الفصل الثاني والعشرون

عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْحَقْلِ

حَدَّقَ هنري النَّظَرَ فِي الْأَرْضِ أَمَامَهُ، وَبَدَا لَهُ أَنَّ الْأَشْجَارَ تُخْفِي وَرَاءَهَا كُلَّ مَظَاهِرِ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَتَى بَدَأَتِ الْكَتِيبَةُ فِي الْقِتَالِ، لَكِنَّهُ رَأَى بِطَرْفِ عَيْنِهِ أَحَدَ الضُّبَّاطِ عَلَى جَوَادِهِ يَتَقَدَّمُ إِلَى الْأَمَامِ. فَجْأَةً شَعَرَ هنري بِحَرَكَةِ الْجُنُودِ، وَتَقَدَّمَتِ الْكَتِيبَةُ إِلَى الْأَمَامِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَجِدَارٍ يَسْقُطُ أَرْضًا. ظَلَّ هنري وَقْتًا قَلِيلًا يَتَحَرَّكُ بِقُوَّةِ الدَّفْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْمَوْقِفَ. قَفَزَ وَبَدَأَ يَجْرِي يَائِسًا وَكَأَنَّهُ جُنْدِيٌّ فَقَدَ عَقْلَهُ.

جَاءَتْ صَيْحَاتُ الْعَدُوِّ وَطَلَقَاتُ النِّيرَانِ مِنْ بَيْنِ الْأَشْجَارِ. كَانَ الْجُنُودُ يَتَسَاقَطُونَ حَوْلَ هنري. وَسُرْعَانَ مَا وَصَلَتِ الْكَتِيبَةُ إِلَى مِنْطَقَةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْأَشْجَارِ حَيْثُ اسْتَطَاعَ هنري أَنْ يَرَى بِوُضُوحٍ أَكْبَرَ كُلَّ شَيْءٍ؛ كُلَّ وَرَقَةِ نَبَاتٍ، وَكُلَّ جِذْعِ شَجَرَةٍ بُنِّيٍّ، وَوُجُوهَ الْجُنُودِ بِنَظَرَاتِهِمُ الْمُحْدِقَةِ وَوُجُوهِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَتَصَبَّبُ عَرَقًا.

بَعْدَ الْجَرْيِ مَسَافَةً بَدَتْ وَكَأَنَّهَا أَمْيَالٌ، أَبْطَأَتِ الْكَتِيبَةُ ثُمَّ تَوَقَّفَتْ. وَعِنْدَهَا عَلَى الْفَوْرِ تَعَالَتْ أَصْوَاتُ النِّيرَانِ الْبَعِيدَةُ وَانْتَشَرَ الدُّخَانُ الْكَثِيفُ حَوْلَهُمْ.

اسْتَطَاعَ الْجُنُودُ بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفُوا أَنْ يَرَوُا الرِّجَالَ الَّذِينَ سَقَطُوا قَتْلَى، أَوِ الْجَرْحَى الَّذِينَ كَانُوا يَتَأَلَّمُونَ. وَلِلَحْظَةٍ بَدَا الْجُنُودُ فِي حَالَةِ ذُهُولٍ غَيْرَ قَادِرِينَ عَلَى الْحَرَكَةِ. كَانَ التَّوَقُّفُ غَرِيبًا والصَمْتُ غَرِيبًا أَيْضًا. بَعْدَهَا صَاحَ الْمُلَازِمُ حَتَّى تَعَالَى صَوْتُهُ عَلَى كُلِّ الْأَصْوَاتِ الْأُخْرَى: «هَيَّا أَيُّهَا الْحَمْقَى! هَيَّا! لَا يُمْكِنُكُمُ الْبَقَاءُ هُنَا. وَاصِلُوا التَّحَرُّكَ!» وَزَادَ عَلَيْهِ كَلَامًا آخَرَ، لَكِنَّ مُعْظَمَهُ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا.

حَدَّقَ الْجُنُودُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَصْرُخُ، وَأَخِيرًا قَفَزَ ويلسون إِلَى الْأَمَامِ وَنَزَلَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَطْلَقَ نِيرَانَ بُنْدُقِيَّتِهِ فِي الْغَابَةِ. بَدَا أَنَّ هَذَا أَفَاقَ الْجُنُودَ فَتَوَقَّفُوا عَنِ التَّجَمْهُرِ كَقَطِيعِ الْأَغْنَامِ. بَدَا أَنَّهُمْ تَذَكَّرُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَبَدَءُوا يُطْلِقُونَ النَّارَ فَجْأَةً. وَبِتَشْجِيعٍ مِنَ الضُّبَّاطِ، بَدَأَ الْجُنُودُ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الْأَمَامِ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، يَتَوَقَّفُونَ كُلَّ بِضْعِ خُطُوَاتٍ لِيُطْلِقُوا النَّارَ وَيُعِيدُوا تَعْبِئَةَ أَسْلِحَتِهِمْ.

كَانَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ بِضَرَاوَةٍ لِيَمْنَعَ الْكَتِيبَةَ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَبَدَا أَنَّ الْكَتِيبَةَ لَا تَسْتَطِيعُ التَّقَدُّمَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. انْحَنَى الرِّجَالُ خَلْفَ بَعْضِ الْأَشْجَارِ وَانْتَظَرُوا كَأَنَّ شَيْئًا يُهَدِّدُهُمْ. نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي ذُعْرٍ مَذْهُولِينَ مِمَّا فَعَلُوا. كَانَ الْمَوْقِفُ بِرُمَّتِهِ مُرْبِكًا لِلْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ.

ومَا إِنْ تَوَقَّفُوا حَتَّى بَدَأَ الْمُلَازِمُ يَصْرُخُ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى. أَمْسَكَ بِذِرَاعِ هنري، وصَاحَ: «هَيَّا أَيُّهَا الْأَحْمَقُ! سَوْفَ يُطْلِقُونَ النَّارَ عَلَيْنَا لَوْ بَقِينَا هُنَا. لَيْسَ أَمَامَنَا سِوَى عُبُورِ هَذَا الْحَقْلِ هُنَاكَ.»

أَشَارَ هنري قَائِلًا: «عُبُورُ هَذَا؟»

صَاحَ الضَّابِطُ: «نَعَمِ، اعْبُرُوا هَذَا الْحَقْلَ! لَا يُمْكِنُنَا الْبَقَاءُ هُنَا. هَيَّا!»

جَرَى الِاثْنَانِ مَعًا وَخَلْفَهُمَا ويلسون. وصَرَخَ الرِّجَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْجُنُودِ: «هَيَّا! هَيَّا!»

تَرَدَّدَ أَفْرَادُ الْكَتِيبَةِ هُنَيْهَةً، وَمَعَ إِحْدَى الصَّرَخَاتِ الطَّوِيلَةِ رَكَضُوا إِلَى الْأَمَامِ وَبَدَءُوا رِحْلَتَهُمُ الْجَدِيدَةَ، بَيْنَمَا تَحَرَّكَ عَدَدٌ قَلِيلٌ مِمَّنْ تَبَقَّى مِنَ الْكَتِيبَةِ قَرِيبًا مِنَ الْعَدُوِّ. زَادَتْ سُرْعَةُ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ، وَانْتَشَرَتْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ سَحَابَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الدُّخَانِ الْأَزْرَقِ.

أَسْرَعَ هنري نَحْوَ الْغَابَةِ قَبْلَ أَنْ تُصِيبَهُ إِحْدَى الطَّلَقَاتِ وَهُوَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ وَيَكَادُ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ. كَانَ الْمَشْهَدُ حَوْلَهُ غَيْرَ وَاضِحٍ.

شَعَرَ هنري وَهُوَ يَجْرِي بِشَغَفٍ وَوَلَعٍ حَزِينٍ بِالرَّايَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ. لَقَدْ فَكَّرَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ أَنَّها جَمِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ. قَطْعًا لَنْ يُصِيبَهَا أَيُّ أَذًى. وَظَلَّ هنري عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الرَّايَةِ وَكَأَنَّها قَادِرَةٌ عَلَى حِمَايَتِهِ.

وَوَسْطَ التَّدَافُعِ الْمَحْمُومِ، رَأَى هنري الْجُنْدِيَّ الَّذِي يَحْمِلُ الرَّايَةَ يَتَرَاجَعُ فَجْأَةً وَيَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ.

قَفَزَ هنري وَأَمْسَكَ بالسَّارِيَةِ. وَفِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ أَمْسَكَ ويلسون بالرَّايَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤