قافية التاء

وأنفذ إليه سيف الدولة قول الشاعر:

رَأَى خَلَّتِي مِنْ حَيْثُ يَخْفَى مَكَانُهَا
فَكَانَتْ قَذَى عَيْنَيْهِ حَتَّى تَجَلَّتِ١

وسأله إجازته، فقال أبو الطيب والرسول واقف ارتجالًا:

لَنَا مَلِكٌ لَا يَطْعَمُ النَّوْمَ هَمُّهُ
مَمَاتٌ لِحَيٍّ أَوَ حَيَاةٌ لِمَيِّتِ٢
وَيَكْبُرُ أَنْ تَقْذَى بِشَيْءٍ جُفُونُهُ
إِذَا مَا رَأَتْهُ خَلَّةٌ بِكَ فَرَّتِ٣
جَزَى اللهُ عَنِّي سَيْفَ دَوْلَةِ هَاشِمٍ
فَإِنَّ نَدَاهُ الْغَمْرَ سَيْفِي وَدَوْلَتِي٤

وقال في صباه عند وداعه بعض الأمراء:

اُنْصُرْ بِجُودِكَ أَلْفَاظًا تَرَكْتُ بِهَا
فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَنْ عَادَاكَ مَكْبُوتَا٥
فَقَدْ نَظَرْتُكَ حَتَّى حَانَ مُرْتَحَلِي
وَذَا الْوَدَاعُ فَكُنْ أَهْلًا لِمَا شِيتَا٦

وقال مرتجلًا يَمدح بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي:

فَدَتْكَ الْخَيْلُ وَهْيَ مُسَوَّمَاتُ
وَبِيضُ الْهِنْدِ وَهْيَ مُجَرَّدَاتُ٧
وَصَفْتُكَ فِي قَوافٍ سَائِرَاتٍ
وَقَدْ بَقِيَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ صِفَاتُ٨
أَفَاعِيلُ الْوَرَى مِنْ قَبْلُ دُهْمٌ
وَفِعْلُكَ فِي فِعَالِهِمِ شِيَاتُ٩

وقال يمدح أبا أيوبَ أحمدَ بن عمران:

سِرْبٌ مَحَاسِنُهُ حُرِمْتُ ذَوَاتِهَا
دَانِي الصِّفَاتِ بَعِيدُ مَوْصُوفَاتِهَا١٠
أَوْفَى فَكُنْتُ إِذَا رَمَيْتُ بِمُقْلَتِي
بَشَرًا رَأَيْتُ أَرَقَّ مِنْ عَبَرَاتِهَا١١
يَسْتَاقُ عِيسَهُمُ أَنِينِي خَلْفَهَا
تَتَوَهَّمُ الزَّفَرَاتِ زَجْرَ حُدَاتِهَا١٢
وَكَأَنَّهَا شَجَرٌ بَدَتْ لَكِنَّهَا
شَجَرٌ جَنَيْتُ الْمَوْتَ مِنْ ثَمَرَاتِهَا١٣
لَا سِرْتِ مِنْ إِبِلٍ لَوْ انِّي فَوْقَهَا
لَمَحَتْ حَرَارَةَ مَدْمَعَيَّ سِمَاتِهَا١٤
وَحَمَلْتُ مَا حُمِّلْتِ مِنْ هَذِي الْمَهَا
وَحَمَلْتِ مَا حُمِّلْتُ مِنْ حَسَرَاتِهَا١٥
إِنِّي عَلَى شَغَفِي بِمَا فِي خُمْرِهَا
لَأَعَفُّ عَمَّا فِي سَرَاوِيلَاتِهَا١٦
وَتَرَى الْفُتُوَّةَ وَالْمُرُوَّةَ وَالْأُبُوَّ
ةَ فِيَّ كُلُّ مَلِيحَةٍ ضَرَّاتِهَا١٧
هُنَّ الثَّلَاثُ الْمَانِعَاتِ لَذَّتِي
فِي خَلْوَتِي لَا الْخَوْفُ مِنْ تَبِعَاتِهَا١٨
وَمَطَالِبٍ فِيهَا الْهَلَاكُ أَتَيْتُهَا
ثَبْتَ الْجَنَانِ كَأَنَّنِي لَمْ آتِهَا١٩
وَمَقَانِبٍ بِمَقَانِبٍ غَادَرْتُهَا
أَقْوَاتَ وَحْشٍ كُنَّ مِنْ أَقْوَاتِهَا٢٠
أَقْبَلْتُهَا غُرَرَ الْجِيَادِ كَأَنَّمَا
أَيْدِي بَنِي عِمْرَانَ فِي جَبَهَاتِهَا٢١
الثَّابِتِينَ فُرُوسَةً كَجُلُودِهَا
فِي ظَهْرِهَا وَالطَّعْنُ فِي لَبَّاتِهَا٢٢
الْعَارِفِينَ بِهَا كَمَا عَرَفْتُهُمُ
وَالرَّاكِبِينَ جُدُودُهُمْ أُمَّاتِهَا٢٣
فَكَأَنَّمَا نُتِجَتْ قِيَامًا تَحْتَهُمْ
وَكَأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى صَهَوَاتِهَا٢٤
إِنَّ الْكِرَامَ بِلَا كِرَامٍ مِنْهُمُ
مِثْلُ الْقُلُوبِ بِلَا سُوَيْدَاوَاتِهَا٢٥
تِلْكَ النُّفُوسُ الْغَالِبَاتُ عَلَى الْعُلَى
وَالْمَجْدُ يَغْلِبُهَا عَلَى شَهَوَاتِهَا٢٦
سُقِيَتْ مَنَابِتُهَا الَّتِي سَقَتِ الْوَرَى
بِيَدَيْ أَبِي أَيُّوبَ خَيْرِ نَبَاتِهَا٢٧
لَيْسَ التَّعَجُّبُ مِنْ مَوَاهِبِ مَالِهِ
بَلْ مِنْ سَلَامَتِهَا إِلَى أَوْقَاتِهَا٢٨
عَجَبًا لَهُ حَفِظَ الْعِنَانَ بِأَنْمُلٍ
مَا حِفْظُهَا الْأَشْيَاءَ مِنْ عَادَاتِهَا٢٩
لَو مَرَّ يَرْكُضُ فِي سُطُورِ كِتَابَةٍ
أَحْصَى بِحَافِرِ مُهْرِهِ مِيمَاتِهَا٣٠
يَضَعُ السِّنَانَ بِحَيْثُ شَاءَ مُجَاوِلًا
حَتَّى مِنَ الآذَانِ فِي أُخْرَاتِهَا٣١
تَكْبُو وَرَاءَكَ يَا ابْنَ أَحْمَدَ قُرَّحٌ
لَيْسَتْ قَوَائِمُهُنَّ مِنْ آلَاتِهَا٣٢
رِعَدُ الْفَوَارِسِ مِنْكَ فِي أَبْدَانِهَا
أَجْرَى مِنَ الْعَسَلَانِ فِي قَنَوَاتِهَا٣٣
لَا خَلْقَ أَسْمَحُ مِنْكَ إِلَّا عَارِفٌ
بِكَ رَاءَ نَفْسَكَ لَمْ يَقُلْ لَكَ هَاتِهَا٣٤
غَلِتَ الَّذِي حَسَبَ الْعُشُورَ بِآيَةٍ
تَرْتِيلُكَ السُّورَاتِ مِنْ آيَاتِهَا٣٥
كَرَمٌ تَبَيَّنَ فِي كَلَامِكَ مَاثِلًا
وَيَبِينُ عِتْقُ الْخَيْلِ فِي أَصْوَاتِهَا٣٦
أَعْيَا زَوَالُكَ عَنْ مَحَلٍّ نِلْتَهُ
لَا تَخْرُجُ الْأَقْمَارُ عَنْ هَالَاتِهَا٣٧
لَا نَعْذِلُ الْمَرَضَ الَّذِي بِكَ شَائِقٌ
أَنْتَ الرِّجَالَ وَشَائِقٌ عِلَّاتِهَا٣٨
فَإِذَا نَوَتْ سَفَرًا إِلَيْكَ سَبَقْنَهَا
فَأَضَفْتَ قَبْلَ مُضَافِهَا حَالَاتِهَا٣٩
وَمَنَازِلُ الْحُمَّى الْجُسُومُ فَقُلْ لَنَا
مَا عُذْرُهَا فِي تَرْكِهَا خَيْرَاتِهَا٤٠
وَمَنَازِلُ الْحُمَّى الْجَسُومُ فَقُلْ لَنَا
مَا عُذْرُهَا فِي تَرْكِهَا خَيْرَاتِهَا٤١
أَعْجَبْتَهَا شَرَفًا فَطَالَ وُقُوفُهَا
لِتَأَمُّلِ الْأَعْضَاءِ لَا لِأَذَاتِهَا٤٢
وَبَذَلْتَ مَا عَشِقَتْهُ نَفْسُكَ كُلَّهُ
حَتَّى بَذَلْتَ لِهَذِهِ صِحَّاتِهَا٤٣
حَقُّ الْكَوَاكِبِ أَنْ تَزُورَكَ مِنْ عَلٍ
وَتَعُودَكَ الآسَادُ مِنْ غَابَاتِهَا٤٤
وَالْجِنُّ مِنْ سُتُرَاتِهَا وَالْوَحْشُ مِنْ
فَلَوَاتِهَا وَالطَّيْرُ مِنْ وُكْنَاتِهَا٤٥
ذُكِرَ الْأَنَامُ لَنَا فَكَانَ قَصِيدَةً
كُنْتَ الْبَدِيعَ الْفَرْدَ مِنْ أَبْيَاتِهَا٤٦
فِي النَّاسِ أَمْثِلَةٌ تَدُورُ حَيَاتُهَا
كَمَمَاتِهَا وَمَمَاتُهَا كَحَيَاتِهَا٤٧
هِبْتُ النِّكَاحَ حِذَارَ نَسْلٍ مِثْلِهَا
حَتَّى وَفَرْتُ عَلَى النِّسَاءِ بَنَاتِهَا٤٨
فَالْيَوْمَ صِرْتُ إِلَى الَّذِي لَوْ أَنَّهُ
مَلَكَ الْبَرِيَّةَ لَاسْتَقَلَّ هِبَاتِهَا٤٩
مُسْتَرْخَصٌ نَظَرٌ إِلَيْهِ بِمَا بِهِ
نَظَرَتْ وَعَثْرَةُ رِجْلِهِ بِدِيَاتِهَا٥٠

هوامش

(١) الخلة: الحاجة والفقر، ويقال في الدعاء للميت: اللهم اسدد خلته: أي الثلمة التي ترك، وأصله من التخلل بين الشيئين. قال الأصمعي: يقال للرجل إذا مات له ميت اللهم اخلف على أهله، واسدد خلته؛ يراد الفرجة التي ترك بعده من الخلل الذي أبقاه في أموره، وفي المثل: الخلة تدعو إلى السلة، والسلة: السرقة، ورجل مخل ومختل وأخل وخليل: معدم فقير؛ قال زهير:
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ
يعني بالخليل المحتاج الفقير المختل الحال، والحرم: الممنوع، وقوله: من حيث يخفى مكانها: يريد من حيث لا يدركها لحاظ غيره، وقد أدمج في هذه الكلمة نزاهة نفسه وصيانة عرضه، وقوله: فكانت قذى عينيه: أبرع كلمة في معنى الاهتمام بالحاجة، وتجلت: انكشفت وزالت، والقذى: ما يقع في العين من غبار ونحوه، والبيت لعبد الله بن الزبير الأسدي، وقبله:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا مَا تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي
أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فتى غيرُ محجُوبِ الغنى عن صديقه
ولا مُظهِرُ الشكوى إذا النَّعل زَلت
(قوله سأشكر: فإن العرب تستعمل السين إذا أرادت تكرار الفعل وتأكيده ولا تريد التنفيس فيه، ولم تمنن: لم يتبعها من، وزلت نعله: يريد زلت قدمه في مزالق الدهر فلا يجد مركبًا يقيه مصرع السوء.)
قيل: إنه زار عمرو بن عثمان بن عفان يومًا، فنظر عمرو فرأى تحت ثيابه ثوبًا رثًّا، وهذا هو مغزى قوله:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فدعا وكيله وقال: اقترض لنا مالًا، فقال: هيهات، ما يعطينا التجار شيئًا. قال: فأربحهم ما شاءوا، فاقترض له عشرة آلاف درهم. فوجه بها إليه مع تخت ثياب فقال هذه الأبيات.
(٢) همه: مبتدأ، وممات: خبر، ويطعم: يذوق. يقول: لنا ملك لا يذوق النوم؛ إذ ليس بصاحب لهو، وإنما همه الحرب والجود؛ فيميت بقتاله الأعداء، ويحيي بنواله الأولياء.
(٣) هذا كالرد على قوله: فكانت قذى عينيه. يقول: هو أكبر من أن تقذه جفونه — أي يتأذى بشيء — فمتى رأته خلة فرت وزالت ولا تمكث حتى يراها ويقذى بها؛ أي إن صاحب الخلة متى رأى هذا الملك — سيف الدولة — استغنى بتأميله قبل أن يرى خلته، ومن ثم كان أكبر من أن يرى شيئًا يتأذى به.
(٤) حذف مفعول جزى للتعميم؛ أي جزاه عني كل خير، ونداه؛ أي جوده، والغمر: الكثير، وماء غمر: كثير مغرق، ويقال رجل غمر الرداء وغمر الخلق: أي واسع الخلق كثير المعروف سخي، وإن كان رداؤه صغيرًا قال كثير:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا
غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ
وكله على المثل.
(٥) مكبوتًا: ذليلًا. قال الجوهري: الكبت: الصرف والإذلال. يقال: كبت الله العدو؛ أي صرفه وأذله، وكبته؛ أي صرعه لوجهه، وفي القرآن الكريم: كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، وفيه أيضًا: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ وقال الفراء: كبتوا أي غيظوا وأحزنوا يوم الخندق كما كبت من قاتل الأنبياء قبلهم. قال الأزهري: وقال من احتج للفراء: أصل الكبت: الكبد، فقلبت الدال تاء — أخذًا من الكبد وهو معدن الغيظ والأحقاد — فكأن الغيظ لما بلغ بهم مبلغه أصاب أكبادهم فأحرقها، ولهذا قيل للأعداء: هم سود الأكباد. يقول: انصر بعطاياك قصائدي التي مدحتك بها والتي غاظت أعداءك في الشرق والغرب حتى تركتهم أذلاء، ومن نصره إياها أن يصدقها فيما وصفه به من الجود، ويعطيه حتى يزيده منها.
(٦) نظرتك؛ أي انتظرتك، والمرتحل: الارتحال. يقول: لقد انتظرت عطاءك حتى قرب ارتحالي عنك، وهذا وقت وداعي إياك فاختر: إما أن تجود فتكون أهلًا للمدح، أو تمنع وتحرم فتكون أهلًا للذم، وهذا كقول أحمد بن أبي فنن:
حَانَ الرَّحِيلُ فَقَدْ أَوْلَيْتَنَا حَسَنًا
وَالْآنَ أَحْوَج مَا كُنَّا إِلَى زَادِ
(٧) مسومات: معلمات بعلامات تعرف بها. يقول: فدتك الخيل والسيوف في الحرب حتى تفنى هي وتبقى أنت؛ إذ يبقى الخير لنا ما بقيت.
(٨) فاعل كثرت: ضمير القوافي، وفاعل بقيت: صفات. يقول: لقد وصفتك بقصائد كثيرة، بيد أنه — مع كثرتها — بقيت صفات لك لم أُحِطْ بها.
(٩) أفاعيل: جمع أفعال، جمع فعل، والدهم: السود، والشيات: جمع شية، وهي لون يخالف بقية لون الجلد كالغرة والتحجيل. يقول: إن أفعال الناس من قبلك سود بالقياس إلى فعلك، وفعلك متميز منها تميز الشية من اللون الأسود: أو هي — أفعالهم — تتزين بفعلك تزين الأدهم بالغرة والتحجيل، كما يقول أبو تمام:
قَوْمٌ إِذَا اسْوَدَّ الزَّمَانُ تَوَضَّحُوا
فِيهَ وَغُودِرَ وَهْوَ مِنْهُمْ أَبْلَقُ
ومعنى البيت من قول أبي تمام أيضًا:
حَتَّى لَو أنَّ اللَّيَالِي صُوِّرَتْ لَغَدَتْ
أَفْعَالُهُ الْغُرُّ فِي آذَانِهَا شَنفَا
(الشنف: كفلس — وحركه ضرورة — ما يعلق في أعلى الأذن.)
(١٠) السرب: القطيع من الظباء والقطا وما إليهما، والمراد هنا: جماعة النساء، وسرب: خبر مبتدأ محذوف؛ أي الذي أشتاقه أو أصفه مثلًا، وذواتها: صواحباتها. يقول: إن هذا السرب قد حرمت ربات محاسنه لما حيل بيني وبينهن، وهو قريب الصفات؛ لأن صفاته — أي محاسنه — لا تزال نصب عيني وعلى ذكر مني، ولكن الموصوفات بهذه الصفات — أي أشخاص النساء — بعيدة عني.
(١١) أوفى؛ أي السرب؛ أي أشرف، والبشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. يقول: إن هذا السرب أشرف علي — لما سار — من مكان عالٍ، أو علا هوادجه للمسير، فكان بصري إذا وقع على بشرته رأى شيئًا أرق وألطف من دموع المقلة، ولك أن تجعل الضمير في عبراتها: للبشر، ويراد بالعبرات: العرق الذي يسيل من البشرة، ويكون المراد أنهن عرقن من الجهد والإعياء، وروى الخوارزمي: نشزا، وهو ما ارتفع من الأرض. يقول: إذا نظرت إلى النشز الذي أوفى عليه السرب رأيته لطول البعد كأنه سراب، والسراب أرق من العبرات، ويكون الضمير للمقلة.
(١٢) يستاق: يسوق، والعيس: الإبل، والحداد: الذين يسوقون الإبل. يقول: إن الإبل كانت تسمع أنيني خلفها فتسرع في سيرها؛ لأنها تظن زفراتي أصوات الحداة تزجرها لتسرع، فسائقها — على الحقيقة — أنيني وزفراتي.
(١٣) العرب تشبه الإبل عليها هوادجها بالنخل والشجر والسفن.
(١٤) يقول: كأن هذه الإبل شجر، بيد أني جنيت الموت من ثمراتها؛ لأنها كانت سبب فراق أحبته، وروى ابن جني: بلوت المر من ثمراتها، وبلوت: اختبرت وذقت، وهذا من قول أبي نواس:
لَا أَذُودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ
قَدْ بَلَوْتُ الْمُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ
لا سرت: دعاء، ومن إبل. تمييز: وقوله لمحت: من المحو، واللام: جواب لو، والمدامع في الأصل: مجرى الدمع من العين، والمراد بها هنا: الدموع، والسمات: جمع سمة، وهي أثر الكي على الجلد. يدعو على الإبل أن لا تسير؛ لأنها فرقت بينه وبين من يحب، ثم قال: ولو كنت من ركاب هذه الإبل لكانت حرارة دمعي تمحو آثار وسمها، وقوله: لوَ انِّي: حرك الواو الساكنة من لو بحركة الهمزة وحذفها، وهو كثير مستعمل في كلامهم.
(١٥) المها: بقر الوحش، والمراد: النساء الشبيهات بالمها لحسن عيونهن، وهذا دعاء أيضًا. يدعو أن يكون حاملًا ما حملته هذه الإبل من الحبائب، وأن تحمل الإبل ما حمله هو من حسرات فراقهن.
(١٦) الخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والسراويلات: جمع سراويل، فارسي معرب، وهو ذلك اللباس الذي يستر النصف الأسفل من الجسم، وقال سيبويه: سراويل واحدة، وهي أعجمية عربت، فأشبهت من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهي مصروفة في النكرة، وإن سميت بها رجلًا لم تصرفها، وكذلك إن حقرتها اسم رجل؛ لأنها مؤنث على أكثر من ثلاثة أحرف مثل عناق، ومن النحويين من لا يصرفها في النكرة، ويزعم أنها جمع سروال وسروالة، وينشد:
عَلَيْهِ مِنَ اللُّؤْمِ سِرْوَالَةٌ
فَلَيْسَ يَرِقُّ لِمُسْتَعْطِفِ
(قيل: إن هذا البيت مصنوع، وقيل قائله مجهول. قال السيرافي: سروالة: لغة في السراويل، وقوله من اللؤم: كان في الأصل صفة لسروالة. فلما قدم عليه صار حالًا منه، واللؤم: شح النفس ودناءة الآباء.)
(١٧) ويحتج في ترك صرفه بقول ابن مقبل يصف الثور الوحشي:
أَتَى دُونَهَا ذَبُّ الرِّيَادِ كَأَنَّهُ
فَتًى فَارِسِيٌّ فِي سَرَاوِيلَ رَامِحُ
(الضمير في دونها: لأنثاه، ودون: بمعنى قدام، وذب الرياد: الثور الوحشي، قال القالي: يقال فلان ذب إذا كان لا يستقر في موضع، ومنه قيل للثور الوحشي: ذب الرياد. شبه الشاعر ما على قوائم الثور الوحشي من الشعر بالسروايل — وهو من لباس الفرس — ولذا شبهه بفتى فارسي! وشبه قرنه بالرمح، ولذا قال رامح.)
قال الصاحب ابن عباد: كان الشعراء يصفون المآزر تنزيها لألفاظها عما يستشنع؛ حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع … إلى التصريح … وكثير من العهر عندي أحسن من هذا العفاف. قال بعضهم: هذا مما عابه الصاحب على المتنبي. وإنما قال المتنبي عما في سرابيلاتها؛ جمع سربال، وهو القميص، وكذا رواه الخوارزمي. يريد المتنبي: إني مع حبي لوجههن أعف عن أبدانهن، ومثله لنفطويه — أحد أئمة النحو وتلميذ ثعلب:
أَهْوَى النِّسَاءَ وَأَهْوَى أَنْ أُجَالِسَهَا
وَلَيْسَ لِي فِي خَنَا مَا بَيْنَنَا وَطَرُ
وما أروع قول العباس بن الأحنف:
لَا يُضْمِرُ السُّوءَ إِنْ طَالَ الْجُلُوسُ بِهِ
عَفُّ الضَّمِيرِ وَلَكِنْ فَاسِقُ النَّظَرِ
كل مليحة: فاعل ترى، والفتوة وما عطف عليها: مفعول أول لترى؛ وضراتها: مفعول ثانٍ، والفتوة: الكرم والسخاء، والمروة والمروءة الإنسانية، والأبوة هنا الأنفة وعزة النفس، والأبوة أيضًا: الآباء — مثل العمومة والخئولة — وكان الأصمعي يروي قول أبي ذؤيب:
لَوْ كَانَ مِدْحَةُ حَيٍّ أَنْشَرَتْ أَحَدًا
أَحْيَا أُبُوَّتَكَ الشُّمُّ الْأَمَادِيحُ
وغيره يرويه:
أَحْيَا أَبَاكُنَّ ياَ لَيْلَى الْأَمَادِيح
يقول: إن هذه المعاني تحول بينه وبين الخلوة بالحسان فكأنها ضرائر لهن، وقد زاد تبيانًا في البيت التالي.
(١٨) يقول: إن الفتوة وما بعدها هي التي تكفه عن لذاذته في خلوته لا خوفه من عواقب هذه اللذة: يعني أنه لو لم يكن للذة عواقب آثمة يخشاها؛ لاجتنبها بما طبع عليه من الفتوة والمروءة والأنفة. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: النفوس المتجوهرة تترك الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا، أقول: ولله شيخ المعرة إذ يقول — وإن كان أعم:
وَلْتَفْعَلِ النَّفْسُ الْجَمِيلَ لِأَنَّهُ
خَيْرٌ وَأَفْضَلُ لَا لِأَجْلِ ثَوَابِهَا
(١٩) الواو: واو رُبَّ، والجَنان: القلب. يقول: رب مطالب فيها الهلاك أتيتها وقلبي هو هو على حاله لم يتغير كأنني لم آتها ولم أرَ أهوالها. يصف نفسه بالشجاعة ورباطة الجأش وأنه لا يبالي الأخطار.
(٢٠) المقانب: جمع مقنب؛ الطائفة من الخيل تجتمع للغارة، وغادرتها: تركتها، وأقوات: مفعول ثانٍ لغادرتها. يقول: ورُبَّ جيش من الفرسان لقيته بمثله من صحبي فتركته قوتًا للوحوش التي كانت قوتًا له، يصيدها ويذبحها ويأكلها، وجمع الوحش على عادة العرب في أكلهم ما دب ودرج.
(٢١) أقبلتها؛ أي المقانب التي أهلكها، يقال أقبلته الشيء؛ أي وجهته إليه وجعلته قبالته مما يليه، والغرر: جمع غرة، وهي البياض يكون في وجه الفرس، والأيدي هنا النعم. شبه بياض غرر خيله بنعم الممدوحين، ويد النعمة توصف بالبياض مجازًا، وقد جرت العادة في جمع يد النعمة بالأيادي وفي يد العضو بالأيدي، ولكن المتنبي وضع هذه مكان تلك في موضعين: أحدهما هذا البيت … وقال ابن القطاع — في قوله أقبلتها غرر الجياد: جعلتها تقبل غرر جيادها التي أوصلتهم إلى أعدائهم، وشفت صدورهم منهم كأنها أيدي بني عمران المعتادة التقبيل، ويقال: أقبلت الرجل يد فلان، أي: جعلته يقبلها، وفي البيت من البديع حسن التخلص كما ترى.
(٢٢) يصفهم بالإقدام والشجاعة والحذق بركوب الخيل، يقول: إنهم يثبتون في ظهور الخيل ثبات جلودها عليها حال كونهم في معمعة الحرب والطعن متتابع في لباتها، وفروسة؛ أي حذقًا: تمييز، والثابتين: في موضع خفض على النعت أو البدل من بني عمران، ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح؛ ومن روى والطعن — بالرفع — فالواو واو الحال، ومن رواه بالخفض فمعناه يثبتون في ظهورها ثبوت الطعن، والتقدير: كجلودها وكالطعن، واللبات: جمع لبة، وهي المنحر.
(٢٣) كان الوجه أن يقول: والراكب جدودهم أماتها؛ أي والذين ركب جدودهم أماتها، إلا أن هذا على لغة من يقول: قاموا إخوتك وذهبا أخواك، والأمات: جمع أم لما لا يعقل، وتجمع للعاقل أمهات، هذا هو الغالب، ويجوز العكس. قال الواحدي: والذي يذكره الناس في معنى البيت أن هذه الخيل تعرفهم وهم يعرفونها؛ لأنها من نتائجهم تناسلت عندهم، فجدود الممدوحين كانوا يركبون أمهات هذه الخيل، وسياق الأبيات قبله يدل على أنه يصف خيل نفسه لا خيل الممدوحين بني عمران — وهو قوله: أقبلتها غرر الجياد — وإذا كان كذلك لم يستقم هذا المعنى، إلا أن يدعي مدعٍ أنه قاتل على خيل الممدوحين فإنهم يقودون الخيل إلى الشعراء. قال ابن فورجه: والذي عندي أنه يصف معرفتهم بالخيل ولا يعرفها إلا من طال مراسه له، والخيل تعرفهم أيضًا لأنهم فرسان. هذا كلامه، ولم يوضح ما وقع به الإشكال، وإنما يزول الإشكال بأن يقال الجياد اسم جنس، ففي قوله: غرر الجياد أراد جياد نفسه، وفيما بعده أراد جياد الممدوحين، والجياد تعم الخيلين جميعًا، وقوله: والراكبين جدودهم أماتها: يريد أن جدودهم كانوا من ركاب الخيل، يعني أنهم عريقون في الفروسية طالما ركبوا الخيل، فهذه الخيل مما ركب جدودهم أمهاتها، ويشبه هذا قول شيخ المعرة:
يَا ابْنَ الْأُلَى غَيْرَ زَجْرِ الْخَيْلِ مَا عَرَفُوا
إِذْ تَعْرِفُ الْعُرْبُ زَجْرَ الشَّاءِ وَالْعَكَرِ
العكر: جمع عكرة؛ القطعة من الإبل؛ أي إنهم ملوك ما اعتادوا إلا ركوب الخيل وزجرها ولم يكونوا رعاة شاء وإبل.
(٢٤) نُتجت — بالبناء للمجهول — ولدت، قال الأزهري: يقال نتجت الناقة إذا ولدت فهي منتوجة، وأنتجت إذا حملت، فهي نتوج، ولا يقال منتج، ونتجت الناقة: إذا ولدتها، والناتج للإبل كالقابلة للنساء، وعبارة الجوهري في الصحاح: نتجت الناقة على ما لم يسم فاعله تنتج، وقد نتجها أهلها نتجًا. قال الكميت:
وَقَالَ الْمُذَمِّرُ لِلنَّاتِجِينَ
متَىَ ذُمِّرَتْ قَبْلِيَ الْأَرْجُلُ
(المذمر: الذي يدخل يده في حياء الناقة؛ لينظر أذكر جنينها أم أنثى؟ سمي بذلك لأنه تلمس المذمر فيعرف ما هو، والمذمر: هو الكاهل والعنق وما حوله إلى الذفرى، وهو الذي يذمره المذمر. يقول الكميت: إن التذمير إنما هو في الأعناق لا في الأرجل.)
والنتوج من الخيل وجميع الحافر الحامل، وقد أنتجت، وبعضهم يقول: نتجت، وهو قليل؛ أما ابن الأعرابي فقد قال: نتجت الفرس والناقة: ولدت، وأنتجت: دنا ولادها، كلاهما فعل ما لم يسم فاعله، ولم أسمع نَتجت ولا أَنتجت على صيغة فعل الفاعل، والصهوة: مقعد الفارس. يقول: كأن الخيل ولدت تحتهم قائمة مستعدة للجري، وكأنهم ولدوا راكبين على ظهورها، يصفهم بطول إلفهم للفروسية وطول مراسهم ركوب الخيل.
(٢٥) السويداوات: جمع سويداء — حبة القلب — يقول: إن الكرام من الخيل إذا لم يكن عليها فرسان من هؤلاء الممدوحين كالقلب دون سوداء، وقال بعض الشراح: يعني أنهم زبدة الكرم ولبابه؛ فهم من الكرام بمنزلة السويداء من القلب.
(٢٦) يقول: إنهم يغلبون الناس على العلى فيحرزونها دونهم، والمجد يغلبهم على شهواتهم؛ فلا يمكنهم من الشهوات المركبة في بني آدم خشية العيب والشين.
(٢٧) أراد بمنابت هذه النفوس: آباء الممدوحين، وجعل أبا أيوب أكرم نبات تلك المنابت: يعني أن نفسه أشرف هذه النفوس، ولما جعلهم منابت أثبت لهم السقيا التي تحيي الأرض، وجعل النبات يسقي المنابت على عكس العادة تفننا وإغرابًا في الصنعة. يقول: إن آباء الممدوحين الذين أحيوا الناس بجودهم قد حيي مجدهم بجود هذا الممدوح الذي هو خير أبنائهم، ويروى بدل بيدي: بندى — بالنون — وعبارة ابن جني: لا أزال الله ظله عن أهله وذويه. قال ابن فورجه: ليس الغرض أن يدعو لقومه بدوام إفضاله عليهم، ولكن الغرض تعظيم شأنه وعطائه.
(٢٨) يقول: لسنا نتعجب من كثرة عطاياه ومواهبه، وإنما نتعجب كيف سلمت أمواله من بذله وتفريقه إلى وقت بذلها؟ إذ ليس من عادته أن يمسك شيئًا.
(٢٩) العنان. سير اللجام، ويروى: حفظ العنان، بإضافة حفظ إلى العنان، والبيت في معنى البيت السابق؛ يتعجب منه كيف حفظ العنان بأنمل ما عادتها أن تحفظ الأشياء؟ يريد أنه شجاع يكثر ركوب الخيل في الحرب، وأنه جواد معطاء.
(٣٠) يصفه بالفروسية، وأن فرسه يطاوعه في جميع حركاته، فلا يضع حافره إلا حيث أراد، وخص الميم؛ لأنها أشبه بالحافر من سائر حروف المعجم.
(٣١) مجاولًا: من الجولان، ويروى محاولًا: من المحاولة، وهي الطلب، والأخرات: جمع خرت، وهو الثقب. يقول: إنه من الحذق في الطعن بحيث يضع رمحه في ثقب الأذن متى أراد.
(٣٢) القرح: جمع القارح من الخيل، وهو ما أتى عليه خمس سنين، وهو إذ ذاك يكون في جن نشاطه وقوته، والضمير في آلاتها: يعود إلى القرح؛ أي إن قوائمها لا تصلح أن تكون آلات لها في لحاقك، وهذا مثل. يقول: إنك سبقت الناس في المكارم، فإذا أراد فحولهم وكبارهم اللحاق بك كبت وسقطت وراءك، ولم تستطع اللحاق بك؛ لصعوبة مسالكك، ولك أن ترجع الضمير — من آلاتها — إلى وراء، وهي مؤنثة أي ليست قوائمهن من آلات الجري وراءك، وإليك عبارات الشراح، قال ابن جني: لو تبعتك هذه القرح لكبت وراءك ولم تحملها قوائمها؛ لصعوبة مسالكك، وقال الواحدي: يجوز أن تكون الهاء عائدة إلى القرح؛ أي إنها إذا تبعتك لم تعنها قوائمها فليست من آلاتها، وهذا مثل، يريد أن الكبار والفحول إذا راموا لحاقك في مدى الكرم، عثروا وكبوا ولم يلحقوك، والمعنى أن سبيلك في العلى يخفى على من تبعك فيعثر وإن كان قويًّا كالقارح من الخيل، وقال ابن القطاع: المعنى ليست قوائم هذه الخيل من الآلات وراءك؛ أي ليست مما يكون خلفك فتطردك.
(٣٣) الرعد: جمع رعدة، والعسلان: الاهتزاز والاضطراب، والقنوات — جمع قناة — الرمح. يقول: إن الارتعاد في أبدان الفرسان من جراء خوفك أظهر وأسرع جريًا من الاهتزاز في رماحهم.
(٣٤) راء: مقلوب رأى، كما قالوا: ناء ونأى. يقول: ليس أحد أسمح منك إلا من كان عارفًا بك وبما طبعك الله عليه من الكرم والجود، ثم رآك ولم يسألك أن تهبه نفسك؛ إذ لو سألك إياها لجدت بها، فكان تركها لك جودًا عليك بها، وهذا من قول أبي تمام:
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ نَفْسِهِ
لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللهَ سَائِلُهْ
وإليك تحفة نحوية للعلامة العكبري أوردها لمناسبة قول المتنبي: لا خلق، قال العكبري: ذهب البصريون إلى النكرة التي مع لا مبنية على الفتح كقولك: لا رجل في الدار، وتقديره: لا من رجل، فلما حذفت «من» من اللفظ وركبت مع «لا» تضمنت معنى الحرف، فوجب أن يبنى، وبنيت على حركة؛ لأن لها حالة تمكن قبل البناء، وبنيت على الفتح؛ لأنه أخف الحركات، وذهب أصحابنا إلى أنها نكرة معربة منصوبة بلا، وحجتنا أنه اكتفى بها عن الفعل؛ لأن التقدير في قولك: لا رجل في الدار؛ أي لا أجد رجلًا، فاكتفوا بِلا من الفعل العامل، كقولك: إن قمت قمت وإلا فلا؛ تقديره وإن لم تقم فلا أقوم؛ فلما اكتفوا بلا من الفعل العامل؛ نصبوا النكرة به، وحذفوا التنوين بناء على الإضافة، ووجه آخر: أن «لا» تكون بمعنى غير، كقولك: زيد لا عاقل ولا جاهل؛ أي غير عاقل وغير جاهل، فلما جاءت هنا بمعنى ليس نصبوا بها ليخرجوها من معنى «غير» إلى معنى «ليس». ووجه آخر: إنما أعملوها النصب؛ لأنهم لما أولوها بالنكرة، ومن شأن النكرة أن يكون خبرها قبلها، نصبوا بها من غير تنوين؛ لما حدث فيها من التغيير، كما رفعوا المنادى بغير تنوين؛ لما حدث فيه من التغيير … ويقال: هات يا رجل، بكسر التاء أي أعطني، وللاثنين هاتيا: مثل آتيا، وللجمع هاتوا، وللمرأة هاتي بالياء، وللمرأتين هاتيا، وللنساء هاتين مثل عاطين، وتقول: هات لا هاتيت وهات، إن كانت بك مهاتاة، وما أهاتيك. كما تقول ما أعاطيك، ولا يقال منه هاتيت ولا ينهى بها، وقال الخليل: أصل هات من آتى يؤاتي، فقلبت الألف هاء.
(٣٥) غلت: هو غلط، يقال في الحساب خاصة، والعشور: جمع عَشر — بفتح العين — الطائفة المعروفة من القرآن الكريم تقرأ مرة واحدة، والترتيل؛ التبيين في القراءة، وبآية: متعلق بغلت، وترتيلك: مبتدأ، ومن آياتها: خبره؛ والجملة استئنافية. يقول: إن الذي عدَّ أعشار القرآن قد غلط وفاتته آية لم يعدها، وهي ترتيلك للسور، فإن هذا الترتيل معجزة في الإتقان وحسن الأداء: فهو آية من الآيات ينبغي أن تلحق بآيات التنزيل فيزيد آية إلى آياته، ومعجزة إلى معجزاته.
(٣٦) ماثلًا: ظاهرًا: والعتق: الكرم، وعتقت الفرس تعتق وعتقت عتقًا: سبقت الخيل فنجت، وفرس عاتق: سابق، ورجل معتاق الوسيقة إذا طرد طريدة سبق بها وأنجاها، وفرس معتاق الوسيقة. قال الأصمعي: وهو الذي إذا طرد عليه طريدة أنجاها وسبق بها. قال أبو المثلم يرثي صخرًا:
حَامِي الْحَقِيقَةِ نَسَّالُ الْوَدِيقَةِ مِعـْ
ـتَاقُ الْوَسِيقَةِ لَا نِكْسٌ وَلَا وَانِي
الوسيقة: القطيع من الإبل يطردها الطارد. يقول: من سمع كلامك عرف منه كرمك وطيب عنصرك، كما أن الفرس الكريم إذا صهل عرف عتقه بصهيله، وإنما يعرف كرمه من كلامه؛ لأن كلامه يدور على أمر بالعطاء ووعد بالإحسان، وما إلى ذلك مما يدل على طيب أعراقه ومحاسن أخلاقه.
(٣٧) أعيا الشيء: أعجز طالبه، والهالة، الدائرة حول القمر. يقول: لقد بلغت مكانًا عليًّا من المجد والشرف، فأنت فيه كالقمر في علو المنزلة وهو لك كالهالة. فلست تزايله، كما أن القمر لا يزايل هالته. قال الشراح: وجمع القمر — وإن كان في المعنى واحدًا — باعتبار ظهوره في كل شهر، فحسن الجمع.
(٣٨) شاقه: حمله على الشوق، وشائق: خبر مقدم، وأنت: مبتدأ مؤخر، والرجال: مفعول شائق، والتقدير: أنت شائق الرجال وعلاتها. يقول: لا نلوم المرض الذي ألم بك؛ لأنك أنت تشوق الرجال وتشوق علاتها، يعني: أن المرض الذي بك لا يلام على إلمامه بك. فإنك شوقت الرجال إلى زيارتك وشوقت علاتها أيضًا، فهي تزورك مثلهم، وتنتقل إليك عنهم شوقًا إليك. قال العكبري: وقد كان الممدوح مريضًا حين مدحه المتنبي بهذه القصيدة.
(٣٩) المضاف: مصدر بمعنى الإضافة. يقول: إذا نوت الرجال السفر إليك سبقتها علاتها فجاءت قبلها شوقًا فأضفت حالات الرجال — أي علاتها المذكورة — قبل أن تضيفهم؛ لأنها وصلت إليك قبلهم، ويروى بدل سبقنها — بالنون — سبقتها — بالتاء — يعني إذا أراد الرجال سفرًا إليك سبقتها بإضافة أحوالها قبل إضافتك إياها. يريد إقامة العذر للمرض الذي نزل به. وقال ابن القطاع: معناه إذا نوت الرجال سفرًا إليك أعددت لها أمورًا، فكأنك ضيَّفت أحوالها قبل نزولها بك.
(٤٠) خيراتها: جمع خيرة مؤنث خير أي أفضل، والضمير للجسوم. يقول: إن الحمى إنما تنزل على الأجسام، فإذا تركت جسمك — الذي هو أفضل الأجسام — وألمت بغيره فما عذرها في ذلك؟ «هذا» ويقال حمى وحمة. قال الضباب بن سبيع:
لَعَمْرِي لَقَدْ بَرَّ الضِّبَابَ بَنُوهُ
وَبَعْضُ الْبَنِينَ حُمَّةٌ وَسُعَالُ
(٤١) خيراتها. جمع خيرة مؤنث خير أي أفضل، والضمير للجسوم. يقول: إن الحمى إنما تنزل على الأجسام، فإذا تركت جسمك — الذي هو أفضل الأجسام — وألمت بغيره فما عذرها في ذلك؟ «هذا» ويقال حمى وحمة. قال الضباب بن سبيع:
لَعَمْرِي لَقَدْ بَرَّ الضِّبَابَ بَنُوهُ
وَبَعْضُ الْبَنِينَ حُمَّةٌ وَسُعَالُ
(٤٢) يقول: لقد أعجبت الحمى بما رأت فيك من خصال الكرم والشرف فأطالت إقامتها بك؛ لتتأمل أعضاءك المشتملة على تلك الخصال، لا لتؤذيك، والأذاة: مصدر أذى، فتكون من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي لتتأمل الأعضاء لا لتتأذى بها الأعضاء.
(٤٣) لهذه؛ أي للحمى، والضمير في صحتها للنفس. يقول: إنك بذلت كل ما أحبته نفسك، حتى بذلت لهذه الحمى صحتك. يريد أنه جواد يجود بكل شيء يحبه.
(٤٤) من علٍ: من فوق. يقول: حق الكواكب أن تزورك عائدة لك؛ لأنها شريكتك في العلو، وكذلك الآساد؛ لأنها تشبهك في الشجاعة.
(٤٥) والجن: عطف على الآساد. يقول: إن جميع هذه الأجناس تتألم لعلتك، لعموم نفعك، فلو قدرت على عيادتك لجاءت إليك عائدة، والسترات: جمع سترة، والوكنات: جمع وكنة، عش الطائر. زاد الجوهري في جبل أو جدار، والوكر مثله، وقال الأصمعي: الوكنة والوكن: مأوى الطائر في عش، والوكر — بالراء — ما كان في غير عش، وقال أبو عمرو ابن العلاء: الوكنة والأكنة — بالضم — مواقع الطير حيثما وقعت على حائط أو عود أو شجر؛ وتوكن: تمكن، ووكن الطائر: دخل في الوكن، ووكن بيضه: حضنه.
(٤٦) يقول: قد استأثرت — دون سائر الناس — بالمناقب والمحامد، فكنت منهم بمنزلة البيت البديع المبتكر الفرد من القصيدة.
(٤٧) أمثله: جمع مثال — أي صور، وتدور: صفة لأمثلة، وحياتها: مبتدأ، وكمماتها: خبره. يقول: إنهم أشباه الناس وليسوا بناس في الحقيقة تدور بين الوجود والعدم، وحياتها كمماتها؛ في أنه لا غناء فيها ولا نفع، ومماتها كحياتها؛ في عدم المبالاة به.
(٤٨) يقول: خفت — إن تزوجت — أن يكون لي نسل مثل هذه الأمثلة، فتركت البنات موفورة على الأمهات، لم أتزوج واحدة منهن.
(٤٩) يقول: لو كانت الخليقة ملكًا له ثم وهبها لاستقل ذلك بالقياس إلى كرمه، ومن روى وهب البرية؛ كان المعنى أنه لو عم البرايا بالهبات لاستقلها، والبرية: الخلق، تقول: براه الله يبروه بروًا أي خلقه، ويجمع على البرايا والبريات: من البري، وهو التراب. هذا إذا لم يهمز، ومن ذهب إلى أن أصله الهمز، أخذه من برأ الله الخلق يبرؤهم؛ أي خلقهم، ثم ترك فيها الهمز تخفيفًا. قال ابن الأثير: ولم تستعمل مهموزة.
(٥٠) نظر: مبتدأ مؤخر، ومسترخص: خبره مقدم، ولك أن تجعل مسترخص خبر مبتدأ محذوف، ونظر: فاعل مسترخص، وعثرة رجله: روى بدلها عثير رجله؛ أي غبار رجله، والديات: جمع دية ثمن دم القتيل. يقول: لو اشترت البرية نظرها إليه بأعينها التي بها لكان رخيصًا، ولو فدت عثرة رجله بمثل أثمان دياتها لكان ذلك رخيصًا أيضًا؛ أي إن دية عثرته أكثر من ديات الخلائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤