الفصل الثامن عشر

الْخِطَابُ

كَانَ الْجُنُودُ يَقِفُونَ فِي وَضْعِ انْتِبَاهٍ عَلَى جَانِبِ أَحَدِ الطُّرُقِ يَنْتَظِرُونَ الْأَمْرَ بِالتَّقَدُّمِ، وَفَجْأَةً تَذَكَّرَ هنري الطَّرْدَ الصَّغِيرَ الْمَلْفُوفَ دَاخِلَ مَظْرُوفٍ أَصْفَرَ بَاهِتٍ الَّذِي أَعْطَاهُ لَهُ ويلسون مِنْ قَبْلُ.

نَادَى هنري عَلَى صَدِيقِهِ: «ويلسون!»

– «مَاذَا؟»

كَانَ ويلسون يُحَدِّقُ فِي الطَّرِيقِ، وَلِسَبَبٍ غَرِيبٍ ارْتَسَمَتْ عَلَى وَجْهِهِ نَظْرَةٌ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ جَعَلَتْهُ يَبْدُو خَائِفًا لِلْغَايَةِ. شَعَرَ هنري أَنَّ عَلَيْهِ تَغْيِيرَ الْمَوْضُوعِ.

قَالَ هنري: «لَا شَيْءَ.»

قَرَّرَ هنري أَلَّا يُذَكِّرَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ الَّذِي أَعْطَاهُ فِيهِ ويلسون الْمَظْرُوفَ عِنْدَمَا كَانَ خَائِفًا وَعَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ سَيَلْقَى حَتْفَهُ. تَذْكِيرُهُ بِلَحْظَةِ الْخَوْفِ هَذِهِ سَيَكُونُ فِعْلًا وَضِيعًا.

اعْتَادَ هنري الْخَوْفَ مِنْ ويلسون لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْغَضَبِ، أَمَّا الْآنَ فَقَدْ خَطَرَتْ عَلَى بَالِ هنري خُطَّةٌ جَدِيدَةٌ؛ إِذَا سَأَلَهُ ويلسون عَمَّا حَدَثَ فِعْلًا أَمْسِ — إِذَا اكْتَشَفَ أَنَّ هنري قَدْ فَرَّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ — فَسَوْفَ يُخْرِجُ هنري الْمَظْرُوفَ الصَّغِيرَ وَيُذَكِّرُهُ كَمْ كَانَ مَذْعُورًا. هَذَا الْخِطَابُ سِلَاحٌ فِي يَدِ هنري يُمْكِنُهُ اسْتِخْدَامُهُ لِيَحْمِيَ نَفْسَهُ مِنْ سُخْرِيَةِ الْآخَرِينَ.

فِي لَحْظَةِ ضَعْفٍ نَادِرَةٍ، تَحَدَّثَ ويلسون عَنِ الْمَوْتِ وَهُوَ يَرْتَجِفُ، وَأَعْطَاهُ الْمَظْرُوفَ الَّذِي يَحْتَوِي بِالتَّأْكِيدِ عَلَى تَذْكَارٍ لِأَقَارِبِهِ. شَعَرَ هنري الْآنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ حَالًا مِنْ صَدِيقِهِ، بَلْ إِنَّهُ شَعَرَ بِالْأَسَى عَلَيْهِ.

اسْتَعَادَ هنري اعْتِزَازَهُ بِنَفْسِهِ. صَحِيحٌ أَنَّهُ ارْتَكَبَ أَخْطَاءً، لَكِنْ لَنْ يَعْلَمَ عَنْهَا أَحَدٌ شَيْئًا. إِنَّهُ لَا يَزَالُ رَجُلًا فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ. لَمْ يُفَكِّرْ هنري فِي الْمَعَارِكِ الْوَشِيكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ لِلتَّفْكِيرِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَهَا. لَقَدْ تَعَلَّمَ أَمْسِ أَنَّهُ لَنْ يُحَاسَبَ لَوْ تَخَلَّى عَنْ أَدَاءِ وَاجِبِهِ.

إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ، كَانَ هنري يَشْعُرُ بِالثِّقَةِ؛ إِنَّهُ الْآنَ أَكْثَرُ إِيمَانًا بِنَفْسِهِ وَأَكْثَرُ خِبْرَةً مِنْ ذِي قَبْلُ. لَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْمَخَاطِرِ وَرَأَى أَسْوَأَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى، وَالْآنَ يَظُنُّ أَنَّ مَا حَدَثَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السُّوءِ.

فَكَّرَ هنري كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ فِي حِينِ أَنَّهُ كَانَ وَاضِحًا أَنَّهُمُ اخْتَارُوهُ لِعِظَمِ شَأْنِهِ؟ وَإِلَّا، فَكَيْفَ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ مِنْ كُلِّ مَا تَعَرَّضَ لَهُ؟

تَذَكَّرَ هنري كَيْفَ لَاذَ آخَرُونَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَعْرَكَةِ. وَعِنْدَمَا فَكَّرَ فِي وُجُوهِهِمُ الَّتِي كَانَ يَمْلَؤُهَا الذُّعْرُ، شَعَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُمْ، لَقَدْ كَانُوا ضُعَفَاءَ وَفَرُّوا بِسُرْعَةٍ بَالِغَةٍ أَمَامَ أَعْيُنِ الْجَمِيعِ، بَيْنَمَا فَرَّ هُوَ بِكِبْرِيَاءَ دُونَ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ.

سَعَلَ ويلسون بِصَوْتٍ عَالٍ، فَأَفَاقَ هنري مِنْ أَحْلَامِ يَقَظَتِهِ.

قَالَ ويلسون: «هنري!»

رَدَّ هنري: «مَاذَا هُنَاكَ؟»

سَعَلَ ويلسون مَرَّةً أُخْرَى، وَظَلَّ يَتَحَرَّكُ هُنَا وَهُنَاكَ كَأَنَّ شَيْئًا مَا يُؤَرِّقُهُ.

وَأَخِيرًا، قَالَ وَوَجْهُهُ مَكْسُوٌّ بِحُمْرَةِ الْخَجَلِ: «يُمْكِنُكَ أَنْ تُعِيدَ لِيَ الْخِطَابَ.»

قَالَ هنري بَعْدَ لَحَظَاتٍ: «حَسَنًا يَا ويلسون.»

فَتَحَ هنري سُتْرَتَهُ، وَأَخْرَجَ الْخِطَابَ مِنْ جَيْبِهِ الدَّاخِلِيِّ، وَأَعْطَاهُ لويلسون الَّذِي كَانَ خَجِلًا، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ النَّظَرَ إِلَى هنري.

كَانَ هنري يَتَوَانَى فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ يَقُولُهُ بِشَأْنِ الْخِطَابِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَا يَقُولُ، وَلِهَذَا قَرَّرَ أَنْ يَكُونَ دَمِثًا مَعَ صَدِيقِهِ وَأَلَّا يَسْخَرَ مِنْهُ.

بَعْدَ ذَلِكَ فَكَّرَ هنري مَرَّةً أُخْرَى فِي الْمَعَارِكِ الَّتِي شَهِدَهَا حَتَّى الْآنَ. كَانَ مُوقِنًا أَنَّ بِإِمْكَانِهِ الْآنَ الْعَوْدَةَ إِلَى دِيَارِهِ وَإِشْعَالَ حَمَاسِ الْآخَرِينَ بِحِكَايَاتِهِ عَنِ الْحَرْبِ. تَخَيَّلَ هنري نَفْسَهُ فِي غُرْفَةٍ يَرْوِي الْقِصَصَ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَرَأَى جُمْهُورَهُ وَهُمْ يَتَخَيَّلُونَهُ بَطَلًا فِي كُلِّ اللَّحَظَاتِ الْمُلْتَهِبَةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤