الفصل الرابع

رِسَالَةٌ مِنْ ويلسون

حَلَّتْ لَيْلَةٌ جَدِيدَةٌ، وَعَبَرَ رَتَلَا الْجُنُودِ اثْنَيْنِ مِنَ الْكَبَارِي. كَانَ هنري وَاثِقًا أَنَّهُمْ سَيَتَعَرَّضُونَ لِلْمُوَاجَهَةِ مِنَ الْكُهُوفِ فِي الْغَابَاتِ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ. لَمْ يُزْعِجْهُمْ أَحَدٌ فِي مَكَانِ تَخْيِيمِهِمْ، وَنَامَ الْجُنُودُ نَوْمَ الرِّجَالِ الْمُرْهَقِينَ. اسْتَيْقَظُوا فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، وَسَارُوا فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ الْغَابَةِ.

بَدَأَ الرِّجَالُ يَعُدُّونَ الْأَمْيَالَ الَّتِي قَطَعُوهَا، كَثِيرُونَ مِنْهُمْ أَلْقَوْا حَقَائِبَهُمْ بَعِيدًا، وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَصْبَحَ عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنْهُمْ لَا يَحْمِلُ سِوَى الْمَلَابِسِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْأَغْطِيَةِ، وَقِرَبِ الْمِيَاهِ، وَالْبَنَادِقِ، وَالذَّخِيرَةِ.

قَالَ جيم لهنري: «يُمْكِنُكَ الْآنَ أَنْ تَأْكُلَ وَتُصَوِّبَ، هَذَا كُلُّ مَا عَلَيْكَ فِعْلُهُ.»

وَاصَلَ الْجُنُودُ سَيْرَهُمْ بِضْعَةَ أَيَّامٍ، وَبَدَأَ هنري يُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ وَكَأَنَّهُ مَسِيرَةٌ لِلرِّجَالِ فِي زِيِّهِمُ الْعَسْكَرِيِّ الْأَزْرَقِ يُظْهِرُونَ فِيهَا كَفَاءَتَهُمْ فِي السَّيْرِ لَيْسَ أَكْثَرَ.

غَيْرَ أَنَّهُ فِي فَجْرِ أَحَدِ الْأَيَّامِ، رَكَلَ جيم هنري الَّذِي — قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ تَمَامًا — وَجَدَ نَفْسَهُ يَجْرِي عَلَى الطَّرِيقِ وَسْطَ رِجَالٍ يَلْهَثُونَ مِنَ الْجَرْيِ سَرِيعًا. كَانَ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَعِيدٍ صَوْتُ دَوِيِّ الْأَعْيِرَةِ النَّارِيَّةِ، وَكَانُوا يَرْكُضُونَ بِاتِّجَاهِ هَذَا الصَّوْتِ مُبَاشَرَةً.

شَعَرَ هنري بِالِارْتِبَاكِ، وَحَاوَلَ أَنْ يُفَكِّرَ أَثْنَاءَ رَكْضِهِ مَعَ رِفَاقِهِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ خَلْفَهُ سَيَدْهَسُونَهُ إِذَا سَقَطَ أَرْضًا؛ فعَلَيْهِ أَنْ يُرَكِّزَ حَتَّى لَا يَتَعَثَّرَ. شَعَرَ وَكَأَنَّهُ يُدْفَعُ إِلَى الْأَمَامِ بِفِعْلِ حَشْدٍ مِنَ الرِّعَاعِ.

انْضَمَّتْ الْوَحَدَاتُ الْأُخْرَى إِلَى الْمَشْهَدِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَحِينَهَا عَلِمَ هنري أَنَّ وَقْتَهُ قَدْ حَانَ؛ إِنَّهُ عَلَى وَشْكِ الِاخْتِبَارِ. نَظَرَ حَوْلَهُ، وَرَأَى أَنَّ فِرَارَهُ مِنَ الْوَحْدَةِ مُسْتَحِيلٌ. كَانُوا يُحِيطُونَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى شَعَرَ وَكَأَنَّهُ بِدَاخِلِ صُنْدُوقٍ مُتَحَرِّكٍ. أَدْرَكَ هنري أَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ قَطُّ فِي الِانْضِمَامِ إِلَى الْحَرْبِ، وشَعَرَ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ الِانْضِمَامَ إِلَى الْجَيْشِ. لَقَدِ اسْتَدْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ يَشْعُرُ أَنَّ هَذَا وَاجِبُهُ، وَالْآنَ تَأْخُذُهُ إِلَى نِهَايَةِ حَيَاتِهِ. شَعَرَ بِالْغَضَبِ لِأَنَّهُ هُنَا، وَفَقَدَ ثِقَتَهُ فِي الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ مَسْئُولِيَّةَ الْجَيْشِ.

عِنْدَمَا وَصَلَ الرِّجَالُ إِلَى الْخَلَاءِ، تَوَقَّعَ هنري أَنْ يَرَى قِتَالًا، لَكِنَّهُ رَأَى مَجْمُوعَاتٍ صَغِيرَةً مِنَ الرِّجَالِ يَرْكُضُونَ ذَهَابًا وَإِيَابًا. كَانُوا يُطْلِقُونَ النَّارَ فِي الْأُفُقِ. رَفْرَفَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، وَمَرَّتِ الْوَحْدَةُ بِجُثَّةِ رَجُلٍ رَفَعَتِ الرِّيَاحُ لِحْيَتَهُ وَكَأَنَّ يَدًا كَانَتْ تُدَاعِبُهَا. امْتَلَأَتْ رَأْسُ هنري بِأَفْكَارٍ غَرِيبَةٍ بَيْنَمَا وَاصَلُ السَّيْرَ. ظَنَّ أَنَّ الْأَرْضَ تُهَدِّدُهُ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ سَيُهَاجِمُهُ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ وَيَقْتُلُهُ هُوَ وَأَصْدِقَاءَهُ. أَرَادَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنْ أَنَّ الْجِنْرَالَاتِ لَيْسُوا عَلَى وَعْيٍ بِمَا يَفْعَلُونَ، لَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَسْتَمِعَ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْأَرْجَحِ سَيَضْحَكُونَ مِنْهُ.

عِنْدَمَا تَوَقَّفُوا وَاسْتَلْقَوْا عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَأْمَنٍ، بَدَأَ الْعَدِيدُ مِنْ رِجَالِ الْوَحْدَةِ بِنَاءَ تِلَالٍ صَغِيرَةٍ أَمَامَهُمْ. اسْتَخْدَمُوا الْأَحْجَارَ، وَالْعِصِيَّ، وَالتُّرَابَ، وَأَيَّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ التَّصَدِّي لِلرَّصَاصِ. أَخَذَ الرِّجَالُ يَتَنَاقَشُونَ: هَلْ فِعْلُ ذَلِكَ شَيْءٌ مُشَرِّفٌ أَمْ أَنَّهُ أَكْرَمُ لَهُمْ أَنْ يَقِفُوا وَيُوَاجِهُوا الْعَدُوَّ دُونَ أَيِّ حِمَايَةٍ؟ صَدَرَ الْأَمْرُ لِلْوَحْدَةِ بِالتَّحَرُّكِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ مِمَّا جَعَلَ صَبْرَ هنري يَنْفَدُ، وَتَسَاءَلَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ لِمَاذَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟!

أَكَلَ جيم الْقَلِيلَ، وَأَجَابَ: «حَسَنًا، أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا مُوَاصَلَةُ السَّيْرِ كَيْ نَمْنَعَ الْعَدُوَّ مِنْ الِاقْتِرَابِ كَثِيرًا أَوْ شَيْئًا كَهَذَا.»

فِي الظَّهِيرَةِ، تَحَرَّكَتِ الْوَحْدَةُ فَوْقَ نَفْسِ الْأَرْضِ الَّتِي سَارُوا فَوْقَهَا فِي الصَّبَاحِ. بَدَتِ الْأَرْضُ مَأْلُوفَةً لهنري أَكْثَرَ؛ فَلَمْ تَكُنْ تُهَدِّدُهُ بَعْدَ الْآنَ، لَكِنْ عِنْدَمَا يَمُرُّونَ عَبْرَ أَيِّ مِنْطَقَةٍ جَدِيدَةٍ، تُعَاوِدُ هنري مَشَاعِرُ الْقَلَقِ الْقَدِيمَةُ النَّابِعةُ مِنَ الْبَلَاهَةِ وَالْخَوْفِ. بَعْدَ بُرْهَةٍ، قَرَّرَ هنري أَنَّهُ لَنْ يَأْبَهَ لِتِلْكَ الْبَلَاهَةِ. تَسَاءَلَ كَيْفَ سَيَكُونُ الْوَضْعُ إِذَا مَا أُصِيبَ فِي مَعْرَكَتِهِ الْأُولَى.

بَعْدَ قَلِيلٍ سَمِعَ دَوِيَّ الْأَعْيِرَةِ النَّارِيَّةِ أَمَامَهُ، وَرَأَى الْجُنُودَ يَرْكُضُونَ، تَتْبَعُهُمْ أَصْوَاتُ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ. نَسِيَ هنري أَمْرَ احْتِمَالِ إِصَابَتِهِ بِطَلْقٍ نَارِيٍّ، وَشَاهَدَ الْمَعْرَكَةَ فِي ذُهُولٍ. فَجْأَةً! شَعَرَ بِيَدٍ ثَقِيلَةٍ فَوْقَ كَتِفِهِ، وَعِنْدَمَا اسْتَدَارَ رَأَى ويلسون، الْجُنْدِيَّ عَالِيَ الصَّوْتِ.

قَالَ ويلسون: «إِنَّهَا مَعْرَكَتِي الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ يَا فَتى.» كَانَ ويلسون شَاحِبًا لِلْغَايَةِ وَشَفَتَاهُ تَرْتَجِفَانِ.

غَمْغَمَ هنري فِي ذُهُولٍ بَالِغٍ: «مَا الْأَمْرُ؟!»

أَجَابَ ويلسون: «قُلْتُ: إِنَّهَا مَعْرَكَتِي الْأُولَى وَالْأَخِيرَةُ. شَيْءٌ مَا يُخْبِرُنِي …»

سَأَلَ هنري: «مَاذَا؟!»

قَالَ ويلسون: «أُرِيدُكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذَا إِلَى أَهْلِي.» وَأَنْهَى كَلَامَهُ بِتَنْهِيدَةٍ عَبَّرَتْ عَنْ أَسَفِهِ عَلَى حَالِهِ، وَسَلَّمَ هنري مَظْرُوفًا صَغِيرًا.

قَالَ هنري: «مَا الَّذِي …» لَكِنَّ ويلسون رَمَقَهُ بِنَظْرَةٍ كَأَنَّهَا آتِيَةٌ مِنْ أَعْمَاقِ الْقُبُورِ، وَرَفَعَ يَدَهُ الْوَاهِنَةَ، ثُمَّ اسْتَدَارَ مُبْتَعِدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤