الفصل الأول

اليونانيون

القسم الأول: السابقون على سقراط

ليس لدينا من المعلومات الفعلية عن الموسيقى سوى القليل في تلك الفترة من التاريخ القديم، التي تُناظِر العصر المعروف بالعصر السابق على سقراط في الفلسفة. وكل ما نعرفه معلوماتٌ متفرِّقة يمكن استنتاجها من كتابات الفلاسفة والشعراء، ما دامت الموسيقى ذاتها قد اندثَرَت. تبدأ دراسة الفلسفة السابقة على سقراط بالفيلسوف طاليس في القرن السابع ق.م. وفي القرن التالي أسَّس فيثاغورس مدرسةً فلسفية منظمة، وكان اهتمام هذه الفلسفة بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، وبالتركيب التجريبي للأنغام الموسيقية لا يقل عن اهتمامها بإثبات أن العدد هو الحقيقة بالمعنى الصحيح. أما الشعراء الذي يرجعون إلى عهدٍ أقدم هو عهد هوميروس في القرن التاسع ق.م. فقد خلَّفوا لنا شذراتٍ هزيلة، ولكنها قيِّمة عن موسيقى القدماء، وهي تتميَّز بأنها أقربُ إلى الخيال الشعري منها إلى الحقيقة، ولا مَفَر لكتابٍ في الفلسفة الجمالية للموسيقى من أن يبدأ بعرضِ هذه الشذرات الباقية كما تُستخلَص من الكتابات القديمة، وتبويبها في ترتيبها التاريخي الصحيح.

إن أقدم معرفة لدينا بالموسيقى في الحضارة الغربية ترجع إلى كتابات الفلاسفة اليونانيين. والواقع أن ما قالوه عن الموسيقى لم يكن يتسم بالأصالة التامة؛ إذ إن الكهنة المصريين القدماء كانت لديهم آراءٌ مشابهة، كما ظهَرَت مثل هذه الآراء لدى حكماء الشرق قبل العصر الذهبي لليونان بوقتٍ طويل. غير أن فضل الفلاسفة اليونانيين إنما يرجع إلى تنظيمهم للنظريات الموسيقية الموروثة عن أسلافهم، وبذلك خلَّفوا لنا تراثًا من الفلسفات الموسيقية القديمة، ولكن عندما تدخَّل خيال الشاعر اليوناني المنشد من أجل تغيُّر تلك القيم الموسيقية التقليدية السائدة في العالم القديم على النحو الذي يكفُل ملاءمتها للحضارة الهلينية، أخذ الفيلسوف على عاتقه القيام بمهمة الدفاع عن الماضي، فقوَّم الموسيقى الجديدة على أسسٍ أخلاقية وميتافيزيقية، وأصدر أحكامًا مُدوِّية ما زال صداها يتردَّد في موسيقى عصرنا الذي نعيش فيه.

ومن الواجب أن نذكُر، عندما نتحدث عن الموسيقى اليونانية، أن الشاعر المنشد اليوناني كان موسيقيًّا في الوقت ذاته، ولم يكن يفصل الموسيقى عن الشعر؛ فقصائد هوميروس وأناشيد بندرا لم تكن تُنشَد إلا مع الموسيقى. وكان الشاعر والموسيقار في اليونان شخصًا واحدًا، وبلغ من اعتماد موسيقاه على النص الكلامي أن كل نغمةٍ مفردة كانت ترتبط بكل مقطع في الكلام الملفوظ.

ويرجع أصل كلمة الموسيقى ذاتها إلى اليونانية، وكان يُنظر إليها في الأصل بطريقةٍ شبه أسطورية، على أنها فنٌّ أوحت به مباشرة، وخلَّفَته ربَّة الفن (موزي muse). ولقد كان لليونانيين القدامى في البداية ثلاثُ ربَّات؛ ربَّة الدراسة (العلم)، وربَّة الذاكرة، وربَّة الغناء، ولكن كل فنٍّ أصبح له بمرور الوقت ربَّةً راعية. وتَرْوي الأساطير السابقة على عهد هوميروس أن «أورفيوس» خادم أبولو الذي كان مطربًا ساحرًا، ومنشدًا للشعر، كان هو ذاته ابنًا لإحدى الربَّات، وكانت لصوتِه خصائصُ سحرية تشفي المرضى، وتبعث التقوى في النفوس عند أدائها للطقوس الدينية. ولقد أشار أفلاطون في حديثه عن السفسطائي «بروتا جوراس» إلى التأثير الخلاب الذي تُحدِثه بلاغة بروتا جوراس، وكذلك أغاني أورفيوس في نفوس سامعيها.١ وقد وصف أرستوفان «موزياوس Museaus» تلميذ أورفيوس بأنه طبيبٌ للنفوس، نستطيع أن نفترض أنه توصَّل إلى علاج مرضاه بسحر الأناشيد التي تنسبُها الأساطير إليه. وقد عزا إليه أرسطو القول بأن «الموسيقى أعذب ما يتمتَّع به جنس البشر»،٢ ثم أضاف، مشيرًا إلى موزايوس، أن الموسيقى يُمكِن استخدامها وسيلةً تُسرِّي عن الإنسان العناء.
وقد وصف هوميروس الشعراء المغنين في «الأوديسية» بأنهم أقربُ البشر إلى قلوب الآلهة؛ فقد وهبَتْهم الربَّة فنَّ الغناء، لا لكي يُطرِبوا نفوس الناس فحسب، وإنما لكي يسهَروا على رعاية أخلاق البشر أيضًا.٣ فهؤلاء الشعراء هم الرسل الذين يعيشون على الأرض، وينقلون الرغبات الإلهية إلى الإنسان. وبالموسيقى يستطيع الإنسان بدَوره أن يبتهل إلى الآلهة لتُخلِّصه من المرض والوباء. وقد وصف هوميروس كما روى «بلوتارك» بعده بقرونٍ عديدة٤ كيف أوقف الإغريق نقمةَ أحد الأوبئة بقوة الموسيقى، وسحرها الذي بدَّد غضب الآلهة «بالأناشيد والأغاني المقدَّسة هدأَت الآلهة راضية.»

ولقد ظلَّت علاقة الشاعر المنشد بربَّته، وهي العلاقة التي رأيناها من قبلُ عند هوميروس قائمة عند هزيود، الذي عاش في حوالي القرن الثامن ق.م. فقد أنبأنا بأن الربَّات ظهَرَت له بينما كان يُطعِم قطعان أبيه، وعَهِدن إليه بأن يكون رسولَهن وشاعرَهن، وأعطَينه «عصا الشاعر؛ لتكون آيةً على رسالته كمنشد»، وقبل أن يُفارِقنه قُلن له: «إننا نعرف كيف نقول كثيرًا من الأكاذيب التي تقع من الآذان موقع الحقيقة، ولكننا نعرف أيضًا كيف نُصرِّح بالحقيقة عندما نشاء.» فلا عجب إذن أن حمل طاليس في القرن التالي على الأسطورة الهومرية؛ لأنها تشويه للواقع يحرص على الابتعاد عن الحقيقة. وقد اتُّهِم هوميروس بأنه لا يقصر على خلق آلهةٍ أسطورية، وربَّاتٍ ملهمات، بل يُضفِي على هؤلاء أيضًا صفاتٍ إلهية. والأدهى من ذلك في نظر طاليس أن هوميروس كان يؤمن بأن البشر جميعًا خاضعون لأهواء الآلهة ونزواتهم، واستغل مواهبه الفنية لينصح الإنسان بأن يُسلم مصيره إلى أيدي الآلهة. أما هزيود فقد اتخذ موقفًا أكثر إنسانية من مؤلهي البشر، ولكن ليس إلى الحد الذي يكفي لإرضاء طاليس، الذي أطلَق عليه أرسطو اسم «أبي الفلسفة القديمة». لقد كان ما يريده طاليس من الشاعر المنشد اليوناني، هو أن يُركِّز مواهبه لتلبية حاجات الإنسان فحسب، بدلًا من أن يخلُق أناشيد لآلهةٍ غير موجودة.

وفي القرن ذاته حمل أكسنوفان (حوالي سنة ٥٧٠ق.م.) الذي ينتمي إلى المدرسة الإيلية في الفلسفة، على آلهة هوميروس وهزيود، كما فعل طاليس، ولقد استغَل أكسنوفان سلاح التهكم ببراعة، فألَّف شعرًا كان لاذعًا وثوريًّا فيما ينطوي عليه من مُطالبةٍ بالإصلاح الاجتماعي. وقد أنحى باللائمة على هوميروس وهزيود في كل ما يلحق البشر من الشرور؛ إذ إنهما «قد نسبا إلى الآلهة كل الأمور التي تُعَد عارًا بين البشر، كالسرقة والزنا وخداع بعضهم البعض.» ومرَدُّ ذلك كله إلى أن الشعراء الأوَّلين كانوا يُصوِّرون الآلهة بصورةٍ بشرية «فالناس يصنعون الآلهة على شاكلتهم، ولو كان للخيل أو الثيران أو الأسود أيادٍ تمكِّنهم من خلق أعمالٍ فنية، لجعلوا الآلهة على شاكلتهم أيضًا.» لذلك رأى أكسنوفان أن من الضروري القضاءَ على هذه الأوهام الشعرية «إن شئنا إصلاح الحياة الاجتماعية». وقد ألَّف السياسي «سولون» (٦٣٨–٥٨٨ق.م.) مقطوعاتٍ شعرية يتحسَّر فيها على انعدام المساواة بين الإنسان وآلهته. وقد طبَّق فلسفته الإنسانية على الموسيقى الأثينية بدورها، فرأى أن من الممكن تقويةَ الروح الأخلاقية والوطنية عن طريق الموسيقى، التي تؤدي بدَورها إلى تقوية الدولة، وتقلل من اعتماد الناس على الآلهة المتقلِّبة. كذلك عبَّر ألكيوس Alcaeus (٦٠٠ق.م.) عن روح عصره في الأناشيد والأشعار السياسية التي ألَّفها، وحمَل فيها على الطغاة وعلى أعدائه السياسيين. وقد كتب مع مُعاصِرته المشهورة «سافو Sappho»٥ (حوالي ٦٠٠ق.م.) أغنياتِ حب وخمريات لبلاط لسبوس Lesbos الفخم. كذلك شهد القرن السابع ظهور شخصيةٍ موسيقية فذة، هي شخصية «أرخيلوخوس Archilochos» الذي كان من أقوى دعاة التغيير، والذي كان يستخدم الأنغام المتنافرة من آنٍ لآخر، كما أضاف أوزانًا إيقاعية جديدة إلى الشعر.
ويرجع إلى أرخيلوخوس الفضل في الإسهام بثلاثةِ تجديداتٍ في الموسيقى اليونانية، كانت لها قيمةٌ جمالية كبرى؛ فقد استخدم الإيقاع السريع، واستحدث نماذجَ إيقاعيةً جديدة، أضفى بها على موسيقى عصره حيويةً كانت تفتقر إليها من قبلُ على الأرجح. وقد أرجع إليه الكتَّاب المتأخرون فضل استحداث أوزانٍ حية ثنائية المقاطع (iambic)، وإيقاعاتٍ متغيرة معقَّدة، وإدماج أجزاءٍ شبه كلامية بين فقرات اللحن. كما ينسبُ التاريخ إلى أرخيلوخوس فضل النهوض بالأغنية الموسيقية التي كانت تُغنَّى بمصاحبة «الليرا Lyre». وأغلب الظن أن انتشار الفن الشعبي في عصره أتاح له أن يستوحي في كثيرٍ من ألحانه الفولكلور والأغاني التي يتداولها الناس. كذلك كان أرخيلوخوس يستخدم التنافُر الموسيقي من آنٍ لآخر؛ إذ يجعل الآلة المصاحبة تعزف نغماتٍ مخالفة للحن الغنائي. وقد حمل أنصار التقاليد الموروثة على هذا النوع البدائي من تعدُّد النغم (البوليفونية)، ووصفوه بأنه تخليطٌ نغمي.
على أن الشاعر بندار (حوالي ٥٢٢–٤٤٣ق.م.) قد فنَّد في القرن التالي الآراءَ المخالفةَ للدين عند الفلاسفة في أنشوداته الغنائية؛ إذ إنه استخدم خيالَه في الرد عليهم قائلًا: إن الأم التي رعت الآلهة والناس واحدة، غير أن الأوَّلين هم الأفراد المميَّزون في الأُسرة الأرضية، الذين لا يعرفون الموت ولا الشقاء البشري. ولذا ارتفع صوت بندار مُحذرًا من أن محاكاة الآلهة تجديف، وعلى ذلك «فلا تحاول أن تُصبِح مثل زيوس؛ لأن الفانين لا تصلُح لهم إلا الأشياء الفانية.» ولما كان بندار على إلمامٍ واسع بالموسيقى بفضل تتلمُذه على أبولودورس Apollodorus والموسيقار الشهير لاسوس الهرميوني Lasus of Hermione، فقد أهَّله إيمانُه الديني ومقدرتُه الموسيقية لمدح الآلهة بالأغاني والأشعار. وقد أنبأنا بأنه «قُربَ فناء بيته كانت مجموعاتٌ من الفتيات ترقص وتغني ليلًا في مدح أم الآلهة»، وعندئذٍ سأل الفيلسوف الشاعر الموسيقار٦ من هي أم الآلهة؟ أهي العنصر الأول؛ أي الواحد الذي يسبق كل شيء، والذي يتولَّد عنه كل شيء؟ يبدو أن الفيلسوف في بحثه في أصل الكون وطبيعته، كان يُحدِث بالفعل تغيُّرًا في مصطلح هوميروس وهزيود، ويُسمِّي الآلهة بالعناصر الأولية.
ولقد أحرز فيثاغورس (حوالي القرن السادس ق.م.) شُهرةً يُحسد عليها؛ إذ عُرِف بأنه مُنشِئ العلم الموسيقي عند اليونان، ومؤسِّس مدرسةٍ فلسفية ذات تعاليمَ سرية. ولقد شاع في العالم القديم اعتقادٌ بأنه لم يترك وراءه كتابات، حتى لا يفشي أسرار طائفته، وأغلب الظن أن فيثاغورس كان متبحرًا في الرياضيات والعلم، وأنه أسَّس مدرستَه بوصفها مجمعًا دينيًّا تُدرَس فيه الأخلاق والسياسة إلى جانب الفلسفة وعلم الصوت والحركة. وقد وضَع فيثاغورس، في محاولته كشف أسرار الكون، أسس الاعتقاد الميتافيزيقي بأن الأعداد هي الحقاق الأصلية، ثم ازداد تلاميذُه غلوًّا في التصوف، وأضافوا إلى ذلك أن الأعداد هي الماهيات الحقيقية التي تكوِّن قوام الطبيعة كلها وتحكُمها. ولما كان الإنسان جزءًا من الطبيعة، فإنه تجسيد لمجموعة من الأعداد، وهو يرتبط عدديًّا بالطبيعة ارتباط الجزء بالكل، والذي يجعل الإنسان على ما هو عليه مكوِّناته العددية. أما في الطبيعة، كما في الفنون التي يخلقها الإنسان للوفاء بحاجاته، فإن التناسُب والتماثُل والانسجام والتنافُر ينشأ عن علاقاتٍ رياضية، وعلى ذلك فالموسيقى وحدةٌ تتألف من علاقاتٍ عددية. ولمَّا كانت الأعداد تتصف بصفاتٍ أخلاقيةٍ كامنةٍ فيها؛ لأن الطبيعة خيِّرة في أساسها، فمن الواجب تقويم الموسيقى على أسسٍ أخلاقية؛ أي إن حجة الفيثاغوريين هي أنه إذ كانت العناصر المكوِّنة للموسيقى لها خصائصُ أخلاقية، فلا بد أن للموسيقى ذاتها قيمةً أخلاقية. ولقد أدَّت هذه النظرة الأخلاقية إلى الموسيقى إلى صبغ الكتابات اليونانية في الفلسفة الجمالية للموسيقى بصبغةٍ أخلاقية اكتمل نُموها وتطبيقُها النظري عند أفلاطون. ولنستمع إلى ما يقوله أرسطو عن الفيثاغوريين: «لقد رأَوا أنَّ من الممكن التعبير بالعدد عن تغيُّرات السلالم الموسيقية ونسبها.» ولمَّا كانت كل الأشياء الأخرى تبدو في طبيعتها الكاملة مصوغةً في قالب الأعداد، ولمَّا كانت الأعداد تبدو أوَّل الأشياء في الطبيعة بأَسْرها، فقد اعتقدوا أن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء جميعًا، وأن السموات كلها سُلَّمٌ موسيقي وعدَد.٧
وهناك أدلةٌ قوية تبعث على الاعتقاد بأن فيثاغورس قد سافر إلى مصر، ودرس علوم الفراعنة وفلسفتها الموسيقية، مثلما فعل المؤرخ هيرودوت في القرن الخامس. والأرجح أن فيثاغورس قد عاد إلى اليونان ومعه بعض النظريات البسيطة في علم الصوت، فضلًا عن معتقداتٍ أخلاقيةٍ محدَّدة المعالم عن الموسيقى، اكتسبها من الكهنة المصريين. وهكذا بدأ يقول لتلاميذه إن الموسيقى البشرية الفانية ما هي إلا أنموذجٌ أرضي للانسجام العلوي للأفلاك. أما الفيثاغوريون المتأخرون، فقد اعتقدوا أن السموات تنبعثُ عنها موسيقى بالفعل؛ فخلال حركة هذه الأجرام السماوية في السماء، تؤدي السرعة التي تتحرَّك بها إلى بعث أصواتٍ منسجمة كأنها مجموعةٌ غنائية تُنشَد في السماء، وترتبط سلسلة الأصوات التي تُصدِرها هذه الأجرام السماوية بعضها ببعض كما ترتبط أنغام السُّلم الموسيقي. أما السبب الذي لا نسمعها من أجله، فهو أننا اعتدناها على الدوام.٨

وتروي الأخبار المتواترة أن فيثاغورس قد اكتشف قرار السُّلم وجوابه، ثم استنبط المسافات الواقعة بينهما عن طريق سلسلةٍ فريدة من التجارب طبَّق فيها المعرفة التي كان قد جمعَها في أسفاره، على أفكارٍ خصبة ابتدَعها هو ذاته. وقد وجد فيثاغورس أنه: (١) إذ شد وترًا مثبَّتًا فوق قطعة من الخشب، (٢) ووضع إصبعه في منتصف هذا الوتر الوحيد بالضبط، (٣) وضرب على ذلك الوتر، فإن كل نصفٍ فيه يتذبذب بضعف سرعة الوتر، وبذلك تنتج نغمةٌ تماثل في صوتها النغمة الأصلية المنبعثة عن الوتر الكامل، ولكن كل مستوًى أعلى من حيث حدَّة الصوت، ثم طبَّق هذه الطريقة على أوتارٍ لها كثافة ودرجة توتُّر واحدة، ووجد أن أطوال الأوتار هي التي تتحكم في النغمة، ولكن الخواص الفيزيائية للأوكتاف (المسافة بين القرار والجواب) يمكن تفسيرها عن طريق تقسيم الوتر إلى قسمَين متساويَين، أيًّا كان طوله أو سمكه، ولكن كيف نملأ الفراغ الذي تُكوِّنه الأصوات العليا والدنيا في الأوكتاف؟ لقد وجد فيثاغورس أنه إذا قسَّم الوتر عند نقطة تمثل نسبة ٣: ٤، فإنه يحصل على مسافات الصوت الموسيقي الرابع، وإذا كانت النسبة ٢: ٣ حصل على مسافات الصوت الخامس. وكان ينظر إلى الصوت الثامن والرابع والخامس على أنها أصواتٌ متوافقة، على حين أن الثالث والسادس أصواتٌ متنافرة؛ أي غير متوافقة.

وقد عُرِف عن أرخوطاس التارنتي Archytas of Tarentum، الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع معاصرًا أفلاطون، أنه اهتم بدراسة الجوانب الفيزيائية للموسيقى أكثر مما فعل أي فيثاغوريٍّ آخر، وكانت له في الموسيقى كتاباتٌ كثيرة متنوعة، لم تتضمَّن فقط كشوفَه وحساباتِه الخاصة، بل تضمَّنَت أيضًا كشوفَ وحساباتِ غيره من الفيثاغوريين الذين كانوا يُجْرون تجارب على أسسٍ حسابية عن النسب العددية المناظرة للصوت الثامن والرابع والخامس، وقد لاحظ أرخوطاس أولًا أن الصوت لا ينتج إلا باصطدام شيءٍ بشيءٍ آخر أو احتكاكه به، ورأى ثانيًا: أن «هناك أصواتًا متعددة تخرج عن نطاق إدراكنا الطبيعي، نظرًا إلى ضعف الاصطدام المؤدي إلى حدوثها، أو إلى بعد المسافة بين الذات وبين مصدر الصوت، أو حتى لأن الصوت قد يكون أعلى مما ينبغي»، واستنتج أرخوطاس ثالثًا «أن الفرق في حدَّة الصوت راجع إلى نسبة الحركة التي تنقلها الضربة إلى الهواء». وقد ضرب أمثلةً متعددة تأييدًا لنظرياته هذه في علم الصوت، هي: «الصوت البشري، ونغْمة المزمار والناي، وصوت الطلبة المستخدَمة في الطقوس الدينية». وعلى الرغم من أن أرخوطاس كان عميق التأثُّر بالعجائب العديدة التي يجلبها العدد، فإن كتاباته لا تتضمَّن أية إشارة إلى أي تفسيرٍ ديني أو سحري للعلاقات العدَدية، كما كانت الحال بين زملائه الفيثاغوريين. وقد توَّصل في علم الصوت إلى تحديد النِّسَب العدَدية المناظرة للمسافات التي تفصل بين أنغام السلم الرباعي القديم بالنسبة إلى ثلاثة أنواع مختلفة من السلالم؛ الربع الصوتي الإنهارموني enharmonic والكروماتي chromatic والدياتوني diatonic. أما من الجهة الجمالية، فكان يرى أن «الخصائص العقلية للعدد والتوافق رائعة في ذاتها بما فيه الكفاية»، ومن هذا انتهى — على خلاف الرأي الشائع في أيامه — إلى أن من الواجب في التعليم إخضاع الأدب للموسيقى.٩
فإذا انتقلنا إلى بركليس، مؤسس الإمبراطورية الأثينية، لوجدنا أنه جمَع حوله أبرزَ شخصيات عصره في ميادين الفلسفة والأدب والفن؛ إذ كان فيدياس phidias المثَّال، وهيرودوت وثوكوديدس المؤرِّخان، وسوفوكليس وأوريبيدس المؤلِّفان المسرحيان، اللذان دافعا عن قضية الموسيقى المجدِّدين، كان هؤلاء جميعًا يزينون حياة أثينا بشخصياتهم الرفيعة. وفي هذا الجو أبدى الفيلسوف «أنكساجوراس» احتقارًا عميقًا للديانة الرسمية، أعرب عنه تحت رعاية صديقه وحاميه المستنير بركليس. وكان من الشخصيات الأخرى في الحياة الثقافية وفي مجالس بركليس، دامون Damon، الذي أشار إليه أفلاطون في محاورة «الجمهورية» على أنه حُجةٌ في الموسيقى وفنانٌ يمارسها بالفعل. ولما كان دامون مُعلمًا لبركليس وصديقًا حميمًا له، فقد أتاحت له صفتُه هذه أن يجعل للموسيقى مكانةً هامة في تربية الشخصية وتكوين المواطن الصالح. وكان دامون يعتقد أن التأثير العميق للموسيقى «لا يؤدي فقط إلى إثارة الانفعالات المختلفة وتهدئتها، بل يؤدي أيضًا إلى بث جميع الفضائل، كالشجاعة وضبط النفس، والعدالة ذاتها.» والواقع أن نوع المصنف الموسيقي يطبع النفس بطابعه الخاص، سواء أكان ذلك الطابع خيرًا أم شرًّا، وذلك بالنسبة إلى القائم بأداء الموسيقى وإلى سامعها معًا؛ فمن الممكن باستخدام التوافقات المناسبة خلق صفاتٍ جديدة أو إبراز صفاتٍ كامنة، لا في الصغار فقط، بل في الكبار أيضًا.١٠ وكان دامون يرى أن الموسيقى ضروريةٌ لا للتعليم الثقافي فحسب، بل من أجل تكوين دولةٍ قوية سليمة، ولكن الغريب أنه خالف الروح الديمقراطية السائدة في عصر بركليس، وذهب إلى أن التجديد في الأساليب والإيقاعات الموسيقية يُعَد نذيرًا بتغيرٍ اجتماعي أو حتى بثورة. وكان يرى أنه لو غيَّر الشاعر المنشد اليوناني أو نوَّع الأساليب الفنية أو الألوان الموسيقية، بحيث يغيِّر أو ينوِّع الأنماط التقليدية للتعبير الموسيقى، فإن التأثير الانفعالي لهذه التجديدات يؤدي بدَوره إلى تغيُّرٍ حضاري واجتماعي. وهكذا انتهى دامون، متفقًا في ذلك مع الفيثاغوريين، إلى أن الموسيقى قيمةٌ أخلاقية ينبغي استغلالها من أجل بلوغ هدف الروح الأخلاقية السليمة.
أما ديمقريطس (المولود حوالي عام ٤٦٠ق.م.) فكان يرى أن الشاعر الموسيقار يحمل قبسًا من الروح الإلهية. وقد امتدح هوميروس فوَصَفه بأنه شاعرٌ ملهَم من الآلهة، تعبِّر أعماله عن جمالٍ منبعث من رُوحٍ نشوانة، وقد وصَف ديمقريطس الموسيقى بأنها أحدثُ الفنون عهدًا، وبأنها لم تنشأ عن «الضرورة وإنما عن الفيض والوفرة». وكان يرى في الموسيقى، كما رأى فيها السياسي «سولون Solon»، قوةً تعليمية واجتماعية تُتيح للإنسان أن يحفظ التوازُن بين الرياضة البدنية والآداب. وكان ديمقريطس يؤمن، مع الفيثاغوريين، بأن الفنان يحتل موقعًا وسطًا بين الآلهة والإنسان، وأن الرسالة الإلهية للفنان المُلهَم تحتِّم عليه أن يساعد الإنسان على بعث التوافق بين نفسه وبين النفس الكلية عن طريق إيقاع الموسيقى ورشاقتها.١١

ولننتقل إلى سقراط (٤٦٩–٣٩٩ق.م.) الذي كان في الأصل نحَّاتًا وابن نحَّات، ثم تحوَّل إلى الفلسفة حتى يكرِّس حياته لتعليم شباب أثينا. ولقد صوَّره أفلاطون في «الجمهورية» على أنه متفقٌ تمامًا مع دامون في آرائه الخاصة بالقيمة الأخلاقية والسياسية والتعليمية للموسيقى. وكان سقراط يرى أن الفلسفة التي تجعلُ الحياة العادية ذات معنًى وهدف هي أرفع الفلسفات جميعًا. وللموسيقى القدرة على تشكيل نفوس الصغار، وإعدادهم لحياةٍ كهذه. وكما أن من الممكن تشكيل المجتمع تبعًا ﻟ «أنموذج في السماء»؛ فقد كان يعتقد بأن الموسيقى تستطيع ضبط النفس، بحيث تنسجم مع نفس الأنموذج المتغلغل في سلوك الأجرام السماوية وفاعليتها.

وعلى الرغم من أن سقراط كان معارضًا لبلاغة السفسطائيين، فإنه اتفق مع بروتاجوراس على أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تؤدي بالمرء إلا إلى الشك، وأن الرياضة ما هي إلا تأملاتٌ عميقة. ومن هنا فقد كرَّس بقية حياته لدراسة الأخلاق والتربية. وكان سقراط يؤمن بأن خلاص البشر إنما يكون في إقامة حياةٍ ثقافية مستنيرة تحرِّر الإنسان من الأوهام، ومن الاستدلال الفاسد والتحامل. غير أن مثل هذه الإباحة، ومثل هذه الحرية الفكرية لم تكن معروفة حتى لأثينا الحرة الديمقراطية. وسرعان ما انقلبَت عليه العناصر الأثينية المحافظة، ونظر إليه أرستوفان الذي كرَّس جزءًا كبيرًا من حياته لحماية التراث التقليدي، على أنه رمزٌ آخر لما كان يراه حضارةً منحلة بدأَت تضرب أطنابها في أثينا. وكما سَخِر أرستوفان من التجديدات الموسيقية في شعره، فكذلك سَخِر من فلسفة سقراط في مسرحيته الساخرة «السحب»، ونظرًا إلى أن سقراط كان يتشكَّك في قدرة الآلهة، ويُجادل في فضائل الديمقراطية الأثينية، فقد اتُّهم بإفساد شباب أثينا، وحُكِم عليه بالموت.

وقد روى سقراط في الساعات الأخيرة من حياته حلمًا طاف به وهو نائم في زنزانة سجنه، وسجَّل تلميذه أفلاطون هذا الحُلم في محاورة «فيدون»:١٢ «طالما أتاني الوحي في الأحلام خلال حياتي بأن أؤلف موسيقى، وكان نفس الحلم يأتيني تارةً بصورة وتارةً بصورةٍ أخرى، ولكنه كان دائمًا يقول لي نفس الكلمات أو ما يماثلها: ارْعَ الموسيقى وألِّفها. وكنتُ أتصوَّر حتى الآن أن كل ما هو مقصود بهذا هو حثِّي وتشجيعي على دراسة الفلسفة، التي كانت هدفَ حياتي، والتي هي أسمى أنواع الموسيقى وأفضلها.» وهنا يُعرِب سقراط عن شكه في اعتقادٍ أصبح يُتخَذ مبدأً تعليميًّا بين أتباع دامون، وهو أن دراسة الموسيقى لا ينبغي أن يُنتفع منها إلا بوصفها مبحثًا رياضيًا يُعِد المرء لدراسةٍ أرفع هي الفلسفة. كذلك قال فريدرش نيتشه في كتابه «ميلاد المأساة من روح الموسيقى اليونانية». إن هذا الحلم ينطوي ضمنًا على اعتراف هو أن سقراط قد أيقن، وهو يُواجه شبح الموت، بأن للديالكتيك والمنطق والعقل، حدودها التي لا تتعدَّاها في اكتساب المعرفة، والسعي إلى تحقيق الحياة الطيبة؛ فللموسيقى قدرةٌ تفوق قدرة العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية؛ إذ إن الموسيقى تُتيح لنا الوصول إلى وحدةٍ متوافقة مع الطبيعة.

القسم الثاني: أفلاطون

هناك أوجه شبه بين كتابات الفلاسفة اليونانيين في الموسيقى وبين الآراء الموسيقية للمصريين القدماء والصينيين والعبرانيين. ومعنى ذلك أن الفلسفات الموسيقية التي قد تكون راجعةً إلى حضاراتٍ أسبق من ميلاد المسيح بحوالي ١٥٠٠ سنة قد وجدَت طريقها إلى الفكر اليوناني.

ولقد كان أفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م.) أشهرَ فيلسوفٍ غربي يرى أن الموسيقى بمعناها الكلاسيكي والحديث، ينبغي أن تُستخدَم من أجل تحقيق الأخلاق الصالحة، ولم تكن آراء أفلاطون عن مكانة الموسيقى في المجتمع المنظَّم أصيلةً تمامًا، كما أنه لم يكن أول من بحث في التأثيرات الأخلاقية للموسيقى على الشخصية والسلوك الإنساني. ومع كل ذلك، فسيظل أفلاطون شخصيةً تاريخية فذَّة ينبغي أن نتخذها نقطة بداية في كل بحثٍ للفلسفة الجمالية للموسيقى في الحضارة الغربية. ولم تكن كتاباتُه تتضمَّن مُركبًا جامعًا بين النظريات الشرقية والغربية القديمة فضلًا عن نظريات عصره فحسب، بل إن هذه الكتابات كانت تضُم في داخلها التقاليدَ الموسيقية المتَّبَعَة لدى الجيل الأثيني السابق لجيله هو.١٣
ولسنا نعلم إن كان أفلاطون قد عرف بالفعل فلسفة كونفوشيوس التي أذاع تعاليمها في الشرق؛ فقد تكون أوجه الشبه بين فلسفتَيهما في الموسيقى مجرَّد مصادفة، ولكن هناك فقرات متعددة ظهَرَت أصلًا لدى كونفوشيوس، ويكاد أفلاطون يردُّها حرفيًّا؛ ففي فقرة تتصل بالأخلاق والدين كتب كونفوشيوس يقول: «إن موسيقى «تشنج Cheng» مُنحلةٌ شهوانية، وموسيقى «سونج Sung» ناعمة تبعث في النفس الطراوة والميوعة، وموسيقى «واي Wei» سهلةٌ متكرِّرة، وموسيقى «تشي Chi» خشنةٌ تبعث في النفس روح التكبُّر. هذه الأنواع الأربعة من الموسيقى كلها حسيةٌ تُفسِد أخلاق الشعب؛ ولذا فليس من اللائق استخدامها في القرابين والتضحيات.» وفي الكتاب الثالث من الجمهورية أكَّد أفلاطون التأثيرات الأخلاقية للموسيقى بطريقةٍ مشابهة إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة،١٤ فدعا إلى استبعاد المقامَين الإيوني Ionian والليدي Lydian من الدولة؛ لأن فيهما ميوعةً وتخنثًا يبعث الانحلال في الأخلاق. أما المقامان الدور Dorian والفريجي Phrygian، اللذان يتميَّزان بروح عسكرية، فمن الواجب استبقاؤهما. وهكذا بدأ أفلاطون تشييد مذهبه في الفلسفة الجمالية للموسيقى بأن عزا إلى المقامات الموسيقية (modes) اليونانية صفاتٍ أخلاقية. وانتهى في محاورة «القوانين» إلى نتيجةٍ مشابهة لتلك التي رأيناها عند كونفوشيوس، فقال: إن «الإيقاعات والموسيقى بوجهٍ عام هي محاكاةٌ للخِلال الطيبة والسيئة في الناس.»١٥

ولقد تمسك أفلاطون بالرأي القائل إن الموسيقى ينبغي أن تكون وسيلةً من وسائل دعم الفضيلة والأخلاق. وكان يرى أن الموسيقى أرفع من الفنون الأخرى، على أساس أن تأثير الإيقاع واللحن في الروح الباطنة للإنسان وفي حياته الانفعالية أقوى من تأثير العمارة أو التصوير أو النحت. وهكذا فإن الطفل الذي يستمع إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه، دون أن يشعُر، عاداتٌ وقدراتٌ مرهفة تُتيح له تميزًا للخير من الشر. وبعد أن تُشكِّل الموسيقى شخصية الطفل، وتجعلَه مستقرًّا في انفعالاته، تكشفُ له دراسة الفلسفة، عن وعي كامل، أسمى أنواع المعرفة.

ولقد كان للموسيقى والرياضة البدنية دَورٌ حيوي في خطة التعليم عند أفلاطون. وكان في رأيه أن الموسيقى ينبغي ألا تتبع الرياضة البدنية، بل إن الواجب — على عكس ذلك — هو أن تسبق الموسيقى الرياضة البدنية وتتحكَّم فيها؛ لأن الجسم لا يهذِّب الروح، وإنما الروح هي التي تشكِّل الجسم. وفضلًا عن ذلك فإن الرياضة البدنية قد تصبح خشنة وتؤدي إلى غلظة الطبع، ومن هنا كان من الواجب تخفيفها وتهدئتها بالموسيقى. ومن جهةٍ أخرى فإن الموسيقى دون الرياضة البدنية قد تبعَث التخنُّث في نفس متذوِّق الفن؛ لذلك فإن المزج بين الموسيقى والرياضة البدنية باعتدالٍ يؤدي إلى تكوين شابٍّ أثيني متَّزن متناسق الطباع.

ولقد حدثَت خلال حياة أفلاطون تجديداتٌ موسيقية متعددة لم يهضمها أفلاطون ولم يحتملها، وإنما كان يتقبل فقط تلك الطريقة التقليدية، التي يُكتب فيها شعرٌ غنائي يُتلى أو يُغنَّى بمصاحبة الموسيقى. والواقع أن الشعر والموسيقى «ذلك الزوج الإلهي من الأصوات الساحرة» أخوان لا ينفصلان في الحياة الثقافية اليونانية، وكان لفظ «الموسيقى» يدل على الشعر واللحن معًا. ولقد كان أفلاطون يرى أحدهما أهم من الآخر، فذهب إلى أنه لما كانت اللغة هي التعبير المباشر عن العقل، فلا بد أن يكون للكلمة أو البيت الشعري مكانةٌ أرفع من اللحن؛ ذلك لأن النص الشعري نتاج العقل، أما اللحن فيؤدي إلى لذة الحواس فحسب، ومن هنا كانت له مكانةٌ أدنى.

ولم يكن لدى اليونانيين نظامٌ توافقي «هارموني» كما نعرفه اليوم، وإنما كان اللحن متوقفًا تمامًا على النص وتابعًا له. وكانت الموسيقى اليونانية مبنيةً بحيث تُوضع نغمةٌ لكل مقطع، وكان من الشائع تقسيم المقاطع إلى «طويل» و«قصير» بحيث يساوي المقطع الطويل مقطعَين قصيرَين. وفي الوقت الذي بدأ فيه أفلاطون الكتابة، كان هناك اتجاهٌ متزايد القوة إلى استخدام الشعر مجرَّد نص للموسيقى، وتشويه الكلمات بحيث تلائم الموسيقى، وكان هذا الاتجاه يثير الاحتجاج بالفعل.١٦ وكان صوت أفلاطون هو أعلى الأصوات احتجاجًا، ولكنه لم يكن منفردًا في رأيه هذا.
وقد احتفظ أفلاطون بالرأي اليوناني التقليدي القائل بعدم وجوب الفصل بين الكلمات واللحن. ومن الطبيعي أن ينظر الشاعر المغني اليوناني الذي يلتزم التراث الكلاسيكي بدقة، إلى أي تميُّز كهذا على أنه تميُّزٌ أكاديمي بحت؛ إذ إن الشاعر والموسيقي كانا واحدًا، يؤلِّف أنشودته ويعزفها بوصفها أسطورةً أو روايةً شعرية ذات إيقاع موسيقي. ولما كان أفلاطون قد أكَّد أن النص الكلامي أرفع مرتبة؛ لأنه أخضع القالب الموسيقي للشعر، فإنه كان أكثر من غيره استياءً من أولئك الموسيقيين الثوريين الذين كانوا في أيامه يؤلِّفون موسيقى دون كلمات لغرض سماع أصواتٍ تبعث اللذة في الأذن فحسب؛ ولذا كتب يقول: عندما لا تكون هناك كلمات، فمن الصعب جدًّا إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يُحاكيان أي شيءٍ ذي قيمة.١٧
ولقد انتقد أفلاطون التحديد الموسيقى نقدًا لاذعًا، وعلى الرغم من أنه كان هو ذاتُه فنَّانًا خلَّاقًا، فقد ظل على الدوام متعصبًا في إبداء سخطه على الفنَّان الضال الذي تتبدَّى سَوْراتُه القلقة على الدوام في صورة أشكالٍ فنية متغيرة. وكان أفلاطون يخشى من أن يؤدي التحرُّر المفرط في الفن إلى انتشار فوضى في الدولة، وعلى أساس اعتقاده هذا قال في الكتاب الرابع من «الجمهورية»: ينبغي أن يحرص حكامنا على أن تظل الموسيقى والرياضة البدنية على صورتها الأصلية، دون إدخال تجديداتٍ عليها، وعلى هؤلاء الحكام أن يبذلوا كل ما في وسعهم للاحتفاظ بهما سليمَين، فإذا ما قال الشاعر إن البشر متعقِّلون إلى أبعد حد ﺑ «أحدث ما لدى المُغنِّين من أغانٍ»، فإن هؤلاء الحُكَّام يخشَون من أن مدحه قد لا يكون موجَّهًا إلى أغانٍ جديدة، وإنما إلى نوع جديد من الغناء، وهذا ما لا ينبغي امتداحه، أو تفسيره على أنه المعنى الذي قصده الشاعر؛ إذ إن أي تجديد في الموسيقى يجلب أخطارًا شديدة على الدولة كلها وينبغي نظره، هذا ما قال به دامون Damon، وما أومن به بدَوري، من أن المرء في الأصل لا يستطيع تغيير أساليب الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسًا على عقِب.١٨

ولقد كانت محاربة التجديد، على أسسٍ فلسفية ودينية، شائعة في الشرق بقَدْر ما كانت شائعة في الغرب؛ فقد روى فيثاغورس أن كبار كهنة فرعون كانوا يحتجُّون بشدة على تجديدات أساطين العزف، وكان من رأيهم أن التغيير الفني مُصطنَع، وأنه بالتالي خطرٌ على الحياة الروحية والمادية للأمة.

كذلك روى هيرودوت أن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلًا مقدَّسًا؛ ولهذا السبب لم يكونوا يسمحون بأية تجديدات أو يقبلون أنغامًا أجنبية في طقوسهم الدينية. وقد توسع أفلاطون في هذه الفكرة في محاورة «القوانين»،١٩ فأضاف أن المصريين قد نسبوا ألحانهم المقدَّسة إلى الربة إيزيس، ثم انتقل إلى امتداح قدرة المصريين على خلق ألحانٍ يمكنها قهر الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح. والمعنى الكامن في أقواله هذه هو أن الألحان الوحيدة الجديرة بالتقدير هي المقامات والأنغام الموسيقية المحدَّدة بدقة، على نحوٍ من شأنه أن يجعل لها تأثيرًا عاطفيًّا بفضل بساطتها المباشرة.
وكان من رأى أفلاطون أن البساطة الموسيقية لا تتعارض مع القانون الطبيعي؛ فإشاراته المتعددة إلى الموسيقى تتضمن الاعتقاد بأن في وسع الموسيقى أن تُتيح للمرء بعث التوافق بين نفسه المتناهية، والنفس اللامتناهية، وذلك عن طريق المزج الرقيق بين أفكاره وأفعاله وبين الأجرام السماوية التي يتم بينها انسجام الأفلاك. أما التخليط الصوتي الصخب فلم يكن، في رأي أفلاطون، غريبًا عن الثقافة اليونانية فحسب،٢٠ بل هو يؤدي إلى التضارب بين النفس البشرية وبين النظام المثالي للأشياء.
ولقد كان أفلاطون يعتقد بأن القوى التي تمارسها الموسيقى على الانفعالات البشرية قُوًى غير مأمونة، شبَّهها بقوة السحر. وكان ينظر إلى المزامير الموسيقية (التي تُسمَّى عادةً بالناي flutes في الترجمات الإنجليزية) على أنها ذاتُ قدرةٍ خاصة على الغواية، وكتب يقول إن الآلات المتعددة الأوتار التي أصبحَت من البدع المنتشرة حينئذٍ تبعث الاضطراب في نفوس السامعين، وكان يعتقد أن الليرا (Lyre) التقليدي والصنج harp ومزمار الرعاة هي الآلات المأمونة أخلاقيًّا، ولا سيما في تعليم الصغار.
ومن الواجب في نظر أفلاطون أن تكون المعزوفات والمؤلَّفات الموسيقية معًا ذات طبيعةٍ بسيطة؛ ذلك لأنه كان يخشى أن تؤدي الاتجاهات الناعمة في الموسيقى إلى تخدير أعصاب المواطنين العاديين، مما يترك أثينا تحت رحمة أعدائها. كذلك خالف الموسيقيين في استخدامهم للإيقاعات المعقَّدة والقوالب الموسيقية المختلطة. وإذا كان تيموثيوس Timotheus (حوالي ٤٤٦–٣٥٧ق.م.) وهو واحدٌ من مشاهير المجدِّدين في عصر أفلاطون، قد زاد أوتار الليرا إلى أحدَ عشر أو اثنَي عشر، فإن هذه الزيادة في ذاتها كانت تُشكِّل خطرًا ممكنًا على الدولة القائمة. ومن جهةٍ أخرى فقد كان أفلاطون معجبًا بفلسفة الموسيقى السائدة في إسبرطة، وهي الفلسفة التي كانت تحظر أي خروج عن القواعد القديمة للموسيقى.٢١ فيما يلي بعض أمثلة الحظر التي رواها بلوتارك عن إسبرطة: «ولقد كانوا يحترمون موسيقاهم القديمة، في جدِّيتها وبساطتها، إلى حد أنهم لم يسمحوا بأي انحرافٍ من القواعد السائدة ومقاييسها، حتى إن مجلس القضاء الأعلى Ephori أوقع، بناءً على شكاوى تلقَّاها، عقوبةً شديدة على ترباندر Terpander (وهو موسيقارٌ ذائع الشهرة والصيت، عُرِف بمهارته الفائقة، وبراعته في العزف على الصنج، كان يُبدي للتراث القديم أعظم التبجيل، بحيث شَهدَت مدائحه بما كان يحمله من احترام للأفعال البطولية الفاضلة) فحَرَمه من صنجه، وزاد من قسوة العقوبة بأن عَرَض الصنج على الجماهير لتصُب عليها غضبها، فعلقها بمسمارٍ أمامهم، كل ذلك لأنه أضاف إلى الآلة الموسيقية وترًا واحدًا يزيد على العدد المعتاد المقرَّر، مع أنه لم يكن له نفعٌ أو غرضٌ في ذلك إلا تنويع الصوت، وجعله أنفع وأمتع. ولقد كانت أفضل الموسيقى عندهم هي أكثرها جدية وبساطة، وأقربها إلى الطبيعة. ومن أجل هذا السبب ذاته استلَّ أحد هؤلاء القضاة سكينًا قطع به أوتار صنج تيوثيوس؛ لأنه تجاوز عدد السبعة بها، أثناء دخوله في مسابقة في «الأعياد الكرنية Carnean» التي كان يحتفل بها تمجيدًا لأبولو. وهكذا بلغ من شدة تشبُّثهم بعاداتهم وأساليبهم القديمة أنهم لم يكونوا يتحمَّلون أبسط تجديد، حتى ولو كان ذلك في أمورٍ تافهة أو ضئيلة الأهمية؛ خشية أن يؤدِّيَ الإسرافُ في شيء إلى الإسراف في شيءٍ آخر، حتى ينتهي الأمر بعد تغيُّرات متدرِّجة غير ملموسة، إلى تجاهلِ مجموع تشريعاتهم واحتقارها، مما يُضعِف الدعامة الرئيسية التي يرتكز عليها بناء حكومتهم، ويؤدِّي إلى تقويضها.»٢٢
ولقد تمثَّلَت في تيموثيوس الرغبة المُلِحَّة القلقة للفنان الخالق في التغيُّر. وعَمِل الشعراء الموسيقيون على التعبير عن مشاعرهم بأساليبَ ووسائطَ جديدة، تحدَّوا بها القوالب التقليدية. وقد روى تيموثيوس أنه قال: «لستُ أتغنى بالماضي.» ثم أعقب ذلك قوله: «في التجديد القوة … إلى الجحيم يا ربَّة الفن العجوز.» ومضى التمرُّد في الفنون حثيثًا، ولكن أرستوفان تصدَّى للتحدي الموجَّه إلى أنصار التقاليد، وقاد حملةً ضد الاتجاه الجديد في الموسيقى، ثم سار في أعقابه معاصره فركراتيس Pherekrates (القرن الخامس ق.م.) غير أن المجدِّدين في ذلك العصر ظلوا يغيِّرون في الموسيقى والآلات، ملتمسين سُبلًا جديدة للتعبير. وقد أزعج هذا الاتجاه أفلاطون، وهو يرى الألحان والأنماط الإيقاعية التقليدية تلقى من الجمهور إعراضًا متزايدًا، بعد أن كانت هي المميِّزة للفن الهليني.

وظهَرَت أساليبُ جديدة أكثر تزويقًا أصبحَت هي محط الأنظار في عصره، ولو كان لنا أن نقبل شهادة بلوتارك لقلنا إن الموسيقى في عصر أفلاطون كانت تجيشُ بالعواطف.

ولقد كان لفظ «الموسيقى» يدل عند اليونانيين على مفهومٍ مزدوج؛ فهو من جهةٍ يشمل جزءًا من المناهج التعليمية كالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر. ومن جهةٍ أخرى كان يُستخدَم بالطريقة التي نستخدمه بها، فيدُل على الموسيقى بمعناها الدقيق. ولقد كانت الموسيقى بالمعنى الأخير وثيقة الارتباط بالقراءة والكتابة والرياضيات والرسم والشعر، إلى حد أن أي تغيير في الموسيقى كان يُراقَب بحذَرٍ شديد؛ إذ إنه سيؤثِّر بالتالي في البرنامج التعليمي الكامل للشباب الأثيني.

وأهم ما في فلسفة أفلاطون في الموسيقى هو أن الموسيقى، من حيث هي مبحثٌ تعليمي وثقافي، ينبغي أن تُستخدَم في تحقيق أخلاقٍ فاضلة. وقد عَرَض أفلاطون في محاورة «طيماوس» مذهبًا أنطولوجيًّا يتصوَّر العالم على أنه من خَلقِ عناصرَ هندسية. وفي خلال عملية إرجاع الطبيعة إلى أنموذج صوفي من العلاقات العدَدية، أعرب عن الرأي القائل إن الموسيقى قد وُهِبَت للإنسان؛ لكي تجعله يحيا حياةً منسجمة حكيمة،٢٣ وهكذا أصبحَت للموسيقى وظيفةٌ غائيَّة تساعد على بلوغ الأخلاق الفاضلة.
ويمكننا أن نعرف بدقةٍ كُنهَ هذه التأثيرات الأخلاقية إذا رجعنا إلى مصادرَ كتلك الفقرات التي أعرب فيها أفلاطون، في محاورة «الجمهورية»، عن اقتناعه بأن من الواجب إبعاد المقامَين الأيوني والليدي من الدولة؛ لأن لهما طابعًا ناعمًا متراخيًا، أما المقامان الدوري والفريجي بما لهما من طابع عسكري، فيجب إبقاؤهما. وبعد أن وضع أفلاطون أساسًا أخلاقيًّا للمقامات اليونانية، انتقل إلى تحليل خصائصها؛ أي الإيقاع واللحن، ثم تساءل في محاورة «القوانين» إن كان الإيقاع واللحن في ذاتهما «يحاكيان الخلال الطيبة والسيئة في الناس»، وبعد أن أصبحت آراؤه الموسيقية مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالمبادئ الأخلاقية، طبَّقها بطريقةٍ عمليةٍ دقيقة في جملتها على نوع بدائي من «البوليفونية» كان قد بدأ يذيع في أيامه، فوصفه بأنه تخليطٌ نغمي، لا يمكن أن يُسفِر عنه إلا الاضطراب الذهني، ثم نصح الشاعر المغني اليوناني بأن يؤلِّف أنشودته الموسيقية، بحيث يمكن أداؤها «نغمةً نغمة» لا بواسطة «مجموعة معقَّدة ومتنوِّعة من الأنغام» كما يحدُث «عندما تعطينا الأوتار صوتًا والشاعر أو واضع اللحن صوتًا آخر». وهكذا قال أفلاطون محذِّرًا: إن «التوافق والانسجام الذي تتجمع فيه مسافاتٌ قصيرة وطويلة، وأنغامٌ بطيئة وسريعة، أو مرتفعةٌ ومنخفضة»، وكذلك التنوُّعات المعقَّدة عندما تكيَّف مع أنغام الليرا، تؤدِّي قطعًا إلى إثارة صعوبات «إذ إن المبادئ المُتعارِضة تبعث الاضطراب»،٢٤ والنتيجة التي تنبني على ذلك هي أن تنوُّع الإيقاع واللحن وتعقيدها أمرٌ ينبغي تجنُّبه؛ لأنه يبعث الانقباض والاضطراب في الذهن مما قد يُبعِد الناس عن المجرى الطبيعي للأشياء، وينقلهم إلى عالم اللامعقولية والخبل.

وهكذا رأى أفلاطون أن الأنماط والأنغام الموسيقية المحدَّدة بدقة، والتي تؤثر عاطفيًّا بفضل بساطتها المباشرة، هي وحدها المفيدة، وفي وسع النوع الصحيح من الموسيقى أن يساعد الإنسان على أن يوائم بين نفسه المتناهية وبين اللامتناهي.

«… فالإيقاع والانسجام يجدان طريقهما إلى الأغوار الباطنة للنفس؛ حيث يستقرَّان راسخَين»،٢٥ أما التخليط الصوتي الصاخب فقد يجعل النفس البشرية تتضارب مع النظام المثالي للأشياء. وعلى ذلك فمن الواجب نبذُ الشعراء المغنِّين الذين يضعون موسيقى غيرَ ملائمة للنظام الطبيعي من صفوف المجتمع؛ إذ إنهم يحطِّمون النفوس، ويعجِّلون بهلاك المجتمع.

القسم الثالث: أرسطو

اقتبس أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) جزءًا كبيرًا من فلسفته من أفلاطون؛ فقد اتفق مع أستاذه على أن الموسيقى فنٌّ مقلد، صِيغ على أنموذج الانسجام الكوني. كذلك نظر أرسطو إلى الموسيقى، كما نظر إليها اليونانيون عامة، على أنها أكثر الفنون تقليدًا للشخصية وتمثيلًا لها؛ إذ إنها صورةٌ مباشرة للشخصية أو نسخةٌ منها. «إن الإيقاع واللحن يُهيِّئان محاكاةً للغضب والرقة، وكذلك الشجاعة والاعتدال، وكل الصفات المضادَّة لهذه وغيرها من صفات الشخصية، وهذه المحاكاة لا تكاد تفترق عن الانفعالات الأصلية إلا قليلًا، كما نعلم من تجربتنا الخاصة؛ إذ إن سماعنا لهذه يُحدِث في نفوسنا تغيُّرات. وليست عادة الشعور باللذة أو الألم إزاء التمثُّلات المجردة بمختلفة كثيرًا عن نفس هذا الشعور إزاء الأشياء الواقعية.»٢٦ وإذن ففي الإيقاع واللحن نجد محاكاةً شديدة الواقعية للغضب والهدوء، فضلًا عن الشجاعة والاعتدال وأضداد هذه الصفات؛ أي إن المحاكاة الموسيقية لا تقتصر على الأحوال الشعورية فحسب، بل تشمل الصفات الأخلاقية والاستعدادات الذهنية أيضًا؛ فالموسيقى التي يضعها شخصٌ ما، تُشكِّل شخصية المستمع في اتجاه الخير أو الشر. والموسيقى انعكاسٌ لصانعها، والأمر في ذلك لا يقتصر على كون شخصية المرء تُصوَّر فيما يخلقه، بل إن من تصل موسيقاه إلى أسماعهم يتأثَّرون إلى حدٍّ بعيد.
كذلك ربما كان أرسطو متأثرًا بأفلاطون عندما وضع النظرية القائلة إن المأساة «التراجيديا» ينبغي أن تتضمَّن أفعالًا تُثير الشفقة والخوف، حتى تتم عملية «التطهير Kathaarsis» الانفعالي،٢٧ فلا شك أن أرسطو كان يعرف ذلك النص الذي لاحظ فيه أفلاطون في محاورة «القوانين» أن الحركة مفيدةٌ للنفس والجسم معًا؛ لأن الإيقاع يُهدِّئ الخوف ويُعيد التوازن النفسي؛ فقد قال أفلاطون: «إن انفعال الراقصات في أعياد الخمر، كذلك الأطفال، هو انفعالُ خوف، ينشأ عن عادةٍ سيئة للنفس. وعندما يبعث أحدٌ مثيرًا خارجيًّا في هذا النوع من الانفعالات، فإن الحركة الآتية من الخارج تغلبُ على الحركة الداخلية الفظيعة العنيفة، وتُحدِث طمأنينةً وهدوءًا في النفس وتُهدِّئ النبضات المضطربة للقلب، وهو أمرٌ مرغوبٌ فيه إلى حدٍّ بعيد؛ إذ يجعل النعاس يدبُّ في أجفان الطفل، ويجعل الراقصات، مع بقائهن أيقاظًا، يرقُصن على المزمار بمعونة الآلهة التي يقدِّمن إليها قرابينَ مقبولة، ويبعث فيهن حالةً ذهنية متزنة تحل محل التشنُّجات.»٢٨
ولقد أنبأنا أرسطوكسينوس Aristoxenus، تلميذ أرسطو، أن استخدام طريقة «التطهير» قد ظهر في الأصل لدى الفيثاغوريين، ولكن الواقع أن عادة استخدام الموسيقى في علاج المُختلِّين عقليًّا ليست يونانية الأصل، وإنما اتُّبِعَت في الصين ومصر قبل أن يستخدمها الكهنة اليونانيون. وأغلب الظن أن أرسطو قد وسَّع هذه النظرية بعد أن لاحظ ما لبعض أنواع الموسيقى من تأثيرٍ في إحداث حالةٍ نفسية أو نشوةٍ دينية أو «أحوال» كما كان يُسمِّيها اليونانيون «وهو أمرٌ نادرًا ما يُشاهَد في هذا البلد، ولكن مَقَره الأصلي في الشرق». ولقد كان أولئك الذين يمُرُّون بنوباتٍ من الاختلال العقلي يُعَدون «مجذوبين» بالآلهة، فكان الكهنة يتولَّون معالجتهم. وكان الدواء من نفس نوع الداء؛ بمعنى أن أساسه هو تقديم موسيقى متشنِّجة لعلاج العقول المتشنِّجة؛ فالحركة الإيقاعية للنغم الموسيقي القلِق العنيف، يمكِن أن تؤثِّر في سامعها المُعتَل على نحوٍ يكفُل إعادة التوازن له. وفي الأدب اليوناني إشاراتٌ إلى حالاتٍ كان كهنة باخوس يجمعون فيها النساءَ ذواتِ العقول المختلة المضطربة، ويقتادونهن إلى المعبد للعلاج، وهناك يعزف الكهنة موسيقى المزامير الصاخبة التي تدفع النساء إلى الرقص، وكلما ازدادت الموسيقى عنفًا ازداد الرقص تشنُّجًا، وعندما تخور قوى النساء يسقطن على الأرض في غيبوبة، وعندما يستيقظن تكون حالات الاختلال العقلي قد زالت، وتُشفى النساء شفاءً مؤقتًا أو نهائيًّا.٢٩
كذلك ردَّد أرسطو آراء أفلاطون بشأن الطابع الأخلاقي للموسيقى؛ فقد كتب في «السياسة» يقول: «إن الألحان الخالصة هي بدَورها محاكاةٌ للخلق؛ ذلك لأن المقامات الموسيقية تختلف تمامًا الواحد عن الآخر، كما أن تأثيرها في سامعيها يختلف؛ فبعضها يجعل الناس في حزنٍ وهم، كالمقام المُسمَّى بالليدي المختلط، وبعضها الآخر يُضعِف الذهن، كالمقامات الرقيقة الناعمة، وغيرها يُحدِث مزاجًا معتدلًا مستقرًّا، وهو التأثير الذي يبدو أن المقام «الدوري» يتميَّز به، أما الفريجي فيوحي بالحماسة … ومثل هذه المبادئ تنطبق على الإيقاعات؛ فبعضها له صفة السكون، وغيرها له صفة الحركة، ومن هذه الأخيرة ما يبعث حركةً سوقية، ومنها ما يبعث حركةً نبيلة … فللموسيقى القدرة على تكوين الشخصية، ومن هنا كان من الواجب إدخالها في تعليم الصغار … ويبدو أن فينا نوعًا من التعاطُف مع المقامات والإيقاعات الموسيقية، وهذا ما حدا ببعض الفلاسفة إلى القول إن النفس توافُق، وغيرهم إلى القول بأنها تتصف بالتوافق.»٣٠
غير أن أرسطو اختلف مع أفلاطون في استبعاد هذا الأخير للمزامير، فكتب يقول: «إن سقراط «الجمهورية» مُخطِئ في اقتصاره على الاحتفاظ بالمقام الفريجي مع الدوري، لا سيما وهو يرفض استخدام الناي؛ ذلك لأن الفريجي بالنسبة إلى المقامات الأخرى بمثابة الناي بالنسبة إلى الآلات الموسيقية الأخرى كلَيهما عاطفيٌّ مثير. وهذا أمرٌ يُثبِته الشعر؛ إذ إن الناي أقدرُ الآلات على التعبير عن الثورة التي تتمثَّل في رقصات باخوس، وغيرها من الانفعالات المماثلة، كما أن المقام الفريجي هو أصلحُ المقامات الموسيقية للتعبير عنها.٣١
وأضاف أرسطو مواصلًا بحثه للمقامات الموسيقية: «إن الناس جميعًا متفقون على أن الموسيقى «الدورية» أكثر الأنواع جديةً ورجولة. ولمَّا كنا نقول بوجوب تجنُّب التطرُّف واتِّباع الوسط، ولمَّا كان المقام الدوري وسطًا بين المقامات الأخرى، فمن الواضح أن شبابنا يجب أن يُعلَّموا الموسيقى الدورية.»٣٢ وعلى هذا النحو صاغ أرسطو مذهبًا أخلاقيًّا مبنيًّا على فكرة الوسط العدل.
وقد وجدَت النصيحة الحكيمة التي وجَّهَها أفلاطون إلى حُراس الدولة بشأن التعليم الموسيقي في «الجمهورية»؛ وجدَت هذه النصيحة طريقها إلى كتاب «السياسة» لأرسطو، ولكن بصورةٍ معدَّلة إلى حدٍّ ما؛ فقد أكد أرسطو منذ البداية أن أولئك الذين يحكُمون على الموسيقى ينبغي أولًا أن يكونوا عازفين أو مغنِّين لهم حظٌّ غير قليل من الدراية؛ فليس في وسع أحد أن يفهم الموسيقى أولًا، ثم يقدِّرها ثانيًا لكي يُصدِر حكمًا معقولًا على قيمتها، إلا من توافَرَت لديه معرفةٌ بمختلف الأساليب والإيقاعات والألحان، وقدرةٌ على التذوُّق الفني للموسيقى التي تُعزَف؛ وعلى ذلك فلا بد من تثقيف الشاب الأثيني موسيقيًّا، إذ شاء أن يصبح مواطنًا مستنيرًا، لكن ما مقدار التعليم الموسيقي الذي يتعيَّن على الشاب أن يتلقاه؟ في هذه الحالة أيضًا حدَّد أرسطو المطلوب على أساس فكرة الوسط العدل «إن دارسي الموسيقى يبلغون القَدْر المطلوب إذا ما توقفوا في تعليمهم قبل المرحلة التي يمكِنهم فيها إجادة فنون العزف التي تُمارَس في مسابقات المحترفين، ولم يسعوا إلى اكتساب تلك المهارات العجيبة في العزف، التي تشيع اليوم في هذه المسابقات، ومنها انتقلَت إلى ميدان التعليم.»٣٣ فعندما يكون الطالب قد اكتسب معرفةً معقولة بالموسيقى، وأصبح قادرًا على عزف الآلات، ينبغي أن يُقال له إن الإقبال المُفرِط على الموسيقى لأجل الترويح عن النفس قد يؤدِّي إلى الابتذال، ولكن من الممكن أن نَفِيَ بشروط الوسط العدل إذا «مارس الشبَّان ذلك النوع الذي حدَّدناه من الموسيقى، على ألا يتجاوزا الحد الذي يمكِنهم فيه أن يشعُروا بالطرب للألحان والإيقاعات الرفيعة، وليس فقط لذلك النوع الشائع من الموسيقى، الذي يطرب له كل عبدٍ أو طفل، وربما بعض الحيوانات.»٣٤ فما هي الآلات التي تُستخدَم في تعليم الشباب؟ «إن النايَ أو أيةَ آلةٍ أخرى تقتضي مهارةً فائقة كالليرا ينبغي ألا يُسمَح بها في التعليم … وفضلًا عن ذلك فليس الناي بالآلة التي تعبِّر عن الصفات الأخلاقية، وإنما هو مثيرٌ أكثر مما ينبغي. والوقت المناسب لاستخدامه هو ذلك الذي لا يكون العزف فيه هادفًا إلى التعليم، وإنما إلى التخفيف من الانفعالات. وثمَّة اعتراضٌ آخرُ هو أن حيلولة الناس دون استخدام الصوت البشري يقلِّل من قيمته التعليمية.»٣٥ «وهكذا فإننا نرفض آلات المحترفين والأسلوب الاحترافي في تعليم الموسيقى (وأنا أعني بالاحترافي ما يُتَّبع في المسابقات)؛ إذ إن العازف لا يمارس فنه في هذه الحالة من أجل العلو بنفسه، وإنما لكي يبعث في نفوس سامعيه لذةً من نوع مُبتذَل؛ ولهذا السبب لم يكن أداء هذه الموسيقى من مهام الأحرار، وإنما هو عمل عازفٍ أجير، والنتيجة هي أن يكون العازفون مبتذَلين؛ إذ إن الغاية التي يستهدفونها سيئة، كما أن ابتذال المتفرِّج يؤدي إلى هبوط مستوى الموسيقى، وبالتالي مستوى العازفين؛ فهم يتطلعون إليه، وهو يجعلهم على ما هم عليه، ويتحكَّم حتى في تشكيل أجسامهم بالحركات التي يتوقَّع مهم القيام بها.»٣٦
وعندما وبَّخ فيليب المقدوني ابنه الإسكندر قائلًا: «ألا تخجل من براعتك هذه في اللعب بالأوتار؟» كان في الواقع يعبِّر عن فلسفة الموسيقى التي حاول أرسطو بوصفه أستاذًا للإسكندر في صباه، أن يبُثَّها في نفس تلميذه. وقد روى بلوتارك هذه القصة مشيرًا إلى أنتيسثينيس٣٧  Antisthenes الكلبي الذي قال: «عندما سمع أن إسمنياس Ismenias عازفٌ بارع على المزمار، قال: ولكنه إنسانٌ حقير، وإلا لما كان عازفًا بارعًا إلى هذا الحد.» وهكذا قال فيليب ذات مرة لابنه الذي كانت أنامله تعزف على الأوتار عزفًا ساحرًا بارعًا بعد أن تدور كئوس الخمر: «ألا تخجل من براعتك هذه في اللعب بالأوتار؟» فحسبُ الملك بلا شك أن يكون لديه من الفراغ ما يُتيحُ له سماع الآخرين وهم يعزفون، وهو قطعًا يُبدي تنازلًا كبيرًا لربَّات النغم لو كان مجرد متفرِّج على مثل هذه المسابقات.٣٨
كذلك كان قلق أرسطو على حالة الموسيقى في عصره يرجع إلى أصلٍ أفلاطوني؛ ففي محاورة «بروتاجوراس» أشار أفلاطون إلى مرحلة في الموسيقى اليونانية بدأَت ملامحها تتحدَّد في القرن السابق له، وأخذَت تكتسب شهرةً واسعة بين الجماهير في جيله؛ فقد كان الموسيقيون المحترفون الذين يعزفون في المسابقات، في نظر أفلاطون، علاماتٍ على تدهورٍ بطيء، ولكنه مؤكَّد، للحضارة اليونانية، وقد اعترض أفلاطون على الاهتمام بالتعبير الذاتي، والقوالب الحرة، والألحان المنمَّقة، والبدع الإيقاعية، والألحان الكروماتية Chromatic، وقد ظهر الموسيقار المحترف في اليونان خلال القرن الخامس، وذلك في أشخاص تيموثيوس Timotheus وإريبيدس Euripides (٤٨٠–٤٠٦ق.م.) وفرونيس Phrynis (القرن الخامس ق.م.) وهو مجدِّدٌ ثالث مزج الهكساميتر Hexameter بالشعر الغنائي الحر، وجعل صوت الليرا يُشبِه صوت البوق «كان ذلك عصرًا يعيِّر فيه الموسيقيون الأساليبَ والآلاتِ حسب أهوائهم، فيُجرِّبون إيقاعاتٍ وأساليبَ جديدة في العزف لزيادة القدرة التعبيرية للموسيقى. كما كان عهدًا اتصف بالذاتية إلى حدٍّ دفع أفلاطون وأرسطو إلى التحسُّر على التراث اليوناني الذي كان بسبيل الاندثار في المجال الفني.»
وقد دعم بلوتارك آراء أفلاطون وأرسطو؛ إذ أشار إلى أنه قبل أيام فرونيس Phrynis والاتجاه الذاتي «لم يكن يُسمَح للموسيقيين، ما يُسمَح لهم الآن بإدخال تعديلات على اللحن أو الإيقاع كما يشاءون، وإنما كان عليهم أن يلتزموا، دون تغيير، الأناشيد الشائعة بينهم، حسب الارتفاع الصوتي والوزن الإيقاعي المناسب.»٣٩ كذلك قدم بلوتارك تأييدًا آخر لرأيه القائل إن تجديدات تيموثيوس وفرونيس عند نهاية القرن الخامس وأوائل القرن الرابع ق.م. قضَت على البساطة الوقور التي كانت تتميَّز بها الموسيقى القديمة، فاقتبس من الروايات الهَزْلية لفركراتيس Pherekrates وأرستوفان نصوصًا؛ منها فِقرة لروايةٍ هزلية لفركراتيس صُوِّرَت فيها الموسيقى على أنها شخصيةٌ نسائية مثخنة بالجراح، تشكو أمام العدالة من أن:
«فرونيس قد شوَّه صورتي،
كما تفعل عاصفةٌ عاتية ودوَّامةٌ ثائرة،
واستخلَص بحيلةٍ شيطانية
اثنَي عشر توافقًا صوتيًّا من أوتاري الخمسة البسيطة،
ولكن يا سيدتي الغالية، أتودِّين أن تعرفي الحقيقة،
عمَّن سبَّب لي أقسى الجرح، وألحق بي أفظع الآلام؟
إنه تيموثيوس الذي طردَني من الأرض كلها.
لقد كان هو ألَد أعدائي؛
ففي وسعكم أن تَرَوا آثار قسوته الوحشية
عالقة بي؛ إذ كنتُ أتجوَّل ذات مرةٍ وحيدة،
فقابلَني في طريقي المنعزل،
وهاجمَني بقسوة، فخارت قُواي، وانهارت شجاعتي،
وقيَّدَني بأوتاره الاثنَى عشر، فظَللتُ أسيرَه بلا حَراك.»٤٠
ثم اقتبس بلوتارك نصًّا من أرستوفان، الذي هاجم أوريبيدس، ومن يُنادون بآراءٍ مماثلة لآرائه، على أساس أنهم أصحاب فلسفةٍ منحلة في الفن، ترجع جذورُها إلى الحرية الفوضوية السائدة في عصر بركليس. وقد ورد ذكر فليوكسينوس عند أرستوفان، الشاعر الهَزْلي الذي تعرف منه أنه كان أوَّل من أدخل الأغاني في المجموعات السيكلية Cyclian. وقد صوَّر الموسيقى على أنها تُقدِّم شكواها على النحو الآتي:
«لقد دفعَني، رغمًا عني، إلى أن أبدو
في صورة السكِّير وسيمائه،
وجعلَني أنطق أصواتًا غريبة فاجرة،
لا يعرفها السُّلم المتوافق، وإنما تتجاوز حدودَه بكثير،
وليس لها من هدفٍ واحدٍ مفيد،
بل تُخالِف جميع قواعد الانسجام.
وهكذا أخضَعَني لإرادته،
وهاجمَني، وشوَّهَني، وحمَّلَني كل الشرور،
أما أنا، فقد ضعُفَت مقاومتي، واضطُرِرتُ إلى الرضوخ،
كما يميل الغصن الليِّن في كل اتجاه.»٤١
أما آراء أرسطو في الانسجام وعلم الصوت، فكان يدين بها للفيثاغوريين؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يرَوْن أنه كلما كانت النسبة بين الجزأَين اللذَين ينقسم إليهما وترٌ متذبذب أبسط، كان توافق الصوتَين أكمل. وقد علَّق أرسطو على ذلك قائلًا: إن هذا المبدأ يستخدمه الصُّنَّاع بدورهم في صُنعهم للمزامير «ففي المزمار يحصلون على توافق بين القرار والجواب (الأوكتاف) عن طريق مضاعفة الطول. وهذه هي الطريقة التي يلجأ إليها صُنَّاع الناي. وبالمثل يحصُلون على الصوت الخامس بواسطة طول نسبته ٣ إلى ٢ … وعلى الصوت الرابع بطول نسبته ٣ إلى ٤»٤٢ كذلك لاحظ أرسطو أن الصوت الأحَدَّ يسبِّب صدماتٍ أكثر في الهواء؛ لأن حركته أسرع،٤٣ ولمَّا كان أرسطو يتفق مع الفيثاغوريين وأفلاطون على أن التناسُب انتظام، وأنه يؤدي بطبيعته إلى إمتاعنا، فقد استنتَج من ذلك «أننا نستمتع بمختلف أنواع الأغاني نظرًا إلى ما فيها من طابعٍ أخلاقي، أما الإيقاع فنستمتع به لأن له ترتيبًا عدديًّا واضحًا ومنظمًا، ولأننا ننساق معه بطريقةٍ منظمة؛ ذلك لأن الحركة المنظَّمة بطبيعتها أقرب إلينا من الحركة المفتقرة إلى النظام، بحيث إن مثل هذا الإيقاع أكثر اتفاقًا مع الطبيعة.»٤٤
ولقد كان أرسطو يعتقد، مثل أفلاطون، بأن الغاية القصوى للموسيقى ينبغي أن تكون خير الإنسان والمجتمع، ولكن على حين أن أفلاطون كان يعتقد بأن على الموسيقى أن تُحاكيَ الطبيعة محاكاةً أمينة، فإن أرسطو قد استقل عن أستاذه في القول إن وظيفة الموسيقى ليست محاكاةَ الطبيعة، وإنما إعادة خلق عالم الأصوات الطبيعية في أنغامٍ موسيقية ذات طابع مثالي. وكان أرسطو يرى أن مؤلِّف الموسيقى أقدرُ من أي فنانٍ خلاقٍ آخر على التعبير عن انفعالات الإنسان وسلوكه؛ لأن القدرة التعبيرية للأنغام أعظم منها لدى الألوان. والموسيقى فن يسمو على الرسم بفضل طبيعتها الزمنية.٤٥ وهكذا انتهى أرسطو إلى القول بأن الموسيقى لا تقتصر على تصوير المظهر الخارجي للشعور والسلوك الإنساني، وإنما تمثِّل الدلالة الباطنة والحياة الانفعالية لأحوال الإنسان وأفعاله على نحوٍ يفوق تمثيل أي فنٍّ آخر لها.

القسم الرابع: أرسطوكسينوس والفيثاغوريون

كان أفلاطون يؤمن بأن للموسيقى القدرة على تشكيل الشخصية. وكان يرى أن الموسيقى الرديئة يمكن أن تبعث في النفس أحوالًا فاسدة تساعد على تكوين شخصيةٍ شريرة؛ لذلك أكَّد ضرورة تعليم حُراس الدولة تعليمًا موسيقيًّا سليمًا، حتى يمكنَهم أن يكشِفوا ويستبعدوا الموسيقى التي وُضِعَت لنصٍّ غير ملائمٍ لها، أو الموسيقى التي تُحاوِل محاكاة أصواتٍ غريبة عن طبيعتها، وهو أمرٌ لا يمكِن أن ينجُم عنه إلا تقليدٌ فجٌّ للظواهر الفعلية فحسب. وقد حرص أفلاطون قبل كل شيء على تنبيه الكبار إلى أنهم ينبغي أن يُبْدوا الاحتقار الكامل للموسيقى التي تهدف إلى إظهار البراعة الفنية في العزف على الآلات فقط، وتكون في الوقت ذاته بعيدةً عن معنى الألفاظ. ولم يكن أفلاطون يثق كثيرًا في قدرة المواطن العادي على تمييز الموسيقى الجيدة من الرديئة، أو في إمكان الوثوق من الجماهير في المسائل المتعلقة بالذوق الموسيقى؛ لذلك ينبغي أن يتلقى حُراس الدولة تعليمًا موسيقيًّا أفضل من تعليم عامة الناس لا في العزف البارع على الآلات، وإنما في فهم طبيعة الموسيقى، وتأثيرها في سلوك؛ إذ إن الكبار هم الذين تقع على عاتقهم تلك المهمة الدقيقة، مهمة الاختيار بين الموسيقى الجيدة والرديئة.

أما أرسطو فكان في معظم الأحوال مردِّدًا لنظريات أفلاطون في الموسيقى، وقد اهتم، مثل أفلاطون، بالجوانب العدَدية للأصوات الموسيقية. وكانت الأفكار التي قدَّمَها عن التركيب النغمي وعلم الأصوات أكثر تقدُّمًا من أفكار أي يونانيٍّ آخر باستثناء تلميذه أرسطوكسينوس Aristoxenus.
ولقد تجنَّب أرسطوكسينوس (الذي وُلِد في حوالي ٣٥٤ق.م.) المشكلاتِ الأخلاقية والتفسيراتِ الرياضية الخالصة للموسيقى التي تمسَّك بها كلٌّ من أفلاطون وأرسطو. وكان يعتقد أن الحِس والعَقل؛ أي القدرة على السماع والقدرة على التمييز، لا بد أن تتيح للمرء أن يحكُم بنفسه على الموسيقى بأنها جيدةٌ أو رديئة. صحيحٌ أنه وافَق على أن لبعض الأساليب الموسيقية أوجه شبه مع حالاتٍ أخلاقيةٍ معيَّنة،٤٦ ولكن هذا التشابه ينبغي ألا يُفهم حرفيًّا أو يُبالغ فيه.

ولم يكن أرسطوكسينوس بدوره شديد الحماسة للتجديدات الموسيقية في عصره؛ فقد شكا من أن كثيرًا من الأعمال الموسيقية الجديدة قد فقدَت جدِّيتها وبساطتها، وزادت الزخارف الصوتية حتى لم يعُد من الممكن تمييز اللحن الأصلي، وكانت المقامات تتغيَّر بسرعةٍ زائدة، وتفتقر إلى الترابط والاتصال. أما الموسيقى المصاحبة فكانت تسير في طريقها الخاص، وكثيرًا ما كانت صاخبةً مليئة بالضجيج. ومن هنا فإنه وصف كثيرًا من الأعمال الموسيقية الجديدة بالانحلال، كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبله.

ولقد ميَّز أفلاطون في الكتاب السابع من «الجمهورية» بين «النظرة العملية» الخالصة إلى الموسيقى كما تتمثَّل لدى هؤلاء الأفاضل الذين يُداعبون الأوتار ويُعذبونها ويشدُّونها إلى مفاتيحها، والذين ينصَب اهتمامهم على ضربات الريشة، وسَوْرات الأوتار وهدوئها وإقدامها، وبين النظرة العلمية لدى الفيثاغوريين الذين «بحثوا في العلاقة القائمة بين هذه التوافُقات المسموعة». وانتقد الأوَّلين؛ لأنهم «أخضعوا عقولهم لآذانهم»، وبذلك جعلوا أنفسهم «مثارًا للسخرية»، ولكنه انتقد الفيثاغوريين بدورهم؛ لأنهم «اكتفَوا بقياس الأنغام والتوافُقات التي تميِّزها الأذن واحدًا مقابل الآخر، فأجهدوا بذلك أنفسهم دون جدوى»، وكان الأجدر بهم، في رأيه، أن «يعكفوا على بحث المشكلات، بقصد معرفة الأرقام المتوافقة والأرقام غير المتوافقة، وسبب هذا الاختلاف بينهما.»٤٧
كذلك انتقد أرسطوكسينوس آراء الفيثاغوريين، على أساس أن الرياضيات وحدها لا يمكنها أن تُفسِّر الطبيعة الحقيقية للخلق أو التذوُّق الموسيقي. كما انتقد أبحاث العمليين أو التجريبيين الذين كانوا يهتمُّون بالأنغام الموسيقية المفردة أكثر مما كانوا يهتمُّون بالعلاقة اللحنية بين نغمةٍ وأخرى.٤٨ وقد رفض أرسطوكسينوس الاعتماد على الأُذن وحدها في تحديد الطابع الجمالي للعمل الموسيقي. كما رفض الرأي القائل بأن الأحكام الجمالية في الموسيقى هي أساسًا عمليةٌ عقلية، فروى أن بعض السابقين عليه «أقحموا الاستدلال العقلي الذي ينتمي إلى مجالٍ غير مجال الموسيقى، ورفضوا أن يعترفوا بالحواس؛ لأنها أدواتٌ مُصطنَعة تفتقر إلى الدقة العقلية، فأكَّدوا أن حدَّة الصوت وانخفاضه يرجع إلى نِسبٍ معيَّنة، واختلافٍ نسبي في مقدار التردُّد (الذبذبة)، وهي نظريةٌ خارجة تمامًا عن الموضوع، تتعارض كل التعارُض مع الظواهر، على حين أن غير هؤلاء، ممن استغنَوا عن العقل والبرهان، قد اقتصروا على عباراتٍ قطعيةٍ منعزلة، فلم ينجحوا بدَورهم في تَعدادِ الظواهر الخالصة. أما منهجنا فيرتكز آخر الأمر على مَلَكتَي السمع والتعقُّل معًا؛ فبالأولى نحكُم على مقدار المسافات، وبالثانية نتأمَّل وظيفة الأنغام. وعلى ذلك فمن الواجب أن نُعوِّد أنفسنا التمييز الدقيق بين الجزئيات؛ ذلك لأن إرهاف الإدراك الحسي أساسي لدارس العلم الموسيقي، والمعرفة الموسيقية تقتضي معرفة عنصرٍ متغير وثابت في آنٍ واحد، وهذا ينطبق دون قيدٍ أو شرط على كل فروع الموسيقى.»٤٩
وقد كتب «هنري س ماكران» في مقدِّمته لكتاب «الهارمونيات لأرسطوكسينوس» يقول: «كانت حدود العلم الموسيقي قد أُسِيء فهمُها تمامًا طَوال الوقت السابق على ظهور أرسطوكسينوس في الميدان. صحيحٌ أنه كانت تُوجَد مدرسةٌ مزدهرة للفن الموسيقي، وكان هناك تفضيلٌ واعٍ لهذا الأسلوب في التأليف على ذاك، ولهذه الطريقة في الأداء على تلك، ولهذا التركيب للآلات على ذاك، وكانت العادات التي تكوَّنَت نتيجة لهذه التفضيلات تُنقل بالتعليم. وتيسيرًا لهذا التعليم، ومساعدةً على الحفظ، كان يُلجأ إلى الرسوم والتعميمات السطحية. أما المبادئ لذاتها فلم يكن الفنان، الذي كان تجريبيًّا عمليًّا، يعبأ بها على الإطلاق. وفي مقابل هؤلاء التجريبيين كانت هناك مدرسةٌ من الرياضيين والطبيعيين، يزعمون أنهم دارسون للموسيقى، ويَعُدُّون فيثاغورس أستاذًا لهم، كانوا يشغلون أنفسهم بإرجاع الأصوات إلى ذبذباتٍ هوائية، وبمعرفة العلاقات العدَدية التي تحل عند العقل الرياضي محل التمييزات الحسية بين الصوت الحاد والمنخفض. هذه المدرسة كانت علميةً بالمعنى الصحيح، وقد أثبتَت الكشوف الحديثة صحة فروضها ودقة حساباتها. ومع ذلك لم يكن العلم الموسيقي ظهر لديها بعدُ؛ ذلك لأنه إذا كان الفنانون موسيقيين بلا علم، فقد كان الطبيعيون والرياضيون علماء بلا موسيقى؛ فتحت مِجهَر تحليلاتهم تتساوى كل التفضيلات الموسيقية، ويُضحَّى بكل قيمةٍ موسيقية، وترتدُّ الأصوات والألحان الرفيعة الجميلة، شأنها شأن القبيحة المُنحَطة، إلى علاقاتٍ عددية وعلاقاتٍ بين العلاقات، يكون لكلٍّ منها من القيمة الزائدة أو الناقصة ما لأية واحدةٍ أخرى. ولقد اهتم الفيثاغوريون بإيضاح السوابق الفيزيائية والرياضة للأصوات بوجهٍ عام، إلى حد أنهم لم يدركوا أن لُب الأصوات الموسيقية إنما يكون في علاقتها الدينامية بعضها ببعض. وهكذا لم تتكوَّن لديهم الفكرة الصورية الصحيحة عن الموسيقى، وهي الفكرة التي كانت ماثلةً دائمًا أمام ذهن أرسطوكسينوس، وأعني بها فكرة نسَق الأصوات أو الكل العضوي الذي تكوِّنه، والذي يكون وجود كل جزء فيه مرهونًا تمامًا بما يفعله، ولا يمكن فيه للصوت أن يكون جزءًا منه لمجرد أن هناك مكانًا له، وإنما لا بد أن تكون له وظيفةٌ يستطيع القيام بها.»٥٠

وربما كان أرسطوكسينوس أول المفكرين الموسيقيين الإنسانيين في الحضارة الغربية؛ فقد اتخذَت فلسفته الموسيقية من الإنسان حَكمًا وحيدًا لما هو خيرٌ وما هو شرٌّ في الموسيقى. وكان يقدِّر تمامًا الدور الذي قام به التجريبيون والفيثاغوريون في أبحاثهم للتركيب الفيزيائي والرياضي للأنغام، ولكنه كان يرى أن الأنغام المفردة لا تكون بذاتها موسيقى، وأن معرفة العناصر العددية لأنغامٍ معيَّنة لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة قيمة الموقف الجمالي الموسيقي؛ فمعرفة «الهارمونيات» شرطٌ ضروري للفهم، ولكن أرسطوكسينوس كان يعتقد أن التقدير الصحيح للموسيقى يتجاوز نطاق فهم فيزياء الصوت ونظرياته العلمية، ولا بد أن يبلغ أَوْجَه في الشعور العاطفي.

وبالكلام عن أرسطوكسينوس نقترب تاريخيًّا من نهاية الحضارة الأثينية والخلق الموسيقي اليوناني. وفي عصره ثبتَت دعائم موسيقى الآلات الخالصة، وصمدَت بعد استحداثها أمام صيحات الفلاسفة، كما طرأ تغييرٌ هائل على دور المجموعة الغنائية (الكورس) في التراجيديا اليونانية؛ فقد كانت التراجيديا اليونانية عملًا موسيقيًّا دراميًّا يستخدم الغناء والكلام معًا. وكانت المجموعة تُغني أو تُنشد طَوال المسرحية، موضحةً الأحداث الجارية، وكثيرًا ما كانت تُثير حالةً انفعالية تمهِّد لحدوث كارثة أو بلوغ ذروة. كذلك كانت هناك أغانٍ لأصواتٍ منفردة مشتبكة في نسيج الرواية، وكانت هذه الأغاني تُضفي تنوعًا على الاطِّراد النغمي للدراما. وفي حوالي عصر أرسطوكسينوس، أخذ الغناء الإيقاعي السلبي للمجموعة يتضاءل؛ إذ إن أفراد المجموعة كانوا يُعطَون أدوارًا إيجابية في التراجيديا.

إن معرفتنا بالموسيقى اليونانية التي كانت تُوجد فعلًا في أيام أفلاطون وأرسطو وأرسطوكسينوس هي معرفةٌ شحيحة مبنية على التخمين. وكثيرٌ من الكشوف الأثَرية الموسيقية التي كان يُظَن أولًا أنها يونانية، تبيَّن فيما بعدُ أن لها أصلًا متأخرًا. ومعظم الألحان الأصلية التي نعرفها لا تُوجد منها إلا أجزاءٌ فحسب. وأهم هذه الألحان هي «أنشودتان دلفيتان لأبولو Hymns to “Two Delphic Apollo”، وهما لحنان كُشِفا في ألواحٍ مَرمَرية في خرائط دار الخزانة الأثينية في دلفي. وأولاهما ترجع إلى حوالي عام ١٣٨ق.م. وتُعَد ممثلةً حقيقة للموسيقى اليونانية. ولدينا أيضًا فِقرة من رواية «أورست Orestes» لأوريبيدس، يُعتقَد أنها أقدم قطعةٍ موسيقية يونانية نعرفها. غير أن مراجعنا الأصلية للمعلومات التاريخية والنظرية هي كتابات الفلاسفة والمؤلِّفين النظريين اليونانيين؛ فمن هذه الكتابات جاءتنا أفكارٌ عن موسيقى هذه الفترة تزيد على ما جاءنا من النماذج الباقية من هذه الموسيقى، وهي نماذجُ قليلةٌ ناقصة على أحسن الفروض. وأغلب الظن أن جزءًا كبيرًا من هذه الموسيقى لم يُسجَّل، على الرغم من أن اليونانيين الأوَّلين كان لديهم نظام للتدوين الموسيقي، ونظرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه الموسيقى كان يُتداوَل شفويًّا، وكذلك لأن القصائد والأغاني كانت تُؤلَّف أحيانًا لمناسبةٍ خاصة، ثم تُطرح جانبًا، فلنا أن نستدل من ذلك على أن الجزء الأكبر من الموسيقى اليونانية قد ضاع بتدهور الحضارة اليونانية.

القسم الخامس: العصر اليوناني الروماني

كان أبيقور (٣٤٢–٢٧٠ق.م.) المعاصر لأرسطوكسينوس، يدعو إلى أسلوب في الحياة مبني على الاعتدال والاتزان؛ فأرفع الفلسفات تلك التي تُوجِّه الإنسان إلى موقفٍ عملي من الحياة وفهمٍ لها من شأنهما أن يجعلا حياة الإنسان أهدأ وأسلم. وقد وافق أبيقور على التفسير المادي للطبيعة، كما ظهر في الأصل لدى ديمقريطس، كذلك كان يرى أن الآلهة في مقارِّها البعيدة لا تتأثَّر ببؤس البشر ولا يمكِنها حتى لو شاءت أن تؤثِّر على أي نحوٍ في حياة الإنسان. والنفس البشرية مادية، وهي تشارك الجسم مصيره. ولكن من الغريب أن أبيقور تابَع أرسطوكسينوس في اعتقاده الفيثاغوري بأن النفس «انسجام» للجسم. أما «لوكريتيوس Lucretius» (٩٥–٥٢ق.م.) وهو أفضل دعاة الأبيقورية، فقد سَخِر بعد قرنَين من الزمان من فكرة تطبيق مصطلحاتٍ موسيقية كالانسجام على تركيب الجسم الإنساني ووظائفه، فكتب يقول: «لمَّا كانت طبيعة الذهن وطبيعة النفس قد ثبت أنها جزء من الإنسان، بمعنًى ما، فلتطرحوا اسم الانسجام جانبًا، سواء أكان قد هبط للموسيقيين من قمم الهليكون٥١ أم كانوا هم أنفسهم قد استمدُّوه من مجالٍ آخر، ونقلوه إلى ذلك المجال الذي عندئذٍ في حاجةٍ إلى اسمٍ مميز. وأيًّا ما كان الأمر، فليحتفظ به الموسيقيون لأنفسهم.»٥٢
أما فيلوديموس Philodemus، وهو أبيقوريٌّ آخر كان معاصرًا للوكريتيوس، فقد أضاف إلى ذلك قوله: «إن الموسيقى لا معقولة، ولا يمكنها أن تؤثِّر في النفس ولا في الانفعالات، وهي لا تفوق الطبخ من حيث هي فنٌّ تعبيري.»٥٣ وقد شَنَّ فيلوديموس حملةً على الفلاسفة الذين جعلوا للأساليب الموسيقية اليونانية دلالةً أخلاقية، مثل أفلاطون وأرسطو، ورفَض أن يصدِّق أن الموسيقى تُحاكي الظواهر الطبيعية أو تعبِّر عن حالاتٍ ذهنية. وهكذا انتهى فيلوديموس إلى أن الفلاسفة والنقَّاد الذين لا يمكِنهم إجادة العزف أو الغناء هم وحدَهم الذين يَعْزون إلى الموسيقى دلالةً أخلاقية، وبذلك «يقعون فريسة حالاتٍ من النشوة ويُشبِّهون الأنغام بالظواهر الطبيعية.»
والواقع أن كتاب لوكريتيوس «في طبيعة الأشياء»، ينطوي على خلاصة الفكر الأبيقوري. وهو يتضمَّن أيضًا نظريةً في أصل الموسيقى الغنائية وموسيقى الآلات؛ فقد تعلم الإنسانُ الغناء أولًا بمحاكاة الطيور، ثم اخترع آلاتٍ تُصاحِب غناءه ورقصه في أوقات فراغه «غير أن تقليد الأصوات الواضحة للطيور بالفم كان شائعًا قبل وقتٍ طويلٍ من تمكُّن الإنسان من الغناء في أبياتٍ شعريةٍ منغَّمة منسابة، ومن تشنيف الآذان بغنائه، كما أن صفير النسيم خلال ثقوب القصبات كان أول ما علَّم أهل الريف نفخ المزامير المفرغة، ثم تعلموا بالتدريج كيف يعزفون الأغاني العذبة الحزينة، التي تنبعت عن المزمار عندما تضغطه أصابع العازفين، والتي تُسمَع خلال الأحراش الكثيفة والغابات والمراعي، وعَبْر الديار المهجورة للرعاة والبيوت ذات الهدوء السماوي. هذه الأنغام كفيلةٌ بأن تهدِّئ نفوسهم، وتبعثَ فيها الرضا عندما لا تكون بها حاجة إلى الطعام.»٥٤

وفي خلال حكم الأباطرة الرومان، ضم المذهب الأبيقوري بين صفوفه جماعةً مستنيرة كانت تُعارِض البقيةَ الباقية من مذهب تعدُّد الألوهية الوثني، بقَدْر ما كانت تُعارِض اللاهوت المسيحي. أما المدرسة الرُّواقية في الفلسفة، التي أسَّسها زينون (حوالي ٣٥٠–٢٥٨ق.م.) فكانت تمثِّل جماعةً عقلية ظهَرَت في العهد الروماني المتقدِّم، وتسعى إلى إحياء بقايا العقيدة اليونانية، وقد رفض الرواقيون نظرية المُثُل عند أفلاطون، كما رفضوا فكرتَه في المعرفة الفطرية، وذهبوا إلى أن الحِسَّ هو المصدر المشترك لكل معرفةٍ بشرية. وكان الشعار الرفيع للفلسفة الرُّواقية هو الفضيلة من أجل الفضيلة، وأسمى خيرٍ هو ذلك الذي يُستمَد من أداء المرء لواجبه بدافع البحث فحسب. وكانوا يرَوْن أن الحكيم وحده هو الحر؛ لأنه تعلَّم كيف يقهر الميل إلى الكسب المادي وعبودية الشهوات؛ فالحكيم يستسلم تمامًا لكل ما قضت به الطبيعة والقدَر، والعقل يدفع الحكيم إلى قبول هاتَين القوتَين، بوصفهما العاملَين اللذَين يتحكَّمان في كل تفكيرٍ وسلوك. وعلى ذلك فالواجب على الناس جميعًا أن يتَّبعوا الطبيعة ويستسلموا تمامًا لها وللقدَر الذي تخبِّيه لكل إنسان. ولمَّا كان انسجام الموسيقى يقتدي بأنموذج الانسجام الطبيعي، فمن الممكن مساعدة الإنسان على أن يحيا وفقًا للطبيعة إذا أسمعناه الأساليب والإيقاعات الموسيقية الصحيحة. وفي هذه النقطة كان الرُّواقيون متفقين مع أفلاطون.

وقد أنبأنا الرُّواقيان شيشرون (١٠٦–٤٣ق.م.) وسنكا (٤ق.م.–٦٥م) أن الموسيقى قد ازدهَرَت في جميع أرجاء العالم الروماني قرب نهاية القرن الأول، وقد اهتم الرومان بالإيقاع اهتمامًا خاصًّا، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنهم استخدموا نوعًا بدائيًّا من «البوليفونية» (تعدُّد الأصوات)، وكان هناك إقبالٌ شديد على اليونانيين الجوَّالين الذين كانوا يقومون بتمثيل أدوارٍ حركية، ويغنون ويعزفون على الآلات الموسيقية. وكانت الطبقات العليا من الرومان تشجِّعهم، وعامة الناس تُعجَب بهم كثيرًا. ولمَّا كان الرومان ينظرون إلى أنفسهم على أنهم دولةٌ عسكرية عظمى، فقد توسَّعوا في استخدام الآلات النحاسية، مما يذكِّرنا بأرسطوكسينوس الذي رأى أن العمق الذي يتميَّز به النظام الموسيقي اليوناني يضيع في حضارة يحل فيها الكوليزيوم محل المسرح،٥٥ وتشيع فيها أبواق الجند أكثر مما تشيع مزامير الرعاة.
والمؤلَّف الشامل الوحيد الذي بقي لنا كاملًا من العصر اليوناني الروماني هو كتاب أريستيدس كونتليانوس Aristides Quintilianus، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، والذي كان كتابه «في الموسيقى Concerning Music» تلخيصًا وتأييدًا للآراء الموسيقية التي كانت تُعلَّم في أكاديمية أفلاطون ولوقيوم (ليسيه) أرسطو. والواقع أن ما نعرفُه بالفعل عن العادات الموسيقية للرومان قليل. كما أن موسيقاهم لم يبقَ منها شيء. غير أن هناك إشاراتٍ متعددة من الهجاء الشعري الموجَّه إلى الموسيقى وما فيها من ابتذال وإملال؛ فقد شكا «سيكا» من أن الفرق الموسيقية والمجموعات الغنائية قد تضَخَّم حجمها إلى حد أنه كثيرًا ما تُوجَد في المسرح من المُغَنِّين والعازفين أكثر مما يُوجَد من المتفرِّجين، وأضاف شيشرون أن الموسيقى لم تعد تتميَّز ﺑ «العذوبة الصافية» التي كانت سائدةً في الموسيقى القديمة للمسرح الروماني، واستخلص من ذلك نتيجةً فلسفية إلى حدٍّ ما، وهي أن الموسيقى في حالتها الراهنة لا تبعث إلا لذةً صبيانية، وهي عديمة الجدوى من الناحية العملية؛ إذ إنها لا تُقرِّبنا على أي نحوٍ من السعادة الدائمة.٥٦ وهكذا قال الأخلاقي كلمتَه في روما، كما في اليونان، فشكا من أن الألحان فيها نعومةٌ وطراوة، ومن أن الموسيقى عامةً قد أصبَحَت فنًّا مُنحلًّا.
ولم يُسهِم الرومانيون بالكثير في تقدُّم الموسيقى؛ فقد اقتبسوا النظريات والأساليب العملية اليونانية، وعدَّلوها تبعًا لطريقتهم الخاصة في استخدامها، وقد أورَد «فتروفيوس Vitruvius» وهو مهندسٌ معماري وأديبٌ روماني عاش في عصر يوليوس قيصر وأغسطس، أورد في كتابه عن العمارة فصلًا عن التوافُق الموسيقي يتجلَّى فيه اعتمادُ الرومان على الموسيقى اليونانية؛ ففي هذا الفصل يرتفع صوتُه بالشكوى قائلًا: «إن التوافُق فرعٌ صعب غامض من الآداب الموسيقية، ولا سيما بالنسبة إلى الأشخاص غير العارفين باللغة اليونانية؛ فلو شئنا أن نَشرحَه لتعيَّن علينا استخدام ألفاظٍ يونانية بعضها لا يُوجد له مقابل في اللاتينية؛ لذلك فإنني سأُترجِم على قَدْر استطاعتي من مؤلَّفات أرسطوكسينوس.»٥٧

على أن العصر الروماني وإن افتقر إلى الأصالة، كان حافلًا بالنشاط في ميدان الموسيقى؛ فقد كانت الأُسر الراقية تُدرِج الموسيقى ضمن برامج التعليم الثقافي، مع البلاغة والديالكتيك والهندسة والرياضيات. وكان من مظاهر الروح العصرية أن تتعلم سيداتُ الطبقة الراقية العزف على القيثار والليرا. وعندما شاعت هاتان الآلتان بين الطبقات الدنيا، قرَّرَت سيداتُ الطبقة العليا التماس أنواع أخرى من الترفيه الموسيقي حتى يتميَّزن عن عامة الناس، فاستأجرن الموسيقيين اليونانيين المتجوِّلين ليُغنُّوا ويَعزِفوا لهن، وتخلَّين تمامًا بمضي الوقت عن عادة تعلُّم العزف على الآلات الموسيقية. وتطوَّر المنشدون الجوَّالون إلى طبقةٍ من أساطين العزف الموسيقي؛ إذ كان كلٌّ منهم يحاول التفوُّق على الآخرين في استعراض البراعة الفنية، وفي الأداء المثير للإعجاب، فاشتعلَت بينهم المنافسة الرخيصة، وكان الهتَّافون المحترفون يُستأجرون، والمُحكمون يرتشون من أجل محاباة مغنِّ على حساب آخر. وأخذَت نساء المجتمع الروماني على عواتقهن مهمة رعاية مصالح الفنانين العباقرة الذين يعيشون تحت رعايتهن؛ إذ كان الأغنياء يأتون بالعبيد الموهوبين في الموسيقى ليعيشوا في بيوتهم، حتى يُرفهوا بالغناء وبالعزف من الصباح إلى المساء.

ولقد كان المسرح يكوِّن جانبًا هامًّا من جوانب الحياة الثقافية للرومان، كما كان عند اليونان. وكما حدث في أواخر عهد المسرح اليوناني، فقد تضاءل دَور المجموعة الغنائية في المسرح الروماني بالتدريج، لتحل محلَّها الأصواتُ المنفردة، سواء أكانت متحدثةً أم مُغنِّية، وكانت تُصاحِبها آلة تُسمَّى بالمزمار tibia. وعلى حين أن الشاعر والموسيقار كانا عند اليونان واحدًا، فإن الشاعر الدرامي والهَزْلي الروماني لم يكن يؤلِّف موسيقاه، وإنما كان يكلِّف موسيقيًّا محترفًا بالتلحين الإبداعي. وبينما كانت الموسيقى تلعب في المسرح اليوناني دورًا رئيسيًّا؛ إذ تحفظ وحدة الأحداث وتزيد من واقعية الموضوع، فإن الممثل الروماني كان يستعرض فنه في مناظرَ متفرِّقة كانت تفتقر إلى الاتصال والواقعية في كثيرٍ من الأحيان. وكان دَور الموسيقى في المسرح الروماني ثانويًّا، لا يزيد على ملء الفراغات بين الممثِّلين، أو على أحسن الأحوال مساندة أحد الممثِّلين، على ألا يصل ذلك أبدًا إلى حد التقليل من انتباه الناس إلى إلقائه الفردي.
وقد اتفق كونتليان Quintilian (٣٥م) مع معاصره سنكا في الإعراب عن قلق المثقَّف الروماني على موسيقى عصره: «… فالموسيقى التي أودُّ أن أراها تُعلَّم ليست موسيقانا الحديثة، التي أفسدَتها الألحان الحسية التي تشيع في مسرحنا المخنَّث، والتي قامت بدورٍ غير قليلٍ في القضاء على البقية الباقية من خشونتنا وصلابتنا. كلَّا، وإنما أُشير إلى موسيقى القدماء، التي كانت تُستخدَم في الإشادة بذكر الشجعان، وكان يُغنِّيها الشجعان أنفسهم. إنني لا أقبل شيئًا من آلاتكم الهوائية أو الوتَرية التي لا تليق حتى بصبيةٍ وضيعة. وإنما أودُّ أن تُعطوني معرفة مبادئ الموسيقى، التي لها القدرة على إثارة انفعالات البشر أو تهدئتها.»٥٨ ولعل عملًا من الأعمال الأدبية القديمة لم يصوِّر تدهور الموسيقى اليونانية بمثل الوضوح الذي صوَّرها به هوراس في «فن الشعر Ars Poetica» فقد عاصر في حياته فترةً من أهم فترات التاريخ؛ إذ إنه عندما وُلِد (عام ٦٥ق.م.) لم يكن الصراع بين بومبي وقيصر حول السيطرة على الإمبراطورية الرومانية قد بدأ بعدُ، ولكنه عندما بلغ الحادية والعشرين كان النظام القديم قد انهارَ وحل محله النظام الجديد، وتحوَّلَت الجمهورية إلى ملكية، وبالفعل إن لم يكن بالاسم. وجَرَّ هذا التغيير في السياسة تغيُّراتٍ في الفنون. وفي الفقرة الآتية من «فن الشعر» وصفٌ دقيق لحالة الموسيقى في ظل حكم قيصر:
في يوم العيد الصاخب،
حين لم يجد الناس غضاضة. بدأ حفلهم وقت الظهيرة،
انطلقَت الموسيقى من عِقالها،
وتحرَّر الشعر من كل قيد،
فأي ذوقٍ تنتظر من جمهورٍ مختلط كهذا،
يجمع بين المهرِّج والمواطن الجاد، ويجلس فيه الأجلاف مع الأشراف؟
وسرعان ما أضاف عازف الناي،
سحر الحركات إلى قدرة الغناء،
وعبَّر عن إحساسه بالمحاكاة الرشيقة،
وجرجر عَبْر المسرح أذيال ردائه الطائر،
ثم جلجلَت أصوات الليرا خشنةً مرتعشة،
تصُب أنغامها في آذانٍ منتعشة،
وتعلَّمَت ربَّة الصوت كيف تطير،
وتُكسِب جناحَها الجرأةَ على التحليق في أماكنَ لم تعهدها من قبلُ.
وعندما ألهبَتْها نار الوحي، طلبَت إلى كل بيتٍ من الشعر أن يُحاكيَ في العنف نشوةَ الرقص في معبد دلف.
أما ذلك الذي وقف وسط العَرض الجاد وأجهَد حنجرتَه ليكسب الجائزة التافهة — عنزًا كَثَّ الشعر —
فقد أتى على المسرح بعِصابتِه من السوقة،
ونطق بالمزاح والتهريج أمام الجمهور،
ودون أن يتخلى عن النغمة الحزينة نهائيًّا،
أعمل أصابعَه في أصواتٍ مرحة عربيدة،
وحاول بأغانٍ غريبة جديدة،
أن يجعل جمهورًا مخمورًا يتسمَّر في مجلسه،
مع إنهم لم يتحرَّروا من الطقوس الصاخبة إلا منذ قليل،
وكانوا متأهبين للهوِ المنحل، وممتلئين بمرَح السُّكارى،
ومع ذلك نقلَتْهم الأنغام من الجِد إلى الهَزْل،
وبلغ من قوة التأثير الدعابة اللاذعة،
أنَّ كل إلهٍ وكل بطل،
كان قبل ذلك يخطر بأرديةٍ قرمزية ومهابةٍ ملوكية،
تخلَّى عن كل وقاره في الكلام،
وتحوَّل إلى لهجة السوقة ولغة العوام،
أو حلَّق إلى الأعالي في لهفةٍ وتسرُّع،
فلم يُمسِك إلا سُحبًا خالية، ولم يبلُغ إلا سماء الألفاظ الخاوية،
بينما ربَّة المأساة قد كسا وجهها الخجل،
وازدرَت لغة السوقة وتهليل التافهين …»٥٩
وفي إشارات أفلوطين (٢٠٤–٢٦٩م) إلى الموسيقى ظهَر طابع الأفلاطونية المحدَثة بوضوح «فلما كانت كل موسيقى تهتم أساسًا باللحن والإيقاع، فلا بد أن تكون انعكاسًا أرضيًّا للموسيقى التي تتمثل في إيقاع العالم المثالي. ويمكن القول عن الصنائع، كالبناء والنجارة، التي تُضفي على المادة صورًا وأشكالًا، إنها فيما تقتدي به من نماذج تستمد مبادئها من ذلك العالم وما فيه من تفكير. أما في هبوطها بهذه النماذج وربطها إياها بالعالم المحسوس، فإنها لا تكون منتمية تمامًا إلى عالم المعقول، وإنما يرجع أصلها إلى الإنسان.»٦٠
وقد اتفق أفلوطين مع أفلاطون وأرسطو في الاهتمام بالقيمة الأخلاقية للموسيقى، ولكنه اختلف عنهما في أنه لم يجعل هذه القيمة مبنيةً على أساسٍ سياسي، وإنما على أساسٍ ديني؛ فبواسطة الجمال، وعن طريقه، يطهِّر الإنسان روحه، فينتقل بذلك في مدارج الخير واحدًا بعد الآخر، فإذا كان الإيقاع في الموسيقى مظهرًا أرضيًّا للإيقاع في العالم المثالي، كانت الموسيقى أقدَر الفنون على الارتقاء بالإنسان إلى مراقٍ أنقى وأصفى، ولكنه كان بدَوره يخشى مثل أفلاطون من أن يؤدي هذا النبض الإيقاعي ذاته، بالمثل، إلى بث الشر في النفوس. ولقد بدأ أفلوطين حيث انتهى أفلاطون، ونسب الخلق الفني إلى قدرة الإنسان على محاكاة المثل الأعلى؛ فالوحي يأتي من أعلى، ولا بد أن يكون التكوين المزاجي للموسيقى معينًا له على أداء هذه الرسالة في الحياة، فلا بد له أن يكون «سريع الاستجابة للجمال إلى أبعد حد»، منجذبًا إليه إلى حد الافتتان به؛ بحيث تكون استجابتُه لدوافعه هو ذاته بطيئة إلى حدٍّ ما، أما استجابته للمُثيرات الخارجية فتكون فوريةً مباشرة «وفضلًا عن ذلك ينبغي أن يكون الموسيقي حسَّاسًا للأنغام والألوان، نفورًا من الأصوات الخشنة غير الإيقاعية»؛ فالروح الموسيقية تهفو إلى «التناسُق والأنموذج الجميل الصورة». «هذا الميل الطبيعي ينبغي أن يكون نقطة بداية مثل هذا الشخص؛ فلا بد أن يكون ممن يجتذبه النغم والإيقاع وجمال الصورة في المحسوسات. ولا بد أن يعرف التمييز بين الصور المادية وبين الوجود الحقيقي الذي هو مصدر كل هذا التطابُق، ومصدر كل التنظيم المعقول في العمل الفني. وينبغي أن يعلم أن ما كان يسحَره ليس إلا انسجام العالم المعقول، وما في ذلك المجال من جمال، وليس صورةً معينة للجمال، وإنما الجمال الشامل والجمال المطلق، ولا بد أن تُغرَس فيه حقائق الفلسفة لكي تؤدي به إلى الإيمان بما يملكه في ذاته، وإن لم يكن على علمٍ به.»٦١ وعندما يتم تأليف الموسيقى، يكون في وسع الخَلق الفني للملحِّن أن يَسحَر النفس البشرية إلى حد أن المستمع إلى الموسيقى لا يكاد يشعُر عن وعي بتأثيرها الخلَّاب فيه؛ ففي استطاعة الموسيقى أن تُثير في النفس أحوالًا متعدِّدة دون أن يملك السامع إلا الاستسلام لها.٦٢ ولقد كانت الموسيقى في نظر أفلوطين أشبه بالصلاة؛ إذ إنها تتيح للسامع أن يتحد بالملحِّن «فالصلاة تُستجاب لمجرد أن الطرفَين يتوافقان مع نغمةٍ واحدة، كوتَرٍ موسيقي يُغمَز من أحد طرفَيه فيتذبذب في الطرف الآخر بدَوره. وكثيرًا ما يؤدي عزفُ وتَر إلى إثارة ما يمكن أن يُعَد إدراكًا في وترٍ آخر، نتيجةً لانسجامها وتناغمها في سُلمٍ موسيقي واحد، فإذا كانت ذبذبة «ليرا» تؤثِّر في «ليرا» آخر بفضل ما بينهما من تعاطُف، فلا بد أن يكون هناك نظامٌ لحني واحد في «الكل»، على الرغم من كونه مؤلَّفًا من أضداد، هو التشابه والتقارب.»٦٣ وهكذا فإن النظرية الأخلاقية في الموسيقى، التي علَت مكانتُها عند أفلاطون، قد اكتسبَت مزيدًا من القوة الدافعة على يد أفلوطين، ثم أصبحَت هي السائدة طوال تاريخ الفن في العصور الوسطى.
وبعد عامَين من وفاة أفلوطين، ظهَر قسطنطين إلى العالم ليجعل من المسيحية عقيدة الدولة في عهده. وقد أسهَم فرفوريوس (٢٣٣–٣٠٥م) تلميذ أفلوطين، الذي ألَّف شرحًا لكتاب «الهارمونيات Harmonics» لبطليموس؛ أسهم بطريقٍ غير مباشر في الموسيقى المسيحية؛ ذلك لأن أفلوطين لم يُشِر إلى المسيحيين في كتاباته، وربما كان قد تباعَد عنهم بوصفهم طائفةً ذات معتقداتٍ غريبة تختلف عن معتقداته، أما فرفوريوس فقد كان مدافعًا متحمسًا عن الوثنية، وخصمًا لدودًا للمسيحية، ولكن من الغريب مع ذلك أن دفاعَه الحارَّ عن الزهد قد أدَّى به إلى تأييد الموقف المسيحي بمهاجمته للمتعة الحسية التي تقدِّمها إلينا الموسيقى، وقد شبَّه تأثير المناظر الدرامية والرقصات، بما فيها من موسيقى، بتأثير سباق الخيل. وقد رأى فرفوريوس، مثل أفلوطين، أن الخَلق الموسيقي يرجع أصلُه إلى مجالٍ أعلى، ولا يصدُر عن المسرح. ومن هنا فإن تدنيس الموسيقى بالهبوط بها إلى مستوًى حسيٍّ أو إثقالها بأوزار الإثم إنما هو خطيئةٌ في حق العالم المثالي. على حين أن التهذيبَ الموسيقي الصحيح كفيلٌ بتقريب الإنسان من هذا المَثَل الأعلى.
على أن النظرية الأفلاطونية القائلة: إن النظام الموسيقي شبيهٌ بالنظام الأخلاقي السائد في الكون، وإن الموسيقى تستطيع أن تهذِّب نفس الإنسان إذ اقتصر على سماع الموسيقى المُعدَّة إعدادًا سليمًا؛ هذا الرأي قد تعرَّض في العصر اليوناني-الروماني لانتقاداتِ بعض الفلاسفة ذوي العقليات التجريبية، مثلما انتقده أرسطوكسينوس وثيوفراسطس في العصر اليوناني؛ ذلك لأن سكستس إمبريكس Sextus Empiricus الفيلسوف اليوناني الشكَّاك، الذي نشر تعاليمه حوالي عام ٢٠٠ الميلادي، قد طرح هذه التشبيهات الأفلاطونية جانبًا، بوصفها أساطير فلاسفةٍ تأمليين، وكتب يقول: إن الموسيقى فنٌّ للأنغام والإيقاعات لا يدُل على شيءٍ عدا ذاته، والمعيار الوحيد الذي ينبغي أن يُحكَم به على الموسيقى هو المتعة الحسية التي تُثيرها الأصوات الموسيقية فحسب.
ولقد ظهَرَت في القرون التالية شخصياتٌ أخرى أعربَت عن شكِّها في النظريات الأفلاطونية في الموسيقى، ولكنَّ قليلًا جدًّا من هؤلاء كانوا من الفلاسفة المعروفين الذين تركوا مؤَّلفاتٍ تاريخية لها قيمتها. ومن جهةٍ أخرى فقد تولى أوغسطين وبويتيوس Boethius، وهما فيلسوفان بارزان في العصور الوسطى، مهمة نقل فلسفة أفلاطون الجمالية في الموسيقى إلى العالم الغربي بحماسةٍ دينية وفلسفية. وكان الاختلاف مع آراء أوغسطين أو الشك في أفكار بويتيوس في الموسيقى مساويًا للمروق من المسيحية وللجهل بالفلسفة.
١  محاورة بروتا جوراس، ٣١٥.
٢  كتاب السياسة، ١٣٣٩ ب.
٣  الأوديسة، الكتاب الثامن، ٦٤ (ترجمة أ. ت. موري A. T. Murray الناشر W. Heinemann)، لندن، ١٩٣١م. «… ذلك الذي أحبَّته الربَّة فوق كل البشر، ووهبَته الخير والشر معًا، فحرمَته من نعمة البصر، ولكنها أعطَته موهبة الغناء العذب.»
٤  فن الموسيقى، ٤٢.
٥  أعظم شاعرة في العالم القديم، وُلدَت في لبسوس، وعاشت بها فترةً طويلة، ولها قصائدُ غنائية رائعة. أما أناشيدها فلم تبقَ منها إلا اثنتان كاملتان، وإن كان قد عُثر على شذراتٍ كثيرة لها في مصر (المترجم).
٦  يُلاحَظ أن السؤال هنا ليس مباشرًا، وإنما يرمي المؤلف إلى الإشارة إلى حركة التاريخ الثقافي من الشعر إلى الفلسفة، وإيضاح الطريقة التي تم بها الانتقال من الأساطير الخيالية إلى التفكير العقلي في هذه المرحلة الأولى من التاريخ اليوناني القديم (المترجم).
٧  الميتافيزيقا، الكتاب الأول، الفصل الخامس، ص٦٩٨ (ترجمة روس W. D. Ross)، الناشر Random House، نيويورك، ١٩٤١م.
٨  يقول كورت زاكس Kurt Sachs في كتابه «نشأة الموسيقى في العالم القديم شرقًا وغربا» The Rise of Music in the Ancient World East and West (ص١١١، الناشر W. W. Norton وشركاه، نيويورك، ١٩٤٣م): «… يختلف انسجام الأفلاك اختلافًا أساسيًّا عن النظرية الأصلية في التناسُق co-ordination؛ فتبعًا لهذه النظرية الأخيرة يكون الكوكب للكوكب الآخر بمثابة صوتٍ له ارتفاعٌ معيَّن بالنسبة إلى صوتٍ له ارتفاعٌ آخر، أما انسجام الأفلاك يعني شيئًا مغايرًا تمامًا؛ فهو يعني أن الكواكب أو على الأصح أفلاكها تنبعث عنها أنغامٌ فعلية، وإن لم يكن من الممكن إدراكها.»
ويقول بيتر جرادنوتس Peter Gradenwitz في كتاب «موسيقى بني إسرائيل» The Music if Israel (ص١٠٧، الناشر W. W. Norton وشركاه، نيويورك، ١٩٤٩م): «… لقد رسخَت فكرة انسجام الأفلاك بقوة في أذهان اليونانيين والفلاسفة اليهود المتأخرين، الذين كان في استطاعتهم الاستشهاد في هذا الصدد بنصٍّ يؤيِّدهم «سفر أيوب» (٣٨: ٧): «… غنَّت نجوم الصباح معًا، وصاح كل أبناء الرب فرحين.» ولقد قال كتَّاب الإغريق والعرب إن فيثاغورس وحده هو الذي استطاع أن يسمع الأنغام المنسجمة السماوية. غير أن أحد المصادر اليهودية (فليون اليهودي Phlilo Jydaeys) (٢٩٩) قد عزا هذه القدرة ذاتها إلى موسى …»
وقد فنَّد أرسطو في كتاب «السماء De caelo» (٢٩٠ب ١٢–٢٩) النظرية الفيثاغورية في انسجام الأفلاك، وهي النظرية التي ترتكز على افتراض أن الحركة تقترن بالصوت ضرورة، وأن الصوت المنبعث عن النجوم المتحركة ينبغي أن يكون متناسبًا مع حجمها وسرعتها. كذلك رأى الفيثاغوريون وأفلاطون أن المسافات بين الكواكب وأفلاك النجوم الثوابت تُطابِق رياضيًّا المسافات بين الأصوات الثمانية في السُّلم الموسيقي. ومن هنا كان الصوت الناتج موسيقيًّا. وقد ذكر أرسطو في الكتاب المذكور (الكتاب الثاني، الفصل التاسع، ص١٩٠، طبعة جامعة هارفارد، كيمبردج، ١٩٣٩م) «أنهم يردُّون على الاعتراض القائل إننا لا نستطيع سماع هذه الموسيقى بقولهم إنه ليس لنا أن نتوقع إدراك صوتٍ كان منبعثًا وقت ولادتنا، وظل قائمًا بلا انقطاع حتى الآن؛ ذلك لأن الصوت لا يُدرَك إلا بالتقابل مع فترات السكون.»
وقد ارتبط عصر النهضة في الحضارة الغربية ببعث المذهب الواقعي والإنساني عند أرسطو من جديد، في مقابل صوفية المذهب الأفلاطوني وسلطته. وقد كتب تنكتوريس Tinctoris وهو رجلٌ ديني وعالِمٌ نظري موسيقي يقول في عام ١٤٧٧م: «ليس في استطاعتي أن أمُرَّ مَرَّ الكرام على رأي عديد من الفلاسفة، ومنهم أفلاطون وفيثاغورس وخلفاؤهم شيشرون ومكروبيوس Macrobius وبويتيوس Boethius وصاحبنا إيزيدور Isidore القائل إن أفلاك النجوم تدور مسترشدة بقواعد الانسجام؛ أي بتناغم أصواتٍ منسجمة متعددة، ولكن عندما يُعلِن البعض، كما روى بويتيوس، أن زحل يتحرك بأعمق صوت، وأن الكواكب الأخرى تتحرك بأصواتٍ متدرجة، فيكون لحركة القمر أعلى الأصوات، على حين أن البعض الآخر يغزو إلى القمر أعمق صوت، ويغزو إلى النجوم الثوابت أعلى الأصوات، فلا يسعني عندئذٍ إلا أن أنكر الرأيين معًا، بل إن اعتقادي الراسخ إنما يتجه في صف أرسطو وشارحه (القديس توما الأكويني) ومعهما فلاسفتنا الأقرب عهدًا، الذين أثبتوا — بما لا يدع مجالًا للشك — أن السماء لا تنطوي على أصواتٍ فعلية ولا ممكنة؛ لهذا السبب لن يكون من الممكن أبدًا إقناعي بأن حركة الأجرام السماوية يمكن أن تُسفِر عن توافقاتٍ موسيقية؛ إذ إن هذه لا تحدث دون صوت.» انظر كتاب أوليفر سترنك Oliver Strunk «قراءات في المراجع الأساسية لتاريخ الموسيقى Source Reading in Music History» ص٩٨، الناشر W. W. Norton وشركاه، نيويورك، ١٩٥٠م.
٩  كاثلين فريمان Kathleen Freeman «الفلاسفة السابقون لسقراط» The pre-Socratic philosophers، ص٢٣٧–٢٣٩، الناشر: Basil Blackwell أكسفورد، ١٩٤٩م.
١٠  المرجع السابق، ص٢٠٧–٢٠٨ «فالموسيقى إذن أساسية، لا للتعليم الثقافي فحسب، بل للرخاء العام أيضًا، وقد ذهب إلى حد القول إنَّ من المستحيل ظهورَ تجديدٍ في أسلوب الموسيقى دون أن ينتُج عنه تغيُّر في أهم النُّظُم السياسية. وقد سجَّل أفلاطون هذا الرأي في محاورة «الجمهورية» وصوَّر سقراط على أنه موافق عليه تمامًا، وجعل أديمانتوس يُضيف إلى ذلك أن الموسيقى تؤدي إلى تسلُّل روح الخروج على القانون «الفوضى» خلسةً في صورة ترويح وتسلية، وبعد أن تفسَد الأخلاق تنتقل إلى هدم المواثيق والقوانين والدساتير حتى تخرج كل شيء في المجال العام والخاص. ولا جدال في أن هذه الآراء تمثِّل تعاليم دامون وتلاميذه.»
«وتتضمَّن محاورة «الجمهورية» فقرةً أطول، تعمَّد أفلاطون ترك تفاصيلها غامضة، وفيها يُشير أفلاطون من بعيد إلى تحليل دامون لعناصر الموسيقى كالإيقاع وتفعيلة الشعر والمقطع القصير والطويل. وقد أضفى على هذه كلها، مجتمعةً ومتفرقة، قيمةً أخلاقية، وفي رأيه أن التعليم الصالح يستبعد العناصر المتصلة بالرذيلة والإفراط، ويستبقي تلك المتصلة بالفضيلة والاتزان. ومن الواضح أن أفلاطون قد أقرَّ تعاليم دامون، وقد جعل القائد لاخيس Laches يُثني على دامون لدى نيكياس Nicias بوصفه معلمًا لا للموسيقى فحسب، بل لكل موضوع آخر يستحق أن يتعلمه النشء.»
١١  أوليفر سترنك Oliver Strunk «قراءات في المراجع الأساسية للتاريخ الموسيقي» (ص٨٣، الناشر W. W. Norton وشركاه، نيويورك، ١٩٥٠م).
قد كتب الفيلسوف الروماني «بويتيوس» الذي نقل الفلسفة الجمالية اليونانية في الموسيقى إلى العصور الوسطى يقول: «… ظهَرَت قوة الفن الموسيقي في دراسات الفلسفة القديمة إلى حد أن الفيثاغوريين كانوا يُريحون أنفسهم من عناء العمل اليومي بألحانٍ معيَّنة تجعل الكَرى يُداعب جفونَهم برقَّة وهدوء. وبالمثل كانوا عند يقظتهم يتخلصون من خمول النوم واضطرابه بألحانٍ أخرى، مُدرِكين أن كيان النفس والجسم بأَسْره يتحد بانسجامٍ موسيقي؛ ذلك لأن دوافع النفس تتأثَّر بالانفعالات المناظرة لحالة الجسم، كما يُروَى عن ديمقريطس مما قاله للطبيب أبقراط.»
١٢  ترجمة بنجامين جويت B. Jowett الناشر Random House نيويورك، ١٩٣٧م.
١٣  بروتاجوراس، ٣٢٦.
١٤  حكمة كونفوشيوس The Wisdom of Confuctus ص٢٦٤، ترجمة لين يوتانج Lin Yutang، الناشر Modern Library، نيويورك، ١٩٣٨م.
١٥  الكتاب السابع، ٧٩٨.
١٦  ربما ظن القارئ من هذه الجملة الأخيرة أن أفلاطون كان يرسم برنامجًا لتربية الشباب الأثيني فحسب، ولكن في الواقع أن الخطة التي وضع أفلاطون أسسها كانت لمدينةٍ فاضلة متخيَّلة، لا وجود لها إلا في ذهنه، وإن يكن يتمنى بطبيعة الحال أن تتحقَّق هذه الخطة في أثينا، وفي غيرها من المدن اليونانية.
فرانسس مكدونلد كورنفورد F. M. Cornford جمهورية أفلاطون، ص٨٣، الناشر hendon Press أكسفورد، ٤١.
١٧  في محاورة القوانين، الكتاب الثاني، ٦٦٩–٦٧٠، يقول أفلاطون: «الموسيقى أشهر من أي نوع من المحاكاة؛ وبالتالي فهي تقتضي من العناية أكثر مما يقتضيه الباقون جميعًا؛ ذلك لأن المرء لو ارتكب خطأً فيها، فقد يجلب على نفسه أشد الضرر؛ إذ يُرحِّب بالنزعات الشريرة، وقد يكون التنبُّه إلى هذا الخطأ من أصعب الأمور؛ لأن الشعراء فنانون أقل مرتبة بكثيرٍ من ربَّات الفنون اللاتي لا يمكن أن يقعن في خطأٍ فاحش مثل نسبة حركات النساء وأغانيهن إلى كلمات الرجال، أو المزج بين ألحان الأحرار وحركاتهم وبين إيقاعات العبيد والرجال المنتمين إلى نوع أحط أو أن يبدأن بإيقاعات الأحرار وحركاتهم، ثم يُضِفنها إلى لحنٍ أو كلماتٍ من النوع المضاد، أو أصوات الحيوانات والبشر والآلات، وكل نوع آخر من الأصوات وكأنها كلها شيءٌ واحد. غير أن الشعراء من البشر يُحبون إجراء هذا النوع من الخلط المضطرب، وبذلك يبدون مضحكين في نظر أولئك «الناضجين لتذوق اللذة الحقيقة» على حد قول أورفيوس. هذه أمور يدركها كلَّها الخيِّرون، ومع ذلك يستمر الشعراء في طريقهم، ويزيدون الأمور سوءًا بالفصل بين الإيقاع وحركات الرقص وبين اللحن، فيجعلون الكلمات المحضة موزونة، أو يفصلون اللحن والإيقاع عن الكلمات، فيستخدمون الليرا أو الناي وحده؛ ذلك لأن من الصعب جدًّا، حين لا تكون هناك كلمات، إدراك معنى الانسجام والإيقاع، أو معرفة ما إذا كانا يُحاكيان أي شيءٍ ذي قيمة.
وعلينا أن نعترف بأن كل هذا الخلط، الذي لا يستهدف إلا السرعة والخفَّة والضجيج الصاخب، ويستخدم الناي والليرا لا لمجرد مصاحبة الرقص والغناء، هو في واقع الأمر سوقيٌّ حَوشِي إلى أبعد حد؛ فالعزف على إحدى هاتَين الآلتَين دون مصاحبة شيءٍ يؤدي إلى كل أنواع الفوضى والخداع. وهذه كلها أمورٌ واضحة معقولة بما فيه الكفاية، ولكنا لا نبحث الآن في كيفية عدم استخدام منشدينا، الذين يتراوح سنُّهم بين ثلاثين وخمسين عامًا، وقد يتجاوزون الخمسين، للموسيقى، وإنما في كيفية استخدامهم لها. ويبدو أن ما قلناه يوضِّح الطريقة التي يمكن بها رفع مستوى تدريب هؤلاء المنشدين عندما يغنون ذلك؛ لأنهم محتاجون إلى إدراك ومعرفةٍ لمَّاحة بأنواع الانسجام والإيقاع، وإلا فكيف يتسنَّى لهم أن يعرفوا إن كان من الأصح غناء لحن بالمقام الدوري Dorian أو بالإيقاع الذي وضعه الشاعر لها؟»
١٨  ٤٢٤.
١٩  القوانين، الكتاب الثاني، ٦٥٧.
٢٠  القوانين، الكتاب السابع، ٨١٢.
٢١  في «القوانين»، الكتاب الثالث، ٧٠٠–٧٠١ يقول أفلاطون: «… وبمضي الوقت، أدخل الشعراء أنفسهم عهد التجديد السوقي الفوضوي، ولقد كان هؤلاء الشعراء عباقرة، ولكن لم يكن لديهم إدراك لما هو صحيح أو مشروع في الموسيقى؛ فتراهم يثورون ويفورون، وكأنهم رافضون مخمورون، وتستبد بهم متعٌ لا رابط بينها، فيمزجون النحيب بالأناشيد، وأهازيج النصر بأغاني الرقص، ويقلِّدون أصواتَ الناي على الليرا، ويبعثون الاضطراب في كل شيء. تراهم يذكُرون عن جهل أنْ ليس للموسيقى حقيقة، وأن الوسيلة الوحيدة للحكم عليها حكمًا صحيحًا سواء أكانت سليمةً أم فاسدة، هي لذة السامع. وعن طريق تأليف مثل هذه الموسيقى الإباحية، وإضافة كلماتٍ إباحية مثلها إليها، يبُثُّون في نفوس العامة رُوح التمرُّد والتبجُّح، ويجعلونهم يتوهَّمون أن في استطاعتهم الحُكمَ بأنفسهم على اللحن والغناء. وهكذا تحوَّل النظارة من الصمت إلى الصياح، وكأنهم يفهمون ما هو سليم وما هو فاسد في الموسيقى والشعر، وبدلًا من أن تزدهر الأرستقراطية «حكم الصفوة» ازدهر نوعٌ شرِّير من «التياتروقراطية» «حكم النظارة»؛ ذلك لأنه لو كانت الديمقراطية التي تحكُم مؤلفةً من أشخاصٍ متعلمين فحسب، لما ترتَّب على ذلك خطرٌ شديد، ولكن أول ما ظهر في الموسيقى هو الفوضى العامة والغرور الشامل الذي يتوهَّم فيه الكل أنهم يعرفون كل شيء، ثم أتت الحرية في أعقاب ذلك، ولم يعُد الناس الذين يتخيَّلون أنفسهم عارفين ما لا يعرفونه، لم يعودوا يخافون من شيء، وانعدام الخوف يؤدي إلى فقدان الحياء، فماذا يكون انعدام الحياء هذا، وهو شرٌّ لا شك فيه، إن لم يكن هو الرفض الوقح للاسترشاد بآراءِ مَن هم أصلح، اعتمادًا على رأيٍ مُفرِط الجرأة في الحرية؟!»
٢٢  «قوانين الإسبرطيين وعاداتهم» المجلد الأول، ص١٧ (ترجمه إلى الإنجليزية جون بوليين John Polleyn) الناشر Little Brown and Co.. بوسطن، ١٨٩٨م.
٢٣  في «طيماوس» ٤٧، يقول أفلاطون: «… إن الموسيقى من حيث هي ملائمة للصوت البشري ولحاسة السمع، قد وُهِبَت لنا من أجل الانسجام، وهذا الانسجام الذي يتميَّز بحركاتٍ مماثلة لتقلُّبات نفوسنا، ليس في نظر الفاهمين لأسرار ربَّات الفنون صادرًا عنها في سبيل لذةٍ لا عاقلة، كما يعتقد الناس في أيامنا هذه أن هذا هو الغرضُ منه، وإنما المقصود منه تقويم أي تنافُرٍ قد ينشأ في مسالك النفس. وهو قد جُعل لكي يُعينَنا على جعلها متوافقةً مع ذاتها. كذلك أعطتنا الربَّات الإيقاع لهذا الغرض نفسه؛ نظرًا إلى ما يسود بين البشر عامةً من أساليبَ مضطربةٍ متنافرة لكي يُعينَنا على التخلص منها.»
٢٤  الكتاب السابع، ٨١٢–٨١٣.
٢٥  الجمهورية، الكتاب الثالث، ٤٠١.
٢٦  السياسة، الكتاب الثامن، الفصل الخامس، ١٣٤٠أ في كتاب «المؤلفات الرئيسية لأرسطو The Basic works of Aristotle» (ترجمة جويت Jowett) الناشر Random house، نيويورك، ١٩٤١م.
ملحوظة للمترجم: لم يترجم جويت كل ما وَرَد في كتاب «المؤلفات الرئيسية لأرسطو»، بل ترجم كتاب السياسة وحده.
٢٧  في المرجع نفسه، الفصل السابع، ١٣٤٢أ، يقول أرسطو: «ذلك لأن المشاعر من أمثال الشفقة، الخوف، أو الحماسة أيضًا، تُوجد بقوةٍ شديدة في بعض النفوس، ولها في كل النفوس تأثيرٌ يتفاوت قوةً أو ضعفًا. وبعض الناس يغيبون في حالة تشنُّج ديني، فإذا استخدم هؤلاء من الألحان المقدَّسة ما يثير النفوس إلى حالة الوجد الصوفي، فإنهم يَبْرءون وكأنهم وجدوا التطهُّر والشفاء، ولا بد لمن يتأثرون بالشفقة أو الخوف، وبكل طبيعةٍ عاطفية، من أن يَمُرُّوا بتجربةٍ مماثلة، وكذلك الحال لدى كل من يتعرَّض لهذه الانفعالات، هؤلاء جميعًا يتطهَّرون وتنشرح نفوسهم وتطرب.»
٢٨  الكتاب السابع، ٧٩٠–٧٩١.
٢٩  كانت أناشيد النصر (Paeans) في الأصل تعاويذ ضد المرض والموت. وكان كلمة paena تعني «الشافي». وقد كانت في الأصل رقصةً علاجية، ثم تحوَّلَت إلى رقصة تكريم لإله الشفاء، أبولو.
«بالأناشيد، الأغاني المقدَّسة التي تُطرِب الآذان برقتها، يبتهل شباب الإغريق إلى الآلهة يومًا بطوله، ويسمع منهم أبولو أنشودة الشفاء البديعة، وتُشنِّف أُذنَه الأصواتُ الساحرة» (بلوتارك، في الموسيقى، ٤٢). وقد روى هوميروس في الإلياذة أن هذه الأنشودة كانت تُستخدَم في إبعاد الطاعون؛ فعندما وقعَت إسبرطة فريةً للطاعون بعد عدة قرونٍ استدعى الحُكَّام الموسيقي الكريتي ثاليتاس Thaletas لتأليف أناشيد الشفاء التي تُساعِد على التخلص من الطاعون.
ملاحظة للمراجع: يُلاحَظ قوة الشبه بين هذه الطريقة اليونانية في العلاج بالموسيقى، وبين ظاهرة «الزار» المصرية المعروفة.
٣٠  الكتاب الثامن، الفصل الخامس، ١٣٤٠ب.
٣١  المرجع نفسه، الفصل السابع، ١٤٣٢ب.
٣٢  الموضع نفسه.
٣٣  المرجع نفسه، ١٣٤١ أ.
٣٤  الموضع نفسه.
٣٥  الموضع نفسه.
٣٦  المرجع نفسه، ١٣٤١ب.
٣٧  كان أنتيسثينيس (٤٤٤–٣٦٥ق.م.) تلميذ سقراط ومؤسس المدرسة الكلبية في الفلسفة، يرى أن الموسيقى مضيعةٌ للوقت لا ضرورة لها ولا جدوى منها، وكان الكلبيون يرون أن «الموسيقيين البارعين» كثيرًا ما تكون نفوسهم نشازًا، وبالتالي فهم منحرفون عن الحقيقة.
٣٨  «سير بلوتارك Plutarch’s Lives»، المجلد الثالث، ص٥ (ترجمها برنادوت بيرين Bernadotte perrin) الناشر W. Heinemann، لندن، ١٩١٥م.
٣٩  في الموسيقى On Music، ص١٧ (ترجمة ج. ﻫ برومبي J. H. Bromby الناشر Chiswish)، لندن، ١٨٢٢م.
٤٠  المرجع نفسه، ص٧٧.
٤١  المرجع نفسه، ص٧٧ وما بعدها.
٤٢  الإشكالات Problems، ١٩، ٢٣، ٩١٩ب.
٤٣  المرجع نفسه، ١٩، ٣٥، ٩٢٠ب.
٤٤  المرجع نفسه، ١٩، ٣٨، ٩٢٠ب.
٤٥  المرجع نفسه، ١٩، ٣٧، ٩١٩ب.
٤٦  اختلف تلميذٌ آخر لأرسطو، هو ثيوفراسطس Theophrastus الذي خلَف أرسطو في التدريس باللوقيوم (الليسيه) Lyceum، مع أستاذه حول النتائج الأخلاقية للموسيقى؛ فقد سار أرسطو على نهج أفلاطون في الربط بين الأساليب الموسيقية اليونانية وبين الشخصية الأخلاقية الكاملة. أما ثيوفراسطس فقد ربط بين هذه الأساليب وبين الانفعالات وحدها. وقد عزا ثيوفراسطس أصلَ الموسيقى وطبيعتَها إلى التعبير الانفعالي عن الحزن واللذة والحماسة «فلما كان الحب ينطوي على كل أسباب الموسيقى — أي الحزن واللذة والحماسة — فلا بد أنه يزيدنا، أكثر من أي انفعالٍ آخر، ميلًا إلى الشعر والغناء.»
«ندوات بلوتارك Plutarch’s Symposiacs»، الكتاب الأول، المسألة الخامسة، ٣ المجلد الثالث، ص٣١٨–٣١٩، الناشر Little Brown and Co، بوسطن، ١٨٩٨م.
٤٧  تيودور م جرين Theodore M Green الفنون وفن النقد The Art and the Art of Criticism ص١٨–١٩، الناشر مطبعة جامعة بوستون، ١٩٤٧م.
٤٨  ألَّف إقليدس (حوالي ٣٠٠ق.م.) الرياضي الفيثاغوري الشهير بحثه في الانسجام الهارموني في عهد البطالمة في بيئة الإسكندرية العلمية.
٤٩  الهارمونيات لأرسطوكسينوس The Harmonics of Aristoxenus ص١٨٨–١٩٠أ، نشره وترجمه هنري س. ماكران Henry S. Macran، أكسفورد، مطبعة كلارندن، لندن، ١٩٤٧م.
٥٠  ص٨٧–٨٩.
٥١  حبل في اليونان، اشتُهر في الأدب بأنه مَقَر ربَّات الفن ومَهبِط الوحي (المترجم).
٥٢  «الفلاسفة الرواقيون والأبيقوريون: في طبيعة الأشياء The Stoic and Epicurean Philosophers: On the Nature of Things» الكتاب الثالث ١٣٠–١٣٥، ص١١٧، (ترجمة ﻫ أ منرو H. A. J Munro) الناشر Random House، نيويورك، ١٩٤٠م.
٥٣  برنارد بوزانكيت، تاريخ علم الجمال B. Bosanquet: A History of Aesthetic، ص١٠، الناشر George Allen and Unwin، لندن، ١٩٢٢م.
٥٤  المرجع المذكور من قبلُ، الكتاب الخامس، ١٣٧٩–١٣٩١، ص١٩٠.
٥٥  يُلاحَظ أن الكوليريوم أو الكولوسيوم Colosseum الروماني كان يُستخدَم أساسًا في مشاهدة مباريات المتصارعين من الأَسْرى مع الأسود، وغيرها من الحيوانات المفترسة؛ أي إن أعراضه العنيفة هذه كانت على العكس تمامًا من الأعراض الفنية الرفيعة للمسرح اليوناني (المترجم).
٥٦  في رسالة «الخطابة De Oratore»، الفصل الثالث، ٥١ و(ترجمة ﻫ راكام H Rakham الناشر Heinemann لندن، ١٩٤٢م) يقول شيشرون: ذلك لأنه لمَّا كان الفن قد بدأ من الطبيعة، فمن المؤكد أنه يخفقُ في أداء رسالته لو لم تكن لديه قدرةٌ طبيعية على التأثير فينا وإمتاعنا، ولكن لا يُوجَد شيءٌ أقرب إلى أذهاننا من الإيقاعات والكلمات؛ فهي تُثير فينا الانفعال والسرور، وتبعثُ فينا الهدوء والسكينة، وكثيرًا ما تُؤدِّي بنا إلى السرور أو إلى الحزن.
٥٧  فتروفيوس، في العمارة On Atchitectute، الكتاب الخامس، الفصل الرابع، المجلد الأول، ترجمة فرانك جرينجر Frank Granget، الناشر Heinemann، لندن، ١٩٣١م.
٥٨  الكتاب الأول، ١٠، ٣١–٣٢، ترجمة ﻫ. أ. بطلر H. E. Butler الناشر Heinemann، لندن، ١٩٢١م.
وقد كتب كونتليان في معرض إشادته بطريقة اليونانيين في استخدام نظامهم الموسيقي يقول: «إنه ليبدو بالفعل أن الطبيعة ذاتها قد وهبَت الإنسان الموسيقى لتكون عونًا له على تخفيف عناء العمل؛ فحتى النوتي الذي يجدِّف في سفينته الضخمة يُقبِل على عمله مسرورًا بفضل الموسيقى. ولا تقتصر وظيفة الموسيقى هذه على الحالات التي تتوحَّد فيها جهود عدد من الناس بفضل صوتٍ عذب يُنشِد لهم اللحن، بل إن العامل الذي يشتغل وحده يمكن أن يجد ما يُسرِّي عنه عناء العمل في أغنيةٍ بسيطة» (الكتاب الأول، ١٠، ١٦–١٧).
٥٩  ٢٠٢–٢١٩، ترجمة ألبرت كوك Albert Cook، الناشر G. E. Stechert and Co. نيويورك ١٩٣٦.
٦٠  التساعيات، ٥٠–٩–١١، ترجمة ستيفن ماكينا Stephen Mackenns، الناشر: The Medici Society Ltd، لندن، ١٩٢٦م.
٦١  المرجع نفسه ١–١٣.
٦٢  يقول لونجينوس في كتابه «الجليل» Longinus: On the Sublime، (ترجمة هاملتن فايف Hamilton Fyfe)، الناشر Heinemann، لندن، ١٩٣٢م: «ألا يثير الناي مثلًا انفعالاتٍ معيَّنة فيمن يستمعون إليه؟ ألا يبدو أنه يُحلِّق بهم بعيدًا ويملؤهم بنشوةٍ سماوية؟ إنه يصنع حركةً إيقاعية معيَّنة، ويدفعُهم إلى التحرك مع إيقاعها. وعلى السامع أن يتجاوب مع النغم، حتى لو لم يكن ذا ذوقٍ موسيقي على الإطلاق.»
٦٣  المرجع المذكور من قبلُ، ٤–٤–٤١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤