الفصل العشرون

بَطَلٌ حَقِيقِيٌّ

عِنْدَمَا رَأَى هنري الْعَدُوَّ يَتَّجِهُ نَحْوَهُمْ، انْتَابَتْهُ نَوْبَةُ غَضَبٍ مُفَاجِئَةٌ. ضَرَبَ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْهِ، وَحَدَّقَ فِي الدُّخَانِ الْمُتَصَاعِدِ وَالْمُقْتَرِبِ بِنَظْرَةٍ مِلْؤُهَا الْكَرَاهِيَةُ. شَعَرَ بِالْغَضَبِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَنْ يَتْرُكَهُ يَسْتَرِيحُ، وَلَنْ يُعْطِيَهُ أَيَّ وَقْتٍ لِلْجُلُوسِ وَالتَّفْكِيرِ. حَارَبَ هنري أَمْسِ، وَفَرَّ سَرِيعًا. لَقَدْ خَاضَ عِدَّةَ مُغَامَرَاتٍ، وَشَعَرَ أَنَّ مِنْ حَقِّهِ الْحُصُولَ عَلَى قِسْطٍ مِنَ الرَّاحَةِ. كَانَ مُرْهَقًا لِلْغَايَةِ.

لَكِنْ يَبْدُو أَنَّ الرِّجَالَ الْآخَرِينَ لَا يَكِلُّونَ، وَكَانَ هنري يُكِنُّ لَهُمْ كَرَاهِيَةً بَالِغَةً. لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُطَارَدَ بَعْدَ الْآنَ. انْحَنَى خَلْفَ شَجَرَةٍ صَغِيرَةٍ، وَصَرَّ عَلَى أَسْنَانِهِ. لَا تَزَالُ الْعِصَابَةُ مَرْبُوطَةً حَوْلَ رَأْسِهِ، وَبِهَا بُقْعَةٌ صَغِيرَةٌ مِنَ الدِّمَاءِ. كَانَ شَعْرُهُ أَشْعَثَ يَتَدَلَّى فَوْقَ الْعِصَابَةِ مُغَطِّيًا جَبِينَهُ. وكَانَتْ أَزْرَارُ سُتْرَتِهِ وَقَمِيصِهِ مَفْتُوحَةً عِنْدَ الْعُنُقِ، وَأَصَابِعُهُ مُلْتَفَّةً فِي تَوَتُّرٍ حَوْلَ بُنْدُقِيَّتِهُ. شَعَرَ أَنَّ الْعَدُوَّ يُهِينُهُ هُوَ وَأَصْدِقَاءَهُ. كَانُوا يُعَامَلُونَ وَكَأَنَّهُمْ ضِعَافٌ أَذِلَّاءُ، وَأَرَادَ أَنْ يَثْأَرَ لِذَلِكَ. أَرَادَ أَنْ يَهْزِمَهُمْ.

انْطَلَقَتْ أَمَامَهُمْ إِحْدَى الطَّلَقَاتِ النَّارِيَّةِ، وَعَلَى الْفَوْرِ تَبِعَتْهَا طَلَقَاتٌ أُخْرَى. وبَعْدَ قَلِيلٍ بَدَأَتْ كَتِيبَتُهُ تُطْلِقُ النِّيرَانَ. اسْتَقَرَّ حَاجِزٌ كَثِيفٌ مِنَ الدُّخَانِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.كَانَ هنري يُحَارِبُ بِبَسَالَةٍ، بَلْ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعِي أَنَّهُ وَاقِفٌ. وَحِينَمَا فَقَدَ تَوَازُنَهُ وَسَقَطَ أَرْضًا، هَبَّ وَاقِفًا عَلَى الْفَوْرِ. ارْتَفَعَتْ حَرَارَةُ أُسْطُوَانَةِ بُنْدُقِيَّتِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَتَحَمَّلَهَا فِي أَيِّ يَوْمٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي إِطْلَاقِ النِّيرَانِ الْيَوْمَ.

ظَلَّ يُقَاتِلُ وَيُطْلِقُ النِّيرَانَ مِنْ بُنْدُقِيَّتِهِ حَتَّى بَعْدَ تَوَقُّفِ الْجَمِيعِ. كَانَ كُلُّ تَرْكِيزِهِ مُنْصَبًّا عَلَى الْقِتَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَلْحَظِ الْهُدُوءَ الَّذِي سَادَ الْمَكَانَ. وَأَخِيرًا سَمِعَ ضَحِكَةً عَالِيَةً وَصَوْتًا بَدَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ.

صَاحَ أَحَدُ الْجُنُودِ: «أَيُّهَا الْأَحْمَقُ! أَلَمْ تَتَعَلَّمُ أَنْ تُوقِفَ الضَّرْبَ عِنْدَمَا لَا يَكُونُ هُنَاكَ مَا تُصَوِّبُ تِجَاهَهُ؟»

الْتَفَتَ هنري ونَظَرَ إِلَى رِفَاقِهِ. كَانُوا جَمِيعًا يُحَدِّقُونَ فِيهِ فِي دَهْشَةٍ. وعِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى الْأَمَامِ مَرَّةً أُخْرَى، رَأَى أَرْضًا خَالِيَةً يَعْلُوهَا الدُّخَانُ. بَدَا عَلَيْهِ الِارْتِبَاكُ لَحْظَةً، ثُمَّ انْتَبَهَ إِلَى مَا كَانَ يَرَى.

قَالَ هنري: «أُوه.»

عَادَ هنري إِلَى أَصْدِقَائِهِ وَأَلْقَى بِثِقْلِهِ عَلَى الْأَرْضِ. كَانَ الْمُلَازِمُ يَصِيحُ فِي حَمَاسٍ، وَقَالَ لهنري: «لَوْ كَانَ لَدَيَّ عَشَرَةُ آلافِ قِطٍّ بَرِّيٍّ مِثْلِكَ، لَرَبِحْتُ هَذِهِ الْحَرْبَ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ.»

غَمْغَمَ بَعْضُ الْجُنُودِ، وَنَظَرُوا إِلَى هنري فِي دَهْشَةٍ. تَقَدَّمَ ويلسون نَحْوَهُ وَسَأَلَهُ: «هَلْ أَنْتَ بِخَيْرٍ يَا فليمنج؟ أَكُلُّ شَيْءٍ عَلَى مَا يُرَامُ؟ أَلَمْ يُصِبْكَ مَكْرُوهٌ؟»

رَدَّ هنري فِي صُعُوبَةٍ: «كَلَّا.»

أَدْرَكَ هنري أَنَّهُ كَانَ يُحَارِبُ كَالْحَيَوَانِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ صَعْبًا. لَقَدْ بَذَلَ جُهْدًا لِيَتَغَلَّبَ عَلَى خَوْفِهِ، وَالْآنَ أَصْبَحَ يَسْتَحِقُّ لَقَبَ الْبَطَلِ. إِنَّهُ حَتَّى لَمْ يُلَاحِظْ حُدُوثَ ذَلِكَ.

تَمَدَّدَ هنري عَلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ يَسْتَمْتِعُ بِنَظَرَاتِ الْآخَرِينَ لَهُ مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ. كَانَتْ وُجُوهُهُمْ مُتَّسِخَةً مِنْ أَثَرِ الْبَارُودِ. كَانُوا يَتَصَبَّبُونَ عَرَقًا، وَيَتَنَفَّسُونَ بِصُعُوبَةٍ.

قَالَ الْمُلَازِمُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ: «أَحْسَنْتُمْ!» كَانَ سَعِيدًا لِلْغَايَةِ بِأَدَاءِ الْكَتِيبَةِ، وَأَخَذَ يَسِيرُ بَيْنَهُمْ ذَهَابًا وَإِيَابًا. كَانَ دَائِمَ الْحَرَكَةِ مُتَحَمِّسًا، بَلْ كَانَ يَضْحَكُ أَحْيَانًا.

قَالَ أَحَدُ الْجُنُودِ: «أُرَاهِنُ أَنَّ الْجَيْشَ لَنْ يَرَى كَتِيبَةً مِثْلَنَا أَبَدًا!»

قَالَ آخَرُ: «مِنْ دُونِ شَكٍّ!»

وقَالَ ثَالِثٌ: «كُلَّمَا ضَغَطُوا عَلَيْنَا، أَخْرَجُوا أَفْضَلَ مَا لَدَيْنَا.»

قَالَ آخَرُ: «لَقَدْ فَقَدُوا رِجَالًا كَثِيرِينَ.»

رَدَّ آخَرُ: «هَذَا صَحِيحٌ، وَلَوْ عَادُوا مَرَّةً أُخْرَى لَفَقَدُوا الْمَزِيدَ.»

كَانَ لَا يَزَالُ هُنَاكَ ضَجِيجٌ فِي الْغَابَةِ. وَمِنْ بَعِيدٍ بَيْنَ الْأَشْجَارِ جَاءَ صَوْتُ قَعْقَعَةِ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ. تَصَاعَدَتْ غَيْمَةٌ دَاكِنَةٌ مِنَ الدُّخَانِ إِلَى السَّمَاءِ بِاتِّجَاهِ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تُشْرِقُ وَسْطَ السَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤