لكتاب الحماسة ثلاث أكبر وأوسط وأصغر، وله غير ذلك من التآليف، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد، وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري: أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف، وأراد تحقيق ما فيها، وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري فجعل الكتاب في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوبًا فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور، وكان الخطيب قد دخل مصر في عنفوان شبابه فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات.

وكان يَرْوِي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن محيريز البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب الذيل في ترجمة الخطيب، وهي من أشهر أشعاره:

خَلِيلَيَّ مَا أَحْلَى صَبُوحِي بِدَجْلَة
وَأَطْيَبُ مِنْهُ بِالصرَاةِ غَبُوقِي
شَرِبْتُ عَلَى الْمَاءَيْنِ مِنْ مَاءِ كَرْمَةٍ
فَكَانَا كَدُرٍّ ذَائِبٍ وَعَقِيقِ
عَلَى قَمَرَيْ أُفْقٍ وَأَرْضٍ تَقَابَلَا
فَمِنْ شَائِقٍ حُلْوِ الْهَوَى وَمَشُوقِ
فَمَا زِلْتُ أَسْقِيهِ وَأَشْرَبُ رِيقَهُ
وَمَا زَالَ يَسْقِينِي وَيَشْرَبُ رِيقِي
وَقُلْتُ لِبَدْرِ التَّمِّ تَعْرِفُ ذَا الْفَتَى
فَقَالَ نَعَمْ هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي

وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه، والبيت الأخير منها يستمد من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيليه من جملة قصيدة طويلة:

سَأَلْتُ أَخَاهُ الْبَحْرَ عَنْهُ فَقَالَ لِي
شَقِيقِي إِلَّا أَنَّهُ السَّاكِنُ الْعَذْبُ

ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحهُ عليه فقال: الساكن العذب والبحر مضطرب مالح، وهذا من خالص المدح وأبدعه، وأول هذه القصيدة:

بَكَتْ عِنْدَ تَوْدِيعِي فَمَا عَلِمَ الرَّكْبُ
أَذَاكَ سَقِيطُ الطَّلِّ أَمْ لُؤْلُؤٌ رَطْبُ
وَتَابَعَهَا سَرْبٌ وَإِنِّي لِمُخْطِئٌ
نُجُومَ الدَّيَاجِي لَا يُقَالُ لَهَا سَرْبُ

وهي قصيدة طويلة، وللخطيب أيضًا:

فَمَنْ يَسْأَمْ مِنَ الْأَسْفَارِ يَوْمًا
فَإِنِّي قَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْمُقَامِ
أَقَمْنَا بِالْعِرَاقِ عَلَى رِجَالٍ
لِئَامٍ يَنْتَمُونَ إِلَى لِئَامِ

وقال الخطيب: كتب إليَّ العميد الفياض:

قُلْ لِيَحْيَى بْنِ عَلِي
وَالْأَقَاوِيلُ فُنُونْ
غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ مَنْ يَكـْ
ـذِبُ فِيهَا وَيَخُونْ
أَنْتَ عَيْنُ الْفَضْلِ إِنْ
مَدَّ إِلَى الْفَضْلِ عُيُونْ
أَنْتَ مَنْ عَزَّ بِهِ الْفَضـْ
ـلُ وَقَدْ كَادَ يَهُونْ
فُقْتَ مَنْ كَانَ وَأَتْعَبـْ
ـتَ لَعَمْرِي مَنْ يَكُونْ
قَدْ مَضَى فِيكَ قِرَانٌ
وَمَضَى قَبْل قُرُونْ
وَإِذَا قِيسَ بِكَ الكُلُّ
فَصَحْوٌ وَدُجُونْ
وَإِذَا فَتَّشَ عَنْهُمُ
فَالْأَحَادِيثُ شُجُونْ
قَدْ سَمْعِنَا وَرَأَيْنَا
فَسُهُولٌ وَحُزُونْ
وَوَزَنَّا بِكَ مَنْ كَا
نَ فَقِيلٌ وَقُيُونْ
أَيْنَ شَيْبَان وَأَزْدٌ
كُلُّ مَا زَالَ ظُنُونْ
إِنَّكَ الْأَصْلُ وَمَنْ دُو
نَكَ فِي الْعِلْمِ غُصُونْ
إِنَّكَ الْبَحْرُ وَأَعْيَا
نُ ذَوِي الْفَضْلِ عُيُونْ
لَيْسَ كَالسَّيْفِ وَإِنْ حَلَّ
فِي الْحُكْمِ جُفُونْ
لَيْسَ كَالْقَدَحِ الْمُعَلَّى
لَيْسَ كَالْبَيْتِ الْحَجُونْ
لَيْسَ كَالْجِدِّ وَإِنْ آ
نَسَ هَزْلٌ وَمُجُونْ
لَيْسَ فِي الْحُسْنِ سَوَاء
أَبَدًا بِيضٌ وَجُونْ
لَيْسَ كَالْأَبْكَارِ فِي اللُّطـ
ـفِ وَإِنْ رَاقَتْكَ عُونْ
قُلْتُ لِلْحُسَّادِ كُونُوا
كَيْفَ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونُوا
سَبَقَ الزَّائِدُ بِالْفَضْلِ
فَعَزُّوا أَوْ فَهُونُوا
دُمْتَ مَا خَالَفَ فِي
الْحَدِّ حَرَاكٌ وَسُكُونْ
وَتَلَقَّاكَ الْمُنَى مَا
قَرَّ بِالطَّيْرِ الْوُكُونْ
إِنَّ وُدِّي لَكَ عَمَّا
يَصِمُ الْوُدَّ مَصُونْ
لَيْسَ لِي فِيهِ ظُهُورٌ
تَتَنَافَى أَوْ بُطُونْ
بَلْ لِقَلْبِي فِيكَ صَبٌّ
بَالْمُصَافَاةِ يَكُونْ
غَلقَ الرَّهْنُ وَقَدْ تغـْ
ـلَقُ فِي الْحُبِّ رُهُونْ
وَمِنَ النَّاسِ أَمِينٌ
فِي هَوَاهُ وَخَئُونْ

وقال ابن الجواليقي: قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا: فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات:

قُلْ لِلْعَمِيدِ أَخِي الْعُلَا الْفَيَّاضِ
أَنَا قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِكَ الْفَيَّاضِ
شَرَّفَتَنِي وَرَفَعْتَ ذِكْرِي بِالَّذِي
أَلْبَسْتَنِيهِ مِنَ الثَّنَا الْفَضْفَاضِ
أَلْبَسَتَنِي حُلَلَ الْقَرِيضِ تَفَضُّلًا
فَرَفَلْتُ مِنْهَا فِي عُلًا وَرِيَاضِ
إِنِّي أَتَيْتُكَ بِالْحَصَى عَنْ لُؤْلُؤٍ
أَبْرَزْتُهُ مِنْ خَاطِرٍ مُرْتَاضِ
وَبِخَاطِرِي عَنْ مِثْلِ ذَاكَ تَوَقُّفٌ
مَا إِنْ يَكَادُ يَجُودُ بِالْأبْعَاضِ
الْعَارِضُ الْبَحْرُ الْغُطَامِطُ جَدْوَلٌ
أَمْ دُرَّةٌ تَنْقَاسُ بِالرضْرَاضِ
يَا فَارِسَ النَّظْمِ الْمُرَصَّعِ جَوْهَرًا
وَالنَّثْرِ يَكْشِفُ غُمَّةَ الْأَمْرَاضِ
يَرْمِي بِهِ الْغَرَضَ الْبَعِيدَ وَقَدْ غَدَا
فِكْرِي يُقَصِّرُ عَنْ مَدَى الْأَغْرَاضِ
لَا تُلْزِمَنِّي مِنْ ثَنَائِكَ مُوْجِبًا
حَقًّا فَلَسْت لِحَقِّهِ بِالْقَاضِي
فَلَقَدْ عَجَزْتُ عَنِ الْقَرِيضِ وَرُبَّمَا
أَعْرَضْتُ عَنْهُ أَيَّمَا إِعْرَاضِ
أَنْعِمْ عَلَيَّ بِبَسْطِ عُذْرِيَ إِنَّنِي
أَقْرَرْتُ عِنْدَ نَدَاكَ بِالْإِنْفَاضِ

وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز — رحمه الله تعالى — وبسطام بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم.

العكبري

أما الإمام العُكبَرِي فهو أبو البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الأصل البغدادي المولد والدار الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير الملقب محب الدين، أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وعن غيره من مشايخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن البطي ومن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهما، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه، وكان الغالب عليه علم النحو، وصنف فيه مصنفات مفيدة، وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وديوان المتنبي، وله كتاب إعراب القرآن الكريم في مجلدين، وكتاب إغراب الحديث لطيف، وكتاب شرح اللُّمع لابن جِنِّي، وكتاب اللباب في علل النحو، وكتاب إعراب شعر الحماسة، وشرح المفصَّل للزمخشري شرحًا مستوفى، وشرح الخطب النُّباتِية والمقامات الحريرية، وصنف في النحو والحساب، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد وهو حي وبعُدَ صيته، وكانت ولادته سنة ثمانٍ وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى.

والعكبري بضم العين المهملة وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة وبعدها راء، هذه النسبة إلى عُكْبَرا وهي بليدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم.

ابن الشجري

هو الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي. قال ابن خلكان: كان إمامًا في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل متضلعًا من الأدب صنَّف فيه عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب الأمالي، وهو أكبر تآليفه وأكثرها إفادة أملاه في أربعة وثمانين مجلسًا، وهو يشتمل على فؤاد جمة من فنون الأدب، وختمه بمجلس قَصَرَه على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها، وذكر ما قاله الشراح فيها، وزاد من عنده ما سنَحَ له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبد الله المعروف بابن الخشاب والتمس فيه سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه وردَّ عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الردِّ فردَّ عليه في رده وبين وجوه غلطه وجمعه كتابًا وسماه الانتصار، وهو على صغر حجمه مفيد جدًّا وسمعه عليه الناس، وجمع أيضًا كتابًا سماه الحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف: ما اتفق لفظه واختلف معناه، وشرح اللمع لابن جني، وشرح التصريف الملوكي، وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحًا جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن شهاب الكاتب وغيرهما، وذكره الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب الذيل وقال: اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئًا من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه، وقرأت عليه جزءًا من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي.

وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي في كتابه الذي سماه مناقب الأدباء: أن العلامة أبا القاسم محمودًا الزمخشري لما قدم بغداد قاصدًا الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري فمضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:

وَأَسْتَكْبِرُ الْأَخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الْخَبَرَ الْخُبْرُ

ثم أنشده بعد ذلك:

كَانَتْ مُسَاءَلَةُ الرُّكْبَانِ تُخْبِرُنَا
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاح أَحْسَنَ الْخَبَرِ
ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَلَا وَاللهِ مَا سَمِعَتْ
أُذُنِي بِأَحْسَنَ مِمَّا قَدْ رَأَى بَصَرِي

وهذان البيتان منسوبان إلى أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي، وينسبان إلى غيره أيضًا؛ قال ابن الأنباري: فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: «يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي، غيرك.» قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي؟ وكان ابن الشجري نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر وله شعر حسن، فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي بن محمد بن جهير وأولها:

هَذِي السديرَةُ وَالْغَدِيرُ الطَّافِحُ
فَاحْفَظْ فُؤَادَكَ إِنَّنِي لَكَ نَاصِحُ
يَا سِدْرَةَ الْوَادِي الَّذِي إِنْ ضَلَّهُ الـ
ـسَّارِي هَدَاهُ نَشْرُهُ الْمُتَفَاوِحُ
هَلْ عَائِدٌ قَبْلَ الْمَمَاتِ لِمُغْرَمٍ
عَيْشٌ تَقَضَّى فِي ظِلَالِكَ صَالِحُ
مَا أَنْصَفَ الرَّشَأُ الضَّنِينُ بِنَظْرَةٍ
لَمَّا دَعَا مُضْنَى الصَّبَابَةِ طَامِحُ
شَطَّ الْمَزَارُ بِهِ وَبُوِّئَ مَنْزِلًا
بِصَمِيمِ قَلْبِكَ فَهْوَ دَانٍ نَازِحُ
غُصْنٌ يُعَطِّفُهُ النَّسِيمُ وَفَوْقَهُ
قَمَرٌ يَحُفُّ بِهِ ظَلَامٌ جَانِحُ
وَإِذَا الْعُيُونُ تَسَاهَمَتْهُ لِحَاظُهَا
لَمْ يَرْوِ مِنْهُ النَّاظِرُ الْمُتَرَوِاحُ
وَلَقَدْ مَرَرْنَا بِالْعَقِيقِ فَشَاقَنَا
فِيهِ مَرَاتِعُ لِلْمَهَا وَمَسَارِحُ
ظَللْنَا بِهِ نَبْكِي فَكَمْ مِنْ مُضْمَرٍ
وَجْدًا أَذَاعَ هَوَاهُ دَمْعٌ سَافِحُ
بَرَتِ السُّنُونُ رُسُومَهَا فَكَأَنَّمَا
تِلْكَ الْعِرَاصُ الْمُقْفِرَاتُ نَوَاضِحُ
يَا صَاحِبَيَّ تَأَمَّلَا حُيِّيتُمَا
وَسَقَى دِيَارَكُمَا الْمُلِثُّ الرَّائِحُ
أَدُمًى بَدَتْ لِعُيُونِنَا أَمْ رَبْرَبٌ
أَمْ خُرَّدٌ أَكْفَالُهُنَّ رَوَاجِحُ
أَمْ هَذِهِ مُقَلُ الصَّوَارِ رَنَتْ لَنَا
خِلَلَ الْبَرَاقِعِ أَمْ قَنًا وَصَفَائِحُ
لَمْ يَبْقَ جَارِحَةٌ وَقَدْ وَاجَهْنَنَا
إِلَّا وَهُنَّ لَهَا بِهِنَّ جَوَارِحُ
كَيْفَ ارْتِجَاعُ الْقَلْبِ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى
وَمِنَ الشَّقَاوَةِ أَنْ يُرَاضَ الْقَارِحُ
لَوْ بَلَّهُ مِنْ مَاءِ ضَارِجِ شَرْبَةٍ
مَا أَثَّرَتْ لِلْوَجْدِ فِيهِ لَوَاقِحُ

ومن ها هنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه؛ لتستدل به على طريقته فيه، ومن شعره أيضًا:

هَلِ الْوَجْدُ خَافٍ وَالدُّمُوعُ شُهُودُ
وَهَلْ مُكَذِّبٌ قَوْلَ الْوُشَاةِ جُحُودُ
وَحَتَّى مَتَى تُفْنِي شُئُونَكَ بِالْبُكَا
وَقَدْ حَدَّ حَدًّا لِلْبُكَاءِ لَبِيدُ
وَإِنِّي وَإِنْ خَفَّتْ قَنَاتِيَ كبْرَةً
لَذُو مِرَّةٍ فِي النَّائِبَاتِ جَلِيدُ

وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري، وهي:

تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشُ أَبُوهُمَا
وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
فَقُومَا فَنُوحَا بِالَّذِي تَعْلَمَانِهِ
وَلَا تَخْمِشَا وَجْهًا وَلَا تَحْلِقَا شَعَرْ
وَقُولَا هُوَ الْمَرْءُ الَّذِي لَا صَدِيقَهُ
أَضَاعَ وَلَا خَانَ الْعُهُودَ وَلَا غَدَرْ
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ

وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله:

ظَعَنُوا فَكَانَ بُكَاءُ حَوْلٍ بَعْدَهُمْ
ثُمَّ ارْعَوَيْتُ وَذَاكَ حُكْمُ لَبِيدِ

وقال الشريف أبو السعادات المذكور، أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي لنفسه:

إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ مَلِكًا مُطَاعًا
فَكُنْ عَبْدًا لِمَالِكِهِ مُطِيعَا
وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الدُّنْيَا جَمِيعًا
كَمَا تَهْوَاهُ فَاتْرُكْهَا جَمِيعَا
هُمَا سَبَبَانِ مِنْ مُلْكٍ وَتَرْكٍ
يُنِيلَانِ الْفَتَى الشَّرَفَ الرَّفِيعَا
فَمَنْ يَقْنَعْ مِنَ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ
سِوَى هَذَيْنِ عَاشَ بِهَا وَضِيعَا

وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن حكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله:

يَا سَيِّدِي وَالَّذِي يُعِيذُكَ مِنْ
نَظْمِ قَرِيضٍ يَصْدَا بِهِ الْفِكْرُ
مَا لَكَ مِنْ جَدِّكَ النَّبِيِّ سِوَى
أَنَّكَ مَا يَنْبَغِي لَكَ الشِّعْرُ

وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى.

والشجري بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء: هذه النسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشجرة أيضًا اسم رجل قد سمَّت به العرب ومن بعدها، وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم، ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما، هل هو نسبة إلى القرية أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة؟ والله أعلم.

القاضي الجرجاني

هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، قال ياقوت: كان أريبًا أديبًا كاملًا، مات بالرَّيِّ يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وهو قاضي القضاة بالري حينئذ، وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال: ورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة مع أخيه أبي بكر، وأخوه إذ ذاك فقيهٌ مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحُلُم، فسمعا معًا الحديث الكبير، ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذُكِرَ في الدنيا،٢٧ وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبو علي القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة، وأبو الفضل العارض، راجِلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي، فاستدعي من قزوين وولي قضاء القضاة بالري، وله يقول الصاحب بن عباد، وقد أنشأ عهدًا للقاضي عبد الجبار على قاضي الري:
إِذَا نَحْنُ سَلَّمْنَا لَكَ الْعِلْمَ كُلَّهُ
فَدَعْنَا وَهَذِي الْكُتْبَ نُحْسِنْ صُدُورَهَا
فَإِنَّهُمُ لَا يَرْتَضُونَ مَجِيئَنَا
بِجَزَعٍ إِذَا نَظَّمْتَ أَنْتَ شُذُورَهَا٢٨
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به٢٩ وشمخ بأنفه بالانتماء إليه، وطوف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقي مشايخ وقته وعلماء عصره، وله رسائل مدونة، وأشعار مُفنَّنَة، وكان جيد الخط مليحًا يشبه بخط ابن مقلة، ومن شعره:
أَفْدِي الَّذِي قَالَ وَفِي كَفِّهِ
مِثْلُ الَّذِي أَشْرَبُ مِنْ فِيهِ
الْوَرْدُ قَدْ أَيْنَعَ فِي وَجْنَتِي
قُلْتُ: فَمِي بِاللَّثْمِ يَجْنِيهِ

ومنه:

يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٍ وَإِنَّمَا
رَأَوْا رَجُلًا فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ
وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أَكْرَمَا
وَمَا زِلْتُ مُنْحَازًا بِعِرْضِيَ جَانِبًا
مِنَ الذَّمِّ أَعْتَدُّ الصِّيَانَةَ مَغْنَمَا
إِذَا قِيلَ هَذَا مَشْرَبٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى
وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي
وَلَا كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا
بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي
لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً؟
إِذَنْ فَابْتِيَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ
وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ تَعَظَّمَا
وَلَكِنْ أَذَلوهُ جَهَارًا وَدَنَّسُوا
مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا

ومنه:

وَقَالُوا: اضْطَرِبْ فِي الْأَرْضِ فَالرِّزْقُ وَاسِعُ
فَقُلْتُ: وَلَكِنْ مَطْلَبُ الرِّزْقِ ضَيِّقُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ حُرٌّ يُعِينُنِي
وَلَمْ يَكُ لِي كَسْبٌ فَمِنْ أَيْنَ أُرْزَقُ؟

ومنه:

أُحِبُّ اسْمَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَسَمِيَّهُ
وَيَتْبَعُهُ فِي كُلِّ أَخْلَاقِهِ قَلْبِي
وَيَجْتَازُ بِالْقَوْمِ الْعِدَا فَأُحِبُّهُمْ
وَكُلُّهُمْ طَاوِي الضِّمِيرِ عَلَى حَرْبِي

ومنه:

قَدْ بَرَّحَ الشَّوقُ بِمُشْتَاقِكْ
فَأَوْلِهِ أَحْسَنَ أَخْلَاقِكْ
لَا تَجْفُهُ وَارْعَ لَهُ حَقَّهُ
فَإِنَّهُ خَاتَمُ عُشَّاقِكْ

وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القرآن المجيد، كتاب تهذيب التاريخ، كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور:

أَيَا قَاضِيًا قَدْ دَنَتْ كُتْبُه
وَإِنْ أَصْبَحَتْ دَارُهُ شَاحِطَهْ
كِتَابُ الْوَسَاطَةِ فِي حُسْنِهِ
لِعِقْدِ مَعَالِيكَ كَالْوَاسِطَهْ

ومن شعره:

وَمَا تَطَعَّمْتُ لَذَّةَ الْعَيْشِ حَتَّى
صِرْتُ لِلْبَيْتِ وَالْكِتَابِ جَلِيسَا
لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ عِنْدِي مِنَ الْعِلـْ
ـمِ فَلَمْ أَبْتَغِي سِوَاهُ أَنِيسَا!
إِنَّمَا الذُّلُّ فِي مُخَالَطَةِ النَّا
سِ فَدَعْهُمْ وَعِشْ عَزِيزًا رَئِيسَا

ومن سائر شعره قوله:

إِذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا
عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا
عَلَيْكَ وَإِنْظَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ
فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ

وحدث الثعالبي عن أبي نصر التهذيبي قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يومًا من دار الصاحب وذلك قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:

يَا أَيُّهَا الْقَاضِي الَّذِي نَفْسِي لَهُ
مَعَ قُرْبِ عَهْدِ لِقَائِهِ مُشْتَاقَهْ
أَهْدَيْتُ عِطْرًا مِثْلَ طِيبِ ثَنَائِهِ
فَكَأَنَّمَا أُهْدِي لَهُ أَخْلَاقَهْ

قال وسمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه لي بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يومًا من فرط تحفيه بي وتواضعه لي؛ فأنشدني:

أَكْرِمْ أَخَاكَ بِأَرْضِ مَوْلِدِهِ
وَأَمِدَّهُ مِنْ فِعْلِكَ الْحَسَنِ
فَالْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَسٌ
وَأَعَزُّهُ مَا نِيلَ فِي الْوَطَنِ

ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية فقلت: لعل مولانا يريد قولي:

وَشَيَّدْتُ مَجْدِي بَيْنَ قَوْمِي فَلَمْ أَقُلْ
أَلَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ صَنِيعِي

فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قال الثعالبي: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز، حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري: وينظم عقد الإتقان، والإحسان في كل ما يتعاطاه، «وأنشد بيت الصاحب المقدم ذكره» وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء عَلَمًا، وفي الكمال عالمًا، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلًّا بعيدًا في رفعته، قريبًا في أسرته، وسير فيه قصائد أخلصت على قَصْد، وفرائد أتت من فردٍ، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، من الولاية والعُطْلة، وترقى محله إلى قضاء القضاة بالري، فلم يعزله إلا موته، رحمه الله تعالى.

وعرض عليٌّ أبو نصر المصعبي كتابًا للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب، في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصيد والتشبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش — دام علوه — من كتبي ما أعلم أني لم أؤَدِّ فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل، وتكشف عن أنَّه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني: فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيمًا وظاعنًا ومسافرًا وقاطنًا، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام. فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده؛ فإن عنَّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله؛ ليتعجل انكفاؤه إليَّ بما رسم — أدام الله أيامه — من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بَذْرَقةٍ٣٠ إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتعرف النهج فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده فإني ما غاب كالمضلِّ الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.

ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي، عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسن وأبدع، وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ، وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح.

وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما، ومن شعره:

اُنْثُرْ عَلَى خَدِّيَ مِنْ وَرْدِكْ
أَوْدَعْ فَمَنْ يَقْطِفْهُ مِنْ خَدِّكْ
اِرْحَمْ قَضِيبَ الْبَانِ وَارْفُقْ بِهِ
قَدْ خِفْتُ أَنْ يَنْقَدَّ مِنْ قَدِّكْ
وَقُلْ لِعَيْنَيْكَ، بِنَفْسِي هُمَا
يُخَفِّفَانِ السُّقْمَ عَنْ عَبْدِكْ

وله:

وَفَارَقْتُ حَتَّى مَا أُسرُّ بِمَنْ دَنَا
مَخَافَةَ نَأْيٍ أَوْ حِذَارَ صُدُودِ
فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَقُولُ لِمُقْلَتِي
وَقَدْ قَربوا — خَوْفَ التَّبَاعُدِ — جُودِي
فَلَيْسَ قَرِيبًا مَنْ يُخَافُ بِعَادُهُ
وَلَا مَنْ يُرَجَّى قُرْبُهُ بِبَعِيدِ

وله يستطرد:

مَنْ عَاذِرِي مِنْ زَمَنٍ ظَالِمِ
لَيْسَ بِمُسْتَحْيٍ وَلَا رَاحِمِ؟
يَفْعَلُ بِالْإِخْوَانِ أَحْدَاثَهُ
فِعْلَ الْهَوَى بِالدَّنِفِ الْهَائِمِ
كَأَنَّمَا أَصْبَحَ يَرْمِيهِمُ
عَنْ جَفْنِ مَوْلَايَ أَبِي الْقَاسِمِ

وقال يذكر بغداد ويتشوقها:

يَا نَسِيمَ الْجَنُوبِ بِاللهِ بَلِّغْ
مَا يَقُولُ الْمُتَيَّمُ الْمُسْتَهَامُ
قُلْ لِأَحْبَابِهِ فِدَاكُمْ فُؤَادٌ
لَيْسَ يَسْلُو وَمُقْلَةٌ لَا تَنَامُ
بِنْتُمْ فَالرُّقَادُ عِنْدِي سُهَادٌ
مُذْ نَأَيْتُمْ وَالْعَيْشُ عِنْدِي لِمَامُ
فَعَلَى الْكَرْخِ فَالْقَطِيعَةِ فَالشَّطِّ
فَبَابِ الشَّعِيرِ مِنِّي السَّلَامُ
يَا دِيَارَ السُّرُورِ لَا زَالَ يَبْكِي
بِكَ فِي مَضْحَكِ الرِّيَاضِ غَمَامُ
رُبَّ عَيْشٍ صَحِبْتُهُ فِيكَ غَضٍّ
وَجُفُونِ الْخُطُوبِ عَنِّي نِيَامُ
فِي لَيَالٍ كَأَنَّهُنَّ أَمَانٌ
مِنَ زَمَانٍ كَأَنَّهُ أَحْلَامُ
وَكَأَنَّ الْأَوْقَاتَ فِيهَا كُئُوسٌ
دَائِرَاتٌ وَأُنْسُهُنَّ مُدَامُ
زَمَنٌ مُسْعِدٌ وَإِلْفٌ وَصُولُ
وَمُنًى يَسْتَلِذُّهَا الْأَوْهَامُ
كُلُّ أُنْسٍ وَلَذَّةٍ وَسُرُورٍ
بَعْدَمَا بِنْتُمْ عَلَيَّ حَرَامُ

وله في ذلك:

سَقَى جَانِبَيْ بَغْدَادَ أَخْلَافُ مُزْنَةٍ
تُحَاكِي دُمُوعِي صَوْبَهَا وَانْحِدَارَهَا
فَلِي مِنْهُمَا قَلْبٌ شَجَانِي اشْتِيَاقُهُ
وَمُهْجَةُ نَفْسٍ مَا أَمَلُّ ادِّكَارَهَا
سَأَغْفِرُ لِلْأَيَّامِ كُلَّ عَظِيمَةٍ
لَئِنْ قَربتْ بَعْدَ الْبعَادِ مَزارها

وله في ذلك:

أَرَاجِعَةٌ تِلْكَ اللَّيَالِي كَعَهْدِهَا
إِلَى الْوَصْلِ أَمْ لَا يُرْتَجَى لِي رُجُوعُهَا؟
وَصُحْبَةُ أَحْبَابٍ لَبِسْتُ لِفَقْدِهِمْ
ثِيَابَ حِدَادٍ يُسْتَجَدُّ خَلِيعُهَا
إِذَا لَاحَ لِي مِنْ نَحْوِ بَغْدَادَ بَارِقٌ
تَجَافَتْ جُفُونِي وَاسْتُطِيرَ هُجُوعُهَا!
وَإِنْ أَخْلَفَتْهَا الْغَادِيَاتُ رُعُودَهَا
تَكَلَّفَ تَصْدِيقَ الْغَمَامِ دُمُوعُهَا
سَقَى جَانِبَيْ بَغْدَادَ كُلُّ غَمَامَةٍ
يُحَاكِي دُمُوعَ الْمُسْتَهَامِ هُمُوعُهَا
مَعَاهِدَ مِنْ غِزْلَانِ أُنْسٍ تَحَالَفَتْ
لَوَاحِظُهَا أَلَّا يُدَاوَى صَرِيعُهَا
بِهَا تَسْكُنُ النَّفْسُ النَّفُورُ وَيَغْتَدِي
بِآنَسَ مِنْ قَلْبِ الْمُقِيمِ نَزِيعُهَا
يَحِنُّ إِلَيْهَا كُلُّ قَلْبٍ كَأَنَّمَا
يُشَادُ بِحَبَّاتِ الْقُلُوبِ رُبُوعُهَا
فَكُلُّ لَيَالِي عَيْشِهَا زَمَنُ الصِّبَا
وَكُلُّ فُصُولِ الدَّهْرِ فِيهَا رَبِيعُهَا

وله في ذلك:

بِجَانِبِ الْكَرْخِ مِنْ بَغْدَادَ لِي سَكَنٌ
لَوْلَا التَّحَمُّلُ لَمْ أَنْفَكَّ أَنْدُبُهُ
وَصَاحِبٌ مَا صَحِبْتُ الصَّبْرَ مُذْ بَعُدَتْ
دِيَارُهُ وَأرَانِي لَسْتُ أَصْحَبُهُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ لِعَيْنِي مَا يُؤَرِّقُهَا
مِنْ ذِكْرِهِ وَلِقَلْبِي مَا يُعَذِّبُهُ
مَا زَالَ يُبْعِدُنِي عَنْهُ وَأَتْبَعُهُ
وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ظُلْمِي وَأَعْتِبُهُ
حَتَّى أَوَتْ لِيَ النَّوَى مِنْ طُولِ جَفْوَتِهِ
وَسَهَّلَتْ لِي سَبِيلًا كُنْتُ أَرْهَبُهُ
وَمَا الْبِعَادُ دَهَانِي بَلْ خَلَائِقُهُ
وَلَا الْفِرَاقُ شَجَانِي بَلْ تَجَنُّبُهُ

وله في التخلص:

أَوَمَا انْثَنَيْتَ عَنِ الْوَدَاعِ بِلَوْعَةٍ
مَلَأَتْ حَشَاكَ صَبَابَةً وَغَلِيلَا؟
وَمَدَامِعٍ تَجْرِي فَتَحْسَبُ أَنَّ فِي
آمَاقِهِنَّ بَنَانَ إِسْمَاعِيلَا

وله من قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:

وَلَمَّا تَدَاعَتْ لِلْغُرُوبِ شُمُوسُهُمْ
وَقُمْنَا لِتَوْدِيعِ الْفَرِيقِ الْمُغَرِّبِ
تَلَقَّيْنَ أَطْرَافَ السُّجُوفِ بِمُشْرِقٍ
لَهُنَّ وَأَعْطَافَ الْخُدُورِ بِمُغْرِبِ
فَمَا سِرْنَ إِلَّا بَيْنَ دَمْعٍ مُضَيَّعٍ
وَلَا قُمْنَ إِلَّا بَيْنَ قَلْبٍ مُعَذَّبِ
كَأَنَّ فُؤَادِي قِرْنُ قَابُوسَ رَاعَهُ
تُلَاعِبُهُ بِالْفَيْلَقِ الْمُتَنَاشِبِ

وله في الصاحب من قصيدة:

وَمَا بَالُ هَذَا الدَّهْرِ يَطْوِي جَوَانِحِي
عَلَى نَفْسِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ كَئِيبِ
تَقَسَّمُنِي الْأَيَّامُ قِسْمَةَ جَائِرٍ
عَلَى نَضْرَةٍ مِنْ حَالِهَا وَشُحُوبِ
كَأَنِّيَ فِي كَفِّ الْوَزِيرِ رَغِيبَةٌ
تُقَسَّمُ فِي جَدْوَى أَغَرَّ وَهُوبِ

وله من قصيدة في الصاحب:

وَلَا ذَنْبَ لِلْأَفْكَارِ أَنْتَ تَرَكْتَهَا
إِذَا احْتَشَدَتْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِاحْتِشَادِهَا
سَبَقْتَ بِأَفْرَادِ الْمَعَانِي وَأَلَّفَتْ
خَوَاطِرُكَ الْأَلْفَاظَ بَعْدَ شِرَادِهَا
وَإِنْ نَحْنُ حَاوَلْنَا اخْتِرَاعَ بَدِيعَةٍ
حَصَلْنَا عَلَى مَسْرُوقِهَا وَمُعَادِهَا

وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من المرض:

بِكَ الدَّهْرُ يُبْدِي ظِلَّهُ وَيَطِيبُ
وَيُقْلِعُ عَمَّا سَاءَنَا وَيَتُوبُ
وَنَحْمَدُ آثَارَ الزَّمَانِ وَرُبَّمَا
ظَللْنَا وَأَوْقَاتِ الزَّمَانِ ذُنُوبُ
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ لِلْمَكَارِمِ رَوْعَةٌ
لَهَا فِي قُلُوبِ الْمَكْرُمَاتِ وَجِيبُ؟
تَقَسَّمَتِ الْعَلْيَاءُ جِسْمَكَ كُلَّهُ
فَمِنْ أَيْنَ فِيهِ لِلسِّقَامِ نَصِيبُ؟
إِذَا أَلِمَتْ نَفْسُ الْوَزِيرِ تَأَلَّمَتْ
لَهَا أَنْفُسٌ تَحْيَا بِهَا وَقُلُوبُ
وَوَاللهِ لَا لَاحَظْتُ وَجْهًا أحبه
حَيَاتِي وَفِي وَجْهِ الْوَزِيرِ شُحُوبُ
وَلَيْسَ شُحُوبًا مَا أَرَاهُ بِوَجْهِهِ
وَلَكِنَّهُ فِي الْمَكْرُمَاتِ نُدُوبُ
فَلَا تَجْزَعَنْ تِلْكَ السَّمَاءُ تَغَيَّمَتْ
وَعَمَّا قَلِيلٍ تَبْتَدِي فَتَصُوبُ
تَهَلَّلَ وَجْهُ الْمَجْدِ وَابْتَسَمَ النَّدَى
وَأَصْبَحَ غُصْنُ الْفَضْلِ وَهْوَ رَطِيبُ
فَلَا زَالَتِ الدُّنْيَا بِمُلكِكَ طَلْقَةً
وَلَا زَالَ فِيهَا مِنْ ظِلَالِكَ طِيبُ

وله:

عَلَى مُهْجَتِي تَجْنِي الْحَوَادِثُ وَالدَّهْرُ
فَأَمَّا اصْطِبَارِي فَهْوُ مُمْتَنِعٌ وَعْرُ
كَأَنِّي أُلَاقِي كُلَّ يَوْمٍ يَنُوبُنِي
بِذَنْبٍ وَمَا ذَنْبِي سِوَى أَنَّنِي حُرُّ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الزَّمَانِ سِوَى الَّذِي
أَضِيقُ بِهِ ذَرْعًا فَعِنْدِي لَهُ الصَّبْرُ
وَقَالُوا: تَوَصَّلْ بِالْخُضُوعِ إِلَى الْغِنَى
وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْخُضُوعَ هُوَ الْفَقْرُ
وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَالِ بَابَانِ حَرَّمَا
عَلَيَّ الْغِنَى: نَفْسِي الْأَبِيَّةُ وَالدَّهْرُ
إِذَا قِيلَ: هَذَا الْيُسْرُ عَايَنْتُ دُونَهُ
مَوَاقِفَ خَيْرٍ مِنْ وُقُوفِي بِهَا الْعُسْرُ
إِذَا قَدَّمُوا بِالْوَفْرِ قَدَّمْتُ قَبْلَهُمْ
بِنَفْسِ فَقِيرٍ كُلُّ أَخْلَاقِهِ وَفْرُ
وَمَاذَا عَلَى مِثْلِي إِذَا خَضَعَتْ لَهُ
مَطَامِعُهُ فِي كَفِّ مَنْ حَصلَ التِّبْرُ

وله:

سَقَى الْغَيْثُ أَوْ دَمْعِي — وَقَلَّ كِلَاهُمَا —
لَهَا أَرْبُعًا، جُورُ الْهَوَى بَيْنَهَا عَدْلُ
بِحَيْثُ اسْتَرَقَّ الدِّعْصُ وَانْبَسَطَ النَّقَى
وَحَيْثُ تَنَاهَى الْحِقْفُ وَانْقَطَعَ الرَّمْلُ
أُكَثِّرُ مِنْ أَوْصَافِهَا وَهْيَ وَاحِدٌ
وَلَكِنْ أَرَى أَسْمَاءَهَا فِي فَمِي تَحْلُو
وَفِي ذَلِكَ الْخِدْرِ الْمُكَلَّلِ ظَبْيَةٌ
لِكُلِّ فُؤَادٍ عِنْدَ أَجْفَانِهَا ذَحْلُ
إِذَا خَطَرَاتُ الرِّيحِ بَيْنَ سُجُوفِهَا
أَبَاحَتْ لِطَرْفِ الْعَيْنِ مَا حَظَرَ الْبُخْلُ
تَلَقَّتْ بِأَثْنَاءِ النَّصِيفِ لِحَاظَنَا
وَقَالَتْ لِأُخْرَى: مَا لِمُسْتَهْتَرٍ عَقْلُ؟
أَفِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَمْرَحُ طَرْفُهُ
وَأَعْدَاؤُنَا حُوَلٌ وَحُسَّادُنَا قُبْلُ؟
وَمَدَّتْ لِإِسْبَالِ السُّجُوُفِ بَنَانَهَا
فَغَازَلَنَا عَنْهَا الشَّمَائِلُ وَالشَّكْلُ

أبو العلاء المعري

وهل يتوقع منا قارئ هذه التراجم أن نترجم له شاعر الحكماء وحكيم الشعراء أبا العلاء المعري، وهو أعرف من أن يعرف، وقد أحاط المتأدبون بسيرته وعبقريته علمًا؟ وحسبنا أن ننبه هنا إلى أنه ولد سنة ٣٦٣ وتوفي سنة ٤٤٩، وأنه وضع شرحًا لشعر المتنبي وسمَّاه اللامع العزيزي، واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب، وديوان البحتري، وسماه «عبث الوليد» وديوان المتنبي، وسماه معجز أحمد، وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم.

قال ابن خلكان: وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو زكريا التبريزي — أحد شراح المتنبي وقد ترجمنا له — وغيرهما، والله أعلم.

هوامش

(١) أرم الرجل إرمامًا: سكت، ويقال كلمه فما ترمرم؛ أي ما ردَّ جوابًا، وما ترمرم فلان بحرف؛ أي ما نطق، وفي حديث عائشة — رضي الله عنها: كان لآل رسول الله وحش، فإذا خرج — أي رسول الله — لعب — أي الوحش — وجاء وذهب، فإذا جاء ربض ولم يترمرم ما دام في البيت؛ أي سكن ولم يتحرك.
(٢) كان أبو علي الفارسي إمام وقته في علم النحو، ولد سنة ٢٨٨، وتوفي سنة ٣٧٧ ببغداد: وأقام بحلب عند سيف الدولة، وكان قدومه عليه سنة ٣٤١، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة بن بويه، وحظي لديه وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي في النحو، وقد صنف له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو … يحكى أنه كان يومًا في ميدان شيراز يساير عضد الدولة فقال له: لمَ انتصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيدًا؟ فقال أبو علي: بفعل مقدر، فقال له: كيف تقديره؟ فقال: أستثني زيدًا، فقال له عضد الدولة: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد؟ فانقطع أبو علي وقال له: هذا الجواب ميداني … ولما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلامًا حسنًا وحمله إليه فاستحسنه … وذكر في كتاب الإيضاح أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا …
(٣) من قصيدة يمدح بها عضد الدولة وولديه أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشعب بوان. انظر القصيدة التي مطلعها:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغَانِي
بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمَانِ
(٤) الصهباء من أسماء الخمر، والنكهة رائحة الفم.
(٥) الريق الذي يغص به.
(٦) صوح النبات: يبس وتشقق، والدوحة: الشجرة العظيمة.
(٧) الجلى: الأمر العظيم، وجمعها جلل مثل كبرى وكبر، وقلب جميع ورأي جميع ومجتمع: شديد غير منتشر، ومنشعب متفرق.
(٨) يقال حلب الدهر أشطره، مارس الأيام وخبرها، والمطو: الجد والنجاء في السير، ووان: متمهل، ونصب: تعب.
(٩) الهواجل: الصحراوات، وجائلة التصدير والحقب؛ أي ناقة هذه صفتها، ويقال: صدر بعيره إذا شده بحبل من حزامه إلى كركرته، والحقب: حبل يشد به الرحل في بطنه.
(١٠) القباء من الخيل: الخميصة البطن، والأقب: الضامر البطن، والخوصاء: الغائرة العينين، والحلس: كساء تجلل به الدابة يوضع تحت البرذعة.
(١١) الظبا: أطراف السيوف، والتوكاف: مصدر وكف يستعمل في الدمع والمطر إذا نزلا، وسمر القنا: الرماح، والزغف: الدروع، واليلب: الدروع اليمانية.
(١٢) الجحفل الجيش العظيم.
(١٣) محمرًّا سرابلها: فالسرابيل: الثياب. يقول: مضرجة بالدماء.
(١٤) المناهل: موارد الماء، والقرب: طلب الماء ليلًا.
(١٥) القساطل: جمع قسطل: الغبار المنعقد فوق الرءوس في حومة الوغى، والضغم العض أو النهش، والهزبر الضيغم الحرب: الأسد.
(١٦) تمايس: بحذف إحدى التاءين؛ أي تتمايس وتتخايل.
(١٧) اللقى: الشيء الملقى في الطريق ونحوه.
(١٨) الأرنب أو ولد البقرة الذكر والثعلب الذكر.
(١٩) السنور الذكر أو دويبة تشبهه.
(٢٠) يقال: رجل هزنبر وهنزبران؛ أي حديد وثاب.
(٢١) الذي يذهب ويجيء من غير حاجة.
(٢٢) سيمر بك في هذه الترجمة.
(٢٣) قال ابن خلكان: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المفسر المشهور: كان أوحد زمانه في علم التفسير، وكان يقال له الثعلبي والثعالبي وهو لقب له وليس بنسب، توفي سنة ٤٢٧ وهو — طبعًا — غير الثعالبي صاحب يتيمة الدهر.
(٢٤) جاء في بغية الوعاة: أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن مالك النهشلي الأديب أبو الفضل العروضي الصفار الشافعي: هو شيخ أهل الأدب في عصره، حدث عن الأصم وأبي منصور الأزهري والطبقة، وتخرج به جماعة من الأئمة منهم الواحدي … إلى أن قال: جاز السبعين في خدمة الكتب وأنفق عمره في مطالعة العلوم وتدريس مؤدبي نيسابور، ولد سنة ٣٣٤ ومات بعد سنة ٤١٦.
(٢٥) هو أبو علي الفارسي.
(٢٦) الإفليلي — بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام ثانية — هذه النسبة إلى الإفليل، وهي قرية بالشام كان أصله منها.
(٢٧) يريد إلى أن مات.
(٢٨) الجزع: الخرز اليماني.
(٢٩) أي قال: بخ بخ.
(٣٠) الخفارة في الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤