الفصل الرابع

الهادي بن المهدي

٢٢ محرم ١٦٩ھ–ربيع الأول ١٧٠ھ/ ٤ آب سنة ٨٧٥م–١٣ أيلول سنة ٧٨٦م

هو أبو محمد موسى الهادي بن محمد المهدي.

وأمه هي أمُّ ولدٍ واسمها الخيزران، كانت ملكًا للمهدي وأعتقها في سنة ١٥٩ھ ثم تزوجها بعد أن ولدت له ابنيه الهادي والرشيد، وُلِدَ الهادي سنة ١٤٤ھ، وولَّاه أبوه العهد في سنة ١٦٠ھ وله ست عشرة سنة بعد أن نزع ولاية عهده من عيسى بن موسى بن علي وجعلها فيه، ثم في أخيه هارون «الرشيد».

وقد عُني أبوه كثير العناية به منذ فجر شبابه، فدرَّبه على القيادات العسكرية والرياسات المدنية، وبعثه مرات لقتال الخارجين والمخالفين في أطراف جرجان وبلاد المشرق.

وكان الهادي فتًى طويلًا جسيمًا أبيض الشعر أفوه، بشفته العليا بياض، كما كان متيقظًا غيورًا كريمًا شهمًا أيِّدًا شديد البطش جريء القلب مجتمع الحس، ذا إقدام وعزم وحزم، وكان محبًّا للأدب والشعر والثقافة الواسعة، يحب العلم والفنَّ وأهلهما ويكثر عطاءهم، كما يكره الزنادقة والملاحدة والفسَّاق، مثل أبيه.

وصفوة القول أنه كان مثال الفتى العربي المتزن النبيل الشجاع الكامل المؤمن، ولو طال عهده في خلافته لأفادت الأمة منه كثيرًا، ولكنه لم يبقَ في الخلافة إلا قريبًا من سنة.

رأينا أن المهدي قد مات وهو في طريقه إلى بلاد جرجان لقمع ثورات المخالفين، وكان معه ابنه هارون، فأخذ البيعة لأخيه الهادي، وأرسل إليه بخاتم الخلافة وبالقضيب النبوي والبُرْدَة النبوية الطاهرة، ورسالة ضمنها التعزية والتهنئة.

ولما تولى الهادي الخلافة كان عمره خمسًا وعشرين سنة، وهي كما ترى سنٌّ مائعة، فظلَّ كما كان قبلًا يلهو، ولكنَّه لم يكن في ذلك يخرج عن طور المعقول والدين، فلم تؤثر عنه شائنة ولا وصم شائبة إلى أن مات، ثم حين أراد الإقلاع عن ذلك أدركته منيته فمات في فجر عمره.

(١) الأحوال العامة في عهده

لم يَطُلْ عهد الهادي كما رأيت، ولذلك لا نجد في سيرته ما يسترعي الانتباه سوى أمرين: «أولهما» خروج العلوي صاحب «فخٍّ» عليه، و«ثانيهما» تضييقه على الزنادقة، وخلاصة قصة خروج صاحب «فخ» أن أمير المدينة في سنة ١٦٩ھ عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أخذ الحسن بن محمد ذي النفس الزكية وجماعةً من أصحابه كانوا على نبيذ لهم، فأمر بضربهم حدَّ السكران، وجعل في أعناقهم الحبال وطِيفَ بهم في المدينة، فذهب إليه الحسين بن علي بن الحسن «المثلث» فكلَّمه في العفو عنهم، وقال له: ليس لك أن تضربهم؛ لأن فقهاء العراق لا يرون بالنبيذ بأسًا، فقبل الأمير أن يُطْلِقَهم على أن يُعرَضُوا كل يوم؛ أي يحضرون كل يوم إلى الشرطة للمراقبة، فهرب منهم الحسن بن محمد، وكان الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيليه، فاستدعاهما الأمير عمر وسألهما عن مكانه، فأنكرا معرفتهما بمكانه، فأغلظ لهما وحلف يحيى بن عبد الله ألَّا ينام تلك الليلة حتى يأتي باب عمر، أو يضرب عليه باب داره حتى يعلم أنه جاء به، فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله ما دعاك إلى هذا! فقال يحيى: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف، فقال الحسين: تفسد بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الاتفاق على الخروج بمكة أيام الموسم، فقال: لا بدَّ من الخروج الليلة، ثم ذهب إلى أصحابه فخرجوا، فلما طلع النهار ذهب الحسن فجلس على المنبر وجعل الناس يأتونه ويبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله للمرتضى من آل محمد.

ثم انتهبت جماعته بيت المال وأعلنوا ثورتهم وتوجه الحسين وجماعته إلى مكة وأُعْلِنَت الثورة في الحجاز كله على بني العباس.

فلما بلغت أخبار هذه الفتنة مسامع الهادي ولَّى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس قيادة جيش كثيف بعث به لمحاربة الحسين، فتلاقى الجيشان عند «فَخٍّ» قرب مكة، وانتهت المعركة بمقتل الحسين وعدد كبير من العلويين، وأفلت من الموت اثنان كان لهما شأن كبير في التاريخ الإسلامي؛ «أولهما» إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، أخو محمد ذي النفس الزكية، ومؤسس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، و«الثاني» أخوه يحيى بن عبد الله الذي ذهب إلى بلاد الديلم وكانت له أحوال وأخبار، وسنأتي عليها حين كلامنا عن أيام الرشيد.

وأما خلاصة أخباره مع الزنادقة فهي أن أباه كان أوصاه بتتبعهم والقضاء عليهم، ولذلك سار سيرة أبيه في الفتك بهم وتحريق كتبهم، وبخاصة المانوية منهم، وقد قتل جماعة من المانويَّة؛ منهم يرذان بن بازان الكاتب الأديب الذي رووا عنه أنه بينما كان في الحج ورأى الناس يهرولون فقال: ما أُشَبِّهُهم إلَّا ببقرة تدوس في البيدر، فقال فيه العلاء بن الحداد الأعجمي أبياتًا وجهها إلى الهادي وفيها قوله:

أيا أمينَ اللهِ في خلقِهِ
ووارث الكعبةِ والمنبرِ
ماذا ترى في رجلٍ كافرٍ
يشبِّه الكعبةَ بالبيدَرِ
ويجعلُ الناسَ إذا ما سعوا
حُمُرًا تدوس البرَّ بالدَّوْسِرِ

فلما سمعها المهدي وتأكد من قوله أمر بقتله.

ويروي الطبري في تاريخه أن المهدي قال يومًا لابنه الهادي، وقد قُدِّم إليه زنديق فاستتابه فأبى، فأمر بصلبه وقال لابنه: يا بني إذا صار هذا الأمر إليك فتجرَّد لهذه العصابة، فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حَسَنٍ كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تُخرجها إلى تحريم اللحم ومسِّ الماء، وترك قتل الهوامِّ تحرجًا وتحوُّبًا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين؛ «أحدهما» النور و«الثاني» الظُّلْمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، تنقذهم من ضَلالة الظُّلَم إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب وجرِّد فيها السيف وتقرَّب بأمرهم إلى الله لا شريك له، فإني رأيت جدَّك العباس في المنام قلَّدني بسيفين، وأمرني بقتل «الاثنين»، وقد نفَّذ الهادي وصية أبيه، ففتك بعدد كبير من الزنادقة والملاحدة، وأمر عماله في الأقاليم بتتبعهم وتحريق كتبهم والقضاء على حركتهم.

(٢) الأحوال الإدارية في عهده

كان الهادي فتًى جريئًا يحب أن لا يقطع صلته بشعبه، ويحرص على أن يظهر لهم في كل مناسبة ويطَّلع على أحوالهم ويدبر أمورهم بنفسه، وكان يعتقد أن بُعد الخليفة عن مسرح الإدارة مُخِلٌّ بالدولة.

فقد رووا أنه قال للفضل بن ربيع الذي ولَّاه حجابته بعد أبيه: «لا تحجب عنِّي الناس، فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تُلْقِ إليَّ أمرًا إذا كشفْتُه أصبته باطلًا، فإن ذلك يوقع بالملك ويضر بالرعية.»

وقال مرة لصالح بن علي: ائذن للناس بالجَفَلى لا النقرى،١ فكانت الأبواب تُفتح في عهده فيدخل الناس كلهم على بكرة أبيهم، فلا يزال ينظر في المظالم حتى يُدركه الليل، وكما كان الهادي يحب أن لا يقطع صلته بالناس كذلك كان يكره من الناس أن يتداخلوا في أمور دولته وإدارة أحوالها، سواء أكان ذلك المتداخل أخاه أو وزيره أو حاجبه أو أمه.

والمؤرخون يذكرون أن أمه الخيزران كانت في عهد أبيه قد تسلطت على شئون الدولة، تعمل ما تُريد، وكان المهدي يسكت عنها لحبه إياها واحترامه لها وتَطَلُّبِهِ رضاها، فلما ولي الهادي واستمرت على سيرتها لم يعجبه ذلك، فقد روى الطبري وابن الطقطقي وابن الأثير: أن الخيزران كانت متسلطة في دولة المهدي، تأمر وتنهى وتشفع وتبرم وتنقض، والمواكب تروح وتغدو إلى بابها، فلما ولي الهادي — وكان شديد الغيرة — كره ذلك وقال لها يومًا: يا أماه، ما هذه المواكب التي يبلغني أنها تغدو وتروح إلى بابك، أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يُذَكِّرك أو بيت يصونك؟ والله، وإلَّا أنا نَفِيٌّ من قرابة رسول الله، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله.

ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: أيما خير أنا وأمي، أم أنتم وأمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأُمك، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه؟ فيقال فعلَتْ فلانة كذا، وصنعَتْ أم فلان كذا؟ قالوا: لا نحبُّ ذلك، قال: فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها، فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها، وسنرى بعدُ أن هذه القصة كانت أحد الأسباب التي قضت عليه وقصرت عهده.

(٣) الوزارة والوزراء في عهده

لما بُويع الهادي استوزر الربيع بن يونس بن محمد بن كيسان المكنَّى بأبي فروة، كان وزيرًا للمنصور، عاقلًا حازمًا فصيحًا حاسبًا مدبِّرًا، وقد رأينا ذلك فيما مرَّ علينا من أخباره في عهد المنصور، فلما استخلف الهادي استوزره لسنِّه وعقله وعلمه، فأحسن تصريف الأمور، ولكنَّه غضب عليه آخرة عهده وقتله، وسبب قتله فيما زعموا أنه كان أهدى جارية حسناء إلى المهدي، فوهبها المهدي إلى ابنه الهادي، فغلب حبُّها عليه وأولدها أولاده، فلما تولى الهادي عظمت مكانة مولاها الربيع عنده، فضاق بذلك أعداء الربيع وأخذوا يتقولون عليه الأقاويل، ويذيعون في الناس أن الخليفة طوع بنان الربيع وجاريته، وبلغت هذه الأخبار الهادي فعزم على التخلص منه فسقاه عسلًا مسمومًا في سنة ١٧٠ھ فهلك، ولما مات استوزر الهادي إبراهيم بن ذكوان الحرَّاني، وكان إبراهيم قد اتصل بالهادي وهو حَدَثٌ؛ إذ كان يدخل عليه مع مؤدبه، وكان إبراهيم خفيف الروح ذكيًّا لطيفًا فأحبه الهادي وأَلِفَه وصار لا يصبر على البُعد عنه، وبلغت أخبارهما المهدي فخاف على ابنه الفساد والضلال، فنهاه عن صحبته فلم ينته، فطلب المهدي من الهادي أن يبعث به إليه فلم يقبل، فقال له: ابعث به إليَّ وإلَّا خلعتك من خلافة عهدي، فأرسله إليه مع بعض خاصيته معزَّزًا مبجَّلًا، فوصل إلى المهدي وهو يريد الخروج إلى قتال الثوَّار في جرجان، فلما رآه قال له: أنت إبراهيم، فقال: بلى، قال: والله لأقتلك، ثم أمر جنوده قائلًا لهم أن يحفظوه حتى يعود، ولكنه لم يعد من سفرته، فلما مات المهدي واستخلف الهادي ومات الربيع استوزره، ولما استوزره عظمت مكانته عنده وتحكَّم في الدولة كما يريد، ولكن عهده لم يطل؛ إذ فوجئ بموت مولاه وعاكسه الدهر فيما يتمناه.

(٤) ولاية العهد

رأينا أن المهدي عهد بالخلافة إلى ابنه هارون بعد ابنه الهادي، وأن هارون قد أخذ البيعة لأخيه بعد وفاة أبيهما وبعث إليه بالبردة والقضيب؛ لأنه كان مع أبيه حتى أدركته الوفاة، ويظهر أن الطمع والأنانية قد جعلا الهادي يُفكر في خلع أخيه هارون وجعلها في ولده، ولعله قد استظهر بقصة موسى بن عيسى من قبل، يقول المؤرخون: إن الهادي فكَّر في خلع أخيه هارون ووَضْع العهد في ابنه جعفر، وقد وافقه على ذلك بعض القواد والرؤساء، فأخذوا ينشرون بين الناس أقاصيص وأخبارًا كاذبة تحطُّ من قدر هارون، حتى إنهم وقفوا يومًا في المسجد الجامع يعلنون أنهم لا يقبلون بهارون، ولا يرضون بولايته عليهم، وأمر الهادي أن لا يسار بحريته أمام هارون كما هي العادة مع أولياء العهد.

وأخذ الهادي وأصحابه يمنعون الناس من الاختلاط بهارون ومن زيارته والتسليم عليه وقربه، ولم يكن لهارون في تلك المحنة صديق مخلص سوى يحيى بن خالد البرمكي، فكان لا يُفارقه ويُسليه ويُشجعه على الصمود ويُقوِّي عزمه، فقد أيس هارون وكاد أن يقبل بخلع نفسه، ولما بلغت أخبار يحيى بن خالد إلى الهادي استدعاه وقال له: ما هذا الذي يبلغني عنك، فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة هارون ثم بايعت لجعفر ابنك من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال له الهادي: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير، ولكنَّه على الرغم من النصح والاقتناع برأي يحيى لم يُقلع عن فكرته؛ لأن صحابته وقواده ظلوُّا يحرضونه على خلع هارون حتى جدَّ في ذلك، واشتد غضبه على هارون لما أبى أن يخلع نفسه، فأراد إكراهه على الخلع، فقال يحيى البرمكي لهارون: استأذِنْ في الخروج إلى الصيد، فاستأذن فأُذن له بذلك، ولما طالت غيبة هارون كتب إليه الهادي يستعجله، وهارون يعتذر بشتى المعاذير، فأعلن الهادي سخطه عليه وأخذ يبسط لسانه فيه ودعا صحابته إلى شتمه وقذفه، ثم حدث أن مرض الهادي مرضًا سريعًا لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام حتى مات، فانحلت الأزمة ورجع هارون ليتولى الخلافة، وقد اتهم الناس الخيزران أم الهادي بأنها سمَّتْهُ بِسُمٍّ بطيء لِمَا رأينا من قسوته عليها ومنعه إياها من التدخل في شئون الدولة، ولأنها كانت تُحب هارون، فلما رأت اشتداد غضب الهادي عليه وعزمه على خلعه فعلت فعلتها وسممته، وكان موت الهادي في مدينة «عيسى آباد».

(٥) خاتمته

رأينا أن الهادي كان قد طلب إلى أمه أن لا تتدخل في شئون الدولة، ولكنها لم تأبه به وظلَّت على سيرتها الأولى فضاق بذلك ذرعًا وأسمعها ما آلمها، فعزمت على التخلص منه منذ ذلك الحين، وكان منها ما رأينا في قصة سَمِّهِ ومرضه، ويروي بعض المؤرخين أنها لما رأت الهادي قد جدَّ في أمر خلع هارون من ولاية العهد أمرت بعض جواريها أن يخنقه وهو نائم ففعلن ذلك وقتلنه في دار حريمه في «عيسى آباد» قرب الموصل، وكان ذلك في يوم ١٤ ربيع الأول سنة ١٧٠ھ/١٥ أيلول سنة ٧٨٦م.

وهناك رواية ثالثة ذكرها الطبري، وخلاصتها أنه مات معتلًّا من قرحة في جوفه، ولكنه يظهر لي أن هذه الرواية قد لُفِّقَتْ بعد موته لئلَّا يُنسب قتل الخليفة إلى أمه؛ لشناعة هذا العمل وقبح صدوره من أمٍّ، وبخاصة الخيزران التي كان الرشيد يُظهرها بمظاهر الإجلال، ومهما يكن من شيء فإن الخليفة لم يَعِشْ طويلًا بعد غضبة أمِّه عليه، وبعد محاولته خلع أخيه، ولم يَدُمْ حكمه إلا سنة وشهرًا وبعض أيام.

ويذكر المؤرخون أن الخيزران بعثت أثناء مرض الهادي إلى يحيى البرمكي تُعلمه أن الهادي سيموت فليستعد للأمر، فأعدَّ يحيى عدَّته وهيأ الكتب للعمال من قبل هارون بوفاة الهادي وهو بعدُ حي، وأنه قد ولَّاهم على ما كانوا يَلُونه على عهد أخيه، وما إن مات الهادي حتى أُنفذت تلك الكتب على البر سريعًا، وهكذا انقضت حياة الهادي على يد أمه أو بعض المتآمرين، وأخذت الدولة العباسية منذ ذلك اليوم تسلك مسلكًا جديدًا في سبيلٍ من المؤامرات والدسائس، فبرزت سلطة النساء والجواري، وسنرى النتائج القبيحة لهذا الأمر فيما بعد، ولا بدَّ لنا من أن نختم القول عن الهادي ببيان بعض مزاياه التي أشرنا إلى شيء منها أول حديثنا عنه، فالمؤرخون يُجْمِعُون على أنه كان فتًى نبيلًا سَرِيًّا يقظًا غيورًا عالمًا واسع الثقافة، محبًّا للأدب والعلم والفن، ويروون أنه أعطى العالِم الأديب ابن دأب ثلاثة آلاف دينار؛ لأنه أنشده أبياتًا أعجبته، كما أنه أعطى سلمًا الخاسر الفيلسوف المترجم الشاعر ثلاثمائة ألف درهم لقصيدته التي يقول فيها:

لولا هُداكم وفضل أولكم
لم تَدْرِ ما أصل دينِها العَرَب

أما بعد؛ فقد كان الهادي فتًى من فتيان قريش آتاه الله عقلًا ونبلًا وبسطة في العلم والمال، فأخذ يسلك بالخلافة مسلك الفخامة والجلال والعظمة، وينثر الذهب والفضة ليُعلي من قدر الخلافة، وقد كان لأهل العلم والفن نصيب كبير في ماله وجاهه، قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: «كان إسحاق الموصلي وأبوه إبراهيم المغنيان الأديبان الأشهران يعيشان في كنف الهادي وينعمان بخيرات وفيرة من فضله، فقد كان يُحب الغناء والطرب ويُحسن الاستماع.» وفي الأغاني كثير من أخباره مع المغنين الأدباء والشعراء وأهل الفن تدلنا على تقديره للفن وأهله، قال إسحاق الموصلي: والله لو عاش لنا الهادي لبنينا حيطان دورنا بالذهب.

١  الجفلى: دعوة الطعام للناس عامة، والنقرى الدعوة الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤