الفصل التاسع

رَجُلُ الْغَابَةِ

انْكَمَشَ هنري وَكَأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِجَرِيمَةٍ. لَقَدِ انْتَصَرُوا رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ! الْحَمْقَى الَّذِينَ ظَلُّوا فِي الْخَلْفِ هَزَمُوا الْعَدُوَّ. اسْتَطَاعَ سَمَاعَ الْهُتَافِ مِنْ خَلْفِهِ. اسْتَدَارَ وَقَدْ تَمَلَّكَهُ شُعُورٌ بِالذُّهُولِ وَالْغَضَبِ، شَعَرَ أَنَّهُ أَخْطَأَ.

أَخْبَرَ هنري نَفْسَهُ أَنَّهُ فَرَّ لِأَنَّ الْهَزِيمَةَ السَّاحِقَةَ كَانَتْ وَشِيكَةً. لَقَدْ فَعَلَ الصَّوَابَ بِأَنْ أَنْقَذَ نَفْسَهُ. كَانَ هنري جُزْءًا صَغِيرًا مِنَ الْجَيْشِ، وَوَاجِبُ كُلِّ جُزْءٍ صَغِيرٍ أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ إِذَا اسْتَطَاعَ. وبَعْدَهَا يُمْكِنُ لِلضُّبَّاطِ إِعَادَةُ تَجْمِيعِ الْأَجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ مَعًا لِتَكْوِينِ الْجَيْشِ ثَانِيَةً. أَكَّدَ هنري لِنَفْسِهِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ تَصَرُّفًا حَكِيمًا.

فَكَّرَ هنري فِي رِفَاقِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا وَرَبِحُوا الْمَعْرَكَةَ؛ وزَادَتْ هَذِهِ الْفِكْرَةُ مِنْ شُعُورِه بِالْمَرَارَةِ؛ إِذْ بَدَا أَنْ حَمَاقَتَهُمْ قَدْ خَدَعَتْهُ. لقد ظَنَّ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِذَكَاءٍ عِنْدَمَا لَاذَ بِالْفِرَارِ، وَالْآنَ يَشْعُرُ بِغَضَبٍ شَدِيدٍ مِنْ رِفَاقِهِ الَّذِينَ لَمْ يَفْعَلُوا الْأَمْرَ ذَاتَهُ.

أَدْرَكَ هنري أَنَّ رِفَاقَهُ سَيَسْخَرُونَ مِنْهُ عِنْدَ عَوْدَتِهِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، وبَدَأَ يُشْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَمَا فَكَّرَ فِي الْمُعَامَلَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي سَيَلْقَاهَا مِنْهُمْ. تَرَكَ الْحَقْلَ، وَاتَّجَهَ إِلَى بُقْعَةٍ كَثِيفَةٍ فِي الْغَابَةِ. أَرَادَ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ صَوْتِ الطَّلَقَاتِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي كَانَتْ لَا تَزَالُ تُدَوِّي.

كَانَتِ الْأَرْضُ مُغَطَّاةً بِالْكُرُومِ وَالشُّجَيْرَاتِ وَالْأَشْجَارِ الْقَرِيبِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَشُقَّ طَرِيقَهُ عَبْرَهَا. جَرَحَتْ أَشْوَاكُ الشُّجَيْرَاتِ قَدَمَيْهِ، وَسَدَّتْ فُرُوعُ الْأَشْجَارِ الطَّرِيقَ أَمَامَهُ. لَمْ يَسْتَطِعْ السَّيْرَ فِي هُدُوءٍ دَاخِلَ الْغَابَةِ، بَلْ أَصْدَرَ جَلَبَةً شَدِيدَةً حَتَّى بَاتَ خَائِفًا مِنْ أَنْ يَسْمَعَهُ الْآخَرُونَ. ابْتَعَدَ كَثِيرًا دَاخِلَ الْغَابَةِ يَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ مُظْلِمٍ يُمْكِنُهُ الْبَقَاءُ فِيهِ وَحِيدًا. وبَعْدَ فَتْرَةٍ، خَفَتَ صَوْتُ إِطْلَاقِ النِّيرَانِ، وَانْطَلَقَتْ أَصْوَاتُ الْمَدَافِعِ بَعِيدًا. تَوَهَّجَتِ الشَّمْسُ وَسْطَ الْأَشْجَارِ، بَيْنَمَا أَصْدَرَتِ الْحَشَرَاتُ أَصْوَاتًا كَإِيقَاعِ الْمُوسِيقَى. لقد بَدَا وَكَأَنَّهَا تَصِرُّ بِأَسْنَانِهَا فِي تَنَاغُمٍ. قَرَعَ نَقَّارُ الْخَشَبِ جَانِبَ إِحْدَى الْأَشْجَارِ، وَمَرَّ طَائِرٌ فِي الْهَوَاءِ.

بَعِيدًا كَانَ طَنِينُ الْمَوْتِ، أَمَّا هُنَا فَلَا يَسْمَعُ هنري سِوَى أَصْوَاتِ الطَّبِيعَةِ.

وَسْطَ هَذَا الْمَشْهَدِ، شَعَرَ هنري أَنَّهُ أَفْضَلُ حَالًا. كَانَ يَشْعُرُ بِالسَّكِينَةِ. سَقَطَ كُوزُ صَنَوْبَرٍ مِنْ فَوْقِ شَجَرَةٍ، وَهَبَطَ بِجِوَارِ سِنْجَابٍ فَرَّ بَعِيدًا، ورَأَى هنري أَنَّ هَذَا هُوَ قَانُونُ الطَّبِيعَةِ. لَقَدْ أَدْرَكَ السِّنْجَابُ أَنَّ هُنَاكَ خَطَرًا يُحَدِّقُ بِهِ؛ فَهَرَبَ بَعِيدًا.

تَوَغَّلَ هنري فِي الْغَابَةِ، وَأَخِيرًا وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ بَدَتْ فِيهِ الْأَغْصَانُ الْمُرْتَفِعَةُ الْمُقَوَّسَةُ وَكَأَنَّهَا تُشَكِّلُ كَنِيسَةً صَغِيرَةً. شَكَّلَتْ أَوْرَاقُ الصَّنَوْبَرِ بِسَاطًا بُنِّيًّا، وَكَانَ هُنَاكَ ضَوْءٌ خَافِتٌ.

تَوَقَّفَ عِنْدَ الْمَدْخَلِ مَصْدُومًا مِمَّا رَآهُ أَمَامَهُ.

كَانَ أَمَامَه جُثَّةُ رَجُلٍ يَسْتَنِدُ بِظَهْرِهِ إِلَى إِحْدَى الْأَشْجَارِ. كَانَ الرَّجُلُ يَرْتَدِي زِيًّا أَزْرَقَ اللَّوْنِ فِيمَا مَضَى، لَكِنَّهُ الْآنَ بَهَتَ حَتَّى صَارَ دَرَجَةً كَئِيبَةً مِنَ اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ. تَغَيَّرَتْ عَيْنَا الرَّجُلِ اللَّتَانِ كَانَتَا تُحَدِّقَانِ فِي هنري إِلَى لَوْنٍ بَاهِتٍ مِثْلِ جَوَانِبِ السَّمَكَةِ. كَانَ فَمُهُ مَفْتُوحًا، وَتَغَيَّرَتْ شَفَتَاهُ اللَّتَانِ كَانَتَا حَمْرَاوَيْنِ يَوْمًا إِلَى لَوْنٍ أَصْفَرَ مُخِيفٍ. كَانَ النَّمْلُ الصَّغِيرُ يَزْحَفُ فَوْقَ بَشَرَةِ الرَّجُلِ الرَّمَادِيَّةِ، وَإِحْدَاهُنَّ تَحْمِلُ كُتْلَةً مَا فَوْقَ شَفَتِهِ الْعُلْيَا.

أَطْلَقَ هنري صَرْخَةً عِنْدَمَا رَأَى الْجُثَّةَ، ولَمْ يَسْتَطِعِ التَّحَرُّكَ أَوْ إِشَاحَةَ نَظَرِهِ بَعِيدًا عَنِ الرَّجُلِ. بَدَا وَكَأَنَّهُ تَحَوَّلَ إِلَى صَخْرَةٍ لِبِضْعِ دَقَائِقَ. حَدَّقَ فِي عَيْنَيِ الرَّجُلِ الْغَرِيبِ، وَبِبُطْءٍ وَضَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ خَلْفَهُ وَأَسْنَدَهَا عَلَى إِحْدَى الْأَشْجَارِ، وَعَلَى وَضْعِهِ هَذَا أَخَذَ يَرْجِعُ إِلَى الْخَلْفِ خُطْوَةً خُطْوَةً، وَهُوَ لَا يَزَالُ يَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ. كَانَ يَخْشَى لَوِ اسْتَدَارَ أَنْ تَقْفِزَ الْجُثَّةُ وَتُطَارِدَهُ.

اصْطَدَمَتِ الْأَغْصَانُ بهنري وَكَأَنَّهَا تُهَدِّدُهُ بِأَنْ تُسْقِطَهُ أَرْضًا. عَلِقَتْ قَدَمَاهُ فِي الْكُرُومِ، وَتَخَيَّلَ أَنَّهُ يَلْمِسُ الْجُثَّةَ، فَانْتَفَضَ فَزِعًا.

أَخِيرًا تَخَلَّصَ هنري مِنَ الْأَغْصَانِ وَالْكُرُومِ، وَهَرَبَ بَعِيدًا. لَمْ يَكُنْ يَنْظُرُ فِي أَيِّ اتِّجَاهٍ يَذْهَبُ، بَلِ اكْتَفَى بِالرَّكْضِ. فِي مُخَيِّلَتِهِ، كَانَتْ تُطَارِدُهُ صُورَةُ النَّمْلِ الْأَسْوَدِ الزَّاحِفِ فَوْقَ الْوَجْهِ الرَّمَادِيِّ.

بَعْدَ فَتْرَةٍ، تَوَقَّفَ هنري وَأَرْهَفَ السَّمْعَ. كَانَ يَلْهَثُ مِنْ أَثَرِ الْعَدْوِ. تَخَيَّلَ صَوْتًا غَرِيبًا يَصْدُرُ مِنْ حَلْقِ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ وَيَصْرُخُ فِيهِ.

تَحَرَّكَتِ الْأَشْجَارُ خَلْفَهُ حَوْلَ الْجُثَّةِ مَعَ الرِّيَاحِ الْهَادِئَةِ، وَخَيَّمَ صَمْتٌ كَئِيبٌ عَلَى الْمَكَانِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤