الفصل الحادي والعشرون

حِوَارٌ

كَانَ أَمَامَ الْجُنُودِ غَيْرِ الْمُنَظَّمِينَ دَقَائِقُ قَلِيلَةٌ لِيَسْتَرِيحُوا، لَكِنْ تَعَالَتْ أَصْوَاتُ الْقِتَالِ فِي الْغَابَةِ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ. بَدَا وَكَأَنَّ الْأَشْجَارَ تَرَتْجِفُ وَالْأَرْضُ تَهْتَزُّ مِنْ تَدَافُعِ الرِّجَالِ. أَنْصَتَتْ كَتِيبَةُ هنري إِلَى أَصْوَاتِ الصَّخَبِ.

كَانَ الْجَمِيعُ ظِمَاءً، وَقَالَ ويلسون إِنَّهُ سَمِعَ عَنْ جَدْوَلِ مَاءٍ قَرِيبٍ، وَتَطَوَّعَ لِلذَّهَابِ وَإِحْضَارِ الْمَاءِ. عَرَضَ هنري الْمُسَاعَدَةَ، وَعَلَى الْفَوْرِ أُلْقِيَتْ إِلَيْهِمْ قِرَبُ الْمِيَاهِ.

قَالَ رَجُلٌ: «امْلَأْ قِرْبَتِي؟»

وَقَالَ آخَرُ: «وَأَنَا أَيْضًا.»

وَقَالَ آخَرُونَ: «وَنَحْنُ أَيْضًا.»

غَادَرَ هنري وويلسون يَحْمِلَانِ الْعَدِيدَ مِنَ القِرَبِ، وظَلَّا يَبْحَثَانِ لبَعْضَ الْوَقْتِ، لَكِنْ عِنْدَمَا لَمْ يَجِدَا جَدْوَلَ المَاءِ، قَرَّرَا الْعَوْدَةَ.

وَمِنْ مَكَانِهِمَا، اسْتَطَاعَا رُؤْيَةَ صُورَةٍ أَوْضَحَ لِمَيْدَانِ الْمَعْرَكَةِ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَا فِيهِ مَعَ كَتِيبَتِهِمَا. اسْتَطَاعَا رُؤْيَةَ الْعَدِيدِ مِنْ سُحُبِ الدُّخَانِ الدَّاكِنَةِ حَيْثُ تُحَارِبُ الْكَتَائِبُ الْأُخْرَى، وَاسْتَطَاعَا أَيْضًا رُؤْيَةَ جُزْءٍ مِنْ مَنْزِلٍ فِيمَا وَرَاءَ الْأَشْجَارِ يَحْتَرِقُ وَيَتَصَاعَدُ مِنْهُ الدُّخَانُ إِلَى السَّمَاءِ، وَرَأَيَا كَتِيبَتَهُمَا. كَانَ التَّلُّ خَلْفَهُمَا مُكْتَظًّا بِالْكَتَائِبِ الْمُتَقَهْقِرَةِ.

نَظَرَ هنري وويلسون إِلَى الْغَابَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُمَا، فَوَجَدَا جِنْرَالًا وَمَعَهُ مُسَاعِدُوه يَمْتَطُونَ جِيَادَهُمْ. مَرُّوا عَلَى جُنْدِيٍّ جَرِيحٍ دُونَ أَنْ يَتَوَقَّفُوا. وَبَعْدَ لَحْظَةٍ تَوَجَّهَ ضَابِطٌ آخَرُ عَلَى جَوَادِهِ نَحْوَ الجِنْرَالِ. يَبْدُو أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَلْمَحْ هنري وَصَدِيقَهُ؛ وَلِذَا ظَلَّا قَرِيبَيْنِ يُحَاوِلَانِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يَقُولُهُ الجِنْرَالُ.

قَالَ الجِنْرَالُ: «تَسْتَعِدُّ قُوَّاتُ الْعَدُوِّ هُنَاكَ لِشَنِّ هُجُومٍ آخَرَ.» كَانَ يَتَحَدَّثُ فِي هُدُوءٍ وَكَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنْ مَلَابِسِ الضَّابِطِ. «أَخْشَى أَنَّهُمْ سَيَخْتَرِقُونَ صُفُوفَنَا مَا لَمْ نَتَحَرَّكْ كَالرَّعْدِ لِإيقَافِهِمْ.»

قَالَ الضَّابِطُ غَاضِبًا: «مِنَ الصَّعْبِ التَّصَدِّي لَهُمْ.»

قَالَ الجِنْرَالُ: «هَذَا مَا أَتَوَقَّعُهُ أَيْضًا.» ثُمَّ بَدَأَ يَتَحَدَّثُ سَرِيعًا وَبِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ مَع مُسَاعِدِيه. لَمْ يَسْمَعْ هنري وويلسون شَيْئًا آخَرَ إِلَى أَنْ سَأَلَ الجِنْرَالُ الضَّابِطَ: «أَيُّ الْكَتَائِبِ يُمْكِنُكَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا؟»

فَكَّرَ الضَّابِطُ ثُمَّ قَالَ: «الْكَتِيبَةُ رَقْمُ ٣٠٤. إِنَّهُمْ عَدِيمُو الْجَدْوَى، يُحَارِبُونَ وَكَأَنَّهُمْ يَمْتَطُونَ بِغَالًا. يُمْكِنُنِي الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُمْ بِسُهُولَةٍ.»

نَظَرَ هنري وويلسون أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي دَهْشَةٍ؛ فَالْكَتِيبَةُ رَقْمُ ٣٠٤ هِيَ كَتِيبَتُهُمَا. وتَحَدَّثَ الجِنْرَالُ بَعْدَهَا بِحِدَّةٍ: «جَهِّزْ تِلْكَ الْكَتِيبَةَ إِذَنْ. سَأُرَاقِبُ الْمَعْرَكَةَ مِنْ هُنَا، وَأُصْدِرُ الْأَمْرَ بِتَوْقِيتِ الْبَدْءِ. سَوْفَ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِي غُضُونِ خَمْسِ دَقَائِقَ. لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ رَاكِبُو الْبِغَالِ سَيَنْجُونَ مِنْ ذَلِكَ.»

ابْتَسَمَ الضَّابِطُ والجِنْرَالُ وَهُمَا يَفْتَرِقَانِ. أَسْرَعَ هنري وويلسون بِالْعَوْدَةِ إِلَى كَتِيبَتِهِمَا وَالذُّعْرُ يَكْسُو وَجْهَيْهِمَا. وَمَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَسْتَغْرِقْ سِوَى بِضْعِ دَقَائِقَ، شَعَرَ هنري وَكَأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي الْعُمُرِ سَنَوَاتٍ عَدِيدَةً.

أدرك هنري أَنُّه لا يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ لِلْجَيْشِ. تَحَدَّثَ الضَّابِطُ عَنْ كَتِيبَتِهِ وَكَأَنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنْ مِكْنَسَةٍ. وعِنْدَمَا عَادَا، أَخْبَرَا الْجَمِيعَ أَنَّهُمْ سَيُهَاجِمُونَ الْعَدُوَّ فِي غُضُونِ دَقَائِقَ.

قَالَ الْمُلَازِمُ وَقَدْ عَلَتْ وَجْهَهُ ابْتِسَامَةٌ: «هُجُومٌ؟ نَحْنُ نُقَاتِلُ الْآنَ إِذَنْ!»

رَأَى الرِّجَالُ شَخْصَيْنِ فَوْقَ صَهْوَتَيْ جَوَادَيْهِمَا عَلَى مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ؛ الْأَوَّلُ قَائِدُ الْكَتِيبَةِ، وَالثَّانِي الضَّابِطُ الَّذِي تَلَقَّى الْأَوَامِرَ مِنَ الجِنْرَالِ. كَانَا يَتَحَدَّثانِ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَيُشِيرَانِ نَحْوَ الْكَتِيبَةِ.

بَدَأَ الضُّبَّاطُ فِي تَقْسِيمِ الرِّجَالِ إِلَى مَجْمُوعَاتٍ صَغِيرَةٍ. وَسُرْعَانَ مَا بَدَا كُلُّ فَرْدٍ فِي الْكَتِيبَةِ مَشْدُودَ الْقَامَةِ يَأْخُذُ نَفَسًا عَمِيقًا. كَانُوا يُرَاقِبُونَ الْغَابَةَ، وَأَحَاطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ضَجِيجُ الْمَعْرَكَةِ الْكُبْرَى بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ. بَدَا سَائِرُ الْعَالَمِ مُنْشَغِلًا بِأَشْيَاءَ أُخْرَى. وكَانَ هَذَا الْقِتَالُ مِنْ نَصِيبِ تِلْكَ الْكَتِيبَةِ وَحْدَهَا.

نَظَرَ هنري وويلسون أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. لَمْ يُخْبِرَا أَحَدًا بِالْحَدِيثِ الَّذِي دَارَ بَيْنَ الجِنْرَالِ وَالضَّابِطِ حَوْلَ كَتِيبَتِهِمَا، وَكَيْفَ أَنَّ حَيَاتَهُمْ لَا تُسَاوِي شَيْئًا. لَقَدْ شُبِّهُوا بِرَاكِبِي الْبِغَالِ. لَا يُتَوَقَّعُ أَنَّهُمْ سَيَنْجُونَ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاجَهَةِ. لَكِنَّهُ سِرٌّ بَيْنَ هنري وويلسون، وَرَغْمَ هَذَا فَكِلَاهُمَا يَرَى الْخَوْفَ فِي وَجْهِ الْآخَرِ. نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَأَوْمَآ مُوَافِقَيْنِ عِنْدَمَا قَالَ جُنْدِيٌّ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْا بنَبْرَةٍ خَائِفَةٍ: «سَيَلْتَهِمُونَنَا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤