الفصل السادس

الكلام على الرق في مصر من حيث العرف والأخلاق

ولنأتِ الآن بكلام وجيز على الكيفية التي عومل بها الرقيق من حيث العرف والأخلاق والعادات في مصر.

إذا صرفنا النظر عن الأحوال الاستثنائية القليلة التي كان بعض الأسياد فيها يهينون عبيدهم، ويسيئون معاملتهم، بل ويعدمونهم حياتهم، يجمل بنا أن نقول بأن هذه الأعمال لا يتأتى الآن تكررها، ولا يمكن لأحد الإقدام عليها، والفضل في ذلك راجع لحكومتنا الحالية النظامية الدستورية، ولعناية وليِّ نعمتنا الذي بسط جناح رعايته على جميع أفراد رعيته.

على أننا نقول: أي بلد يخلو من خبثاء شريرين لا يرعون عهدًا ولا زمة؟ فهل يصح للإنسان أن يحمل آثام هؤلاء النفر القليل على عاتق أمة بأكملها؟

وإذا صرفنا النظر عن هذه المغايرات النادرة، واعتبرنا حالة الرقيق العامة، رأيناها أفضل من حالة الخدم الآخرين، فإن سيد الرقيق كان يرعاه ويشفق عليه أكثر من غيره، لكونه منقطعًا لا عائلة له، وكان يأمره بما لا يشعر بالشدة والعنت والعنفوان، وما كان يسعى في تحقيره وإذلاله، وكان كثيرًا ما يعتق العبد ليزوِّجه، أو الأمة ليتزوجها.

وكثير من المسلمين يعتقون أرقاءهم بعد أن يخدموهم عددًا معينًا من السنين، إطاعة لما أمرتهم به شريعتهم الإلهية، فإنها أكثرت من وصايتهم بهذا العمل الخيري الإنساني، بل إنهم يزوِّجون الإماء بأبنائهم ويمهرونهن بحسب ثروتهم، ويربون أولاد أرقائهم ويعتقونهم ويسعون لهم في وظائف ينالون منها الرزق، وقد خرج من هذه الطائفة ملوك وسلاطين مثل كافور الإخشيدي الذي تولى على بلاد مصر من سنة ٩٦٦ إلى سنة ٩٦٨ ميلادية، وكثيرين غيره من الموظفين ذوي المناصب السامية والمقامات العالية ممن خدموا بلادهم بالصدق والأمانة، مثل آدم باشا الذي كان قائد الجيش المصري، ومثل ألماس بك الذي كان ميرالايًا في الجيش المصري المبعوث إلى المكسيك في أمريكا، على عهد المغفور له سعيد باشا، وغيرهما من العدد العديد.

ولا يجهل أحد ما كان للطواشية (الخصيان) من الشأن الأكبر والنفوذ المهم في القسطنطينية وفي مصر القاهرة، ففي بلادنا كان أعاظم القوم وسراتهم يتملقون ويتزلفون إلى ألماس أغا طواشي والدة عباس باشا، وخليل أغا طواشي سعيد باشا، ثم خليل أغا المشهور طواشي والدة الخديوي السابق، وكلهم قد جاءوا من بلادهم في أحقر الحالات وأنكدها، فساق الله لهم السعادة، ورزقهم الغنى الوافر والثروة الطائلة.١

ومتى طعن العبد في السن أو أصابته عاهة من العاهات أعفي من كل الأعمال إذا كان قد رفض الحرية بعد أن عرضت عليه، ولم يكن يشتغل إلا بالعناية بأولاد سيده، فإذا لم يتيسر له بعد العتق كسب القوت لسبب من الأسباب، كان سيده يقوم بنفقته.

وكان الرقيق على الدوام ينال مكافأة من الدراهم يعيِّنها له سيده بحسب مقدرته، وكثيرًا ما ينذر الإنسان فك الرقبة إذا أناله الله حاجة يسعى في طلبها.

وأما العبيد البيض (وهم المماليك) فكانت حالتهم أحسن بما لا يقدر؛ إذ كانت المرأة تكاد تكون على الدوام مخصصة لأن تكون زوجة الرجل أو ولده أو حظية أحدهما، وكانت نساء السلاطين وملوك المشرق (إلا فيما ندر) وكبار الموظفين من هذه الطائفة.

وأما الشبان منهم فكانوا يتربون مع أولاد ساداتهم، ويتعلمون ويتأدبون معًا على حدٍّ سواء، حتى إذا بلغوا سنًّا معينة أعتقهم مواليهم وزوجوهم بناتهم، وكانوا يصلون إلى تولي المناصب الرفيعة في إدارة الحكومة؛ ففي أيام المماليك كانت رتبة البكوية لا تُعطى إلا للعبيد المماليك، مثال ذلك: علي بك وإبراهيم بك ومراد بك (الذين قاتلوا الفرنساوية واستبدوا على مصر وأهلها)، فقد ابتاعتهم ساداتهم من الأسواق، وها نحن نشاهد الآن عتقى محمد علي وإبراهيم باشا، وخصوصًا عباس باشا، متقلدين المناصب السامية، وحائزين للرتب الرفيعة، والدرجات العالية، ومتنعمين بالثروة الطائلة.

وقد كان يتفق في بعض الأحيان أن الأسياد والسيدات يتبنون مماليكهم من الذكور والإناث، ولنا على ذلك شواهد كثيرة لا تخفى.

وكثيرًا ما كان الموالي يوصون لمماليكهم بجميع أملاكهم وأموالهم، وكان العبيد من السودان يشتركون أيضًا في هذه المزية مثل المماليك، ولنذكر لك مثالًا واحدًا وقع في أيامنا هذه بدلًا من الاستشهاد بأمور بعيدة عن ذكرنا: ألم تترك المرحومة قادن أفندي والمغفور لها إينجو خانم أفندي هبات سنية وعطايا واسعة من أرض ودراهم لجميع عتقاهما وخدمهما بلا تمييز في الألوان؟

وما كان للسودانيين مع ما يلاقون من المعاملة بالحسنى أن يعقدوا آمالهم على الظهور وبلوغ الدرجات العالية مثل ما كان ذلك مقدورًا للمماليك ذوي اللون الأبيض.

ومن هذا كله يمكننا أن نستنتج أن المماليك البيض لم يكونوا أرقاء إلا بالاسم.

•••

لا يجهل أحد من الناس ما بذلته إنجلترة من المساعي في إبطال الاسترقاق، وأنها لأجل نوال هذه الغاية الإنسانية قد عقدت العهود وأبرمت المواثيق مع عدد عظيم من دول أوربا وآسيا وأمريكا وأفريقيا، وبعد أن لاقت في طريقها صعوبات جمة قد فازت بالنجاح ونالت الأرب، وقد اشتركت مصر في ذلك، وأبرمت معاهدة مع إنجلترة في ٤ أغسطس سنة ١٨٧٧ من مقتضاها أن الاسترقاق والنخاسة ملغيان في جميع أنحاء القطر المصري، ومن جملته السودان، وقد عملت حكومتنا على مقتضى أصول الدين وقواعده من حيث الحض على العتق، فلم تكتفِ بمراعاة نص هذه المعاهدة، بل فعلت ما هو زائد عليها، فوضعت أقلامًا عديدة في جميع الأقاليم لعتق من يطلب ذلك منها من الأرقاء، وجميع هذه الأقلام تحت ملاحظة الماهر النشيط الميرالاي شارل شفر بك مدير عموم مصلحة إلغاء الرقيق، والنتائج التي نجمت عن هذا الترتيب ظاهرة لا يصح نكرانها.

ولنتمم الآن هذا البحث الصغير بإسداء الشكر الجزيل لمولانا الموفق وخديوينا الأكرم على ما بذله من العناية العظمى والرعاية الكبرى في إكمال هذا المشروع الخيري؛ ليجعل رعاياه راتعين في بحبوحة النعيم والحرية، أدامه الله مصدرًا لإسعاد البلاد ومن فيها من العباد.

•••

ولما كانت مسألة الاسترقاق من المسائل التي شغلت بها أوربا في هذه الأيام فقد عقدنا النية على أن نشتغل بها بنوع خاص، ولنا الأمل في وجه الله الكريم أن يتيح لنا في يوم من الأيام إتحاف جمهور القراء ببحث مطول مستوفى على هذه المسألة، ونسلك فيه الطريق الذي انتهجناه في هذه الرسالة، إلا أنَّا نوفي المقام ونطيل الكلام في جميع الأبواب، وخصوصًا في البابين الأخيرين، ثم نضيف إليه ما يأتي:

  • أولًا : فتاوى القضاة والعلماء في البلدان الإسلامية المختلفة التي تحرم النخاسة تحريمًا يُبنى عليه تحريم ما هو واقع من الفظائع في أفريقيا الوسطى، فيعرف بذلك حضرة الكردينال لافيجري أن علماء الدين عندنا لا يتقاعسون أبدًا عن إبداء الحق، ولا يخشون فيه لومة لائم.
  • ثانيًا : أفكار كبار المؤلفين الذين كتبوا في الاسترقاق.
  • ثالثًا : جدولًا إحصائيًّا ببيان العتقى بمصر، والأوقاف التي خصصت لهم بعد موت مواليهم.
  • رابعًا : كلامًا وجيزًا على الاسترقاق من حيث فن التدبير والاقتصاد، ومن حيث نتائج إلغائه في بلادنا، والوسائل التي ينبغي اتخاذها للمستقبل.

ونتكلم فيه أيضًا على النخاسة من حيث التاريخ والارتباطات الدولية، فنأتي على ذكر كل اتفاق مهم أبرم لهذا الغرض، ونقابل الأهم منها بالأهم، ونخصص بابًا لإلغاء النخاسة والاسترقاق في البلاد المختلفة، وللنتائج التي حصلت بعد هذه الاتفاقات، ونختم بحثنا ببيان بعض أوجه الخلاف الظاهري بين نصوص الشريعة الإسلامية وبين شروط المعاهدة التي أبرمتها إنجلترة مع مصر، ونذكر من طرق التوفيق بينهما ما يندفع به الإشكال إن شاء الله.

وهنا ندعو جميع الذين تعنيهم هذه المسألة إلى التفضل علينا بكل ما يلوح لهم من الملحوظات على هذا الكتاب، وما عندهم من الآثار، وإعانتنا بما لديهم من المعلومات والأفكار حتى يتيسر لنا بحوله تعالى إنجاز صنيعنا الكبير الذي عقدنا النية عليه، والله الموفق لعباده، وهو الهادي إلى سواء السبيل.٢

هوامش

(١) كان اتخاذ الطواشية قبل الإسلام، فإن نارسيس وهو من أعظم قواد المملكة الرومانية الشرقية كان خصيًّا، ومثله بوطيفار (قطفور) مولى يوسف عليه السلام، ومثلهما أوريغانس مفسر التوراة الذي ولد بالإسكندرية في سنة ١٨٧ ميلادية قد جب مذاكير نفسه لئلا تكون أخلاقه عرضه للشك والريبة، وغيرهم كثيرون. ا.ﻫ. مترجم.
(٢) لم تُتِح لي الظروف أن أحقق هذه الأمنية لمشاغلي الكثيرة بعد ذلك واهتمامي بإصدار الحوليات والمذكرات، وإني لأرجو أن يتقدم غيري ليحققها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤