الفصل العاشر

الرقابة والثقافة السيبرانية العالمية

تَعتبر الشبكةُ الرقابةَ تخريبًا لها وتلتفُّ حولها.

جون جيلمور، المؤسِّس المشارِك لمؤسسة الحدود الإلكترونية، ١٩٩٣1

يحمل كثير من مواطِنِي النت صورةً وهميةً للإنترنت كشبكة عالمية حرة لا حدودَ لها؛ وتعزِّز مقولة جيلمور الشهيرة تلك الصورة. يُعتبَر الإنترنت شبكة عالمية من روابط تتيح للمعلومات التدفُّق في مسارات متعددة ملتفة حول أية حواجز تُقِيمها الدولُ البوليسية، والرقباءُ المناهِضون للمواد الإباحية، والشركاتُ التي تسعى إلى تقييد نفاذ موظفيها إلى شبكات التواصل الاجتماعي. وكما هو الحال مع كثير من المعتقدات الشعبية عن النت، فإن الواقع ليس بهذا القدر الكبير من الاختزالية.

جدول ١٠-١: مستويات الرقابة على الإنترنت.
المستوى النطاق أمثلة
الدولي النفاذُ إلى المحتوى محجوبٌ على المستوى العالمي تقريبًا، و/أو يُلاحق مَن يسعى خلفه قانونيًّا. المواد الإباحية التي تتضمَّن أطفالًا – الإدانة الحكومية عالمية.
الوطني يُحجَب بعض المحتوى بحسب المعايير السياسية الوطنية و/أو الأخلاقية. ملاحقة فرنسا لشركة ياهو بسبب مواقعها التي تعرض تذكارات نازية. حجب مصر شبه التام لإمكانية النفاذ إلى الإنترنت على المستوى الوطني عام ٢٠١١ كردٍّ على احتجاجات المواطنين.
الولاية أو الإقليم حجب المحتوى بناءً على المعايير الإقليمية. تحجب المدن والأقاليم في روسيا مواقعَ مثل يوتيوب وإنترنت أركايف.
الشركة أو المستوى المحدود حجب النفاذ إلى محتوى بعينه (شبكات التواصل الاجتماعي أو مواقع المقامرة أو المواقع الإباحية) بناءً على معايير الشركة أو المنظمة. استخدام التكنولوجيات مثل حاجبات الكلمات المفتاحية لمراقبة و/أو منع نفاذ الموظفين إلى الإنترنت على أجهزتهم.
الشخصي الرقابة التي يفرضها الآباء بالمنزل على أطفالهم. الرقابة الذاتية بناءً على المعايير الاجتماعية أو المؤسسية أو الدينية. تثبيت برمجيات الحجب المحمية بكلمات مرور على أجهزة المنزل. تجنُّب مواقع المقامَرة أو المواد الإباحية في أماكن العمل.
وكما استعرضنا في الفصل التاسع، ساق باحثا الإنترنت جاك جولدسميث وتيم وو أمثلةً عدة على عملياتِ رقابةٍ ناجحة على محتوى الإنترنت على يد الدول القامعة سياسيًّا (الصين، على سبيل المثال)، بل في الدول الديمقراطية أيضًا مثل فرنسا.2 وهما يلفتان الانتباهَ كذلك إلى أن أول شيء يُطلَب من المستخدِم الجديد على كثيرٍ من المواقع هو تحديد جنسيته بالاختيار من قائمة بالبلدان (أو داخل البلد عن طريق الرمز البريدي). وما إنْ يتمِّم المستخدِم هذه الخطوة، يعرض له الموقعُ معلوماتٍ مفصَّلةً بحسب جنسية المستخدِم أو لغته أو جماعته. ويقول جولدسميث وَوو إن هذا غالبًا ما يجعل المعلومات أكثر نفعًا بتقييدها وفْقَ احتياجات المستخدِم الآنيَّة؛ فمعلوماتُ الطقس المحلية عادةً أكثر نفعًا من البيانات الوطنية، خاصةً في البلدان الأوسع رقعةً؛ ومن ثَمَّ، فأولُ خطوة في تحليل النفاذ العالمي إلى الإنترنت هي التمييز بين الرقابة على الإنترنت — تقييد ما بوسعك مشاهدته — وفَلْتَرة المحتوى؛ وهي عملية مستقلة لتضييق معطيات البحث لبلوغ المعلومات التي يبحث عنها المرء وحدها. والأسسُ المنطقية وراء الرقابة على الإنترنت (التقييد المتعمَّد لنفاذ المواطن أو الموظف الحر إلى المعلومات) متشعِّبةٌ وتتنوَّع بحسب مستوى ونطاق التقييد (انظر الجدول ١٠-١).

فرض الرقابة على الإنترنت

المواد الإباحية التي تعرض صورًا لأطفال تنال الإدانة في جميع أنحاء العالم، حيث تجري إساءة معاملة الأطفال واستغلالهم لصنع هذه الصور؛ ما يوفِّر الأساسَ المنطقي لملاحَقةِ مَن يصنعون هذا النوع من المواد الإباحية، ومُلاحَقة مَن يحوزون هذا المحتوى أيضًا، في كثيرٍ من الدوائر القضائية. وعلى الرغم من أن المعايير القانونية لإنتاجِ واستهلاكِ البالغين للمواد الإباحية تتباين تبايُنًا شديدًا من دولةٍ لدولة (هولندا مقارَنةً بالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال)؛ فإن استغلال الأطفال في المواد الإباحية ينال إدانةً عالمية. والمشكلةُ في محاوَلةِ حجْبِ نشرِ المواد الإباحية التي تعرض أطفالًا هي أن خاصية الإنترنت التي تساعد على تكوين مجموعات الاهتمامات المشتركة التي لا تحدُّها حدودٌ جغرافية على مستوى الكوكب؛ هي ذاتها التي تمكِّن شبكاتِ مشتَهِي الأطفالِ جنسيًّا من مشارَكة هذا المحتوى المجرَّم أخلاقيًّا. تذكَّرْ كتابَ جاك إيلول، «التقنية» (راجع الفصل الثالث)، حيث يقول إن الآثار المحمودة والمذمومة لانتشار التكنولوجيا تقع في الوقت نفسه ولا سبيل إلى فصلها؛ فالتكنولوجيا ذاتها التي تمكِّن المجموعات من التعبئة من أجل الاحتجاج على مظاهر إساءة استخدام الحكومة للسلطة (في مصر مثلًا)، تتيح كذلك لمشتهِي الأطفال جنسيًّا مشارَكةَ المواد الإباحية التي تعرض أطفالًا، أو تتيح لمجموعات الكراهية التحريض على العنف.

في أبريل من عام ٢٠٠٠، أدانَتْ محكمةٌ فرنسية شركةَ ياهو للبحث على الإنترنت، الكائنة بوادي السليكون، بانتهاك القانون الذي يحظر بيع تذكارات نازية إلى المواطنين الفرنسيين. اكتشف أحد محركي الدعوى، عصبة مناهَضةِ العنصرية ومكافَحةِ معاداة السامية، أن التذكارات المباعة على موقعٍ تستضيفه ياهو تضم صورًا من معسكرات الاعتقال، وأعلامًا نازية، ونُسَخًا مقلَّدة من عبوات غاز زيكلون بي التي استُخدِمت لإعدام المحتجزين بغرف الغاز في معسكرات الموت. رفعت المنظمة دعوى ضد شركة ياهو أمام محكمة فرنسية لحجب موقعها.3 يوجد بباريس وغيرها من المدن الفرنسية نُصب تذكارية للتسعين ألفَ يهوديٍّ فرنسي الذين قُتِلوا في معسكرات الاعتقال النازية إبَّان الحرب العالمية الثانية، فقضيةُ الهولوكوست مسألةٌ أصيلة في فرنسا.4
استند دفاع ياهو إلى ثلاث نقاط جوهرية: (١) أن المحاكم الفرنسية ليست لها صلاحية قضائية على محتوى الإنترنت المحمول على خوادم بالولايات المتحدة. (٢) وأن الأمريكيين سيُحرَمون من حقوقهم بموجب التعديل الأول للدستور الأمريكي، وذلك من خلال إلزام المحتوى باستيفاء المعايير القانونية الداخلية لدول أخرى. (٣) والأهم أنه سيستحيل تقنيًّا فَلْتَرة محتوى الإنترنت بحيث لا يتسنَّى للمواطنين الفرنسيين مشاهدته.5 أثناء نظر الدعوى في باريس، بلغ علم القاضي جان جاك جوميز وجودُ تكنولوجيا لفَلْتَرة محتوى الشبكة الويب بناءً على عنوان بروتوكول الإنترنت للمستخدِم، ومقدِّم خدمة الإنترنت المتعاقد معه. وبلغ علم المحكمة أيضًا أن خوادم ياهو كائنة فعليًّا في ستوكهولم بالسويد، وأن موقع كاليفورنيا ينسخ محتويات الموقع فحسب. شكَّلَ القاضي لجنةً من ثلاثة خبراء تقنيين (ضمَّتْ رائدَ الإنترنت فينتون سيرف) للتحقيق في الزعم بأنه يستحيل أن تتمكَّن ياهو من فَلْتَرة المحتوى بناءً على جنسية المستخدِم. لكنَّ الخبراء انتهوا إلى عكس ذلك.
كان بوسع ياهو منع ما يصل إلى ٩٠ بالمائة من المستخدِمين الفرنسيين من مشاهدة محتوى الإنترنت المحظور؛ فحكمَتِ المحكمة في ٢٠ نوفمبر من عام ٢٠٠٠ بأنه على ياهو أن تبذل «أفضل جهد» معقول لحجب المواقع النازية عن المستخدِمِين الفرنسيين لياهو.6 بعد أن أقامت ياهو جزءًا من دفاعها الأساس أمام المحكمة الفرنسية على «استحالة» حجب مستخدِمِي النت بناءً على الموقع الجغرافي، كشفَتِ الشركة عن أنه بوسعها القيام بذلك «لأغراض توجيه الإعلانات».7 أعقَبَ ذلك سنوات من الاستئناف أمام المحاكم الأمريكية، لكن ياهو أزعنَتْ في النهاية في هذه المسألة، وحجبَتْ مواقعَ التذكارات النازية في فرنسا. الدرسُ الأساسي المستفاد هنا هو أن رؤية تسعينيات القرن العشرين لشبكة الإنترنت العالمية المتحرِّرة من الحدود الوطنية والقوانين والعادات الإقليمية؛ هي نظرة مبسطة تتجاهل جهود الدول منذ عام ٢٠٠٠ لتقييد النفاذ إلى محتوى الإنترنت، الذي تقضي محاكمها بعدم قانونيته أو فُحشه أو إثارته للفتنة.

الرقابة على الإنترنت في إيران

عقب الانتخابات الوطنية المثيرة للجدل في إيران في يونيو من عام ٢٠٠٩، حاولت الحكومة الدينية حجْبَ النفاذ عبر الإنترنت إلى بقية العالم لمنْعِ نشر أو إذاعة صور الاحتجاجات بالشوارع. ومع تصاعُد الاحتجاجات في اليوم الذي تلا إعلان نتائج الانتخابات (التي اعتبرها المراقِبون المحايدون انتخاباتٍ مزوَّرةً)، حُجِب النفاذ عبر الإنترنت إلى إيران ومنها لمدة ٣٠ دقيقة.8 ومع محاولة الحكومة بصعوبة التحكُّم في المعلومات المتدفقة خارج البلد، عن طريق مراقَبة حركة البيانات على الإنترنت، تحوَّلَ النشطاء إلى وسائل بديلة لتبليغ الاحتجاجات إلى العالَم الخارجي؛ فتحوَّلوا من أنماط الاتصال التقليدية المتمثِّلة في استخدام خطوط الهاتف الأرضية والتليفزيون والبريد الإلكتروني (التي حُجِبت أو فُرِضت عليها رقابة)، إلى استخدام الهواتف المحمولة أو تغريدات تويتر التي لم تكن محجوبةً.
fig38
شكل ١٠-١: ندا أغا سلطان، مغنية إيرانية وطالبة موسيقى تبلغ من العمر ٢٧ عامًا، قُتِلت في طهران أثناء المشاركة في احتجاجات بالشارع ضد نتائج انتخابات عام ٢٠٠٩ التي أبقَتْ على الرئيس محمود أحمدي نجاد بالسلطة.
fig39
شكل ١٠-٢: أُصِيبت ندا أغا سلطان بطَلْق ناري في صدرها، أطلقه عليها قنَّاصُ ميلشيا الباسيج الذي هاجَمَ المتظاهرين. التقَطَ أحدُ المارة فيديو مصرعها بهاتفه المحمول، ثم حمَّلَه فيما بعدُ على الإنترنت.
كانت ندا أغا سلطان تقود سيارتها بصحبة ثلاثٍ من صديقاتها بوسط طهران في ٢٠ يونيو من عام ٢٠٠٩ للمشاركة في الاحتجاجات المناهِضة للحكومة، ثم ركنَتْ سيارتها. اصطحبَتْ ندا طالِبةُ الموسيقى البالغةُ من العمر ٢٧ عامًا مدرسَ مادة الغناء معها ذاك العصر، وبمجرد أن ترجَّلَتْ من سيارتها أصيبَتْ بطلقة رصاص في صدرها أطلقها قناصٌ متمركز على سطح قريب. خرَّتْ ندى صريعةً على الأرض في الوقت الذي سجَّلَ عدة شهود ثلاثةَ مقاطع فيديو للمشهد المروِّع.9 أكثر المقاطع انتشارًا يُظهِر ندا ملقاةً على الأرض وعيناها تطوف فيمَن حولها في صدمةٍ، ثم ينبثق الدمُ من فمها وأنفها، ويغطي وجهَها وتتجمَّع بركةٌ من الدماء على الأرض حول رأسها، والمارةُ يصرخون ويطلبون النجدةَ. بعدها بدقائق برَزَ رجلٌ مسلَّح من ميلشيا الباسيج (قوات التعبئة الشعبية التابعة للحرس الثوري الإيراني) من منزلٍ قريبٍ، واحتجزه المتظاهِرون بالحشد الذي صوَّرَه بعد أن اعترف أنه أطلَقَ الرصاص على ندا. ثم أطلَقَ الحشدُ سراحَه ليغادر موقعَ الأحداث، لكنهم تعرَّفوا عليه فيما بعدُ عن طريق بطاقة هويته التي استولى الحشد عليها. وبفضل الجدار الناري الرقمي الذي أقامه رقباءُ الحكومة حولَ إيران، ربما ما كانت أخبار هذه المأساة لتبلغ المواطنين خارجَ البلد، وما كان ليُفجَع بوفاتها سوى أسرتها وأصدقائها فقط.
وعلى الرغم من الجهود الحكومية المبذولة للرقابة على كلِّ صورِ التغطية الإعلامية للمتظاهرين، سرعان ما انتشر الفيديو المصوَّر بهاتفٍ محمولٍ على الإنترنت وعلى موقع يوتيوب في النهاية. لفتَتْ تغريدات تويتر (المصحوبة بالهاشتاج #neda)، داخلَ إيران وكذلك خارج البلد، الانتباهَ إلى القصة وأحالَتْ قرَّاءَها إلى المواقع المنشور عليها الفيديو. في غضون يومٍ واحدٍ شاهَدَ الملايين حول العالم الفيديو وتحوَّلَ مقتلُ ندا إلى رمزٍ للقوى المطالِبة بالديمقراطية التي تحتجُّ على إعادة انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد. أوضح نشْرُ الفيديو على الإنترنت أنه على الرغم من بذل الحكومة الإيرانية قصارى جهدها لحجب النفاذ إلى الإنترنت إبَّان الاحتجاجات، استُخدِمت وسائلُ اتصالاتٍ عن بُعْد أخرى (عبر الهواتف المحمولة) لتخطِّي حواجز الرقابة. وعلى الرغم من أن دولًا مثل إيران والصين طوَّرَتْ وسائلَ للسيطرة على النفاذ إلى الإنترنت وتنظيمه؛ فإنه يمكن استخدام أنماطِ اتصالٍ أخرى لتخطِّي هذه الحواجز، وسوف تُستخدَم.

سور الصين الناري العظيم

أنشأَتِ الصين جدارَها الناري الرقابي عام ١٩٩٨ كاستجابةٍ للنمو السريع للنفاذِ إلى الإنترنت في ذاك البلد، وجهودِ المواطنين الصينيين لاستخدام النت كمنتدًى للنقاش السياسي المفتوح وانتقاد الحكومة. شملت المواد المحجوبة على الإنترنت المحتوى الحسَّاسَ سياسيًّا المتعلِّق بجماعة فالون جونج الدينية المحظورة، والحكم القومي الصيني لتايوان، والموادَّ التي تعتبرُها الحكومةُ الصينية إباحيةً، والمحتوى حول الدالاي لاما وجهوده من أجل انفصال إقليم التبت مرةً أخرى واعتباره دولةً مستقلةً، وأيَّ ذِكْرٍ لمذبحة ساحة تيانانمن (السلام السماوي). ومن بين المواقع التي حُجِبت بشكل دوري في الماضي: سي إن إن (بعد مذبحة تيانانمن)، وبي بي سي نيوز، وويكيبيديا. حجَبَ سورُ الصين الناري العظيم الموسوعةَ الإلكترونية تمامًا في أكتوبر من عام ٢٠٠٥، ثم رُفِع الحجب في أكتوبر من عام ٢٠٠٦، عدا النسخة الصينية والمقالات التي حول جماعة فالون جونج وتظاهرات ساحة تيانانمن.10 هذا مثالٌ آخَر على رقابة الصينيين على المحتوى الإلكتروني الذي يعتبرونه مشكلًا، لا سيما التفاصيل حول مصرع ما بين ٤٠٠ و٨٠٠ متظاهِرٍ شابٍّ ينادي بالديمقراطية في ١٩٨٩ على يد الجيش الصيني في ساحة تيانانمن ببكين.11 بعد حذف المحتوى المخالف من الموقع، أُعِيد نشر النسخة الصينية للموقع في ٢٠٠٧. والتَقَى في ٢٠٠٨ كاي مينجشاو؛ نائبُ مدير مكتب معلومات مجلس الدولة الصيني، بجيمي ويلز مؤسِّسَ ويكيبيديا لنقاشِ جهودِ الموسوعة الإلكترونية لتوفيرِ محتوًى غيرِ مُراقَب على موقعها، يُنشَر الآن ﺑ ٢٧٩ لغةً.12
يستخدم سورُ الصين الناري العظيم عدة طرق لفلترة وحجب المحتوى الإلكتروني على مستوى المعلومات المتدفقة من الخارج وعلى المستوى الداخلي. وقد تبدو هذه إشكاليةً بدولةٍ تضمُّ أحدَ أسرع شعوب العالَم تبنِّيًا لتكنولوجيا الإنترنت؛ فاعتبارًا من سبتمبر ٢٠١١، بلغ عددُ مواطني جمهورية الصين الشعبية المستخدِمين للإنترنت ٤٨٥ مليونَ مواطن؛ أيْ ٣٦ بالمائة من تعداد سكانها البالغ ١٫٣٣ مليار نسمة. والأبرز من ذلك هو معدل النمو في العقد المنصرم؛ فقد زاد عدد مواطني جمهورية الصين الشعبية المستخدِمين للإنترنت ٤٦٢ مليونًا منذ عام ٢٠٠٠.13

تستخدم الحكومة الصينية تكنولوجيا الكمبيوتر التي تتضمَّن فلترةَ عناوين صفحات الويب والكلمات المفتاحية، إضافةً إلى حجب عناوين بروتوكولات الإنترنت، وهي تقنية ابتُكِرت في الولايات المتحدة؛ فإلى جانب أن التكنولوجيا صُمِّمت باستخدام خبرات أمريكية، تزداد فاعليتُها باستعدادِ مقدِّمِي المحتوى وشركات البحث الإلكتروني بالولايات المتحدة لحجْبِ المحتوى المحظور على المواطنين الصينيين (الأمر أشبه بالحجب الانتقائي لبعض المواد عن المواطنين الفرنسيين). ابتُكِرت تكنولوجيا الفلترة والحجب في تسعينيات القرن العشرين بالولايات المتحدة للسماح للمؤسسات بمراقَبة ما يُطالِعه موظَّفوها على الإنترنت وما يكتبونه بالبريد الإلكتروني؛ فيجري تثبيت برنامجٍ على الشبكة الداخلية لدى المؤسسة، من أجل البحث عن كلماتٍ مفتاحيةٍ مثل ألعاب الورق وفتيات فاتنات وموقع إي باي (لمنع التسوُّق الإلكتروني أثناء ساعات العمل). وربما يجري فحص البريد الإلكتروني بحثًا عن كلمات مشابهة، لكن الخاصية الرئيسية كانت القدرةَ على البحث عن أسماء المشروعات السرية المحظور إفشاؤها إلى أيِّ شخصٍ خارجَ الشركة. ومخالفاتُ سياساتِ النفاذ إلى الإنترنت الخاصة بالمؤسسات قد تؤدِّي إلى عقد جلسةٍ مشورة مع المخالِف بمكتب مديره، أو قد يبلغ الأمر فسْخَ عقدِ عملِه إنْ كانت المخالَفةُ صارخةً بما فيه الكفاية. وما سهَّلَ تشييدَ سور الصين الناري العظيم كان العددَ المحدود لنقاط الوصول إلى شبكات الاتصالات عن بُعْد الداخلية بالصين. كذلك ركَّبَتِ الحكومة أجهزةَ راوتر سيسكو تتمتَّع بخاصية الحجب في الشركات الكُبرى مثل تشاينا تيليكوم. ويقوم الجدارُ الناري بما هو أكثر من الحجب؛ فالتكنولوجيا هي أيضًا وسيلةُ رصْدٍ للإيقاع بمَن ينشرون محتوًى تعتبره الحكومةُ الصينية مثيرًا للفتنة؛ ومن ثَمَّ تُلاحِقهم قضائيًّا.

تخطِّي سور الصين الناري العظيم

ثمة قصة مأساوية مشابِهة تُبرِز جهودَ الحكومة الصينية لإسكات التقارير الإعلامية التي لا تتملقها أو تدلل على أن المسئولين الرفيعي المستوى أو أُسَرهم فوقَ المساءلة القانونية؛ ففي مساء ١٦ أكتوبر من عام ٢٠١٠ كانت ثمة طالبتان بجامعة خبي تمارسان رياضةَ الباتيناج قُرْبَ متجرٍ كبيرٍ بحرم الجامعة بمدينة باودينج عندما صدمتهما سيارة مُسرِعة.14 كان قائد السيارة، لي شمينج، البالغ من العمر ٢٢ عامًا مخمورًا، وعندما استوقفَتْه شرطةُ الحرم في النهاية صاح فيهم: «قاضوني إنْ تجرأتم. إنَّ أبي لي جانج!»15 نجَتْ إحدى الطالبتين من الحادث لكن كُسِرت ساقها، أما الأخرى، تشين شاو فينج البالغة من العمر ٢٠ عامًا، فقضَتْ نحبها اليومَ التالي بمستشفًى محليٍّ من جرَّاء إصاباتها. في الوقت الراهن بالصين، غالبًا ما يحذف مقصُّ رقيبِ إعلام الدولة القصصَ الإخبارية السلبية المتعلِّقة بتُهَم فسادٍ أو إساءةِ استخدامِ السلطة من قِبَل مسئولي الحزب الحاكم. وقد أطلع طالبٌ بجامعة خبي مايكل واينز، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، على ما يلي:
في البداية، ورد ذِكْر الحادث على استحياءٍ على قناة الجامعة الإذاعية، ثم طوى الكتمانُ الحادثَ بعدَها. لقد خاب ظننا بشدة في الصحافة لمنع تغطية هذا الخبر الخطير.16
fig40
شكل ١٠-٣: تشين شاو فينج. طالبة جامعة خبي التي صدَمَها لي شمينج بسيارته وهو مخمور؛ ما أدَّى إلى وفاتها.
fig41
شكل ١٠-٤: لي جانج رئيس شرطة باودينج (إلى اليسار) يقدِّم اعتذارًا علنيًّا باكيًا على التليفزيون الصيني المركزي (سي سي تي في)، وابنه لي شمينج (إلى اليمين) يقوم بالمثل بعد أن اتُّهم بالتسبُّب في وفاة تشين شاو فينج.

في هذه الحالة، كانت الحقائق واضحة بشكلٍ صارخٍ، وصلِفَ الجاني في ادِّعائه أنَّ حقَّه المكتسَب بحكم انتسابه إلى رئيس الشرطة يخوِّله الإفلات من جريمة دهْسٍ أفضَتْ إلى قتْلٍ أحدَثَ صدمةً بالغةً، لدرجة أن الخبر سرعان ما انتشر، على الرغم من جهود مسئولي الحكومة لإسكاته. تجاهلَتِ الخبرَ وسائلُ إعلام الدولة مثل وكالة الأنباء الحكومية الرسمية، شينخوا، حتى ظهرت مدوَّنةٌ على الإنترنت أتاحَتْ للمساهمين فيها ادِّعاءَ انتهاكاتٍ للقانون في قالبٍ ساخِرٍ، متبوعة بجملة التبرُّؤ من الاتهام: «إن أبي لي جانج.» سرعان ما تحوَّلَتِ الجملةُ إلى عَذْر تهكميٍّ على مستوى البلد يُستخدَم عند أي مخالَفة اجتماعية طفيفة. وفي مواجهة الغضب الشعبي إزاء هذه المحاولة الفاشلة لإساءة استعمال السلطة، نشَرَ موقع شينخوا الإلكتروني الخبرَ بعدها بعشرة أيام في ٢٧ من أكتوبر، وقال الخبر إن أبناء المسئولين الرفيعي المستوى «يحيدون عن المبدأ الأساسي المتمثِّل في السَّيْر على نهْجِ خطِّ الجماهير الذي تبنَّاه الحزبُ، وهو السَّهَر على خدمة الشعب.»

بعيدًا عن الوفاة المأساوية للآنسة تشين والإصابات التي لحقت بصديقتها، والاعتذار النادم من الابن لي شمينج والأب لي جانج لما اقترفه الابن من إساءةِ استعمالِ السلطة؛ تُطلِعنا هذه الحادثة على الكثير عن رغبة الشعب الصيني في إنهاء الرقابة الحكومية على الأخبار التي لا تتملَّق السلطة في الإعلام الخاضع لسيطرة الدولة. واستخدامُ مدوَّنة صينية، حملَتِ العنوانَ الساخر «وزارة الحقيقة»، سمَحَ للخبر بالانتشار على نطاقٍ واسعٍ في مختلف أنحاء البلد، مسخِّرًا غضبَ المواطنين المكظوم من حوادث مشابهة تضمَّنَتْ إساءةَ استعمال السلطة. في الوقع المثالي، إنَّ دور الصحافة الحرة بالدول الديمقراطية يؤدِّي وظيفةً مكافئةً ﻟ «وزارة الحقيقة» في الصين، لكن «مَن يعيشون في بيوت زجاجية» لا ينبغي لهم أن يبادروا بتوجيه الانتقادات إلى الصين (على اعتبار الوضع المالي المُزري لأغلب الصحف الأمريكية والتقليصات اللاحقة لميزانيات الاستقصاءات الصحافية). هل توحي هذه الحادثةُ بأن المدونات الانتقادية وغيرها من المواقع الشبيهة تتخطَّى الرقابةَ في الصين بوتيرة منتظمة؟ حاليًّا، على الأرجح لا! كما ذكرنا آنفًا، شيَّدَتِ الصين جدارًا ناريًّا رقميًّا بالغَ الفاعلية حول الدولة؛ إلا أن هذا الجدار لم يكن فاعلًا بالشكل المرغوب فيه الذي يمنع خبرًا داخليًّا من الانتشار بسرعةٍ في أنحاء بلد، حيث تتسارع خُطَى تبنِّي مواطنيه أدوات الاتصال الرقمية المتطورة الشائعة بالدول التي قطعَتْ شوطًا كبيرًا في التقدُّم.

الحكومة الأمريكية وويكيليكس

كما طالعنا في الفصل التاسع، رفضَتِ المحاكمُ الأمريكية جهودَ الكونجرس للرقابة على الإنترنت، واعتبرتها انتهاكاتٍ لحرية التعبير التي يكفلها التعديل الأول من الدستور الأمريكي. في عام ١٩٩٧، رفضَتِ المحكمة العليا للولايات المتحدة قانونَ آداب وسائل الاتصال، القسمَ الخامس من قانون الاتصالات عن بُعْد لعام ١٩٩٦، واعتبرَتْه تعدِّيًا على حقوق الراشدين في النفاذ إلى المعلومات.17 حاوَلَ أعضاء الكونجرس مجددًا حمايةَ الأطفال الأمريكيين من مشاهدة المواد الإباحية على الإنترنت، بالموافقة على قانون حماية الطفل على الإنترنت عام ١٩٩٨. عارَضَ الاتحادُ الأمريكي للحريات المدنية مشروعَ هذا القانون أيضًا، واعتبره هو الآخَر مساسًا بحقوق الراشدين في التعبير. ورُفِض مشروع القانون هذا بعد عشر سنوات تقريبًا من التقاضي أمام المحاكم الدنيا وحُكْمَيْن من المحكمة العليا الأمريكية، ففي البدء عُلِّق وضْعُ القانون موضع التنفيذ عام ٢٠٠٤، ثم رُفِض نهائيًّا عام ٢٠٠٩.18

على الرغم من النوايا الطيبة لأعضاء الكونجرس لحماية الأطفال من المحتوى الإباحي على الإنترنت؛ فإن السلطة القضائية الأمريكية دائمًا ما قضَتْ برفْضِ أيِّ تقييدٍ لحقوق البالغين في النفاذ إلى المعلومات بحرِّيَّة. ورُفِضت مساعي المشرِّعين لفرض تثبيتِ برمجياتِ حجْبِ المواقع بالمكتبات العامة، وفرض تقديم معلومات البطاقة الائتمانية لمطالَعة محتوى الراشدين على الإنترنت. إحدى الثغرات الكبرى بهذا النوع من التشريعات هي أن قانون حماية الطفل على الإنترنت ما كان ليسري إلا على مقدِّمِي محتوى الراشدين لأغراضٍ تجاريةٍ، الكائنين بالولايات المتحدة؛ فالمواد الإباحية التي تنتجها شركاتٌ خارجَ الولايات المتحدة لن تتأثَّر بهذا القانون. وعادةً ما تصطدم مساعي الدول للرقابة على محتوى الإنترنت بالواقع المتمثِّل في أن الإنترنت كيانٌ دولي معقَّدٌ، وأن المحتوى الذي تحظره دولةٌ قد يُعتبَر قانونيًّا في أخرى.

نَشْرُ منظمةِ ويكيليكس الإلكترونية ٢٥١ ألف وثيقةٍ أمريكيةٍ سريةٍ يُعَدُّ مثالًا جديرًا بالتأمل ذا صلة بموضوعنا. كان نشر المؤسسات الإخبارية لهذه الوثائق عن علاقات عسكرية وأجنبية سرية مصدرَ إزعاجٍ شديدٍ للحكومة الأمريكية (وتسبَّبَ في إحراجٍ كبيرٍ من جرَّاء تقييماتِ وزارة الخارجية الصادقة لبعض القادة الأجانب).19 حصلَتْ منظمةُ ويكيليكس على الوثائق من جندي بالجيش الأمريكي مُصرَّح له بالاطِّلاع على الوثائق السرية للغاية، وكان قد سرَّبَ لهم في وقتٍ سابق فيديو سريًّا لهليكوبتر تابعة للجيش تهاجِم فريقًا إخباريًّا لوكالة رويترز في بغداد عام ٢٠٠٧.20 في حالة الوثائق السرية، بَدَا أن منظمة ويكيليكس غير مكترِثة بأن الكشف عن أسماء الأفراد المتعاوِنين مع الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان دون حذفها ربما سيؤدي إلى اغتيالهم. وفي حالات أخرى، كشفَتِ الوثائقُ عن أن بعض القادة الأجانب رفضوا علنًا سياساتِ الولايات المتحدة، لكنهم أيَّدوها سرًّا! كان ردُّ فعل الحكومة الأمريكية إزاءَ هذا الافتضاح الجلل للوثائق هو محاوَلةَ حجْبِ مواقع ويكيليكس، ونجاحَها في منع شركات البطاقات الائتمانية من إقرار عمليات التبرع للمنظمة، ودَعْمَ مسعى السويد لتسليم جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، من المملكة المتحدة بدعوى اتهامه في جرائم جنسية. الهدفُ المعلن لمنظمة ويكيليكس ومؤسسيها هو رفْعُ ستار السرية المسدل على ما تعتبره المنظمة «سلوكًا غير أخلاقي» من الحكومات والمؤسسات، وتوفيرُ نافذةٍ إلكترونية شفافة على القضايا التي تمسُّ الجماهير.21 وتيسِّر شبكةُ الإنترنت هذه العمليةَ؛ حيث إن الجهود المتضافرة من الحكومة الأمريكية وحلفائها لم تتمكَّن من حجْبِ المواقع التي تنقل عن ويكيليكس. والوثائقُ القادمة التي ستفضحها في الفترة القادمة ستتناول الحسابات السرية في البنوك السويسرية؛ الأمر الذي غالبًا ما أثار حفيظةَ كثيرٍ من المستبدِّين المتربِّحين من ثروات بلادهم، والمتهرِّبين من سداد الضرائب حول العالم.22

المعلومات العالمية واستخدام تكنولوجيا الاتصالات

في حين يركِّز الباحثون على تحرِّي أدوار الشركات المتعددة الجنسيات في السيطرة على النفاذ إلى التكنولوجيا ومحتوى الوسائط، من المفيد جدًّا زيارة الدول النامية والملاحظة الشخصية لاستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المناطق الحضرية والقرى الصغيرة. قمنا بذلك على متن السفينة إم في إكسبلورر وهي تُبْحِر حول العالم كجزءٍ من برنامج «فصل دراسي بالبحر» في ربيع عام ٢٠٠٦. طلبتُ من ٣٥ طالبًا بدورة «تكنولوجيا الاتصال والعالم المتصل» ملاحظةَ استخدامِ تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ٩ موانئ زارَتْها السفينة، وفي كل ميناء انقسَمَ الطلابُ وأعضاءُ هيئة التدريس إلى مجموعاتٍ صغيرة، وغامَرْنا بدخول مدنٍ غير مخططة وقُرًى ريفية صغيرة في بورتوريكو والبرازيل وجنوب أفريقيا وموريشيوس والهند وميانمار وفيتنام والصين واليابان. طُلِب من الطلاب بالدورة إعداد سجلٍّ شخصيٍّ يوثِّق الاستخدامَ الذي لاحظوه للاتصالات عن بُعْد في كل زيارة إلى ميناء، والتقاط صورٍ رقمية لما شاهدوه. وعندما يجتمع الفصلُ مرةً أخرى في الوقت الذي تُبحِر فيه السفينة إلى الميناء التالي، كنتُ أنا والطلاب نتناقش حول ما لاحظناه. الزياراتُ إلى الموانئ والملاحظاتُ التي دوَّنَها الطلاب من خلال احتكاكهم الشخصي أضفَتْ على الدورة حيويةً على نحوٍ يصعب تحقيقُه داخلَ فصل دراسي محصور بين أربعة جدران.

ما لاحظناه فُرادى وفي مجموعات كان مفيدًا لنا إفادةً بالغةً. تفاجأَتْ مجموعةٌ صغيرة كانَتْ تُبحِر تجاه منبع نهر الأمازون في البرازيل قبالةَ مدينة ماناوس، لسماعها صوتَ مولِّد كهربائي خارج منزل خشبي صغير منصوب على أوتاد بالقرب من النهر. كان الظلام يُلقِي بأستاره على المنطقة، وعندما مرَّ القارب بجانب المنزل المفتوح، تمكَّنَ الطلابُ من رؤية مجموعة من الأطفال يشاهدون الكارتون على جهاز تليفزيون صغير يُلقِي بوهجٍ أزرقٍ على جدران المنزل. لم يتَّضِح لهم إنْ كان مصدرُ البرنامج شريطَ فيديو أم أسطوانة دي في دي أم بثًّا هوائيًّا، لكنْ كانت أماراتُ الابتهاج على الأطفال بما كانوا يشاهدونه واضحةً. إن التليفزيون تكنولوجيا واسعةُ الانتشار حتى في أقاصي الأرض.

fig42
شكل ١٠-٥: أطباق التقاط البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية حول العالم: (أ) الهند. (ب) الصين. (ﺟ) البرازيل. (د) موريشيوس. الصورة: الهند: بول لانكفورد؛ الصين وموريشيوس والبرازيل: المؤلف.

ثمة أيقونة أخرى واسعة الانتشار موجودة بالصور التي التقطها الطلاب، وهي أطباقُ التقاطِ البث التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية (الدش)، وهي موجودة في كل بلد وتتنوَّع أحجامُها وأشكالها من الهوائيات الأقدم طرازًا ذات الشبكات المفتوحة التي تستخدم حزمةَ سي باند، إلى الأطباق الصغيرة في حجم طبق البيتزا وتنفذ إلى الأقمار الصناعية التي تنقل البث التليفزيوني مباشَرةً. لُوحِظت أطباقُ الالتقاط في كل موقعٍ يمكن تصوُّره؛ مثبتة في بلكونات الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو، ومثبتة على أسطح بيوت الصفيح في أحياء الزنوج بجنوب أفريقيا، ومثبتة على أوتاد خارج الأكواخ المسقفة بالقش في الهند، ومثبتة إلى جوانب البنايات السكنية الشاهقة الجديدة في هونج كونج. تقدِّم تكنولوجيا الأقمار الصناعية برامجَ تليفزيونيةً إلى كل المواطنين المتصلين بالكهرباء، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، في الحضر أم في الريف، في مختلف أنحاء العالم.

fig43
شكل ١٠-٦: برج من أبراج الهواتف المحمولة مُصمَّم على شكل نخلة بدولة موريشيوس الجُزرية بجنوب المحيط الهندي؛ فمع انتشار هذه الأبراج على نطاق واسع تزداد الضغوط الاجتماعية لإخفائها. الصورة: المؤلف.
fig44
شكل ١٠-٧: سياح يابانيون يتلقطون صورًا لأشجار أزهار الكرز المزهرة في فصل الربيع بكيوتو، مستخدِمين هواتفهم المحمولة. تدخل حاليًّا تحسيناتٌ سريعة على كاميرات الهواتف المحمولة من حيث الجودة والميزات. الصورة: المؤلف.
كانت الهواتف المحمولة هي الأخرى تكنولوجيا واسعة الانتشار لاحظنا وجودها. وكما هو الحال مع التليفزيون، لاحظنا استخدامَ الطبقاتِ الاجتماعية والاقتصادية كافة لها لدى الدول المتقدمة وكذا النامية. والفارقُ الأساسي بين الهواتف المحمولة وتليفزيون الأقمار الصناعية هو أنها تستلزم شبكةً من الأبراج لتشغيل الخدمة؛ ومن ثَمَّ لاحظناها بشكلٍ رئيسي في المناطق الحضرية. وكما هو الحال في بقاعٍ من الولايات المتحدة، تفتقر المناطقُ النائية والريفية إلى خدمةِ الهواتف المحمولة. وكانت جنوب أفريقيا أحد الاستثناءات المثيرة للانتباه؛ فأثناء قيادتنا عبر الصحراء الداخلية المترامية الأطراف بالبلد المعروفة باسم صحراء كارو لم نتوقَّع أن نلتقط خدمةَ الهواتف المحمولة. أدهشتنا رؤية الأبراج التي تعمل بالطاقة الشمسية كل ١٠ أميال على طول الطريق السريع في هذه المنطقة الشاسعة؛ ما وفَّرَ خدمةَ الهواتف المحمولة على طول المسير. وبدولة موريشيوس الجُزرية النائية الواقعة بجنوب المحيط الهندي وجدنا أبراجَ شبكات الهواتف المحمولة التقليدية الشكل موزَّعةً على مسافات منتظمة لضمان خدمةٍ لا تنقطع. لفت انتباهَنا برجٌ بمنتجعٍ للصفوة مصمَّم على شكل نخلة مستقيمة على نحوٍ يجافي طبيعة النخل (شكل ١٠-٦). أينما ذهبنا وجدنا أُناسًا يتحدثون في هواتفهم المحمولة، حتى في بعض البقاع القصيَّة. وصوَّرَتْ إحدى الطالبات مرشدتَها السياحية وهي تتحدَّث عبر هاتفها المحمول أثناء رحلةٍ على متن قارِبٍ بإقليم دلتا ميكونج بجنوب فيتنام. وفي اليابان فاجأتنا رؤيةُ مئات السكان المحليين يصوِّرون المشهد البديع لأشجار أزهار الكرز المزهرة في أبريل بهواتفهم المحمولة (شكل ١٠-٧). وفي بلد معروف بتصنيع الكاميرات الثابتة العالية الجودة، أدهشتنا رؤية كثيرٍ من الهواتف المحمولة تُستخدَم ككاميرات. وتضمينُ كاميرات رقمية ذات جودة أعلى دلالةٌ على تقارُب أدواتِ الحصول على الوسائط بالهواتف المحمولة.
fig45
شكل ١٠-٨: موظفان يُجْرِيان عملية «ريماستر» (تحسين للجودة) رقمية لكلاسيكيات أفلام هوليوود، عاملين على كل إطار في استوديو سينمائي في تشيناي بالهند. ستكون الكلفة أقل كثيرًا عند تعهيد هذا العمل بالهند بدلًا من هوليوود، وهذا مثال آخَر على تعهيد الإنتاج الرقمي إلى آسيا. المصدر: جون شير.
عثرنا على تكنولوجيات رقمية أخرى في أماكن لم تخطر لنا على بال. أثناء جولتنا باستوديو تصوير سينمائي بالهند في تشيناي (المعروفة أيام الحقبة الاستعمارية باسم مدراس)، اصطحَبَنا المرشدُ إلى بناية حديثة ضخمة حافلة بمحطات العمل الحاسوبية (شكل ١٠-٨). وكل محطة مزوَّدة بموظفَيْن اثنين يتبادلان إدخال تحسينات على الأفلام القديمة بتقنيات رقمية، وقد كان كثيرٌ منها من كلاسيكيات هوليوود. باستخدام تطبيقٍ لتحسين الجودة مشابِهٍ لتطبيق أدوبي فوتوشوب، كانا يُمعِنان في محْوِ ما علق بالأفلام وما لحق بها من خدوش، عاملين على كل إطار، وذاك بكل فيلم. وبهذا المعدل، يمكن أن يستغرق ترميم فيلم مدته ٩٠ دقيقة أسابيع، لكنْ بَدَا أن العديد من محطات العمل كانت تعمل على الفيلم ذاته لتسريع وقت العملية. والقيامُ بتعهيد هذا النوع من الترميم الرقمي دالٌّ على الأفكار التي طرحها المؤلف توماس فريدمان في كتابه «العالَم مسطَّح».23 في عالَم تربطه كابلات الألياف البصرية البحرية واتصالات الإنترنت التي تعمل بسرعة الضوء، يمكن إنجازُ العمل الرقمي في أي مكان توجد به قوة عاملة ماهرة. إن الكون الرقمي يشمل الكوكب بأسره، بفضل الإنترنت والتكنولوجيات الرقمية التي تجذب ملايين المثقفين رقميًّا الذين يستخدمون هذه الأدوات يوميًّا لكسب رزقهم.
fig46
شكل ١٠-٩: مرشدة سياحية في فيتنام تستخدم هاتفها المحمول في إقليم دلتا ميكونج. توجد الهواتف المحمولة في الدول النامية كافة، وربما تكون سبيلًا لرأْبِ الصَّدْع الرقمي لدى هذه البلدان. الصورة: إليس جوفرو.

لا يخفى على أحد أن النفاذ إلى المعلومات والوسائط على الإنترنت يوفر ميزةً للأفراد الذين يستطيعون لذلك سبيلًا، مقارَنةً بمَن لا يستطيعون. وثمة مثال شارِح لذلك بالفيلم الوثائقي «عالَم محمول» (إيه موبيل ورلد): كان زارعو البن بدولة ساحل العاج يتكبَّدون الخسائر عند بيع محاصيلهم، بسبب موقعهم في حلقة التسويق مقارَنةً بموقع مشتري البن؛ إذ كان المشترون على عِلْمٍ بسعر حبوب البن غير المحمصة في السوق، وكانوا يعرضون على المزارع سعرًا مخفضًا ثم يضعون الفارق في جيوبهم. لكنْ مع مجيء تكنولوجيا الإنترنت التي تتيح النفاذ الفوري إلى أسواق السلع في نيويورك ولندن، أصبح بوسع المزارعين بالدول المنتجة التحقُّق من سعر البن المتداوَل بالسوق ذاك اليومَ، وتعديل سعر بيعهم للبنِّ وفقًا له. المعرفة قوة، خاصةً في ظل اقتصادٍ عالميٍّ.

هوامش

(1) P. Elmer-DeWitt, “First Nation in Cyberspace,” Time International (December 6, 1993). Retrieved February 20, 2010, from http://www.chemie.fu-berlin.de/outerspace/internet-article.html.
(2) J. Goldsmith and T. Wu, Who Controls the Internet? (Oxford: Oxford University Press, 2006).
(3) Ibid., 2. Note that the official corporate name of Yahoo is “Yahoo! Inc.” The shorter version is used for clarity and to avoid the use of superfluous punctuation.
(4) L. Davidowicz, The War against the Jews: 1933–1945 (New York: Bantam, 1975).Apoignant memorial to the victims of the Holocaust is located in Paris on the eastern end of the Ile de la Cite near the Notre Dame cathedral, in addition to numerous memorials in the city’s historic PereLachaise cemetery.
(5) Goldsmith and Wu, Who Controls the Internet?, 2–5.
(6) Ibid., 8.
(7) S. Olsen, “Yahoo Ads Closes in Visitors’ Locale,” CNet News (June 27, 2001). Retrieved November 25, 2010, from http://news.cnet.com/2100-1023-269155.html.
(8) J. Leyne, “How Iran’s Political Battle Is Fought in Cyberspace,” BBC News (February 11, 2010). Retrieved February 20, 2010, from http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/8505645.stm.
(9) N. Fathi, “In a Death Seen Around the World, a Symbol of Iranian Protests,” New York Times (June 22, 2009). Retrieved November 24, 2010, from http://www.nytimes.com/2009/06/23/world/middleeast/23neda.html.
(10) N. Cohen, “Chinese Government Relaxes its Total Ban on Wikipedia,” New York Times (October 10, 2006). Retrieved November 26, 2010, from http://www.nytimes.com/2006/10/16/technology/16wikipedia.html?ex=1318651200&en=ff16408103d54a91&ei=5088&partner=rssnyt&emc=rss.
(11) N. Kristof, “A Reassessment of How Many Died in the Military Crackdown in Beijing,” New York Times (June 21, 1989). Retrieved November 26, 2010, from http://query.nytimes.com/gst/fullpage.html?res=950DE0DC143EF932A15755C0A96F948260&sec=&spon=&pagewanted=all.
(12) Wikipedia Language Editions. Retrieved January 22, 2011, from http://en. wikipedia.org/wiki/Wikipedia. The English subdomain in 2011 is 54 percent of the total number of articles online at the site, down from 100 percent in 2001.
(13) Internet World Stats. Retrieved September 6, 2011, from http://www.internetworldstats.com/stats17.htm.
(14) M. Wines, “China’s Censors Misfire in Abuse-of-Power Case,”New York Times (November 17, 2010). Retrieved November 22, 2010, from http://www.nytimes.com/2010/11/18/world/asia/18li.html?scp=1&sq=my%20father%20is%20li%20gang&st=cse.
(15) Q. Lu, “Public Anger Over Hit-and-Run Case Reflects Call for Social Justice,” Xinhuanet.com (October 27, 2010). Retrieved November 23, 2010, from http://news.xinhuanet.com/english2010/indepth/2010-10/27/c_13577445.htm.
(16) Wines, “China’s Censors Misfire.”
(17) US Supreme Court (1997). ACLU v. Reno. 521 US 844, 851.
(18) US Supreme Court (2004). Ashcroft v. ACLU. 542 US 656. S. Nichols, “COPA Child-Porn Law Killed,” PC World (January 22, 2009).
(19) S.Shane and A.W.Lehrin, “Leaked Cables Offer Raw Lookat U.S. Diplomacy,” New York Times (November 29, 2010). Retrieved January 22, 2011, from http://www.nytimes.com/2010/11/29/world/29cables.html?_r=3&bl.
(20) D. Murphy, “WikiLeaks Releases Video of US Forces Killing of Two Reuters Journalists in Iraq,” Christian Science Monitor (April 10, 2010). Retrieved January 22, 2011, from http://www.csmonitor.com/World/Global-News/2010/0405/Wikileaks-releases-video-depicting-US-forces-killing-of-two-Reuters-journalists-in-Iraq.
(21) WikiLeaks Mirror Website. Retrieved January 22, 2011, from http://mirror.wikileaks.info/.
(22) “WikiLeaks Given Data on Swiss Bank Accounts,” BBC News (January 17, 2011). Retrieved January 22, 2011, from http://www.bbc.co.uk/news/business-12205690.
(23) T. Friedman, The World Is Flat: A Brief History of the 21st Century (New York: Farrar, Straus & Giroux, 2005).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤