الفصل الثالث

خلافة أبي العباس السفاح العباسي

تضطرب المصادر في تعيين اليوم الذي سُمِّيَ فيه أبو العباس خليفةً، وأكثرُ الأقوال شهرةً هو أن ذلك كان في ربيع الأول من سنة ١٣٢ھ/كانون الأول سنة ٧٤٩م، وكان أول مَن بايعه أبو سلمة، وثَمَّ توالى الناس، ولمَّا تمت مبايَعة الناس إياه صعد المنبر وجلس من دونه عمه داود بن علي، فخطب الناس وقال: «الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرَّفه وعظَّمه واختاره لنا وأيَّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقُوَّام به، والذابِّين عنه والناصرين له، وخصَّصَنا برَحِم رسول الله وقرابته، وأنبتنا من شجرته، ووضَعَنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يُتلى عليهم فقال سبحانه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

وقال أيضًا: قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ، فأعلَمَهم جلَّ ثناؤه فضْلَنا، وأوجَبَ عليهم حقَّنا ومودَّتنا … بنا هدى الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا … فتمَّم الله ذلك مِنَّةً ومنحةً لمحمد ، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، أمْرُهم شورى، فحَوَوْا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مَواضِعها وأعطوا أهلها … ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزُّوها وتداوَلوها بينهم، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا وردَّ علينا حقَّنا، وتدارك بنا أمتنا، ووَلِيَ نصرنا … يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا … أنتم الذين لم يَثْنِكُم من ذلك تحامُل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمكم علينا … وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفَّاح المبيح والثائر المُبِير.»

وكان السفَّاح إذ ذاك موعوكًا فاشتدَّ به المرض فجلس على المنبر، وقام عمُّه داود بن علي وكان من أفصح بني العباس، فخطب خطبة رائعة قال فيها: «إنَّا والله ما خرجنا في هذا الأمر لنكثر لُجينًا ولا عِقيانًا، ولا نحفر نهرًا ولا نبني قصرًا، وإنما أخرجتنا الأَنَفةُ من ابتزازهم حقَّنا، والغضبُ لبني عمِّنا، وما كَرَبَنا من أموركم، وبهظنا من شئونكم، ولقد كانت أموركم ترمضنا على فرشنا، ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقهم بكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم، لكم ذمة الله وذمة رسول الله وذمة العباس رحمه الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله

يا أهل الكوفة، إنَّا واللهِ ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا من أهل خراسان فأحيا بهم حقَّنا، وأفلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأدَّاكم الله ما كنتم له تنتظرون … وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم السلطان وعزَّ الإسلام … ألا ما صعد منبرَكم هذا خليفةٌ بعد رسول الله إلَّا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد (وأشار بيده إلى أبي العباس)، فاعلموا أن هذا الأمر فينا حتى نسلِّمه إلى عيسى بن مريم صلوات الله عليه.»

نرى من هاتين الخطبتَين السابقتَين الأسسَ التي اعتمد عليها العباسيون في طلبهم الخلافة، والسياسةَ التي سيسيرون عليها في دولتهم الآتية، وأنهم قوم ثائرون على الظلم، يطلبون بحق شرعي أعطاهم الله إياه وفَرَضَه لهم على الناس، وأنهم لذلك سيُحيون سُنَّة النبي، وسيعملون بالكتاب، ولم ينسَ أبو العباس أن يَعِدَ الناسَ بزيادة العطاء لاجتذاب قلوبهم، كما لم ينسَ داود أن يذكر ثقته بدوام هذه الدولة وطول عهدها وبقائها إلى قيام الساعة.

ولما تمَّت البيعة العامة للخليفة الجديد رأى أن أوَّل ما يجب عليه عمله هو تتميم فتح العراق، فبعث الجيوش لفتح ما بقي من أجزاء العراق، وللاستيلاء على الشام، والقضاء على مروان بن محمد وجيشه، وكان مروان قد خرج من الشام بجيشٍ لجب حتى أتى الموصل، فبعث إليه أبو العباس بعمِّه عبد الله بن علي، والتقى الجيشان على نهر الزاب الأعلى (الكبير) في يوم ١١ جمادى الآخرة سنة ١٣٢ھ/٢٥ كانون الثاني ٧٥٠م، وتمَّ النصر لعبد الله وجنوده، وهرب مروان بمَن معه حتى أتى حرَّان، فأقام فيها نيِّفًا وعشرين يومًا، حتى إذا دنا منها عبد الله رحل مروان بأهله وولده إلى قنسرين فحمص فدمشق، وعبد الله من ورائه فحاصَرَ دمشق طويلًا، ولكن أميرها الوليد بن معاوية اضطر إلى الاستسلام، فدخل عبد الله دمشق وفتك بالأمويِّين فتكًا ذريعًا، وهرب مروان بن محمد إلى مصر فلحق به المسوِّدة حتى أدركوه قربَ «أبو صير» وقتلوه لثلاثٍ بَقِينَ من ذي الحجة سنة ١٣٢ھ، وبقتله انتهت دولةُ بني أمية في الشرق، وتوطدت أركانُ الدولة العباسية.

ويجب أن نشير ها هنا إلى أن قوة إيمان الخراسانيين ومَن معهم من جنود العباسيين بالدعوة، كانت قوة كاسحة استطاعت أن تتغلَّب على جيش الأمويين اللجب الكثير بعدده، الثري بأمواله، الضعيف بإيمانه.

وكما يجب أن نشير هنا أيضًا إلى أن القضاء على الأمويين لم يقْضِ على أنصارهم في الشام؛ فقد قامت ثورات في أجناد حمص وقنسرين والجزيرة وحوران وفلسطين، وكان هؤلاء يتخذون البياضَ شعارًا لهم مُقابَلة للون السواد الذي اتخذه العباسيون شعارَهم ونكاية بهم، وقد استطاع أبو العباس أن يقضي بدهائه وحزمه على كل هذه الثورات التي ثارت في الشام، كما استطاع أخيرًا أن يقضي على ثورة يزيد بن عمر بن هبيرة الذي أخذ يثير الناسَ للمطالَبة بدم الخليفة القتيل مروان بن محمد، وحاوَلَ أن يستعين باليمانية الذين كانوا أمويي الهوى، ولكنه فشل آخِر الأمر ودبَّ الانقسام في صفوف جنده وجماعته، فاضطر إلى طلب الصلح وكُتِب له الأمان، ولكنه قُتِلَ ونُقِضَ عهده، وبموت ابن هبيرة وقتْلِ مَن بقي من الأمويين وأنصارهم صفا الجوُّ للعباسيين واشتدَّ لهم الأمر.

وكأن أبا العباس قد أخذ يحسُّ بالخطر الكامن في أبي سلمة الخلَّال، الذي كان هو علويَّ الهوى، ولم ينسَ أبو العباس محاوَلة الخلَّال في نقل الأمر إلى العلويين، فأخذ يُفكِّر في التخلُّص منه، ولكنه خشي إنْ قتله أن يثور أبو مسلم الخراساني، فكتب إليه يستبين رأيه ويقول له إن أبا سلمة قد خان العهد وأخذ يُفسِد في البلاد، فأشار عليه أبو مسلم بقتله، ولكن الخليفة لم يفعل ذلك، بل طلب إلى أبي مسلم أن يبعث بأحد رجاله فيقتله، ويقول ابن قتيبة الدينوري والمسعودي: «إن أبا مسلم قد نَفِسَ على أبي سلمة مكانته وسلطانه لدى الخليفة، فحرَّض على قتله.» وسواء أكان صاحبُ الفكرة هو الخليفةَ أو أبا مسلم، فإن أبا سلمة قد أضحى خطرًا؛ لأنه استبدَّ بالأمر وتسلَّمَ جميعَ شئون الخليفة، فكان ذلك السببَ في قتله.

ولما قُتِل أبو سلمة صفا الأمرُ لأبي العباس ونفذت إرادته وحده في أرجاء المملكة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، واستطاع أن يفرض سلطته الفعلية كخليفةٍ قويٍّ يحكم فيُسمَع قوله، ويُدبِّر فيُنفَّذ تدبيره في أرجاء مملكته. لا بأس ها هنا من وقفة لنبين فيها خارطة رقعة تلك المملكة الواسعة، رقعة الدولة الإسلامية في ذلك العصر، مع بيانٍ موجز عن كل إقليم منها وشيء من أحواله، معتمدين في ذلك على ما كتبه الجغرافي الموثوق المعاصر لذلك العهد؛ أَلَا وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي المعروف بالبشاري (المتوفى سنة ٣٧٥ھ) في كتابه القيِّم «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، فقد ذكر في كتابه هذا ما خلاصتُه أن المملكة الإسلامية في ذلك العهد كانت تمتدُّ طولًا من أقصى بلاد الشرق عند مدينة كاشغر إلى السوس الأقصى على شاطئ بحر الظلمات، وأنها تمتدُّ عرضًا من شواطئ بحر قزوين إلى أواخر بلاد النوبة، ويقول أيضًا (ص٦٥) إن طول هذه المملكة ألف وستمائة فرسخ.

وكانت هذه المملكة الواسعة تنقسم إلى أربعة عشر إقليمًا هي:
  • (أ)
    إقليم جزيرة العرب: وتشتمل على أربع كور جليلة وهي:
    • الحجاز: وقصبته «مكة المكرمة»، ومن مدنه: «طيبة»، و«ينبع»، و«الجار» وهو ساحل المدينة، و«جدة» وهي ساحل «مكة»، و«الطائف»، ويتبع الحجاز «وادي القرى».
    • اليمن: وهو قسمان؛ فما كان نحو البحر فهو غور واسمه تهامة، وقصبته «زَبيد»، وما كان من ناحية الجبل فهو «نجد» وقصبته «صنعاء»؛ ومن مدنه «مخا» و«كمران» و«عدن»، وتتبعه بلاد الأحقاف، وبها من المدن «حضرموت».
    • بلاد عمان: وقصبتها «صُحار» على شاطئ بحر الهند، ومن مدنها «نزوة السرِّ» و«ضَنْك».
    • بلاد هجر: وقصبتها مدينة «الأحساء» (البحرين)، ومن مدنها «سابون» (الزرقاء)، ويتبع ديار هجر بلاد «اليمامة» وقصبتها «الحجر».

      وأهل هذا القسم لغتهم عربية محضة، تتكلَّم اللسان العربي إلَّا «صُحار»، فإن نداءهم وكلامهم بالفارسية، وأكثر أهل عدن وجدَّة فُرْس، إلا أن اللغة عربية، وأهل عدن يقولون عوض «رجليه»: «رجلينه»، ويجعلون الجيم كافًا.

      وأصحُّ لغات العرب لغاتُ قبائل هذيل، ثم نجد الحجاز، ثم بقية الحجاز، ثم بقية العرب، إلا سكَّان «الأحقاف» فإن لسانهم وحش.

      أما مذاهبهم فالتشيُّع في بلاد اليمن، ومذهب الخوارج بعمان وهجر، ومذهب أهل السُّنة فيما عدا ذلك، والاعتزال في أهل السروات وسواحل الحرمين إلا عمان، ومذهب القرامطة بهجر.

      وفي شمال الجزيرة العربية بادية العرب، وهي بادية ذات مياه وغدران وآبار وتلال ورمال وقرى ونخيل، قليلة الجبال كثيرة الكثبان، مخيفة السبل، خفيَّة الطرق، طيبة الهواء، ردية الماء، ليس بها بحيرة ولا نهر إلا «الأزرق»، ولا مدينة بها إلا «تيماء»، وفيها اثنا عشر طريقًا توصل إلى مكة (منها تسع طولًا يؤدِّين إلى مكة، وثلاث عرضًا يؤدِّين إلى الشام)، وبها طريق آخَر لوادي القرى يؤدِّي إليها من البصرة، ثم إلى مصر، وهذه الطرق هي: (١) طريق مصر. (٢) طريق الرملة. (٣) طريق الشرَّاة. (٤) طريق تبوك. (٥) طريق وُبَيْر. (٦) طريق بطن السِّير. (٧) طريق الرحبة. (٨) طريق هيت. (٩) طريق الكوفة. (١٠) طريق القادسية. (١١) طريق واسط. (١٢) طريق وادي القرى. (١٣) طريق البصرة.

      وتجد تفاصيل هذه الطرق في أحسن التقاسيم للبشاري (ص٢٤٩)، ووصف جزيرة العرب للحسن بن أحمد الهمداني.

  • (ب)
    إقليم العراق: وهي ست كور وهي:
    • الكوفة: وقصبتها «الكوفة»، وهي من أمهات المدن الإسلامية، ومن مدنها «القادسية» و«عين التمر» قرب كربلاء.
    • البصرة: وقصبتها «البصرة»، وهي من كبريات المدن الإسلامية أيضًا، ومن مدنها «الأبُلَّة» ولعلها آتية من كلمة Apolon، و«عبادان».
    • واسط: وقصبتها «واسط»، وهي من كبريات المدن الإسلامية أيضًا، ومن مدنها «فم الصلح» قرب كوت الإمارة.
    • المدائن: وقصبتها «بغداد»، وهي مدينة كسروية، ومن مدنها: «النهروان» «ديالي»، و«الدسكرة»، و«جلولاء»، و«جرجرايا».
    • حلوان: وقصبتها «حلوان»، وبها من المدائن: «خانقين»، و«السيروان»، و«بندنيجان».
    • سامراء: وقصبتها «سامراء»، وبها من المدائن: «الكرخ»، و«عكبرا»، و«الأنبار» أبو فياض من قرب الفلوجة، و«هيت»، و«تكريت». وهذا الإقليم كان يُسمى في القديم إقليم بابل، وهكذا كان اسمه في التقويم الأول في عهد العباسيين، وقد كان زهرة ملك العباسيين وأجمل بلدانهم وأثراها، ورافداه الدجلة والفرات من أحسن أنهار الدنيا، يقول البشاري (ص٣٢): هو أظرف الأقاليم وأخف على القلب وأحدُّ للذهن، وبها تكون النفس أطيب، والخاطر أدق، وهواء هذا الإقليم مختلف، فبغداد وواسط بلد رقيق الهواء سريع الانقلاب، ربَّما توهَّج في الصيف وآذى ثم انقلب سريعًا، والكوفة بخلافه، ويكون بالبصرة حرٌّ عظيم غير أن الشمال ربما هبت فطاب، وحلوان معتدلة، والبطائح نعوذ بالله منها. والغلبة ببغداد للحنابلة والشيعة، وبها مالكية وأشعرية ومعتزلة ونجَّارية، وبالكوفة الشيعة، وأكثر أهل البصرة قدرية وشيعة ثم حنابلة، وببغداد غاليةٌ يفرطون في حب معاوية ومشبِّهةٌ.

      وأُمَّة هذا الإقليم نبطية دخل عليها العرب في بلادها، فزاحموها وصارت كأنها لهم وأصبحت لغة هذا الإقليم عربية، وأصح لغاتهم الكوفية، لقُرْبها من البادية وبُعدها عن النبط، وأما سكان البطائح فنبط، والذين نزلوا بهذا القسم من الإقليم من العرب أكثر من الذين منهم بأي قُطر آخَر ما عدا الشام والجزيرة، وقد كان بهذه الأقاليم ملوك المناذرة بالعراق، وملوك الغساسنة بالشام، إلا أنهم لم يكونوا مستقلين، فلما جاء الإسلام اتسق لهم الملك بالإقليمَين، وكان الشام مهْدَ الدولة الأموية، كما كان العراق مهْدَ الدولة العباسية.

      ومساحة العراق طولًا من السن إلى البحر ١٢٥ فرسخًا، وعرضه من العُذيب إلى عقبة حلوان ٨٠ فرسخًا.

  • (جـ)
    إقليم آقور: ويُسمى إقليم الجزيرة وآثورا وآشور، وهو ما بين دجلة والفرات، وبها ثلاث كور وهي:
    • ديار ربيعة: وقصبتها «الموصل»، ومن مدنها «الحديثة» و«تل عفر» و«سنجار» و«نصيبين» و«دارا» و«رأس العين» و«ثمانين»، وبها ناحية «جزيرة ابن عمر».
    • ديار مضر: وقصبتها «الرقة»، وبها مدن «باجروان» و«الرافقة» و«سروج» و«حصن مسلمة» و«حران» و«الرُّها».
    • ديار بكر: وقصبتها «آمد»، وبها مدن «ميَّافارقين» و«حصن كيفا».

      وقد نزل العرب هذه الديار قبل الإسلام، وسكنها قبائل من العدنانيين سُمِّيت بهم؛ ولذلك يُعتبر هذا الإقليم عربيًّا محضًا؛ لأن مَن كان به من الآشوريين وغيرهم قد درست آثارهم، وينتهي هذا الإقليم إلى حدود الروم وأرمينية، ومناخه مُقارِب للشام ومشابه للعراق، وبه مواضع حارَّة وباردة، وبه نخيل وزيتون، ومذاهب أهله سُنَّة، و«عانة» وهي للمعتزلة.

  • (د)
    إقليم الشام: وبه ست كور وهي:
    • قنسرين: وقصبتها «حلب»، ومن مدنها: «أنطاكية»، و«بالس»، و«سميساط»، و«منبج»، و«قنسرين»، و«مرعش»، و«إسكندرونة»، و«معرة النعمان»، و«حماة»، و«شيزر».
    • حمص: وقصبتها «حمص»، ومن مدنها: «سلمية»، و«تدمر»، و«اللاذقية»، و«أنطرسوس».
    • دمشق: وقصبتها «دمشق»، ومن مدنها: «بانياس»، و«صيدا»، و«صور»، و«بيروت»، و«طرابلس»، و«بعلبك».
    • الأردن: وقصبتها «طبرية»، ومن مدنها: «قَدَس»، و«صور»، و«عكَّا»، و«بيسان»، و«أَذْرِعَات».
    • فلسطين: وقصبتها «الرَّملة»، ومن مدنها: «بيت المقدس»، و«عسقلان»، و«يافة»، و«أرسوف»، و«قيسارية»، و«أريحا»، و«عمَّان».
    • الشراة: وقصبتها «صُغَر» أو «زغر»، ومن مدنها: «مآب»، و«معان»، و«تبوك»، و«أذرع»، و«أيلة».

      وهذا الإقليم سكنه العرب قبل الإسلام وملكوا به، ولما جاء الإسلام استقرَّ فيه، ولغةُ أهلِه عربية، وحدوده من الشمال بلاد الروم، والمدن التي على حدودها يُقال لها «الثغور»، وعندها يكون الجهاد لردِّ غارات الروم، وأكبرُ مدن هذا الإقليم «حمص»، وفيه قلعة متعالية تُرى من خارج، و«دمشق» هي مصر الشام ودار المُلك أيام بني أميَّة، وثَمَّ قصورهم وآثارهم والجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يُعْلَم لهم مال مجتمع أكثر منه، وهو أحد عجائب الدنيا، وهو إقليم متوسط الهواء إلَّا وسطه من الشراة إلى الحولة فإنه بلد الحر، ومذاهبهم مستقيمة أهل جماعة وسُنة، وأهل «طبريا» ونصف «نابلس» و«قدس» و«عمان» شيعة، ولا ماء فيه للمعتزلة وإنما هم في خفية.

  • (هـ)
    إقليم مصر: وبه سبع كور وهي:
    • الجِفار: وقصبتها «الفَرَمة»، ومن مدنها: «البقَّارة»، و«الورادة»، و«العريش».
    • الحَوف: (الشرقية) وقصبتها «بلبيس»، ومن مدنها: «مشتول»، و«قاقوس»، و«القلزم».
    • الريف: وقصبتها العباسية (العباسة)، ومن مدنها: «منهور»، و«سنهور»، و«شهور»، و«بنها العسل»، و«شطنوف»، و«مليج»، و«المحلة الكبيرة»، و«دقهلية»، و«دميرة».
    • إسكندرية: وقصبتها «إسكندرية»، ومن مدنها: «الرشيد»، و«مريوط»، و«البُرُلس»، و«ذات الحمام».
    • مقدونية: وقصبتها «الفسطاط» (وهو المصر)، ومن مدنها: «العزيزية»، و«الجيزة»، و«عين شمس».
    • الصعيد: وقصبته «أسوان»، ومن مدنها: «حلوان»، و«قوص»، و«إخميم»، و«البلينا»، و«الفيوم»، و«بوصيم».
    • الواحات: وهي عدة واحات في الصحراء المصرية.

      وأمة هذا الإقليم في القديم مصرية قبطية، وسكنها كثير من الأمم التي ملكتها كاليونان والرومان وغيرهم، وكان بالحوف قبائل عربية، ولما جاء الإسلام دخلها كثير من العرب، ثم دخلها كثير منهم أيام بني أميَّة، وأقاموا بالحوف (الشرقية).

      وغلب على أهلها اللسان العربي، غير أن لغتهم ركيكة رخوة، وذمتهم يتحدثون بالقبطية، وأهل هذا الإقليم على مذاهب أهل الشام غير أن أكثرهم مالكيون، والفُتْيَا اليومَ على المذهب الفاطمي.

  • (و)
    إقليم المغرب: وهو ثماني كور وهي:
    • برقة: وقصبتها «برقة»، وبها من المدن: «رمادة»، و«طرابلس»، و«أجدابية»، و«غافق».
    • إفريقية: وقصبتها «القيروان»، وبها من المدن: «صفاقس»، و«سوسة»، و«تونس»، و«بونية»، و«بنزرد»، و«جزيرة بني زغناية»، و«منستير»، و«طبرقة»، و«قسنطينة».
    • تاهرت: وقصبتها «تاهرت»، وبها من المدن: «مطماطة»، و«وهران»، و«شلف».
    • سجلماسة: وقصبتها «سجلماسة»، وبها من المدن: «درعة»، و«أمصلي»، و«تازروت»، و«دار الأمير».
    • فاس السوس الأدنى: وقصبتها «فاس»، وبها من المدن: «البصرة»، و«طنجة»، و«وزغة»، و«صنهاجة»، و«هوَّارة»، و«سلا».
    • السوس الأقصى: وقصبتها «طرفانة»، ومن مدنها: «أغنات»، و«ماسَّة»، و«تندلي».
    • الأندلس: وقصبتها «قرطبة»، وكان في العهد الأموي تابعًا لبني أمية، أما في العهد العباسي فقد استقلَّ كما هو معروف.
    • جزيرة صقلية: وقصبتها «بلرم»، ومن مدنها: «الخالصة»، و«أطرابنش»، و«ماوز»، و«جرجنت»، و«سرقوصة»، والقيروان هو مصر الإقليم وبه مواضع الحر، ومعادن البرد، وكثير اليهود، وأما المسلمون فعلى ثلاثة مذاهب: المالكية والحنفية والفاطمية، وأكثر أهل صقلية حنفيون، ولغتهم عربية إلا أنها منغلقة، ولهم لسان آخَر يُقارب الرومي، وأهل هذا الإقليم في جهاد دائم.
  • (ز)
    إقليم المشرق: وهو قسمان وهما:
    • (١)

      ما وراء النهر، وهو شرقي نهر جيحون، ويُسمى هيطل.

    • (٢)

      غربي نهر جيحون، ويُسمى بلاد خراسان.

    أما وراء النهر فهو ست كور وهي:
    • فرغانة: وقصبتها «أخسيكث»، ومن مدنها: «نصر آباد»، و«أوزكند»، و«مرغينان».
    • إسبيجاب: وقصبتها «إسبيجاب»، ومن مدنها: «فاراب» (باراب)، و«ترار»، و«طراز»، و«بلاسكون».
    • الشاش: وقصبتها «بنكث»، ومن مدنها: «نكث»، و«بناكث»، و«غنَّاج»، و«إيلاق».
    • أشروسنة: وقصبتها «بنجكث»، ومن مدنها: «كردكست»، و«ساباط زمين».
    • الصغد: وقصبتها «سمرقند»، ومن مدنها: «ورغسر»، و«مايمرغ»، و«درغم»، و«مزربان»، و«قطوانة».
    • بُخارى: وقصبتها «بُخارى»، ومن مدنها: «بيكند»، و«الطواويس»، و«يخسون»، و«كش»، و«نسف».
    وأما بلاد خراسان فهي تسع كور وهي:
    • بلخ: وقصبتها «بلخ»، وبها ناحية «طوخارستان»، ومن مدنها: «ولوالج»، و«الطالقان».
    • غزنين: قصبتها «غزنين»، وبها مدينة «كابل»، و«كرديس»، و«كاولي».
    • بُست: وقصبتها «بست»، ومن مدنها: «جهالكان»، و«كش روذان».
    • سجستان: وقصبتها «زرنج»، ومن مدنها: «أكوين»، و«الطاق».
    • هراة: وقصبتها «هراة»، ومن مدنها: «باذغيس»، و«كرُّوخ»، و«بوشنج».
    • جوزجان: وقصبتها «اليهودية»، ومن مدنها: «أبناربروز»، و«فارياب».
    • مرو شاهجان: وقصبتها «مرو الشاهجان»، وبها ناحية «مروروز»، و«الطالقان».
    • نيسابور: وقصبتها «إيرانشهر»، ومن مدنها: «بيهق»، و«طوس»، و«نسا»، و«أبيورد»، و«أسفراين».
    • قهستان، قوهستان: وقصبتها «قاين»، ومن مدنها: «تون»، و«طبس العناب»، و«طبس التمر».

      وهذا الإقليم من أعمر الأقاليم الإسلامية وأكثرها خيرات، وأهل خراسان هم الذين قاموا بالدولة العباسية، ومعظمهم من الشيعة.

      أما أهل ما وراء النهر فَجُلُّهم من التركمان، ولم يكن الإسلام قد شملهم في أول العهد العباسي، دخل العرب هذا الإقليم ولم يتجاوَزوا النهر إلَّا في عهد الدولة الأموية، وكثرت فتوحُ العرب فيه أيام الحجَّاج على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، ولم تتغلَّب اللغة العربية على هذا الإقليم.

      وهو إقليم بارد إلَّا بسجستان وبست وطبس التمر؛ فإنهن على نمط الشام، وأما بلخ فهواها عراقي، وهو أكثر الأقاليم علمًا وفقهًا، وبه يهود ونصارى قليلة وأصناف المجوس، وأولاد علي (عليهم السلام) هم على غاية الرفعة فيه، ولا ترى به هاشميًّا إلَّا غريبًا، ومذاهبهم مستقيمة، إلا أن الخوارج بسجستان ونواحي هراة، والمعتزلة بنيسابور، والقلة في الإقليم للحنفية ثم الشافعية، وللكرامية جلبة بهراة وفرغانة وجوزجان وسمرقند، وألسنتهم مختلفة، وألوانهم مختلفة، وأحسنهم أهل الشاش وفرغانة.

  • (ﺣ)
    إقليم الديلم: وبه خمس كور وهي:
    • قومس: وقصبتها «الدامغان»، ومن مدنها: «سمنان»، و«بسطام».
    • جرجان: وقصبتها «شهرستان»، ومن مدنها: «أستراباد»، و«آبسكون».
    • طبرستان: وقصبتها «آمل»، ومن مدنها: «سالوس»، و«سارية».
    • الديلمان: وقصبتها «بروان».
    • الخزر: وقصبتها «أتل»، ومن مدنها: «بلغار»، و«سمندر».

      وهذا الإقليم لم يغْشَ الإسلام فيه إلَّا بعهد العباسيين، ومذاهب أهل هذا الإقليم مختلفة؛ فقومس وجرجان وبعض أهل طبرستان حنفيون، والباقون حنابلة وشافعية، والكرامية بجرجان وجبال طبرستان، وللشيعة بجرجان وطبرستان جلبة.

  • (ط)
    إقليم الرحاب: وهو ثلاث كور، وهي:
    • الران (أران): وقصبتها «برذعة»، ومن مدنها: «تفليس»، و«شروان»، و«باب الأبواب»، و«ملازكرد».
    • أرمينية: وقصبتها «أردبيل»، ومن مدنها: «بدليس»، و«خلاط»، و«خوي»، و«سلماس»، و«وأرمية»، و«مراغة»، و«مرند»، و«قاليقلا».
    • أذربيجان: وقصبتها «تبريز»، ومن مدنها: «موقان».

      وفي هذا الإقليم كثير من الكرد والأرمن الفرس، ولم يغشَ الإسلام فيه إلَّا في العهد العباسي، واللغة العربية قليلة، وهذا الإقليم كثير الثمار، فيه مدن من أنزه البلاد كموقان وخلاط وتبريز التي شاكلت العراق، وهو للإسلام فخر وللغازين دار، وأهله أهل سُنَّة وجماعة، وفصاحة وهيبة، ومذاهب أهله مستقيمة، إلا أن أهل الحديث حنابلة، والغالب بدبيل مذهب أبي حنيفة.

  • (ي)
    إقليم الجبال: وبه ثلاث كور وهي:
    • الري: وقصبتها «الري»، وبها مدن: «آوه»، و«ساوه»، و«قزوين»، و«أَبهر».
    • همذان: وقصبتها «همذان»، ومن مدنها: «قرماسين»، و«نهاوند»، و«الدينور».
    • أصفهان: وقصبتها «اليهودية».

      وهذا الإقليم غنيُّ التربة نزيه، وأهله إما غوالٍ حنابلة يفرطون في حب معاوية، أو نجَّارية غالية، وفي الري الغلبة أحناف، وأهل همذان أصحاب حديث، وفي الدينور بعض أصحاب سفيان الثوري، والري عصبيات في خَلْقِ القرآن، وأهل قم شيعة غالية.

  • (ك)
    إقليم خوزستان: ويُعرف قديمًا بالأهواز، وفيه سبع كور وهي:
    • السوس: وهي تتاخم العراق والجبال.
    • جنديسابور: وقصبتها «جنديسابور».
    • تستر: وقصبتها «تستر».
    • عسكر مكرم: وقصبتها «عسكر مكرم»، ومن مدنها: «جوبك»، و«زيدان»، و«سوق الثلاثاء».
    • الأهواز: وقصبتها «الأهواز»، ومن مدنها: «تيري»، و«مناذر» الكبرى والصغرى.
    • الدورق: وقصبتها «الدورق»، وهي تتاخم العراق، ومن مدنها: «آرزر»، و«أجم».
    • رامهرمز: وقصبتها «رامهرمز»، وهي تتاخم فارس.

      ولهذا الإقليم لسان خاص يُعرَف باللسان الخوزي، وهو كثير الخيرات والثمار والسكر والعسل والخير والنفط، وهو شديد الحرارة قذر قبيح المناخ، به نخيل، ومذاهب أهله مختلفة، وأكثر الإقليم معتزلة، والسوس حنابلة، ونصف الأهواز شيعة، وبه حنفية ومالكيون.

  • (ل)
    إقليم فارس: وبه ست كور وهي:
    • أرجان: وقصبتها «أرجان».
    • أردشير خرَّة: وقصبتها «سيراف»، وهي ممتدة على البحر.
    • دارابجرد: وقصبتها «دارابجرد».
    • شيراز: وقصبتها «شيراز»، ومن مدنها: «البيضاء»، و«فسا».
    • سابور: وقصبتها «شهرستان»، ومن مدنها: «كازرون»، و«النوبندجان»، و«توَّز».
    • إصطخر: وقصبتها «إصطخر»، وهي أوسع الكور.

      وهذا الإقليم ترابه معادن، وجباله مشاجر، كثير الفواكه والحر والأكسية والبُسُط والستور والكتَّان والقصب، والعمل فيه على مذهب أصحاب الحديث، وأصحاب أبي حنيفة، وللداودية دروس ومجالس، والشيعة والمعتزلة بسواحله، وبهذا الإقليم عددٌ كبير من الأكراد وبه سُمِّيت البلاد الفارسية.

  • (م)
    إقليم كرمان: وفيه خمس كور وهي:
    • بَرْدسير: وقصبتها «بردسير»، ومن مدنها: «ماهان»، و«كوغون»، و«زرند».
    • نرماسير: وقصبتها «نرماسير».
    • سيرجان: وقصبتها «سيرجان».
    • بَمُّ: وقصبتها «بَمُّ»، وهي تتاخم فارس.
    • جيرفت: وقصبتها «جيرفت»، وهي على البحر.

      وهذا الإقليم يشاكل إقليم فارس من حيث فواكهه ومنسوجاته، وهواؤه صحيح، والمذاهب الغالبة للشافعي، إلا «جيرفت» فلأهل الحديث، وللخوارج بمدينة «بم» جلبة وجامع.

  • (ن)
    إقليم السند: وفيه خمس كور وهي:
    • مكران: وقصبتها «بنجبور»، ومدنها: «مشكة»، و«خواش».
    • طُوران: وقصبتها «قصدار» (قزدار)، ومن مدنه: «قندبيل».
    • السند: وقصبتها «المنصورة»، ومن مدنها: «دَيْبل».
    • ويهند: وقصبتها «ويهند».
    • قنُّوج: وقصبتها «قنُّوج»، ويتبعه بلاد «الملتان».

      وهذا إقليم الذهب والتجارات والعقاقير والخيرات، والأرزاز والموز والنخيل، وهو شديد الحرارة، به رفض وعدل وإنصاف وسياسات، وأهل ذمته مشركون، وعلماؤه قليلون، وأكثر مسلميه أهل حديث، وفيه بعض الداودية، وأهل الملتان شيعة، وليس فيه مالكية ولا معتزلة ولا حنابلة.

أما بعد؛ فهذه هي أقاليم الإمبراطورية التي ورثها العباسيون من بني أمية، وهي مملكة مترامية الأطراف، كثيرة الخيرات، متعددة الشعوب، متنوعة اللغات والمبادئ والأهداف، وليست إدارة هذا الملك العظيم بالشيء السهل، بل إنها تحتاج إلى عزم وقوة، وقد استطاع الخلفاء العباسيون الأُوَلُ السيطرةَ على أجزاء هذه المملكة أحسن سيطرة في العصر العباسي الأول، ثم خلف من بعدهم خلفٌ فسدتِ الأمورُ في عهدهم، وتقطَّعت أوصالُ البلاد على أيديهم، وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤