الخاتمة

كانت أزمة سنتَيْ ١٨٣٩م-١٨٤٠م خاتمة النشاط في حياة الباشا الكبير، وإن كان قد سلخ بعد ذلك حقبة زمنية بأكملها وهو يحكم مصر فإن العبء كان ثقيلًا وخيبة الأمل من الفداحة بحيث لم يستطع أن يضمن ذلك الشيخ الهرم الذي جاوز السبعين، فعلى عاتقه وحده كان عبء المسؤلية وبذل الجهود واتخاذ القرارات الحاسمة وتدبير الرأي، ولم يكن يعرف طعم الكرى كما أن أعصابه قد أصبحت متعبة إلى حد أنه كان كثيرًا ما كانت تنتابه سورةُ الغضب الشديد، على أنه حتى بعد أن مرَّت الأزمة وضعفت مرارة خيبة الأمل؛ فإن أعصابه قد ظلَّتْ متعبة برغم ما كان يبدو عليه من علامات الصحة الجسمانية،١ وفي منتصف عام ١٨٤٤م ثقل عبء السنين على عاتقه بكل مزعج، وكان من نتيجته هذا الحادث المرعب.

ففي إحدى الليالي وهو في الإسكندرية بعد أن فرغ محمد علي من المجلس الذي دارت فيه مناقشات حادَّة بينه وبين كبار رجال دولته آوى إلى مخدعه، ولكن الأرق قد تملَّكه ولم تذق عيناه النوم مطلقًا.

وفي الصباح الباكر غادر فراشه وولى وجهه شطر قاعة الاستقبال وكانت خالية طبعًا؛ لأن أحدًا من الوزراء لم يكن موجودًا في مثل تلك الساعة المبكرة، وإذ ذاك استلقى محمد علي على «الكنبة» وأجهش في البكاء والعويل بحالة عصبية مسموعة.

وبعد برهة قصيرة أرسل في إحضار طعام الإفطار، ولكنه لم يتناول منه شيئًا عندما أُحضِر إليه.

وقد رفض تناول قدح القهوة كما رفض تدخين «الشبك»، وبعد ما يقرب من الساعة طلب الباشا المركبة وبدأ ينزل درج السلم، وكان الوزراء قد حضروا جميعًا على عجل وقد ظلوا واقفين أمام مولاهم دون أن يجرأ أحد على الدنو منه.

فما كاد بصره يقع عليهم حتى صاح فيهم بأنهم قد خانوه جميعًا، وأنه قد عقد النية على أن يغسل يديه من كل شيء وأن يغادر الديار لحج بيت الله الحرام.

ثم تولى عنهم قاصدًا البيت الخلوي بقرب الترعة المحمودية الذي كان يقصده كلما أراد أن يستقل الباخرة ذاهبًا إلى القاهرة. ولما لم تكن الباخرة قد أُعِدَّتْ له أغلق الدار وبقي فيها بنفسه، وكان كل جوابه على القنصل الفرنسي عندما حضر مستفسرًا على الخبر الذي يمكن أن يبعث به إلى حكومته هو «ما فات فات، والمقدر لا بد من نفاذه.» وفي اليوم التالي استقل الباخرة وعند وصوله القاهرة حبس نفسه في قصره بشبرا بقرب النيل وهُرِع إليه كلوت بك ليسهر على راحته، ولكن الباشا كان ما يزال في حالة هيجان عصبي، حتى إنه ما كان يستطيع أن يُدني قدح القهوة من فمه كما كان لم يكن يَسَعه التنقُّل من حجرة إلى أخرى بدون أن يتكئ على ذراع أحد من رجال الحاشية.٢
ومع ذلك ففي الوقت الذي توقَّع فيه الناس أن تُنشِب المنيةُ أظفارها في الباشا، أو يصبح على الأقل عاجزًا عن إدارة دفة الأمور؛ فإن ما ناله من الراحة وعناية كلوت بك وموالاته السهر على راحة مولاه، وفوق ذلك كله قوة بنية الباشا الخارقة للعادة، كل ذلك قد مكَّنه من استعادة صحته وقد فارقه الهم والوسواس وعاد ذهنه إلى سابق صفائه. ومن ثم عدل عن مشروع الحج إلى بيت الله الحرام وقضى بالغرامة على كل وزير يثير حفيظته وغضبه.٣
وفي الوقت نفسه أخذت صلات الباشا ببريطانيا العظمى في التحسُّن تحسنًا محسوسًا، ويرجع سر ذلك إلى سقوط وزارة الأحرار في سنة ١٨٤١م، وقد أبدى كل من «بيل» و«أبردين» رغبتهما في تسوية العلاقات وتحسين الصلات ولم يُحجما عن الإعراب عن استهجانهما لسياسة الوزارة السابقة. وفي سنة ١٨٤٣م عقدت الحكومة الإنجليزية العزمَ على أن تُهدي محمد علي سفينة بخارية كدليل على شكر الشعب الإنجليزي وتقديره له،٤ وأهدته شركة الهند الشرقية بنافورة من الفضة الخالصة،٥ وبعثت له جلالة الملكة بصورتها في إطار رصع بالأحجار الكريمة،٦ وأنعم عليه حوالي الوقت نفسه ملك فرنسا بنيشان جوقة الشرف «اللجيون دونير»،٧ وذهب إبراهيم باشا في زيارة فرنسا وإنجلترا، حيث استُقبِل فيهما استقبالًا حافلًا، وقد أظهر أنه لا يتأخر عن نخب أي إنسان، وقد صرَّحَ محمد علي أنه سيحتذي حذو ولده إبراهيم، وقد أكد له عدوه الألد القديم لورد بالمرستون الذي عاد إلى منصب وزارة الخارجية بأنه إذا حضر لإنجلترا فلسوف تقابله جلالة الملكة المقابلة الحافلة التي يستحقها، وأنه يمكنه أن يعتمد على حسن الاستقبال من حكومة جلالة الملكة له.٨
وشاءت المقادير ألا تقع هذه الزيارة، ولكن الباشا شدَّ رحال السفر فعلًا إلى الآستانة سنة ١٨٤٦م، حيث قُوبِل مقابلة حارَّة، ثم (بعد زيارة قصيرة إلى مسقط رأسه في مدينة قولة) وهو يتمتع بصحة جيدة ومنشرح الصدر انشراحًا لم يتمتع به منذ سنة ١٨٤٠م، وقد تواترت الإشاعات بأنه وزَّعَ على كبار الناس في الآستانة ما يقرب من ربع مليون جنيه،٩ على أن هذا كان خاتمة أعماله؛ لأن إدارة البلاد ابتداء من سنة ١٨٤٧م فصاعدًا أصبحت فعلًا في يدَيْ ولده إبراهيم؛ لأن الباشا نفسه كان قد تغلَّبَتْ عليه الشيخوخة الحقيقية. ولقد انتقل إبراهيم باشا إلى العالم الآخر في نهاية سنة ١٨٤٨م؛ أي بعد أسابيع قليلة من تلاوته «الحظ الشريف» بتعيينه واليًا على مصر بعد أن أقعد المرض والشيخوخة والده عن إدارة البلاد،١٠ ثم خلف إبراهيم عباس الأول، وهنا لا بد أن نقول إن إبراهيم احتفظ بجميع تقاليد أبيه، ولكن سرعان ما تغيَّرت الأمور بجلوس عباس على الأريكة وتحوَّلَت الدنيا إلى دنيا جديدة تختلف كل الاختلاف عما كانت عليه في عهد سلفه الكبير؛ فإن محمد علي كان حريصًا كل الحرص على الاعتدال في نفقاته الخصوصية، ولكن عباس كان لا يرى أن هناك ما يستحق الإنفاق أو إضاعة الأموال عليه، وقد كتب القنصل البريطاني العام وقتئذ بمناسبة ذلك فقال: «إن عباسًا أصبح يشيح بوجهه عن المشروعات التي بدأها الباشا الكبير واحدًا تلو الأخرى، فقد أغلق المدارس واستغنى عن المصانع، وإني أتوقع الآن أن أسمع أنه سيعدل قريبًا عن مشروع القناطر الخيرية الذي أثار لغطًا كبيرًا في أوروبا؛ فلقد كلَّف المشروع الخزانة إلى الآن ما يقرب من المليوني جنيه، ولا يحتاج إلى إتمامه أكثر من نصف مليون، وبينما يضن عباس بالأموال على أمثال هذه المشروعات الحيوية تراه يبذرها يمينًا وشمالًا في تأثيث القصور وتقديم الهدايا الثمينة إلى أقارب السلطان في الآستانة، هذا إلى أنه شَرَعَ يتكلم عن ابتياع عدد من البواخر كانت في زعمه عديدة وزهيدة الثمن كثمر التين.»١١

ولحسن الحظ لم يكن محمد علي يعرف ما هو جارٍ خلف الستار، ولا يدري أن عباسًا الأول قد طرح كل مشروعاته النفيسة لترقية البلاد ظهريًّا الواحد تلو الآخر. وأحسب أنه لو كان علم بذلك لصُدِم صدمة دونها صدمة الشيخوخة وما ينتابه من الألم الجثماني. وأخيرًا، بعد حياة حافلة لحق بربه وهو في سن الثمانين، وكانت وفاته في اليوم الثاني من شهر أغسطس سنة ١٨٤٩م، ثم نُقِلت جثته من القصر إلى الطريق الذي سلكه من قبل في سنة ١٨٤٤م، وهو مشوش الفكر، ثم بترعة المحمودية فنهر النيل إلى بولاق بالقاهرة، وكان في استقبال الجثة كافة أفراد الأسرة الباقين على قيد الحياة ولم يتخلف سوى عباس.

وسار موكب الجنازة البسيط مُيَمِّمًا شطر المكان الذي اختاره محمد علي منذ سنوات ليكون مثواه الأخير في المسجد الجديد الذي بناه بالقلعة، حيث يطل الإنسان على العاصمة الكبيرة ومجرى النيل ومن خلفها الأهرامات. وبهذه المناسبة كتب القنصل الإنجليزي العام بعبارة بليغة وبتأثر غير مألوف، فقال: «إن ما تظهره كافة طبقات السكان في مصر من الحب والتمجيد لاسم محمد علي يسمو في روعته عن أي موكب جنازة اجتمع لخلفه؛ فلا يزال الشيوخ من السكان يذكرون فضل محمد علي في تخليص البلاد مما كان فيها من الفوضى والاضطرابات، أما الشبان منهم فإنهم ما فتئوا يقارنون بين عهده النشيط وعهد خلفه القائم على التردد والتذبذب. وأخيرًا، فإن سائر الطبقات بما فيها الأتراك والعرب لا يحسون فقط، بل يخشون التصريح علانية بأن يسر مصر ورخاءها قد انقضى بوفاة محمد علي … وفي الحقيقة ليس من سبيل إلى إنكار أن محمد علي كان برغم غلطاته رجلًا عظيمًا.»

فلقد استطاع دون أن تكون له مزية رفعة الحسب أو الثروة المدخرة أن يشق طريقه إلى السلطان والشهرة العالمية لا معتمدًا إلا على عزيمته التي لا تقل وقوة مثابرته وفرط ذكائه «ومع أن محمد علي كان يخفي أعمال القسوة بين آنٍ وآخر فإنه لم يكن قاسيًا بطبعه، وكان يحب الشهرة والسلطان حبًّا عظيمًا، وفيما عدا ذلك لم يحفل بالمال إلا باعتباره وسيلة لتحقيق الأماني العظيمة.» وكثيرًا ما سمع القنصل العام أكثر من واحد يتمنَّى في خلال مرض محمد علي الأخير «أن لو اقتطع الله جل وعلا عشر سنوات من عمره عن طيب خاطر إلى عمر الباشا الكبير.» ولما هبط إلى حلب أو دمشق أو أي من المدن التي كانت تحت نير السلطان مباشرة، حيث لم يكن الفرد المسيحي مطمئنًّا على نفسه من الأذى أو الإهانة أصدر محمد علي أَمْرَه بأن يُسمَح لأي مسيحي أو أوروبي بأن يَسِير في شوارع القاهرة بلا سلاح وبدون أن يتعرَّض لأي خطر كما كان يفعل لو كان في لندن، وقد ختم القنصل العام ورسالته باعتذار لا لزوم له عن تحمسه لمحمد علي، فقال: «وأغلب الظن أنني لم أستطع أن أقاوم كلية ما كان للباشا من التأثير في نفوس الذين كانوا على اتصال به بفضل تربيته السامية وأخلاقه الجذابة.»

ثم ماذا يكون حقه في ذكرنا إياه؟! … لقد كتبت على الصفحة الأولى من هذا الكتاب كلمة من كلمات محمد علي قارن فيها بين ما عمله في مصر وبين ما عمله مواطنو الهند. وعندي أنَّ وجه المقارنة غير تام، ولكن هذه الكلمة تنطوي برغم ذلك على جزء من الحقيقة أكبر بكثير مما يود الإنسان التسليم به بادئ ذي بدء، ولكن ثمة وجوه كثيرة للشبه بينه وبين رجال الإدارة الإنجليز الذين أسسوا تلك الشركة في الهند، وقد رأى نفسه مثلًا كما رأى أنفسهم يحكم ولايات تابعة لإمبراطورية بائدة تعيش في ظلال مجد قد انقضى العهد الذي يبرر وجوده، اللهم ما عدا ذكريات العظمة البالية، ثم إنه كمثلهم كان يضيق ذرعًا بخرق الرأي المبني على الرشوة السائدة في البلاط الإمبراطوري الذي يصر على ألا يرى إلى أبعد من الظروف الحالية المحيطة به، وقد سعى كما سعينا في نيل الاستقلال إرضاءً لمطامع شخصية بلا جدال، ورغبة منه في أن يبقى اسمه تُردِّده الأجيال المقبلة جيلًا بعد جيل، ولكن أهم باعث على السعي لنيل هذا الاستقلال هو كرهه للفوضى والرشوة وفساد الحكم.

وقد طمح الباشا كما طمح رجال الإدارة في الهند إلى أن يتمتع بالحرية ليتسنَّى له إيجاد نظام جديد للإدارة خير من النظام السابق، ولكن ما كان عليه وهو يسعى لتحقيق هذا أن يواجه كثيرًا من المصاعب التي تعترض طريقه، وهي مصاعب تختلف كل الاختلاف عما كان يواجه حكام الأقاليم في الهند؛ لأن ما كان على الآخرين أن يواجهوه لم تزد عن المعارضة التي كانت تأتي من ناحية هيئات ضعيفة في داخل حدود الهند نفسها أو من ناحية منافسين أوروبيين لم يكن في استطاعتهم اختراق نطاق المراقبة البحرية القوية المبثوثة في المياه الشرقية.

ولكن سياسة محمد علي كانت تسير في اتجاه مضاد لرغبات الدول العظمى التي كانت نار الحسد مشتعلة بين بعضها وبعض، بحيث لا يمكنها الاتفاق أو جمع كلمتها على هدم الإمبراطورية العثمانية لا على أيدي إحدى هاته الدول ولا على يدَيْ دولة أخرى عداها، ثم إن الفرصة الوحيدة التي كان يمكن حقًّا أن تُحقِّق للباشا الحصول على حريته، وهي فرصة وجود حرب أوروبية عامة لم تسنح مطلقًا؛ فإذا كان محمد علي قد أخفق في إنشاء إمبراطورية عظيمة كما فعلت شركة الهند الشرقية فليس ذلك مرجعه عدم مهارة الباشا ولا عدم مثابرته. كلا؛ لأن الحظ والقوة اللذين كانا من نصيب الشركة قد أخطآه، فلم يكن له سبيل إلى الفرار من الضغط الهائل الذي وضعته الدول الأوروبية العظمى.

على أن وجه المقارنة في هذه المسألة — أي مسألة السياسة الخارجية — ليس مما يلفت النظر كما هو الحال في شئون الإدارة الداخلية والخارجية؛ فإن المهمة التي اضطلع بها الباشا كانت تشبه من وجوه متعددة المهمة التي اضطلعت بها الشركة؛ فإن حكومة مصر كحكومة البنغال أو حكومة الكارناتك لم يَعُدْ في استطاعتها أن تزعم أنها تعمل للصالح العام؛ ذلك لأن الحكام والأعوان لم تَعُدْ لهم مهمة إلا اقتناص المصالح الشخصية، ونظرًا لأن الرعية لم تكن منتظمة التنظيم الكافي فإنها كانت تقاوم مطالب الحكام مقاومة صامتة متفرقة وعلى غير طائل، وقد أصبحت العدالة مجرد صدفة من الصدف السعيدة، وتلاشت الحماية ولم يكُ ثمة ما يراقب حركة الشاهدين. وبديهي أن إنشاء إدارة على أساس عفن ومتداعٍ كهذا الأساس كان من أشد المهام السياسية، على أن هذا الإنشاء لم يتم إلا بعد ارتكاب عدة غلطات.

يُضاف إلى كل هذا أن أنواع ما قام من النظام الإداري في مصر أو في الهند كانت متشابهة وقريبة بعضها من بعض؛ فلقد كان النظام في كلا البلدين نظامًا أوتوقراطيًّا مستندًا إلى الحكم الفردي المطلق المحدود فقط بما يتحلَّى به الحاكم المفرد من المبادئ الأدبية، بمعنى أنه كان كما يشاء السيد المطاع والمالك لزمام كافة الأراضي والتاجر الأكبر، وعليه كانت المسائل الأساسية التي واجهت محمد علي وموظفي الشركة الأولين، وهي إلى أي حد يتفق مع العدل وخير البلاد يمكن تحديد هذه السلطة الواسعة وإلى أي مدى يمكن تطبيق دروس التجارب الغربية على الأحوال السائدة في الشرق، والتي تختلف كل الاختلاف عن أحوال الغرب. ولعمري لقد كان البتُّ في بعض هذه المسائل — لا فيها كلها — أسهلَ على الباشا منه على الشركة الهندية، هذا بينما كان يُعتبَر سكانها من جنس واحد تقريبًا إذا قِيسوا بالأجناس المختلفة في الهند، ثم إن نظامها الاجتماعي كان بعيدًا عن التعقيدات الناشئة عن الأنظمة الطائفية الهندية. وفوق هذا كله لم يكن سكان مصر منقسمين إلى مذهبين دينيين متنافسين كما هي الحال في الهند، ولكن يُذكَر في مقابل هذه المزايا الكبيرة التي تتمتع بها مصر نقص كبير؛ وهو عدم وجود مَعِين لا ينضب من الرجال يُعتمَد عليهم في تنفيذ ما يصدر إليهم من الأوامر. وفي الواقع أن نظام الإدارة في عهد الباشا كان يختلف عن نظام الشركة في الهند بعدم وجود هيئة الخدمة المدنية كما هي الحال في الهند، وأحسب أنه لا يمكن عدلًا تشبيه مصر في عهده بالهند في عهد بتنك، ولكن قد يمكن المقارنة بينهما في أوائل عهد الشركة بحكم الهند، أي الوقت الذي لم يكن تطورت فيه مزايا موظفي الشركة في البنغال مثلًا أثناء حكم «كليف» أو «هاستنجز».

هذه الحقيقة وحدها كانت كافية في إيجاد الفوارق بين نظام إدارة إيراد الأراضي لدى حكومة الباشا ولدى الشركة الهندية؛ فإن محمد علي لم يخطر له طبعًا أن يعمل على وضع تسوية دائمة للموضوع، ولكن سياسة كورنواليس الخاصة بالإيرادات لم تكن أكثر من مجرد سياسة محلية مشوشة لم تلبث أن طُرحت ظهريًّا في جميع الجهات ما عدا الجهة التي نشأت فيها تلك السياسة، وإذا ما استثنينا تعيينه المحاصيل التي ينبغي زرعها في بعض الجهات؛ فإن أساليبه كانت كثيرة الشبه بما كان متبعًا في مقاطعة مدراس مثلًا؛ فتحديد ضرائب فادحة موضوعة على نسبة ما يمكن دفعه في السنوات التي تكثر فيها غلة الأراضي لا في السنوات العادية، وعجز المزارعين عن دفع الضرائب المختلفة عليهم، واستعمال الكرباج لحمل المزارعين على الدفع؛ كل هذه الأساليب كانت مستعملة في بعض المقاطعات الهندية لا قبل بداية الحكم البريطاني فقط، بل وفي أوائله أيضًا، لا بل إن المبدأ القاتل بملكية الأراضي للدولة نادت به الشركة وطبَّقَتْه منذ زمن بعيد قبل ظهور الحكم البريطاني.

نعم؛ لم يكن في وسع الهند البريطانية أن تُقدِّم ما يشبه نظام التجنيد الذي سَنَّهُ محمد علي في مصر، ولكن هذا التجنيد لم يكن ما يقتضيه في الهند، وهذا فضلًا عن أن أحدًا لم يسعه أن يتصوره أو يدركه، أولًا أنه لم يكن ضروريًا؛ لأن عددًا كبيرًا لهذا كان يحمل السلاح مكرهًا، وثانيًا كان غير مفهوم؛ لأن العادة والنظام الاجتماعي كانا يُحتِّمان ألا يحمل السلاح إلا طبقات معينة فقط من الأهالي، ولعل الفائدة لم تكن كلها إلى جانب الهند في مسألة كهذه.

ومسألة أخرى هي أن موقف الباشا كان أشد أوتوقراطيًّا في الظاهر من الحكام الذين كانوا يعملون باسم الشركة الهندية، بمعنى أنه لم يكن يتردَّد في تنفيذ إرادته ولو بأقسى الوسائل إذا اقتضى الأمر ذلك، ومن جهة أخرى لم تكن تُفرِّق بينه وبين شعبه تلك الفوارق الدينية أو الثقافية التي كانت تُفرِّق حكام الشركة عن أمراء الهند، ولم يكن يقتصر على إرغام رجاله على الانخراط في سلك جيشه فحسب، بل كان يحملهم أيضًا على زراعة القطن وقصب السكر وشجر التوت وأن يبعثوا بأولادهم إلى المدارس، وأن يقوموا بكل ما يظنه صالحًا لخير الدولة وليس يسع أحد أن يوجه إليه شيئًا من اللوم في ذلك؛ إذ لم يكن ثمة سبيل للقيام بالإصلاحات التي كان ينشدها.

ثم إنه كثير الحذر والتأني، ولعل ذلك كان من أهم مزاياه في طبع النظام الإداري بالطابع الغربي؛ لأن المزايا المادية متى أُدركت مرة فليس يَسَع الإنسان إلا التسليم بها.

أما المزايا الأدبية، فقد كان يعرف أنها مما لا يدركه الإنسان إلا تدريجيًّا؛ لذلك لم يكن الباشا مستعجلًا لحكم البلاد بالأساليب الغربية، فلم يحاول — كما فعل كورونواليس في الهند — أن يُعطِّل بين الهيئة القضائية والهيئة التنفيذية، أو أن يسن قانونًا جديدًا قد لا يستطيع الشعب تفهُّمَه، كما أنه لم يحاول البتة أن يُغيِّر أساس الإدارة من تنفيذي إلى قضائي، ولكنه لم يسكت عن عمل كل ما أمكن عمله لتطهير العدالة مما كان عالقًا بها من الأدران والإشراف على المحاكم القديمة وإدخال محاكم جديدة أكثر انطباقًا على روح العصر، ثم إنه لم يحاول شيئًا في سبيل إنشاء معاهد تشريعية، ولكنه لم يتوانَ عن بذل كل ما في سعته لتحسين تصريف الأعمال العامة عن طريق النقاش، وأن يجمع في صعيد واحد ممثلي الطبقات المختلفة الذين يساعد تبادلهم الرأي على تسهيل الأعمال العامة، وأخيرًا عُنِيَ بإنشاء المدارس وإرسال البعثات المختلفة إلى أوروبا على أن يجعل شعبه على اتصال بالآراء والثقافة الغربية، وأن ينشئ جيلًا جديدًا قد أُشرِبَتْ نفسه حب الآراء الصحيحة والمدارك السامية من الواجبات السياسية أكثر من الجيل الذي كان يعمل معه.

ولعل الباشا في ذلك كله كان ملهمًا تمام الإلهام أكثر بكثير من الإنجليز الذين كانوا يعملون على تلقين الهنود عامة الآراء الإنجليزية والثقافة الغربية، ولعل سوء حظه الحقيقي انحصر في أنه كان فردًا بعينه لا نظامًا معينًا، وإذا كان لجيل بعينه أن يضع الأسس فلا غنى عن أجيال أخرى لرفع واجهة البناء ورفعها عاليًا، ولقد أمعن خلفاؤه الأولون في النكث بعهده وتجاهل أعماله واطراحها ظهريًّا، لا بل لقد كانوا في كثير من الأحوال يعملون على فشل الغاية من هذه الأعمال، وإذا كان الخلاف بين عهد «بنتنك» وعهد خلفائه في الهند كان تافهًا؛ فإنه على العكس من ذلك بين محمد علي وعباس الأول مثلًا فقد كان الخلاف لا يتناول في الحالة الثانية الغاية وحدها، بل والخطة أيضًا. وفي الحق أن أعمال محمد علي قد تعرضت لهزة عنيفة كما لم تتعرض لها أعمال أحد الحكام العموميين في الهند؛ لذلك لم يكن عجيبًا أن نرى الكثير منها قد اندثر وراح هباء. وبالرغم من ذلك كله، فإن من الواضح أنه هو الذي أنشأ مصر الحديثة وجعلها على اتصال جديد نافع بالغرب، وليس من ريب في أن هذه الناحية من عمله لا يمكن لأحد أن يُغيِّرها، وإذا كان قد كُتِب له النجاح والتوفيق؛ ذلك لأنه طبع الشعب الذي يحكمه بطابع الغاية النبيلة التي ينشدها ويعمل على تحقيقها، ولا تزال تقاليده حية إلى الآن برغم مرور نحو قرن كامل!

١  كما ذكره «بارنث» في ١٨ أكتوبر سنة ١٨٤١م (وزارة الخارجية ٤٥١–٨٧).
٢  ستودا في ٦ أغسطس سنة ١٨٤٤م (وزارة الخارجية ٥٧٢–٧٨).
٣  ستودا في ٧ أغسطس ١٨٤٤م (وزارة الخارجية ٥٨٢–٧٨).
٤  بورنج إلى بوغوص بك في ١٥ يونيو سنة ١٨٤٣م (محفوظات عابدين).
٥  بارنت في ١٧ أغسطس ١٨٤٥م (وزارة الخارجية ٦٢٣–٧٨).
٦  بارنت في ٢٣ سبتمبر ١٨٤٥م (وزارة الخارجية ٦٢٣–٧٨).
٧  بارنت في ٤ نوفمبر ١٨٤٥م (وزارة الخارجية ٦٢٣–٧٨).
٨  كما جاء في كتاب إلى مري في ١٧ نوفمبر ١٨٤٧م (وزارة الخارجية ٧٠٦–٧٨).
٩  ستنودارت تحت رقمَيْ ٧ و٨ في ٢٩ أغسطس سنة ١٨٤٦م (وزارة الخارجية ب٦٦١–٧٨).
١٠  أثبته مري في ٤ أكتوبر والمرفقات في ١٥ نوفمبر ١٨٤٨م (وزارة الخارجية ٧٥٧–٧٨).
١١  كما ذكره مري في كتاب خاص إلى بالمرستون في ١٦ أبريل سنة ١٨٤٦ (وزارة الخارجية ٨٠٤–٧٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤