قبل أن تقرأ
أليس من المثير للجدل أن المرء عندما يتصفَّح أرفف أية مكتبة فرنسية فإنه يجد مجموعةً كبيرةً من الكتب عن الثقافة العربية المكتوبة أساسًا باللغة الفرنسية في نفس الوقت الذي يلاحظ أن مثل هذه العناوين تكاد تكون غير موجودة في أرفف المكتبة العربية؟
لا شك أن المرء سيُصدَم لو طالع هذا الكم الهائل من العناوين الخاصة بهذا الموضوع باللغة الفرنسية. والكثير من هذه الكتب قديم تاريخًا وحديثٌ أيضًا. ورغم ذلك فإنه لا يوجد في المكتبة العربية كتابٌ واحدٌ يدرس هذه الظاهرة، ويقدمها إلى القارئ العربي.
وليس الكتاب الذي بين يديك فقط هو الأول من نوعه في المكتبة العربية، بل هو أيضًا الأول من نوعه الذي يفرد مثل هذه الصفحات عن الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية في كل الوطن العربي وخارجه. ففي عناوين الكتب التي رجعنا إليها نجد هناك تقسيماتٍ واضحة للأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية حسب المناطق. وكأنه أدبٌ معزولٌ. فهناك أدبٌ في المغرب العربي وآخر في مصر، وكأن جغرافية ليبيا على سبيل المثال قد حُجزت بين الأدبَين، ثم هناك أدب ثالث في لبنان. أما الكتب التي تتناول الأدب الفرانكفوني فهي تتعامل أساسًا مع اللغة التي تجمع بين الأدباء في أماكن عديدة من العالم، منها كندا وبلجيكا، وسويسرا وأفريقيا، وبعض المستعمرات الفرنسية القديمة المتناثرة في العالم؛ ولم يكن أمامنا سوى أن نتتبَّع نفس المنهج في الكتابة.
وقد أوضحنا في هذا الكتاب، وفي خلال فصوله العديدة أن الأدب «العربي» المكتوب باللغة الفرنسية ليس أبدًا أدبًا فرنسيًّا، رغم أنه منشور في دور النشر الفرنسية، ورغم أنه مكتوب باللغة الفرنسية، لكن اللغة لم تصنع أبدًا هوية قومية مختلفة للكاتب الذي وُلِد عربيًّا، ولكن ظروف نشأته وتعليمه جعلته يتقن اللغة الفرنسية التي اعتُبِرت بالنسبة له لغة كتابة أولى، لكنها لم تطمس أبدًا فيه هويته العربية. ولو شئنا أن نقيس ذلك، بشكلٍ واضح، فإن الفصل الذي قدَّمناه عن الأدباء اليهود الذين كتبوا باللغة الفرنسية قد بيَّن كيفية الاختلاف بين الكاتب اليهودي الغربي الذي يعيش في نفس المدينة باريس، السفارديم منهم حيث يعتبرون أنفسهم عربًا يهودًا، وهم لم يناصروا إسرائيل في سياستها، ولم يقوموا بزيارتها، ولم يتخلَّوا عن هويتهم العربية، وظلُّوا يكتبون دومًا عن سنوات الحنين التي عاشوها في مصر والمغرب العربي.
وقد شئنا أن نضع هذا المقياس لنوضِّح كيف أن الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية قد ظُلموا كثيرًا في أوطانهم، وقد جاءت المأساة من أن هذا الظلم وقع من جوانب عديدة، منها مقياس حركة الترجمة من ناحية، ومنها النظرة إليهم نظرة بها ريبة واضحة وقصدية، كأن هذا الكاتب الذي قد اتخذ لنفسِه لغة تعبيرٍ هي أساسًا للمستعمِر قد جنح بذلك إلى العمالة! وهو تصوُّر ساذج سمعته من الكثيرين الذي علَّقوا على عالم ألبير قصيري بعد أن تُرجمَت له أربع روايات، ثم في عالم أندريه شديد. حيث نظر البعض إلى هذا الأدب الذي يدور أغلبه في الأحياء الشعبية باعتباره أدبًا يشوِّه وجه مصر، وأن مصر أبدًا لم تكن هذه الحواري، رغم أن هؤلاء أنفسهم قد أُعجبوا كثيرًا بنفس العالم في الروايات العربية التي كتبها أدباء من طراز نجيب محفوظ ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب، وآخرين.
كما أن هذا الأدب قد تعرَّض للغبن في عالمه العربي بشكلٍ ملحوظ؛ حيث إن هؤلاء الأدباء لم يشكِّلوا تجمُّعًا، وكانوا بعيدين، جسمانيًّا، عن دائرة الحلقات الأدبية. وبذلك ترك الباحثون العرب الساحة مفتوحة لأقرانهم الأجانب، وخاصة الفرنسيين، للاهتمام بهذا الإبداع. والغريب أن كاتب هذه السطور — على سبيل المثال — اكتشف هذا العالم بالمصادفة. وفي فترة متأخرة حين وقعت عيناي على رواية «شحاذون ومعتزمون» لقصيري. وما إن قرأت الفصل الأول منها حتى شرعت في ترجمتها دون أن أكملها، ثم كان ذلك بمثابة مدخل إلى قصيري، الذي ترجمت له بعد ذلك روايات «منزل الموت الأكيد» و«العنف والسخرية» و«كسالى في الوادي الخصيب».
وكما سنرى، فإن هؤلاء الأدباء يواجَهون بازدواجية أدبية؛ فهم في بلادهم العربية يُنظَر إليهم على أنهم كُتَّاب أجانب يعيشون في بلدٍ أجنبي. ومن المعروف أن أغلبهم قد رحل إلى فرنسا بعد أن تقلَّصت أنشطتهم في مصر — وخاصة بعد أن توتَّرت العلاقات مع فرنسا عقب العدوان الثلاثي على مصر في عام ١٩٥٦م — لبلاده التي جاء منها. وعندما تغيَّرت كتاباته، تحت وقع الزمن لجأ إلى تجريد إبداعه من الزمان والمكان، ولم ينظر أبدًا إلى المكان الذي «هاجر» إليه وعاش فوقه، لكنه أبدًا لم ينفعل به كمكانٍ … فهم ينظرون إليه كمهاجرٍ ليس أبدًا من أبناء الوطن. وهو في المقام الأول أيضًا مثقَّف «فرانكفوني»، ولم تتعامل الأوساط الفرنسية أبدًا معهم على أنهم فرنسيون حتى لو حصلوا على الجنسية الفرنسية.
ولذا، فإن في هذا الكتاب فصولًا لم نرجع فيها إلى الكتب الكثيرة التي رجعنا إليها حين إعداد هذا الكتاب، ولكن هذه الفصول وليدة نفسها مثل الفصل الخاص بالإبداع الفلسطيني المكتوب بالفرنسية، والفصل الخاص بإبداع الجيلَين الثاني والثالث من المهاجرين العرب الذين يعيشون اليوم في فرنسا، ويحملون الجنسية الفرنسية، وهم أبناء المهاجرين الأوائل الذين سافروا إلى فرنسا عقب الاستقلال أو قبله بقليلٍ.
وقد حاولنا في هذا الكتاب أن نرصد، بانوراميًّا، الكثيرَ من الأسماء المهمة في عالم الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية. فخصَّصنا شبه قاموسٍ صغيرٍ لكُتَّاب كل بلدٍ في نهاية الفصل الخاص به. هذا بالإضافة إلى إلقاء الأضواء مركزة على أبرز الأسماء في بلادها … من خلال البحث والتحليل والرصد لهذا الأدب.
هل هو أدب عربي؟
أجل … هو أدبٌ عربيٌّ … وقد جاء الأوان للاعتراف به … وتقديمه إلى القارئ العربي … وذلك بعد هذه الظِّلال الكثيفة التي أُلقيَت عليه … وانسحبت فوق بساطه.