الفصل الخامس والعشرون

رَأْيُ الجِنْرَالِ

كَانَتِ الْأَرْضُ الْخَلَاءُ تُحِيطُ بِالْجُنُودِ، وَمِنْ بَعِيدٍ تَعَالَتِ الْعَدِيدُ مِنَ الْأَصْوَاتِ، لَكِنْ عَمَّ الْهُدُوءُ ذَلِكَ الْجُزْءَ مِنَ الْحَقْلِ. شَعَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ، وَتَنَهَّدُوا تَنْهِيدَةَ ارْتِيَاحٍ، وَتَجَمَّعُوا لِلْعَوْدَةِ إِلَى صَفُوفِهِمْ حَيْثُ يُخَيِّمُ بَقَيَّةُ الْجَيْشِ.

فِي هَذَا الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ رِحْلَتِهِمْ، بَدَأَتْ تَبْدُو عَلَى الرِّجَالِ انْفِعَالَاتٌ غَرِيبَةٌ؛ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي عَجَلَةٍ وَقَلَقٍ، وَبَعْضُ الْجُنُودِ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا شُعُورًا مُحَدَّدًا فِي خِضَمِّ الْقِتَالِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الْآنَ إِخْفَاءَ شُعُورِهِمْ بِالْقَلَقِ. رُبَّمَا كَانُوا يَخْشَوْنَ إِطْلَاقَ النِّيرَانِ عَلَيْهِمُ الْآنَ بَعْدَ أَنِ انْتَهَتِ الْمَعْرَكَةُ الرَّئِيسِيَّةُ وَأَصْبَحُوا قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مِنَ الْأَمَانِ.

حِينَ اقْتَرَبَ هنري وَأَصْدِقَاؤُهُ مِنْ صُفُوفِ الْجَيْشِ، سَخِرَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْجُنُودِ فِي كَتِيبَةٍ أُخْرَى أَثْنَاءَ مُرُورِهِمْ بِهِمْ.

صَاحَ أَحَدُهُمْ: «أَيْنَ كُنْتُمْ؟»

وَقَالَ آخَرُ: «لِمَاذَا لَمْ تَمْكُثُوا هُنَاكَ؟»

وَقَالَ ثَالِثٌ: «تَعُودُونَ لِلْبَيْتِ الْآنَ أَيُّهَا الصِّغَارُ؟»

لَمْ يَرُدَّ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ بِاسْتِثْنَاءِ جُنْدِيٍّ وَاحِدٍ تَحَدَّاهُمْ لِلشِّجَارِ بِالْأَيْدِي، لَكِنَّ الْمُلَازِمَ حَالَ دُونَ ذَلِكَ. غَضِبَ هنري مِنْ تِلْكَ التَّعْلِيقَاتِ، وَرَأَى أَنَّ كَثِيرِينَ فِي كَتِيبَتِهِ كَانُوا يَسِيرُونَ فِي تَثَاقُلٍ مُفَاجِئٍ وَكَأَنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِالذَّنْبِ.

حِينَ وَصَلَ الْجُنُودُ إِلَى مَوْقِعِهِمُ الْقَدِيمِ، اسْتَدَارُوا وَأَلْقَوْا نَظْرَةً عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي دَارَ فِيهَا الْقِتَالُ. شَعَرَ هنري بِالدَّهْشَةِ؛ فَالْمِسَاحَةُ كَانَتْ صَغِيرَةً لِلْغَايَةِ. تَعَجَّبَ هنري مِنْ وُقُوعِ كُلِّ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ عَلَى مِسَاحَةٍ صَغِيرَةٍ كَهَذِهِ، وَبَدَأَ يَشْعُرُ بِالْفَخْرِ عَنْ أَدَائِهِ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ الْأَخِيرَةِ.

أَثْنَاءَ اسْتِرَاحَةِ الْجُنُودِ، جَاءَ الضَّابِطُ الَّذِي كَانَ قَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمْ رَاكِبِي الْبِغَالِ عَلَى جَوَادِهِ. كَانَ قَدْ فَقَدَ قُبَّعَتَهُ، وَتَفَرَّقَ شَعْرُهُ فِي غَيْرِ نِظَامٍ. كَانَ وَجْهُهُ مُتَجَهِّمًا مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، وَبَدَأ عَلَى الْفَوْرِ يَصِيحُ فِي الْجُنُودِ.

صَرَخَ فِيهِمْ: «مَا هَذَا الَّذِي فَعَلْتُمُوهُ؟ تَوَقَّفْتُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى بُعْدِ مِائَةِ قَدَمٍ مِنْ تَحْقِيقِ انْتِصَارٍ سَاحِقٍ. لَوْ كُنْتُمْ قَدْ تَقَدَّمْتُمْ مِائَةَ قَدَمٍ فَقَطْ، لَكَانَ هُجُومُكُمْ سَاحِقًا.»

الْتَفَتَ الْجُنُودُ إِلَى قَائِدِهِمُ الَّذِي كَانَ عَلَى وَشْكِ الرَّدِّ. بَدَا وَكَأَنَّ الضَّابِطَ أَهَانَهُ، لَكِنْ تَغَيَّرَ أُسْلُوبَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَزَّ كَتِفَيْهِ.

قَالَ بِنَبْرَةٍ هَادِئَةٍ: «لَقَدْ فَعَلْنَا مَا فِي وُسْعِنَا يَا جِنْرَالُ.»

صَاحَ الضَّابِطُ: «مَا فِي وُسْعِكُمْ؟ لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِيًا، أَلَيْس كَذَلِكَ؟ كَاَن يُفْتَرَضُ بِكُمْ أَنْ تَلْفِتُوا انْتِبَاهَ الْعَدُوِّ، لَكِنَّكُمْ أَخْفَقْتُمْ تَمَامًا.»

ثم اسْتَدَارَ بِجَوَادِهِ، وَانْطَلَقَ بَعِيدًا. غَمْغَمَ قَائِدُ الْكَتِيبَةِ بِكَلِمَاتٍ غَاضِبَةٍ. ورَفَعَ الْمُلَازِمُ — الَّذِي كَانَ يَسْتَمِعُ لِحَدِيثِ الجِنْرَالِ فِي غَضَبٍ شَدِيدٍ — صَوْتَهُ، وَقَالَ: «أيًّا كَانَتْ صِفَةُ الرَّجُلِ … سَوَاءٌ أَكَانَ جِنْرَالًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لَوْ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَانَ لَمْ يُبْلُوا بَلَاءً حَسَنًا، فَهُوَ أَحْمَقُ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤