الفصل السابع

الاتصالات عن بُعْد في العالم «المسطح»

«ما أبدع صُنْع الله!»

بُثَّتْ هذه الرسالة المفعمة بالمشاعر المقتبسة من الكتاب المقدس لتقطع مسافة ٣٤ ميلًا من مبنى المحكمة العليا في واشنطن إلى محطة السكة الحديد في بالتيمور بمريلاند في ٢٤ مايو عام ١٨٤٤. كانت الرسالة جزءًا من عرضٍ للتلغراف أمام أعضاء الكونجرس الأمريكي، الذي كان آنذاك تكنولوجيا اتصال جديدة.1 لاحِظْ أن الرسالة جملة تعجبية وليست استفهامية؛ فهي لا تطرح الارتباط الإلهي بهذه التكنولوجيا الجديدة للتساؤل، بل تحتفي به. عكست الرسالة المنظورَ الذي حكم تلك الحقبة، والذي أفاد بأن هذه التكنولوجيا الجديدة مصدرُها إلهامٌ إلهي بفضل كونها أداة قوية للمساعدة في التواصل بين البشر. قد تبدو وجهة النظر هذه غير مألوفة اليومَ في عالَم مغموس في تكنولوجياتِ اتصالٍ لا تحمل طابعًا دينيًّا، لكنْ إبَّان ذاك الوقت كانت النظرةُ إلى العناية الإلهية أنها القوة المحرِّكة خلف القدرات الغامضة التي أتاحَتِ التلغراف وبعده الهاتف. وفسَّرَتِ التقدُّماتُ اللاحقة المحرَزة في ساحة العلم القوى الكهرومغناطيسيةَ المؤثِّرة في الاتصال الكهربي، وتدريجيًّا أزالَتْ ما اكتنفها من غموض. من ناحية أخرى، في القرن التاسع عشر عزَّزَ استحضارُ الجذور الإلهية المفترضة لهذه التكنولوجيات قبول الجماهير بها.
fig25
شكل ٧-١: صامويل إف بي مورس، التقط ماثيو برادي الصورة في ١٨٦٦ تقريبًا. لا يُعرَف تحديدًا تاريخُ التقاط الصورة. يرجِّج مورِّخو التصوير أنها التُقِطت في استوديو برادي بواشنطن بعد عام ١٨٦٥ وقبل وفاة مورس في ١٨٧٢. كان مورس رسَّامًا يُشار إليه بالبنان، كما كان رائدًا في التصوير، ودرس على يد لويس داجير في باريس، ثم شرع في مجال تصوير البورتريه في الولايات المتحدة حال عودته. المصدر: مكتبة الكونجرس الأمريكية.
ابتكَرَ صامويل إف بي موريس وشريكُه ألفريد فيل منظومةً فريدةً من البطاريات من أجل تضخيم إشارة التلغراف بشكل دوري، واستخدَمَ منظومة فيل التي كانت عبارة عن شفرة مؤلَّفة من نقاطٍ وشرطاتٍ (سُمِّيت شفرة مورس تيمُّنًا به)، من أجل تقديم عرضٍ أمام جمهور من الكونجرس يوضح أن بوسع التلغراف أن يكون وسيلةً فاعلةً للاتصال الآني. المصطلح الأساسي هنا هو وصف «آني»، وقد انبهَرَ مُشاهِدو العرض في محطة سكك حديد ماونت كلير في بالتيمور بحركةِ زرِّ النقر بفعل يد مورس على زرِّ الإرسال في واشنطن في اللحظة ذاتها. إن الحواجز التي ظلت قائمةً لقرون بفعل المسافة واعترضت سبيل التواصل بين البشر تهاوَتْ باختراع التلغراف، وهي كلمة سُكَّتْ من اليونانية تعني الكتابة عن بُعْد. مع مدِّ أسلاك التلغراف حول العالم في مطلع القرن التاسع عشر مصاحبًا لتشييد خطوط السكك الحديدية الجديدة؛ تجرأ المواطنون وعرجوا إلى محطات السكك الحديدية المحلية لمشاهدة زرِّ التلغراف وهو ينقر. وهذا مشهد شائع في الأفلام التي تتناول تلك الحقبة من الزمان اليومَ، لكن آنذاك كان التلغراف يُعتبَر أداة سحرية تحرِّكها يدٌ غير مرئية على بُعْد مئات أو آلاف الأميال. ومن حيث الفكرة، قد يفيدنا تأمُّل ملاحظة آرثر سي كلارك الشهيرة «أيُّ تكنولوجيا متقدِّمة بما فيه الكفاية يتعذَّر تمييزها عن السحر!» لكي نتخيَّل كيف كانت استجابة المشاهدين في ذاك العصر لوسيلة التلغراف الجديدة.2
fig26
شكل ٧-٢: زر التلغراف الذي استخدمه مورس في عرض عام ١٨٤٤ بمبنى المحكمة العليا في العاصمة واشنطن. والزرُّ معروضٌ بمتحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الأمريكي، الذي يبعُد ميلًا إلى غربِ موقعِ العرض الذي أقيم عام ١٨٤٤ بمبنى المحكمة العليا. المصدر: مؤسسة سميثسونيان، المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي.
بوسع زائري المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي في واشنطن مشاهَدة زرِّ تلغراف مورس الذي استُخدِم في عرض عام ١٨٤٤. ومن المهم ألَّا نغفل أن مورس لم «يخترع» التلغراف، بل يعود إليه الفضل في إدخال تحسينات على التصميمات التي ابتكرها آخَرون سابقون عليه. وبينما انتشرَتْ تقنيةُ التلغراف البصري التي تستخدِم إشارات سيمافور في أنحاء كثيرة من أوروبا في مطلع القرن الثامن عشر، ابتُكِر أول تلغراف مُشغَّل كهربائيًّا في أوروبا على يد جاوس وفيبر بألمانيا في ١٨٣٣، وعلى يد كوك وويتستون ببريطانيا العظمى في ١٨٣٧. صُمِّم النظام الإنجليزي لتحسين جودة المعلومات المجمَّعة حول القطارات العاملة على طول خط السكك الحديدية المفرد، الذي شغَّلَتْه شركة جريت ويسترن ريلواي من محطة بادينجتون في لندن إلى ويست درايتون في مقاطعة هيلنجدون.3 كانت هناك ضرورة لمنظومة اتصال آنية لتحويل القطارات إلى سكك جانبية لتجنُّب وقوع حوادث تصادُم بين القطارات المتقابلة. كانت منظومةً للقيادة والتحكُّم صُمِّمت للتشغيل في الزمن الحقيقي لتغطِّي مسافاتٍ طويلةً (١٣ ميلًا في هذه الحالة). أنجح مورس التلغراف تجاريًّا في الولايات المتحدة وأوروبا، وطرح نسخته الكهرومغناطيسية المحسَّنة في وقتٍ ظهرَتْ فيه حاجةٌ إلى الانتشار الواسع النطاق لهذا الاختراع.
أضاف مؤرخ الاتصالات بريان وينستون إلى فكرة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل حول عوامل الكبح والتسارع في تاريخ التكنولوجيا، التي تهدف إلى تصميم نموذج ناجح (الشكل ٧-٣) يُحلِّل الأسباب وراء نجاح بعض الاختراعات وفشل بعضها في الانتشار في المجتمع.4 ثمة مبدأ رئيسي اتخذه وينستون تمثَّلَ في أن التكنولوجيات التي ابتكرها البشر، بما في ذلك تكنولوجيات الاتصال، هي بالأساس مدمجة فيما أطلق عليه «الدائرة الاجتماعية». يضع وينستون ابتكارَ الاختراعات الجديدة على طول محور في الدائرة الاجتماعية بين العلوم (التي تمثِّل الكفاءة) والتكنولوجيا (الأداء)، ويحدد محورًا جانبيًّا لتمثيل «الماضي» و«المستقبل». وبحسب نموذجه، تتطوَّر الأفكار التي تتمخَّض عن اختراعاتٍ من العلوم إلى مرحلةِ تصميم النموذج الأولي؛ حيث يجري اختبارها ثم إدخال التعديلات عليها على يد مبتكريها. يصف وينستون مرحلةً حيويةً بين تصميم النموذج الأولي والاختراع، بأنها تستلزم ضرورة اجتماعية طارئة.5 واقتباسًا من القول المأثور «الحاجة أم الاختراع»، يزيد وينستون على هذه الفكرة؛ إذ يسوق تأريخًا لعددٍ من التكنولوجيات كأمثلة. «الضرورة الاجتماعية الطارئة» التي دفعت إلى نقل التلغراف إلى مرحلة الاختراع في تحليل وينستون كانَتْ ضمانَ أمانِ خطوط السكك الحديدية في الأساس، إلا أنه سرعان ما حلَّتْ محلَّها استخداماتُ الأعمال والصحافة (أسعار الأسهم ونشرات الأخبار المرسلة برقًا). كما أبرز هارولد إينيس، المؤرخ والناقد لوسائل الإعلام، الدورَ الحيوي الذي أدَّاه التلغراف في نشر الأخبار بعد عام ١٨٥٠، والذي نجَمَ عنه تكوينُ تعاونيات الصحف لمشارَكة آخِر الأخبار والمعلومات حول السلع:6
fig27
شكل ٧-٣: نموذج وينستون لانتشار الاتصال عن بُعْد. المصدر: بي وينستون، «تكنولوجيا وسائل الإعلام والمجتمع» (١٩٩٨).
يحدد وينستون ٤ جوانب متمايزة تؤثر على انتشار تكنولوجيا الاتصالات الجديدة،7 وينطوي كل جانب على مكابح و/أو مسرِّعات لانتشار التكنولوجيا:
  • (١)

    «احتياجات الشركات»: في حالة الإرسال بالتلغراف، استغلَّتْ شركاتُ السكك الحديدية التكنولوجيا الجديدة بوصفها وسيلةً لتتبُّع مواقع القطارات لأغراض الأمان والإدارة. وكانت هذه عواملَ مسرِّعةً من انتشار التكنولوجيا. ظهرت كذلك بضعة عوامل كابحة أو مثبطة؛ إذ كان ذلك أولَ استخدام على نطاق واسع لتكنولوجيا الاتصال الكهربي.

  • (٢)
    «اشتراطات التكنولوجيات الأخرى»: كان نجاحُ نظامِ الإرسال بالتلغراف على يد مورس متوقِّفًا على نظام تشفير متفوِّق (شفرة مورس)، يمكن بثه في صورة دفقات قصيرة أو طويلة من التيار (نقاط أو شرطات). وكان مورس وفيل من الذكاء وحُسْن الإدراك بحيث زارَا متجرَ الطباعة لتحديد نظامِ التشفير الأمثل استنادًا إلى تكرار الحروف بالمطبوعات.8 وعليه، يُرسَل نداءُ الاستغاثة المألوف SOS باستخدام شفرة مورس الدولية بالصيغة نقطة-نقطة-نقطة S؛ شرطة-شرطة-شرطة O؛ نقطة-نقطة-نقطة S، بحيث يمكن إرسال هذه الرسالة بسرعة حال وقوع أمر طارئ باستخدام ثلاث مجموعات من ثلاث علامات مألوفة يطبعها زرُّ التلغراف بالتتابُع.9
  • (٣)
    «إجراءات تنظيمية وقانونية»: دعمَتِ الحكومة الأمريكية تطويرَ الإرسال بالتلغراف بتمويلها الخط القصير من واشنطن إلى بالتيمور في ١٨٤٤. وكما ذكرتُ آنفًا، كان عرضُ مورس العام لمنظومته مقدَّمًا إلى أعضاء من الكونجرس الأمريكي، وتبنَّتْ هيئةُ البريد الأمريكية منظومتَه في العالم التالي.10 أما الانتشار في بريطانيا العظمى فكان أكثر تعقيدًا؛ إذ رفضَتِ الأدميرالية البريطانية المحاولاتِ الأولى لاستحداث خدمة التلغراف الكهربية في ١٨١٤ (التي طوَّرَها ودجوود)، وفي ١٨١٦ (التي طوَّرَها رينالدز).11 استخدمَتِ السفنُ بعرض البحر الأعلامَ وإشاراتِ سيمافور لإرسال الإشارات بعضها إلى بعض، ولم تجد الأدميرالية ضرورةً لهذه التكنولوجيا غير العملية المعتمدة على الأسلاك. واستقبلت بلدان أخرى التكنولوجيا على نحوٍ أكثرَ عدائيةً؛ فعندما طوَّر الدبلوماسي بافيل شيلينج النموذجَ الأولي من منظومة فاعلة في ١٨٣٢ في سان بطرسبرج، اعتبرها الإمبراطور نيكولاي الأول أداةً تخريبية (ولا يخفى على أحدٍ أنها ليسَتْ من صنْعِ الله)، وحظَرَ انتشارَها في روسيا.12
  • (٤)

    «القوى الاجتماعية العامة»: مع تفجُّر الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مُدَّت آلاف الأميال من قضبان السكك الحديدية لربط المدن في مختلف أنحاء العالم. وتتبَّعَتْ عواميدُ التلغراف قضبانَ السكك الحديدية لتكون منظومةً للقيادة والتحكم، لكن الاستخدامات الأخرى للاتصال الآني سريعًا ما استولَتْ على الاستعمالات الخاصة بالسكك الحديدية عبر بثِّ أسعار الأسهم ونشرات الأخبار. أمكن استخدام الإرسال بالتلغراف لربط الدول — والقارات في النهاية — لأغراض الأعمال ووسائل الإعلام الجماهيرية والأهداف العسكرية.

كابل التلغراف العابر للأطلسي

تحقَّقَ المشروع؛ ورحَّبَتْ به الطبيعة.
ولم يَعُدْ هناك ما يُفرِّق بين الأمم الشقيقة.
والناس حول العالم معًا يحتفلون.
تغمرهم الإثارة وبإنجازهم يحتفون.
انطلِق انطلِق يا خطَّ التلغراف.
وانشُرِ المحبةَ بين سكان هذه الأرض.
حتى تصبح كلُّ الأمم تحت الشمس.
إخوةً كمَن وُلِدوا في بيت واحد.
قصيدةٌ مجهولٌ صاحِبُها نُظِمت في ١٨٥٨ حال الانتهاء من خط التلغراف العابر للأطلسي13
في عام ١٨٤٣ (قبل عام من العرض الناجح في واشنطن) أبدى صامويل موريس رأيه بأنَّ مدَّ خطِّ التلغراف العابر للأطلسي قابلٌ للتنفيذ.14 وفي ١٨٥٦ أنشأت مجموعة من روَّاد الأعمال الأمريكان بقيادة سايروس دبليو فيلد، التاجر من نيويورك، شركةً قدَّمَتْ مقترحًا بربط الولايات المتحدة وكندا بجنوب أيرلندا، التي كانت آنذاك جزءًا من بريطانيا العظمى.15 كانت فكرةً طَموحةً لأبعد الحدود؛ حيث كانت المسافةُ المزمع أن يقطعها الخطُّ ٢٠٠٠ ميل تقريبًا عبر شمال المحيط الأطلسي العاصف في أغلب الأحيان. كان تصنيع كابل بهذا الطول بإمكانه تحمُّل ظروف الضغط الشديدة على عمق ميلين تحت سطح البحر ومعرَّض للتآكُل بفعل الماء المالح؛ أمرًا بَدَا مستحيلًا من الناحية التقنية على اعتبار ما وصل إليه علم المعادن وعزل الأسلاك في ذاك العصر قبل الحرب الأهلية الأمريكية مباشَرةً. وعلى الرغم من أنه جرى مد الكابلات تحت أسطح مائية في ذاك الوقت (بما فيها القنال الإنجليزي بين بريطانيا وفرنسا في ١٨٥١)، كانت المسافاتُ التي قطعَتْها قصيرةً نسبيًّا (٢٥ ميلًا بحريًّا تحت القنال)، وكانت الأعماق ضحلةً مقارَنةً بعُمْق المحيط الأطلسي.
بحلول منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، مُدَّتْ خطوطُ التلغراف شرقًا في أمريكا الشمالية حتى جزر شرق كندا البعيدة، وغربًا من لندن تحت البحر الأيرلندي حتى غرب ساحل أيرلندا. أسَّسَ سايروس فيلد ورفاقه من المستثمرين شركة نيويورك، نيوفاوندلاند، آند لندن تليجراف كومباني لشراء ٢٠٠٠ ميل من الكابلات ومدها تحت شمال الأطلسي.16 دفع فيلد بقوة في اتجاه هذا المسعى، ونجح في التماس دعْمِ حكومتَيِ الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى.17 وعلى اعتبار الصعوبات التقنية، كان مسعى محفوفًا بمخاطر جمة. واعتبر المتشكِّكون الكابل المقترح مستحيلًا من الناحية التقنية، وظنَّ كثيرون أنها كانت خطةً مشبوهة لملء جيوب المستثمرين المتهورين.
fig28
شكل ٧-٤: ملصق يحتفي بنجاح الانتهاء من مد كابل التلغراف العابر للأطلسي في ١٨٦٦، يصوِّر الأسد الإنجليزي إلى اليسار، وإله البحر نبتون في المنتصف، والنسر الأمريكي إلى اليمين. وُصِف خطُّ التلغراف الجديد بين أمريكا الشمالية وأوروبا بالملصق بأنه عجيبةُ العالم الثامنة. المصدر: مكتبة الكونجرس الأمريكية.

فرضَتِ الصعوباتُ التقنية نفسها على المشهد؛ فتصنيع كابل يبلغ طوله ٢٠٠٠ ميل وبوسعه تحمُّل الضغط الشديد على عُمْق ١٤٠٠٠ قدم تحت سطح البحر، كان فكرةً كافية لتثبط الهمم. وتصنيع كابل مَرِن بقلب داخلي نحاسي (لتوصيل إشارة التلغراف) وغلاف خارجي واقٍ من الحديد لن يصدأ في ماء البحر؛ كان تحدِّيًا آخَر. كانت الكابلات الأخرى الممتدة تحت سطح البحر في تلك الحقبة تستخدِم مادةً مكتشفة حديثًا؛ الطَّبْرَخِيَّ، لعزل القلب الداخلي وحمايته من ماء البحر الذي قد يؤدي به إلى قصر الدائرة (مرور التيار في مسار غير مقصود، ما ينجم عنه توقُّف الدائرة). والطبرخي عبارة عن عُصارة لبنية بيضاء مستخرجة من الشجرة التي تحمل الاسم نفسه والموجودة بشبه جزيرة مالايا (ماليزيا حاليًّا) بجنوب شرق آسيا. وآنذاك كانت تُعتبَر هذه المادة أعجوبةً، فعلى الرغم من أنها تكون جافةً في الهواء الطَّلْق، يمكن تليينها وتشكيلها عند غمرها في الماء الساخن. وفي الأغوار الباردة لشمال الأطلسي ستكتسب صلابةً لتكون العازل المثالي للكابل. شُحِنت مادة الطبرخي بكمياتٍ ضخمةٍ من مالايا إلى المصانع بإنجلترا كي يُغطَّى بها القلبُ النحاسي الداخلي للكابل، ثم كان يجري تغليفه بغلاف خارج من أسلاك الحديد الحلزونية لتعزيز الكابل وحمايته من التعرُّض للتلف بفعل مراسي السفن في المياه الضحلة عند طرفَي الكابل.

انطلقَتِ السفينة يو إس إس نياجرا، وهي سفينة حربية أمريكية وُكِّلت بمهام مدِّ الكابل لأغراض المشروع، من جزيرة فالينشيا قبالة أيرلندا في أغسطس من عام ١٨٥٧، وعلى متنها كابل بطول ١٨٠٠ ميل. كانت السفينة تُبحِر بطيئةً بسرعة أربع عُقَدٍ في الساعة لتجنُّب التسبُّب في ضغطٍ على الكابل الذي أخذَتْ تمدُّه تدريجيًّا من مؤخرتها، ولم تَقْضِ السفينةُ سوى ٣ أيام بالبحر عندما انفصل الكابل وفقدت ٣٣٥ ميلًا من الكابل في أغوار المحيط. كانت تلك بدايةَ رحلةِ كفاحٍ طالَتْ تسع سنوات لمدِّ كابل الأطلسي، كان مقدرًا أن تمتحن المهندسين والعلماء والمستثمرين المشتركين في المشروع.

احتفظت الشركة بالجزء المتبقي من الكابل في بريطانيا طوال شتاء ١٨٥٧، وبدأت مجددًا مد الكابل بأسطول سفن في يونيو من عام ١٨٥٨. وهذا المرة بدءوا في منتصف الأطلسي عن طريق وصل نصفَيِ الكابل معًا، ثم أبحرَتْ مجموعةٌ غربًا تجاه نيوفاوندلاند، وأخرى شرقًا تجاه أيرلندا. تقدَّمَتِ المجموعتان ببطءٍ لتجنُّب قَطْع الكابل، لكن بعد أن مدت السفينةُ البريطانية أجاممنون ٢٥٥ ميلًا من الكابل تجاه الشرق، فشل مدُّ الخط مجددًا. أبحر الأسطول إلى إيرلندا للتزوُّد بالمؤن، ثم بدأت مرةً أخرى في عرض المحيط. أبحرَتِ السفينة يو إس إس نياجرا بحرصٍ شديدٍ لمد الكابل بسلاسة، وبلغت خليج ترينيتي باي في نيوفاوندلاند في ٥ أغسطس، وألقَتِ السفينةُ أجاممنون مرساتها قبالة جزيرة فالينشيا في اليوم نفسه. نقلت معديتان طرفَي الكابل إلى الشاطئ ووُصِّلَا بشبكتَي التلغراف في أمريكا الشمالية وأوروبا، وأرسل مهندسو الشركة رسالةً عبر الكابل البالغ طوله ١٩٥٠ ميلًا الممتد تحت شمال الأطلسي إلى أيرلندا بنجاح. كانت أول رسالة مرسلة بالكابل غير الرسالة الاختبارية: «المجد لله في الأعالي؛ وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.» وهكذا نجح كابل التلغراف العابر للأطلسي مدحضًا شكوك كلِّ المتشكِّكين.18
كان ردُّ الفعل المواكِبُ لخبر نجاح الانتهاء من مد كابل التلغراف العابر للأطلسي في ٥ أغسطس من عام ١٨٥٨ مُفعَمًا بالمشاعر. لم يقلَّ ردُّ فعلِ الجماهير آنذاك عن النوايا الطيبة التي فاضَتْ بين دول العالَم مع هبوط البشر على القمر بعد ١١١ عامًا في يوليو من عام ١٩٦٩. عندما وصلَتْ أخبارُ الاتصال بكابل التلغراف إلى نيويورك، انطلقَتِ احتفالاتٌ عفوية بالشوارع. في بوسطن، أُطلِق ١٠٠ مدفع بحديقة كومون ودقَّتِ الكنائسُ أجراسَها لمدة ساعة. أرسلَتِ الملكة فيكتوريا رسالةَ تهنئةٍ موجزة عبر الكابل إلى الرئيس جيمس بيوكانان.19 تدفَّقَتْ مئاتُ الرسائل جيئةً وذهابًا بين العالمين القديم والجديد عبر خط الكابل الممتد.

أقامَتْ مدينة نيويورك احتفالًا رسميًّا شارَكَ فيه مواطنوها في ١ سبتمبر من عام ١٨٥٨ لتكريم سايروس فيلد، ومستثمري مشروع كابل التلغراف العابر للأطلسي، وقبطانَيِ السفينتين اللتين مدَّتَا الكابل، وطاقم العلماء والمهندسين الذين اضطلعوا بالمشروع. تقدَّمَ موكبٌ احتفالي مهيب من باتري، شمال ما يُعرَف الآن بوسط مدينة مانهاتن، واختُتِم اليومُ بمسيرةٍ بأضواء المشاعل نظَّمَها رجالُ الإطفاء بالمدينة. والمفارقة المثيرة للحزن، أن كابل التلغراف العابر للأطلسي الذي أُقِيمت له الاحتفالات تعطَّلَ عن العمل في اليوم ذاته؛ فالماء المالح المسبِّب للتآكُل نفَذَ عبر عازل الطبرخي في موضعٍ ما على طول ٢٠٠٠ ميل تحت ضغطٍ هائلٍ؛ ما تسبَّبَ في قِصَر دائرة الموصِّل.

عمل الكابل لمدة أربعة أسابيع ويوم واحد، وأدَّى توقُّفه إلى شعورٍ بفقدان الأمل عند طرفَي المحيط الأطلسي كليهما، لكن المشروع كان إثباتًا ناجحًا (وإنْ كان موجزًا) للمفهوم شجَّعَ الجهود على استبداله. وعلى الفور وضع سايروس فيلد خطةً لمد كابل جديد أكثر تحمُّلًا، إلا أن اندلاع الحرب الأهلية في الولايات المتحدة كان من شأنه تأخير الانتهاء منه لقرابة سبع سنوات. رُوعِي في تصميم الكابل الجديد حلُّ أخطاء التصميم والإنشاء التي واجهَتِ الموصل الأول؛ فعُزِل بشكلٍ أفضل باستخدام مادة الطبرخي، وتمتَّعَ بغلافٍ أقوى من أسلاك الصلب.

في يوليو من عام ١٨٦٥، أبحرَتْ جريت إيسترن، أكبر سفينة في العالم في ذاك الوقت، غربًا من أيرلندا لتمدَّ كابلًا بطول ٢٠٠٠ ميلٍ محمَّلًا على متنها. ما كان لأي سفينة سوى سفينةٍ بضخامة جريت إيسترن أن تحمل الكابل المحسَّن، الذي بلغ وزنه آلاف الأطنان (٣٥٠٠ باوند لكل ميل). وفي ٢ أغسطس، بعد مد ١٢١٦ ميلًا من الكابل انفصَلَ الخط، وعلى الرغم من الجهود الفورية لالتقاط طرف الكابل، غاص إلى قاع البحر على عمق ميلين. بعد ما حدث سيتوقَّع المرء أن أصحابَ العزيمة الأوهن سيستسلمون فحسب ويتخلَّوْن عن المشروع؛ إلا أن سايروس فيلد لم يكن شخصًا تلين عزيمته بسهولة. وفي وقت لاحق من ذاك العام، صُنِّع كابل جديد في مصنع بريطاني لاستبدال ما فُقِد، وأبحرت جريت إيسترن مجددًا في صيف ١٨٦٦ من أيرلندا. ابتُكِرت آلة جديدة لمد الكابل بسلاسة (صورة ٧-٣)، وتمتَّعَ الكابل الجديد بقدرةٍ أكبر على الطَّفْو لتيسير هبوطه التدريجي إلى عمق الأطلسي. بعد قضاء ٢٠ يومًا في عرض البحر، في ٢٨ يوليو من عام ١٨٦٦ ألقَتْ سفينة جريت إيسترن مرساتها قبالة قرية هارتس كونتينت الصغيرة في نيوفاوندلاند، وحُمِل طرف الكابل إلى محطة التلغراف هناك.20 أدى هذا الكابل وظيفتَه دون مشكلات لسنواتٍ، وكان المبشِّر بمدِّ كثيرٍ من كابلات التلغراف العابرة للمحيطات.
fig29
شكل ٧-٥: آلةُ مدِّ الكابل التي كانت على متن السفينة جريت إيسترن في ١٨٦٦. قلَّلَتْ آليةُ التلقيم المحسَّنة من الضغط على الكابل أثناء مدِّه إلى أعماق الأطلسي. المصدر: مكتبة الكونجرس الأمريكية.
بانقضاء القرن في ١٩٠٠، طوَّقَتِ الكابلات البحرية الكونَ من الأمريكتين إلى أوروبا، وعبر البحر المتوسط إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، وحتى الهند وإندونيسيا والصين وأستراليا.21 الجهود التقنية المضنية التي بُذِلت في صنع ومد كابل التلغراف العابر للأطلسي يسَّرَتْ مدَّ خطوطِ التوصيل على مستوى الكوكب بين كل قارات العالم المأهولة. من باب الإفادة يمكن تطبيق نموذج وينستون على كابل التلغراف العابر للأطلسي بوصفه الكابل الأول من نوعه. كانت الضرورة الاجتماعية الطارئة هي الحاجة إلى ربط العاصمتين الاقتصاديتين للقوتين العظميين في العالم: نيويورك ولندن. انزوَتْ بقايا مشاعر العداء التي خلَّفَتْها حرب عام ١٨١٢ وحلَّتْ محلَّها حركةُ التجارة النَّشِطة بين الأمتين. اعتمدَتِ التجارة على الحاجة إلى مشاركة المعلومات المجمعة حول أسعار السلع والمعلومات المتعلقة بالاستثمار. من شأن خط التلغراف أن يسمح بالتواصُل بين القارات في الزمن الحقيقي، في وقتٍ كان يستغرق البريد أسبوعين تقريبًا ليعبر الأطلسي على متن السفن؛ ففي أبريل من عام ١٨٦٥، استغرق خبرُ اغتيال أبراهام لينكولن في الرابع عشر من الشهر، ١٢ يومًا كي يبلغ لندن بحرًا.22 والتفوق النسبي (اقتباسًا من روجرز) الذي تمتَّعَ به كابل التلغراف على البريد المنقول بحرًا كان عظيمًا، وكان جزءًا من السبب خلف الاحتفال القصير الأجل في كلتا القارتين عام ١٨٥٨. فيما يلي تطبيق نموذج وينستون للانتشار على كابل التلغراف العابر للأطلسي:
  • (١)

    «احتياجات الشركات»: كان كابل التلغراف العابر للأطلسي هو علة وجود شركة نيويورك، نيوفاوندلاند، آند لندن تليجراف كومباني التي أسَّسها فيلد؛ فنجاح الشركة كان راجعًا بشكل مباشِر إلى القدرة على مد كابل متين لتوفير القدرة على بث الرسائل أو النطاق الترددي للبث اللازم لجعل الخدمة مواتية اقتصاديًّا. لم يكن هناك بديل للإرسال بالتلغراف من أجل التواصل الآني العابر للمحيطات في ذاك الوقت (لم تكن أقمارُ الاتصال الصناعية خيارًا مطروحًا حتى عام ١٩٦٢). وشكَّلَ البريد جزءًا ضئيلًا جدًّا من التجارة العابرة للمحيطات، وعليه لم تُعارِض شركاتُ الشحن مدَّ الكابل.

  • (٢)
    «اشتراطات التكنولوجيات الأخرى»: توقَّفَ نجاحُ كابل التلغراف العابر للأطلسي على التقدُّمات التقنية المحرَزة في ثلاثة مجالات متمايزة: علم المحيطات، وعلم المواد (استخدام الطبرخي وعلم المعادن)، وتكنولوجيا مد الكابلات. أجرى سلاحَا البحرية الأمريكي والبريطاني عدةَ دراسات مَسْحية لقاع المحيط الأطلسي في خمسينيات القرن التاسع عشر على طول المسار المخطط للكابل. حدَّدَ عالِم المحيطات الرائد في مجاله الملازِم ماثيو موري «بقعةً مستقرةً» تحت البحر بوصفها المسار المثالي لكابل التلغراف العابر للمحيطات.23 وكان استخدام الطبرخي كمادةٍ عازلةٍ شبيهةٍ بالمطاط عنصرًا حيويًّا في حماية الكابل في المياه العميقة. ولزم استحداثُ طرقٍ لمعالجة عصارة الشجر وصبِّها حول السلك النحاسي الداخلي الحامل للإشارات. وابتكارُ آلةٍ بوسعها لفُّ غلافٍ عازلٍ من السلك الصلب حول الكابل كان مهمًّا كذلك في «تصفيح» الموصِّل. وأخيرًا، كان يلزم إتقان حرفية وضْعِ الكابل في المياه العميقة بحيث يمكن مدُّه بسلاسةٍ من سفينةٍ دون التسبُّب في الضغط غير المرغوب الذي قطَعَ النُّسَخ السابقة من الكابل.
  • (٣)
    «الإجراءات التنظيمية والقانونية»: كما ذكرنا آنفًا، دعمَ كلٌّ من حكومتَيْ أمريكا وبريطانيا بقوةٍ المسعى المحفوفَ بالمخاطر، وخفَّضَ الدعمُ الحكومي المخاطِرَ المتكبدة بتوفير برامج دعمٍ ومِنَحٍ لشركة أتلانتيك تليجراف كومباني. تعهَّدَتْ حكومةُ بريطانيا العظمى باستخدامِ سفنِ البحرية الملكية لإجراء الدراسات المسحية للمسار المخطط ولمد كابل التلغراف. علاوةً على ذلك، تعهَّدَتِ الحكومة البريطانية بدفع ١٤٠٠٠ جنيه إسترليني إلى الشركة سنويًّا حتى يتجاوز صافي ربحها ٦ بالمائة، حينها سينخفض الدعم إلى ١٠٠٠٠ جنيه إسترليني للخمسة والعشرين عامًا اللاحقة.24 في ١٨٥٧، اعتمَدَ الكونجرس الأمريكي دعمًا مشابِهًا بقيمةٍ مكافئةٍ بلغَتْ ٧٠٠٠٠ دولار سنويًّا في البداية، ثم ٥٠٠٠٠ دولار سنويًّا بعدما يتجاوز صافي الربح عتبة ٦ بالمائة.25 كما وفَّرَتِ البحرية الأمريكية سفينتين لمد الكابلات في ١٨٥٧؛ سفينة يو إس إس نياجرا الجديدة، وسفينة يو إس إس سسكويهانا. كانت شراكة فريدة من نوعها بين أمَّتين تناحَرَتا في عام ١٨١٢.
  • (٤)
    «القوى الاجتماعية العامة»: اهتمَّتِ الجماهير اهتمامًا محمومًا بكابل التلغراف العابر للأطلسي، وهو ما تجسد إبَّان الاحتفالات السابقة لأوانها في ١٨٥٨ بكلٍّ من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. لمس مواطنو كلتا الأمتين آثارَ الاتصال الآني الذي وفَّرَه التلغراف مع انتشار التكنولوجيا على طول قضبان السكك الحديدية التي تغلغلت كشبكة العنكبوت في خمسينيات القرن التاسع عشر وستينياته. أصبحت الاتصالات الإلكترونية العابرة للقارات أمرًا اعتياديًّا اليومَ، حتى إنه يصعب تخيُّل عالَمٍ دونها. لا بد أن العالَم السابق على مد كابل التلغراف العابر للأطلسي كان يبدو أضخم كثيرًا للمُواطِن العادي، مقارَنةً بإدراكه للمسافات بين مختلف بقاع العالم بعد الانتهاء منه بنجاح في ١٨٦٦. وشعورُ الجماهير ﺑ «تلاشي المسافات» متمثِّلًا في خطوط التلغراف العابرة للمحيطات زاد زيادةً كبيرة في وقت لاحق بفعل مدِّ خطوطِ الهاتف على مستوى العالم عبر القارات وتحت أسطح البحار.26

الاتصالات والإمبراطورية وهارولد إينيس

كان هارولد إينيس (١٨٩٤–١٩٥٢) باحثًا كنديًّا مؤثرًا في مجال الاتصالات، ودرس أَوْجُهَ الربط بين الاتصالات والنقل، وصعود الإمبراطوريات وسقوطها.27 كانت رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الاقتصاد عن تاريخ شركة كناديان باسيفيك ريلرود للسكك الحديدية، وكيف أثَّرَ إنشاؤها في ثمانينيات القرن التاسع عشر بالغَ الأثر على حياة الكنديين، خاصةً في الغرب.28 كانت خطوط السكك الحديدية في أمريكا الشمالية وسيلةَ اتصالٍ ذات تأثير مجازي في القرن التاسع عشر؛ إذ نقلت الثقافة الغربية على طول قضبانها، وكما طالعنا، كانت وسيلةَ اتصالٍ بالمعنى الحرفي حيث تتبَّعَتْ خطوطُ التلغراف قضبانَ السكك الحديدية. ذاع صيت إينيس في كندا أولًا ثم على مستوى العالَم لدراساته الاقتصادية عن الدور الذي لعبته السلع الطبيعية، مثل السمك والفراء ومنتجات الأخشاب، في التنمية الوطنية بكندا.29 وفي وقت لاحق من حياته العملية درس تاريخَ تطوُّر الكلام والكتابة في الإمبراطوريات القديمة. وأدَّى به اهتمامُه بالاتصال إلى تعريفِ الوسائط على أنها إما مرتبطة بالزمان وإما مرتبطة بالمكان؛ وهما مصطلحان حدَّدَهما لتمييز التحيُّز في الاتصالات.30 فالرسائل المعمرة المنقوشة على الأعمدة الحجرية في الآثار المصرية والإغريقية كانت «مرتبطةً بالزمان»، بحسب وصف إينيس، وتمتَّعَتْ باستمراريةٍ دامَتْ لقرون.31 وعرَّف إينيس الوسائطَ الأحدث مثل الصحف والراديو والتليفزيون بوصفها «مرتبطةً بالمكان»، وأنها بالأساس أقلُّ دوامًا وأسرعُ زوالًا.
يبدو مصطلح الوسائط الإلكترونية «المرتبطة بالمكان» متناقضًا للمستمع؛ لأن أحد موضوعات هذا الفصل هو أن الوسائط الحديثة تعمل على «تسطيح» الكرة الأرضية بتقليص كلٍّ من المكان والزمان، في عمليةٍ تشير إليها فرانسيس كيرنكروس ﺑ «تلاشي المسافات».32 وينتقد إينيس وسائلَ الإعلام المعاصرة «المميكنة» التي ظهرَتْ بعد الحرب، مثل الصحف والراديو والتليفزيون، لطابعها المؤقت مقارَنةً بالوسائط «المرتبطة بالزمان» مثل الكتب. والوسائطُ المرتبطة بالمكان خدمَتْ أغراضَ أجندة دعائية واستهلاكية ازدراها إينيس. كما استشعر أن الوسائط الزائلة المرتبطة بالمكان ساهمَتْ في نضوب التراث الشفاهي في كل الثقافات، خاصةً في كندا.33 وارتأى أن غياب التوازن بين الوسائط المرتبطة بالمكان والوسائط المرتبطة بالزمان ينبغي الالتفات إليه في تعليم الشباب، بالأخص في المرحلة الجامعية.
إنْ ظنَّ إينيس أنَّ الراديو والتليفزيون يؤثران تأثيرًا عكسيًّا على التعليم الثقافي للشباب في مطلع خمسينيات القرن العشرين، فسيُصدَم صدمةً بالغةً وهو يتأمَّل استخدامَ الطلاب من الأعمار كافةً الوسائطَ المرتبطة بالمكان في الوقت الراهن. فالشباب لا يتواصلون باستخدام الهواتف المحمولة أثناء أغلب ساعات اليوم فحسب، وإنما يرسلون رسائل إلكترونية سريعة الزوال تمامًا؛ فيَندُر أن يطبع أحدهم بريدًا إلكترونيًّا على ورقٍ، وعددٌ قليل جدًّا من الرسائل النصية ينتهي بها المطاف محفوظًا. ومعروف عن مواقع الويب على الإنترنت أن تصميمها ومقرها لا يدومان، ويحدث ذلك بمعدل كبير لدرجة أنه يجري إنشاء أرشيفات للإبقاء على مظهر المواقع التي جرى في الماضي تغيير تصميمها مرات عديدة.34

يكمن أحد أَوْجُه المفارقة، كما أشرتُ إليه في مواضع أخرى من هذا الكتاب، في أن الإنترنت والشبكة العنكبوتية العالمية جعلَا في الواقع النفاذَ إلى محتوى الراديو والتليفزيون والصحف أيسرَ عمَّا كان عليه أيام إينيس؛ فهذه الوسائط المرتبطة بالمكان هي الآن أقلُّ زوالًا من حيث الاطِّلاع على محتواها من خلال محركات البحث والأرشيفات الرقمية على الشبكة. بوسع مستخدمي الإنترنت الوصولُ إلى محطات الراديو والتليفزيون حول العالم وهم يسمعون ويشاهدون فقرات البث الحي المباشِر؛ وأغلب شركات الإعلام تخزِّن في أرشيفاتٍ فقراتِ البث الحي السابقةَ من أجل تشغيلها مرةً ثانية متى يشاء أحدهم. كان الوصول إلى أرشيف الصحف فيما مضى يعني إما زيارة الناشر وإما قضاء ساعات في تثبيت وتشغيل بكرات الميكروفيلم لأرشيفات الصحف في مكتبةٍ من المكتبات. واليومَ أغلبُ كبريات الصحف والمجلات لديها أرشيفاتٌ رقمية على الإنترنت يعود محتواها إلى عقود سابقة، وصار الوصول إلى المحتوى أسرع وأبسط كثيرًا.

وكذا سيُذهَل إينيس من استخدام المدرسين والطلاب للوسائط المتعددة في حجرات الدراسة بالجامعات حديثًا؛ فأنا لم أدَّخِرْ جهدًا في إضافة الصور المعروضة ومقاطع الفيديو وروابط الويب المباشِرة إلى محاضرات صفِّي وإلى المناهج على الإنترنت. يسَّرَتِ الويب الاطِّلاع على هذا المحتوى، وأضافت ثراءً وعمقًا إلى هذه «المحاضرات» التي لم تكن ممكنة منذ عقد من الزمان. أطلب من طلابي المشاركة في حواراتٍ على الإنترنت حول محتوى الدورة على مواقع الويب الخاصة بنقاش حجرات الدراسة؛ وذلك لأنني اكتشفتُ أنَّ كثيرًا من الطلاب الذين يعزفون عن الحديث في قاعةِ محاضراتٍ كبيرةٍ يعبِّرون عن آرائهم بدرجةٍ أكبر كثيرًا في هذه المنتديات على الإنترنت. ويجرِّب بعضُ أعضاء هيئة التدريس حجراتِ الدراسة المختلطة؛ حيث يحضر بعض الطلاب المحاضَرةَ بحجرةِ الدراسة، بينما يشارك البقية عن بُعْد. يفضِّل بعض الطلاب الحضورَ المادي بحجرة الدراسة، بينما يحبِّذ آخَرون تلقِّي المحاضرة بالمنزل أو بالعمل بسبب متطلباتٍ أسريةٍ أو عمليةٍ. زاد بعض أعضاء هيئة التدريس على هذه الفكرة؛ حيث يعقدون فصولًا مختلطة دوليًّا، يكون فيها بعضُ الطلاب بموقعٍ ما ويتلقَّى الآخَرون البرنامجَ الدراسي من قاراتٍ أخرى. والفكرةُ التي تتيح حدوثَ ذلك هي مفهوم «العالَم المسطَّح».

نشأة العالَم المسطَّح

كما طالعنا، لم يكن ربط العالم عبر الكابلات البحرية ظاهرةً حديثةً؛ فنجاحُ تشغيل كابل تلغراف القنال الإنجليزي في ١٨٥١، والنجاحُ النهائي لكابل التلغراف العابر للأطلسي في ١٨٦٦؛ أدَّيَا إلى تكوين شراكات كثيرة بين القطاعين العام والخاص لمد خطوط الكابل عبر القارات وتحت محيطات العالم. وبحلول عام ١٨٩١ أمكن مدُّ كابل بين جميع قارات العالم المأهولة الست، وربطَتْ أسلاكُ التلغراف بين أغلب مدن العالم الكُبرى (انظر الشكل ٧-٦). وُسِّعت هذه المسارات فيما بعدُ لتشمل كابلات الهاتف البحرية التي وصلَتْ قارات العالم هي الأخرى.
fig30
شكل ٧-٦: عبرَتْ خطوطُ التلغراف العابرة للقارات الأمريكيتين وربطت أوروبا بآسيا. وصلَتِ الكابلات البحرية نصفَ الكرة الأرضية الغربي بأوروبا، وطوَّقَتْ أفريقيا وامتدَّتْ عبر البحر المتوسط حتى المحيط الهندي، وواصلَتِ امتدادَها حتى جنوب شرق آسيا وأستراليا ونيوزيلندا. كان العالَم متصلًا إلكترونيًّا بحلول مطلع القرن العشرين. المصدر: خطوط التلغراف، أطلس ستيلرز الميسَّر (١٨٩١)، شريحة ٥، أطلس العالم بإسقاط مركاتور. مؤسسة المشاع الإبداعي.

لا ينبغي إغفال أهمية خطوط الاتصال هذه لأغراض القيادة والتحكم في الأصول الاستعمارية فيما وراء البحار من قِبَل القوى العظمى المهيمنة على العالم. عزَّزَ الكابلُ البحري وخطوطُ الاتصال الهاتفية سيطرةَ بريطانيا العظمى على حكومات المستعمرات التابعة لها في كندا والهند وشرق أفريقيا وأستراليا ونيوزيلندا. واعتمدَتِ القوى الأوروبية الأخرى على خطوط الاتصال عن بُعْد هذه من أجل الغرض ذاته في أفريقيا والأمريكتين وآسيا. لم يَعُدْ وكلاء وزارة الخارجية ووزراء المالية بالوطن والمديرون التنفيذيون مضطرين إلى انتظار التقارير التجارية لتصل بالسفينة بعد إرسالها بأسابيع طوال؛ إذ وصلت التقارير اليومية بالتلغراف (ولاحقًا بالهاتف) من نظرائهم لدى المستعمرات. عزَّزَتِ المعلوماتُ المحصلة في الزمن الحقيقي من تنمية إمبراطوريات العالم في القرن التاسع عشر، وساعدَتْ على استمرار بقائها في القرن العشرين.

تألَّفَ تصنيع الكابلات البحرية من قوالب من أسلاك نحاسية حتى سبعينيات القرن العشرين، عندما بدأ استحداث موصلات الألياف البصرية الزجاجية من أجل أنْ تحلَّ محلَّ الكابلات النحاسية الثقيلة والمكلفة. كابلات الأسلاك البصرية أخفُّ وزنًا بكثيرٍ وتتمتَّع بطاقة تحميلية تفوق النحاس بمرات عديدة. في ١٩٦٧، أطلقَتْ بنجاح شركةُ إيه تي آند تي مع اتحادٍ من مقدِّمي خدمات الاتصال عن بُعْد الأوروبيين قمرَ تيلستار للاتصالات.35 وفَّرَتِ الأقمار الصناعية بديلًا عن الكابلات البحرية لأغراض الاتصالات عن بُعْدٍ العالمية، لكنها بديلٌ باهظُ التكلفة من حيث التصنيع والإطلاق والتشغيل. توجد كذلك خطورة في تشغيلها بسبب تهديدات الإشعاع الكوني، والنيازك الدقيقة، والخطر المتزايد المتمثِّل في التعرُّض للاصطدام بالحطام الفضائي من صنع الإنسان.36 وعادةً ما تكون الكابلات البحرية محميةً في المحيطات العميقة تحت آلاف الأقدام من المياه؛ والتهديدات الرئيسية لعملها تأتي من مراسي السفن وشبكات الصيد والزلازل البحرية العرضية.

زادَتِ الطاقة التحميلية لكابلات الألياف البصرية زيادةً مهولة منذ عام ١٩٩٠، خاصةً مع استخدام الضوء المُضمَّم بألوان متعددة. تعمل الكابلات بتحويل الإشارات الكهربية من الأجهزة مثل الكمبيوترات والهواتف إلى نبضات ضوئية تومض وتنطفئ ملايين المرات في الثانية الواحدة. وهذه النبضات الضوئية تتنوَّع بحسب اللون؛ بحيث تعمل كلُّ درجةِ لونٍ كقناةٍ مستقلة داخل كابل الألياف البصرية، وعند الطرف الآخَر من الكابل، يترجم ذلك جهازُ استقبالِ تيار الدفقات الضوئية المتعددة الألوان ويحوِّله مرةً أخرى إلى نبضات كهربية بوسع الكمبيوتر أو الهاتف ترجمتها؛ فموقع الويب من خادم في هونج كونج يُعرَض على هاتف محمول في باريس يُبَثُّ عبر كابلات بحرية في صورة ملايين النبضات الضوئية.

ذكر توماس فريدمان في كتابه «العالم مسطح» في ٢٠٠٥، أن الموافقة على قانون الاتصالات عن بُعْد لعام ١٩٩٦ في الولايات المتحدة؛ أدَّتْ إلى تركيب آلاف الأميال من كابلات الألياف البصرية الجديدة حول العالم.37 وبرفع القانونِ التنظيمَ عن كبرى شركات الاتصالات عن بُعْد في الولايات المتحدة، أدَّى القانون إلى احتدام المنافسة بين هذه الشركات (وشركائها في الخارج) حول تثبيت شبكات كثيفة من الألياف الجديدة. توقَّعَتِ الشركات أن النمو السريع الذي شهدته إبَّان فترة الازدهار في تسعينيات القرن العشرين سيستمر إلى ما لانهاية. عندما انهارت سوق الشركات العاملة في الإنترنت في ربيع عام ٢٠٠٠، أغلق كثيرٌ من مؤسسات الاتصالات عن بُعْد التي أفرطت في التوسُّع أبوابَه، واشترَتِ الشركات الناجية بنيتَها التحتية من الألياف البصرية بأقل كثيرًا من قيمتها الفعلية.38 أدَّتْ قوى العرض المفرط والطلب المنخفض في الاتصالات عن بُعْد إلى انخفاض أسعار البث البعيد المدى. وكما أشار فريدمان، انخفضَتْ تكاليفُ المكالمات الهاتفية البعيدة المدى من دولارين للدقيقة إلى ١٠ سنتات، وانخفضَتْ كلفة نقل البيانات إلى الصفر تقريبًا.39 والمفارقة أنَّ انهيارَ سوقِ شركات الإنترنت — على الرغم من أنه أدى إلى حدوث مجموعة تغييرات كُبرى في كثيرٍ من خدمات الإنترنت الأولى — انطوى على بارقةِ أملٍ عظيمة تمثَّلَتْ في «الألياف الداكنة» التي جرى تثبيتها، لكنْ لم تُستخدَم في ذاك الحين. ومنذ عام ٢٠٠٠ أُعِيد توصيل كثيرٍ من كابلات الألياف البصرية المثبتة، وهذه الزيادة في الطاقة التحميلية حول العالم ساهمَتْ في النمو الاستثنائي لخدمات جديدة على الإنترنت، مثل يوتيوب وفيسبوك، استفادَتْ من التوسُّع في عرض النطاق التردُّدي.
في كتابه «العالم مسطح»، يتحرَّى فريدمان تبعات التجارة العالمية وكيف تتأثَّر العلاقات الدولية بعالم مرتبط بمنظومات الاتصال عن بُعْد التي تعمل بسرعةِ ضوء الألياف البصرية.40 يتمثَّل طرح فريدمان في أن قنوات الربط هذه، لا سيما الإنترنت، غيَّرَتْ من كيفيةِ وموضعِ معالجة المعلومات حول العالم. وهو يَسُوق عشرةَ عوامل رئيسية عملت على «تسطيح» الكرة الأرضية:41
  • (١)

    «٩ نوفمبر ١٩٨٩» هو تاريخ سقوط حائط برلين وما تبعه من تحوُّلات جيوسياسية هزت العالم. ويرى فريدمان أنَّ انهيار الاتحاد السوفيتي والجمهوريات التابعة له في شرق أوروبا كان نصرًا للمجتمعات الرأسمالية والتدفُّق الحر للمعلومات والتجارة بين الأمم.

  • (٢)

    «٩ أغسطس ١٩٩٥» هو تاريخ طرْحِ شركةِ نتسكيب أَسْهُمَها للاكتتاب العام. ويرى فريدمان أن النجاح القصير الأجل للمتصفح الذي طوَّرَتْه الشركة كان إيذانًا بصعود الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين كوسيلةٍ للاتصالات وبث المعلومات جرى تبنِّيها على نطاق واسع.

  • (٣)

    ذلَّلَ تطويرُ «برمجيات تدفُّق العمل» رقمنةَ المعلومات بحيث يمكن معالجتها وتحليلها في أي مكان بالعالم. واستعان فريدمان بأفلام الرسوم المتحركة التي تُنتَج في كاليفورنيا كمثالٍ؛ حيث يتمُّ تحريكُ الخلايا في الهند، وتسجيلُ الصوت بالقرب من منزل كلِّ ممثلٍ، والتحريرُ النهائي في كاليفورنيا.

  • (٤)

    «المصدرية المفتوحة» هي إنشاء أكواد الكمبيوتر ومحتوى الإنترنت من قِبَل «تجمعات تعاونية ذاتية التنظيم». والأمثلة المَسُوقة تشمل برمجيات أباتشي مفتوحة المصدر لخادمات الويب وموقع ويكيبيديا كموسوعة عالمية مفتوحة المصدر يساهم فيها الآلاف بشتَّى اللغات.

  • (٥)
    «التعهيد الخارجي» هو تفويض مهامَّ خارجَ الشركة أو المنظمة. ويسوق فريدمان تعهيدَ مهمةِ تصحيح أكواد الكمبيوتر لتجنُّب تعطُّل الأنظمة في مستهل عام ٢٠٠٠. حلَّت شركات البرمجيات في الهند مشكلة Y2K عام ٢٠٠٠ لعملائها بإعادة كتابة الكود المعيب، وأثبتَتْ أنه بإمكانها تولِّي مهامَّ برمجيةٍ مشابِهةٍ بالتعهيد.
  • (٦)

    «التعهيد الأجنبي» هو تحويل الإنتاج إلى المصنِّعِ العالمي الأقل تكلفةً أو مقدِّمِ الخدمة الأدنى كلفةً. ويسوق فريدمان صعودَ الصين بوصفها منتِجًا تنافسيًّا للسلع المصنَّعة، وترسُّخ «السعر الصيني» باعتباره المحك الذي يسعى المنافسون لمضاهاته.

  • (٧)

    «سلسلة التوريد» هي تصميم نظام شامل من أجل شراء وتسليم السلع والخدمات من المورِّد إلى العميل. يحلِّل فريدمان سلسلةَ التوريد المحوسبة لدى وول-مارت التي تبادِر بإعادة طلب المنتجات من المورِّدين أثناء شرائها من متاجرها.

  • (٨)

    «التعهيد الداخلي» هو عملية تدعو الشركة وفقًا لها مقدِّمَ خدمةٍ لتقديم خدمات حيوية داخل المنظمة. ويسوق فريدمان شركة يونايتيد بارسيل سيرفيس لمجموعة الخدمات اللوجيستية التي توفِّرها لعملائها، والتي تخطَّتْ مجرد تسليم الطرود.

  • (٩)

    «الإطْلاع» هو وصف فريدمان لمحركات البحث ومقدِّمي هذه الخدمة. ويستشهد بصعود جوجل إلى القمة في هذا المجال، ويتحرى التبعات التي تعود على المجتمع من جرَّاء إتاحة معلومات العالَم كلها للجميع.

  • (١٠)

    «المنشطات» هي أربعة عوامل تعزِّز الاتجاهات المذكورة أعلاه: العامل الرقمي والمحمول والشخصي والافتراضي؛ فالوسائط والمعلومات التناظرية بصدد التحوُّل إلى صيغٍ رقميةٍ يمكن النفاذ إليها وبثُّها بسرعةٍ. والهواتفُ المحمولة وغيرها من الأجهزة اللاسلكية تتيح المحتوى للجميع دون الحاجة إلى الاتصال بأسلاك. والتطبيقاتُ المطوَّرة حديثًا تتيح لكلِّ مستخدِم تخصيصَ الوسائط وغيرها من المحتوى الرقمي، من الأمثلة على ذلك الحسابُ على موقع فيسبوك. وطرح الحوسبة السحابية يعني أن المستخدمين لن يكونوا بحاجةٍ لحمْلِ ملفاتهم الرقمية عندما يتنقلون. سينفُذ المستخدِمون إلى ملفاتٍ افتراضيةٍ مخزَّنة على خادمات بعيدة، ويستخدمون برمجيات مشتركة لمعالجة ونشر المعلومات.

ثم يربط فريدمان هذه العوامل التي تعمل على «تسطيح» العالم بما يطلق عليه «التقارب الثلاثي»:
كانت المحصلة النهائية لهذا التقارُب الثلاثي خَلْق مضمارٍ عالمي على الويب يتيح أشكالًا متعددة من التعاون — مشاركة المعرفة والعمل — في الزمن الحقيقي، دون اعتبار للموقع الجغرافي أو المسافة أو حتى اللغة في المستقبل القريب. والحق أقول إنه لا يتسنَّى للجميع النفاذ بعدُ إلى هذه المنصة، أو هذا المضمار، لكنه مفتوح اليومَ أمامَ عددٍ أكبر من الأشخاص في أماكن وأيام أكثر، بطرقٍ أكثر رحابةً من أي نظيرٍ له في أي وقت مضى من تاريخ العالم. وهذا مقصدي عندما أقول إن العالم أصبح «مسطحًا». إن التقارُب المتمِّم للعوامل العشرة «المسطحة» للعالَم هو ما يخلق هذا المضمارَ العالمي الجديد، من أجل أشكال متعددة من التعاون.42
من بين العشرة عوامل التي تعمل على تسطيح العالم والتي ساقها فريدمان، يعتمد العديد منها اعتمادًا مباشرًا على تكنولوجيا الاتصال عن بُعد، لا سيما الكابلات التي تطوِّق العالم وتتيح شبكة الإنترنت العالمية. وهذه الوصلات من الألياف البصرية — أيًّا كانت تبعاتها — تتيح المصدرية المفتوحة والتعهيد الخارجي والتعهيد الأجنبي والتعهيد الداخلي، والإطْلاع وكلًّا من العوامل المنشِّطة التي ساقها. وحتى المحمولية متوقِّفةٌ على اتصال الأجهزة المحمولة بشبكة عالمية متصلة بعضها ببعض بواسطة أسلاك. وبحسب فريدمان، فإن المنفعة الأولى من العالم المسطح هي التمكين الشخصي؛ حيث إن هذه التكنولوجيات تتيح لجميع مَن يتصلون بالشبكة تجميع المعلومات واستحداث خدمات جديدة تمكِّن البشرَ من التعاون والتواصل بشكل أكثر فاعليةً.43

كذلك تسمح هذه التكنولوجيات للحكومات والمؤسسات والمنظمات غير الهادفة للربح بتشكيل فِرَق عالمية من أجل حل المشكلات (مثل التضافر في حل قضايا التغير المناخي)، وتطوير المنتجات وتسويقها، وأغراض القيادة والتحكم. واليومَ تتنافس كبريات الشركات في استخدام شبكة الإنترنت العالمية. والتكنولوجياتُ ذاتها التي تيسِّر المنافسةَ العالمية، من شأنها أيضًا أن تُستخدَم لتصدير العمل إلى أقل أسواق العمالة كلفةً في العالم. وبوسع مَن فقد وظيفته بدولةٍ من الدول التي تدفع أجورًا أعلى، وحلَّ محلَّه موظفٌ معلوماتي في بلدٍ أجنبي؛ أن يشتري قميصًا قطنيًّا يحمل صورةً لتوماس فريدمان مكتوبًا عليها: «خسرتُ وظيفتي وحلَّ محلي شخصٌ من الهند، ولم يُلْقِ كاتبُ عمودِ الشئون الخارجية الشهير بجريدة ذا نيويورك تايمز بالًا لمأساتي!»

بتبنِّي وجهة نظر إيلول، فإن تسطيح العالم بفعل الإنترنت يقدِّم لنا حالةً مثالية للدراسة. وبحسب بيان إيلول عام ١٩٦٢، الآثار المحمودة للتكنولوجيا لا سبيلَ لفصلها عن آثارها المذمومة، وهذه «العوامل المتناقضة متصلة اتصالًا لا فكاكَ منه».44 لم يَرَ إيلول أن ذلك يعني وجوب اعتبار التكنولوجيا قوة محايدة في المجتمع. سيصطبغ منظورنا لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بما إذا كان المرء يراها قوةً تؤكِّد الجوانبَ الإيجابية من الحياة، أم يراها شيئًا أدَّى إلى تدنِّي جودة حياة المرء. وهذه المنظورات تختلف بحسب الموقف كذلك؛ فربما تستاء من رقابة الإدارة على استخدام الإنترنت بالعمل، لكنك تستمتع بتحميل صورك الشخصية أو صور العائلة على موقعٍ للتواصل الاجتماعي تتواجد عليه دائرةٌ كبيرة من الأصدقاء.
توفِّر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الوسائلَ لإنجاز العمل الرقمي في أي دولة تمتلك قوًى عاملة على قدرٍ عالٍ من التعليم. تجمِّع الشركات والمنظمات فِرَقًا عالمية وتستغلُّ خبرات أفراد المجموعة بالأسواق الإقليمية وبالاحتياجات الثقافية الفريدة. وعبر الانتفاع من فروق التوقيت بين القارات، تجري معالجة المعلومات بسرعةٍ وفاعليةٍ على مدار الساعة؛ فاختصاصي الأشعة في الهند يحلِّل تقاريرَ الأشعة السينية الرقمية للمرضى الأمريكيين أثناء الليل، ويرسل النتائج إلى الولايات المتحدة قبل الصباح التالي.45

منذ عام ٢٠٠٠، فقدَتْ أعدادٌ ضخمة من موظفي المعلوماتية في الدول الأكثر تقدُّمًا وظائفَهم، وحلَّ محلَّهم موظفون بدولٍ ذات مستويات أجور أدنى. تحدَّثْتُ مؤخرًا إلى زميلٍ بشركة من شركات التكنولوجيا المتقدمة في كولورادو، طُلِب منه فعليًّا تدريبُ الموظف الأجنبي الذي سيحلُّ محلَّه في الخارج، وكان يفعل ذلك حتى يتسنى له الحصول على مكافأة نهاية الخدمة. هذه العملية معروفةٌ في لغة الأعمال ﺑ «الترشيد»؛ أيْ خفض القوى العاملة بالبلدان ذات مستويات الأجور الأعلى في مقابل توسُّعٍ في المناصب المشابهة في البلدان الأقل ثراءً. قد يدفع البعض أن في هذا أيضًا حِكمة، وهي توزيع أعدل للثروة حول العالم، لكن مَن فقدوا وظائفهم وحياتهم المهنية نتيجةً لهذا الاتجاه قد لا يرون هذا المنطق، كما عبَّرت عنه الجملة المكتوبة على القميص القطني التي تنتقد توماس فريدمان. وقد عزَّزَ تصديرُ الوظائف المرتبطة بمعالجة وتوفير المعلومات (مراكز الاتصال وخطوط المساعدة) اقتصادات الدول النامية القادرة على توفير التدريب المطلوب، وأدى كذلك إلى إعادة نظر الشباب بالدول الأكثر تقدُّمًا في وظائف في مجالاتٍ مثل برمجة الكمبيوتر. فلأسباب وجيهة هم راغبون عن الاستثمار في وظيفةٍ قد تهاجِر فرصُ العمل بها إلى بلدانٍ أجنبية أثناء عملهم بها. ويلفت فريدمان الانتباهَ إلى أنه تقلُّ احتمالاتُ تصديرِ الوظائف الإبداعية في الهندسة والعلوم والفنون بسبب المعارف أو المهارات البالغة التخصُّص التي تستلزمها. إلا أنه مع تحسُّن التعليم الفني في مختلف أنحاء العالم، سيتعاون — ويتنافس — العاملون بمختلف وظائف المعلوماتية مع أقرانهم في الدول المتقدِّمة الأخرى. وبحسب ما ذَكَر مبتكرو جهازِ التلغراف وكابل التلغراف العابر للأطلسي، فإن المنفعة المستفادة هي أن حواجز المسافة التي أعاقَتِ التواصلَ على مستوى الكوكب قد سقطت، لكننا نعيش الآن في عالَم يمكن أن تختفي فيه وظيفةُ المرء فجأةً، ويتقلَّدها شخصٌ أجنبي بالخارج من أجل «الترشيد».

هوامش

(1) C. Mabee, The American Leonardo: A Life of Samuel F. B. Morse (New York: Knopf, 1943). This book won the Pulitzer Prize for biography in 1944. The telegraph message is an exclamation from the Bible (Numbers 23:23) and was selected by Annie Ellsworth, the daughter of US Commissioner of Patents Henry L. Ellsworth, a college classmate of Morse at Yale University.
(2) A. C. Clarke, “Clarke’s Third Law,” Profiles of the Future (London: Phoenix, 1961).
(3) B. Winston, Media Technology and Society (London: Routledge, 1998).
(4) Ibid. F. Braudel, Civilization and Capitalism: 15th to 18th Century (New York: Harper & Row, 1981), 430.
(5) See also B. Winston, “How Are Media Born and Developed?”, in J. Downing, A. Mohammadi, and A. Sreberny-Mohammadi (eds.), Questioning the Media: A Critical Introduction (Thousand Oaks, CA: Sage Publications, 1995), 54–74.
(6) H. A. Innis, The Bias of Communication (Toronto: University of Toronto Press, 1951), 167-8.
(7) Winston, Media Technology and Society.
(8) Ibid., 26.
(9) The SOS code in International Morse Code used by ships at sea differs from that in American Morse Code, which would be converted as three dots, a dotpause- dot for “O,” then three dots.
(10) Winston notes that government support was an accelerating factor in the adoption of telegraphy in the US. In fact, the $30,000 appropriation from Congress for the 1844 Washington-Baltimore demonstration line was made through the US Postal Service. However, Winston notes that the Postal Service lost money operating the first US commercial telegraphy lines. It was then privatized in what became known as the Western Union Company. This set a precedent for the operation of telecommunication services in the US as private enterprises. In Europe they were folded into governmentoperated communication entities later known as the PTTs-Postal Telegraph and Telephone services. Note that they are listed in the order created.
(11) Winston, Media Technology and Society.
(12) R. L. Thompson, Wiring a Continent (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1947), 317.
(13) Cited in B. Dibner, The Atlantic Cable (New York: Blaisdell, 1964). An online version (1959) of this classic history is available from the Smithsonian Institution: http://www.sil.si.edu/digitalcollections/hst/atlantic-cable/. It includes a number of excellent illustrations of the ships involved and the cable-laying technology used. It would be of interest to all students of telecommunication history.
(14) Morse wrote this in a letter circa 1843 (Dibner, The Atlantic Cable, 7). What is remarkable is that this letter was written barely 30 years after the British had burned the White House to the ground in 1814 during the war of 1812. Apparently commercial ties between the United States and Great Britain overwhelmed any lingering hostility between the two nations.
(15) Dibner. The Atlantic Cable, pp. 10-11.
(16) The first institution that Field created was the New York, Newfoundland, and London Telegraph Company. In 1856 the cable-laying organization was renamed the Atlantic Cable Company.
(17) The governmental support of the US and Britain was financial and in-kind, enlisting the assistance of the navies of each nation. The US Congress supported the Atlantic Cable effort in 1857 with a bill that passed by just one vote. Secretary of State William Seward stated at the bill’s passage, “My own hope is, that after the telegraphic wire is once laid, there will be no more war between the United States and Great Britain.” (Cited in Dibner, The Atlantic Cable, 27.)
(18) Dibner, The Atlantic Cable, 28–73.
(19) Ibid.
(20) Ibid., 77.
(21) The laying of a cable that spanned the vast Pacific Ocean did not occur until 1902.
(22) IET.org. The Transatlantic Telegraph Cables 1865-1866. Retrieved August 11, 2009, from http://www.theiet.org/about/libarc/archives/featured/transcable1865.cfm.
(23) C. G. Hearn, Circuits in the Sea (Westport, CT: Praeger, 2004), 37–41.
(24) Ibid., 48. An additional agenda for the British government was to establish telegraphic communication with its rapidly growing dominion in Canada. After the loss of the American colonies in the 18th century, Great Britain sought to strengthen its connections with Canada, and the undersea cable from Ireland to Nova Scotia enhanced this.
(25) Ibid., 54.
(26) F. Cairncross, The Death of Distance (London: Orion, 1997).
(27) H. A. Innis, Empire and Communications (Oxford: Clarendon Press, 1950); Innis, The Bias of Communication.
(28) H. A. Innis, A History of the Canadian Pacific Railway (Toronto: University of Toronto Press, 1971).
(29) P. Heyer, Harold Innis (Lanham, MD: Rowman & Littlefield, 2003).
(30) Innis, The Bias of Communication.
(31) The 1799 discovery of the Rosetta Stone, an ancient Egyptian artifact, was a key find in decoding text that was inscrutable to modern eyes. Its inclusion of identical text in Greek and two Egyptian languages (one hieroglyphic) meant that the latter two could finally be decoded. It is on display in the British Museum in London.
(32) See Cairncross’s book, The Death of Distance.
(33) Innis, The Bias of Communication.
(34) One of the largest and most comprehensive sites is the Internet Archive at http://www.archive.org/index.php. Their Way Back Machine has archived over 150 billion Web pages since its inception. See early site designs for Yahoo.com and Google.com (and note how little the latter home page has changed since November 1998).
(35) H. Gavaghan, Something New Under the Sun: Satellites and the Beginning of the Space Age (New York: Copernicus, 1998).
(36) The threat of a cascading series of collisions with debris in space is known as the Kessler Syndrome, named for NASA scientist Donald Kessler, who first described the potential catastrophic threat to all spacecraft in Earth orbit. Such an exponentially expanding series of collisions could destroy essential satellites that nations are dependent upon for telecommunication, navigation, and defense. See D. J. Kessler and B. G. Cour-Palais, “Collision Frequency of Artificial Satellites: The Creation of a Debris Belt,” Journal of Geophysical Research 83 (1978), A6. See also J. Schefter, “The Growing Peril of Space Debris,” Popular Science (July 1982), 48–51.
(37) T. Friedman, The World Is Flat: A Brief History of the 21st Century (New York: Farrar, Straus & Giroux, 2005).
(38) Most were victims of poor business plans, but one telecommunications company, Worldcom, was charged with accounting fraud to the tune of $11 billion, and its CEO and founder Bernie Ebbers was sentenced in 2005 to 25 years in a US prison.
(39) Friedman, The World Is Flat, 68.
(40) Ibid.
(41) Ibid., 48–172.
(42) Ibid., 176-7.
(43) Friedman has been criticized for a somewhat Pollyanna-ish worldview that nations that collaborate together (via trade and other partnerships) are unlikely to go to war with each other, but his observations concerning the role of telecommunication in the creation of networks that bind the citizens of the world together are perceptive.
(44) J. Ellul, “The Technological Order,” Technology and Culture 3/4 (Fall 1962), 412.
(45) A. Pollack, “Who’s Reading Your X-ray?”, New York Times (November 16, 2003). Retrieved March 23, 2009, from http://www.nytimes.com/2003/11/16/business/yourmoney/16hosp.html?pagewanted=1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤