الفصل الثاني

مَخَاوِفُ هنري

فِي الصَّبَاحِ التَّالِي، اكْتَشَفَ هنري أَنَّ جيم كَانَ مُخْطِئًا؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِتَالٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ. سَخِرَ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ الْآخَرِينَ مِنْ جيم، حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ فِي عِرَاكٍ بِالْأَيْدِي مَعَ رَجُلٍ مِنْ «تشاتفيلد كورنرز». تَشَاجَرَ ويلسون — الْجُنْدِيُّ عَالِي الصَّوْتِ — هُوَ الْآخَرُ، وَكَانَ عَلَى الْمُلَازِمِ فَضُّ ذَلِكَ الشِّجَارِ. فِي غُضُونِ ذَلِكَ، كَانَ هنري لَا يَزَالُ غَيْرَ وَاثِقٍ مِنْ نَفْسِهِ.

ظَلَّ هنري أَيَّامًا يُفَكِّرُ فِي هَذَا الْأَمْرِ. كَانَ لَا يَزَالُ قَلِقًا مِنْ أَنَّهُ سَيَفِرُّ مَعَ أَوَّلِ بَادِرَةٍ لِلْقِتَالِ. وَأَخِيرًا قَرَّرَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْوَحِيدَةَ لِإِثْبَاتِ قُدْرَاتِهِ هِيَ دُخُولُ سَاحَةِ الْوَغَى. عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ لِيَرَى هَلْ سَيُحَارِبُ حَقًّا أَمْ لَا؛ لِذَلِكَ، ظَلَّ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ، وَحَاوَلَ أَنْ يُقَارِنَ نَفْسَهُ بِرِفَاقِهِ.

شَعَرَ هنري أَنَّ حَالَهُ أَفْضَلُ بِكَثِيرٍ عِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى جيم الَّذِي لَمْ تَبْدُ عَلَيْهِ أَيُّ أَمَارَةٍ لِلْقَلَقِ، وَالَّذِي بَدَا وَاثِقًا من نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ يَفُوقُ قُدْرَاتِهِ. عِنْدَمَا تَأَمَّلَ هنري حَالَ الْجُنُودِ الْآخَرِينَ، كَانَ يَظُنُّ أَحْيَانًا أَنَّهُمْ جَمِيعًا أَبْطَالٌ. مُؤَكَّدٌ أَنَّهُمْ جَمِيعًا أَفْضَلُ مِمَّا قَدْ يَأْمُلُ هُوَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ. لَكِنْ أَحْيَانًا أُخْرَى كَانَ يَجِدُهُمْ قَلِقِينَ وَمُتَرَدِّدِينَ مِثْلَهُ تَمَامًا.

فِي صَبَاحِ أَحَدِ الْأَيَّامِ، كَانَ هنري يَقِفُ بِصُحْبَةِ أَفْرَادِ كَتِيبَتِهِ، وكَانَ الْجَمِيعُ يَتَهَامَسُونَ وَيُخْبِرُ أَحَدُهُمُ الْآخَرَ مُجَدَّدًا بِالشَّائِعَاتِ الْقَدِيمَةِ. كَانُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّ الْقِتَالَ أَصْبَحَ وَشِيكًا. وَفِي الظُّلْمَةِ الَّتِي تَسْبِقُ طُلُوعَ النَّهَارِ، كَانَ لِبَاسُهُمُ الْعَسْكَرِيُّ يَتَوَهَّجُ بِاللَّوْنِ الْأَزْرَقِ الدَّاكِنِ. كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى وَشْكِ السُّطُوعِ حِينَمَا لَاحَ الْبُنْيَانُ الضَّخْمُ لِلْعَقِيدِ عَلَى جَوَادِهِ. وَقَفَتِ الْكَتِيبَةُ وَقْتًا بَدَا طَوِيلًا، حَتَّى أَخَذَ صَبْرُ هنري يَنْفَدُ.

أَخِيرًا، اتَّجَهَ نَحْوَهُمْ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى صَهْوَةِ جَوَادِهِ، حَاوَلَ الْجُنُودُ الْقَرِيبُونَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَرِقُوا السَّمْعَ لِحَدِيثِهِ مَعَ الْعَقِيدِ. وبَعْدَ بِضْعِ دَقَائِقَ، اسْتَدَارَ الرَّجُلُ الثَّانِي بِجَوَادِهِ، وَابْتَعَدَ. وَفِي اللَّحْظَةِ التَّالِيَةِ، بَدَأَ الْجُنُودُ فِي السَّيْرِ وَسْطَ الظَّلَامِ. بَدَتِ الْكَتِيبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَشْبَهَ بِوَحْشٍ مُتَحَرِّكٍ ذِي أَقْدَامٍ عَدِيدَةٍ. كَانَ الْهَوَاءُ بَارِدًا وَمُعَبَّئًا بِالنَّدَى، وَكَانَ الْعُشْبُ الْمُبَلَّلُ بِالنَّدَى يُصْدِرُ حَفِيفًا كَالْحَرِيرِ كُلَّمَا وَطِئَهُ الْجُنُودُ.

أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، وَرَأَى هنري رَتَلَيْنِ طَوِيلَيْنِ أَسْوَدَيْنِ مُكْتَظَّيْنِ بِالْجُنُودِ. اخْتَفَى الرَّتَلَانِ فَوْقَ تَلٍّ أَمَامَهُمْ، وَتَوَارَيَا عَنِ الْأَنْظَارِ فِي الغَابَاتِ خَلْفَهُمْ. كَانَا صَفَّيْنِ مِنَ الرِّجَالِ يَسِيرُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ، لَكِنَّهُمَا بَدَوَا كَثُعْبَانَيْنِ يَزْحَفَانِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ.

لَمْ يَكُنِ النَّهْرُ ظَاهِرًا فِي الرُّؤْيَةِ، وَوَاصَلَ الْجُنُودُ نِزَاعَهُمْ حَوْلَ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الْخُطَطُ. لَمْ يُشَارِكْ هنري فِي تِلْكَ النِّزَاعَاتِ، بَلْ ظَلَّ يَسْأَلُ نَفْسَهُ أَثْنَاءَ سَيْرِهِ هَلْ سَيَفِرُّ مِنْ أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ أَمْ لَا. لَمْ يَسْتَطِعِ التَّوَقُّفَ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي الْأَمْرِ. كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَمَامِ مُتَوَقِّعًا فِي الْغَالِبِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ.

بَدَأَ الرِّجَالُ الْآخَرُونَ فِي الْمُزَاحِ وَالضَّحِكِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذَ يُغَنِّي، وَشَعَرَ هنري أَنَّهُ فِي عُزْلَةٍ عَنِ الْآخَرِينَ. عِنْدَ حُلُولِ الظَّلَامِ، انْقَسَمَ رَتَلُ الْجُنُودِ إِلَى وَحَدَاتٍ، وَدَخَلَتْ كُلُّ وَحْدَةٍ إِلَى الْحُقُولِ كَيْ تُخَيِّمَ. بَدَتِ الْخِيَامُ وَكَأَنَّهَا نَبَاتَاتٌ غَرِيبَةٌ، وَرَصَّعَتْ نِيرَانُ الْمُخَيَّمِ صَفْحَةَ اللَّيْلِ كَأَنَّهَا زُهُورٌ حَمْرَاءُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤