الفصل الأول

مُشْكِلَةُ التُّفَّاحَةِ

(١) سَمِيرٌ وَمرْوانُ مُخْتَلِفانِ

حَدَّثَ «جُحا، أَبُو الْغُصْنِ»: «دُجَيْنُ بْنُ ثابِتٍ»، قالَ: «سَمِيرٌ» و«مَرْوانُ» أَخَوانِ صَغِيرانِ، مُشاغِبانِ، عَنِيدانِ.

كِلاهُما ابْنانِ لِصَدِيقٍ لِي مِنَ الْجِيرانِ، اسْمُهُ الشَّيْخُ «نُعْمانُ».

شَدَّ ما ضاقَ صَدْرِي بِما كانا يَخْتَلِفانِ فِيهِ وَيَتَنازَعانِ!

لَوْ عَرَفَهُما الْقارِئُ، كَما عَرَفْتُهُما، لَعَذَرَنِي فِي مَوْقِفِي مِنْهُما.

لكِنْ ماذا يُجْدِي عِلْمُهُما بِغَضَبِي، فِي سَبِيِلِ التَّقْوِيمِ والْإِصْلاحِ؟

لَمْ أُظْهِرْ لَهُما ضِيقًا، بَلْ تَحَيَّنْتُ فُرْصَةً لِمُحَاوَلَةٍ مُجْدِيَةٍ.

قَصَدْتُ بِما قَدَّمْتُ مِنَ الْمُحاوَلَةِ أَنْ أُلْقِيَ دَرْسًا عَلَيْهِما.

لَمْ يَخِبْ ظَنِّي فِيما قَدَّرْتُهُ مِنْ نَتِيجَةِ هذا الدَّرسِ الْقاسِي.

لَقَدِ اسْتَطاعَ الدَّرْسُ أَنْ يَقَعَ مِنْ نَفْسَيْهِما مَوْقِعَ التَّأْثِيرِ.

اقْتَنَعا بِما أَفادَا مِنْ عِظَةٍ، فَأَقْلَعا عَنِ التَّخالُفِ والْخِصامِ.

جَنَحا إِلَى الْمُصالَحَةِ والْوِئامِ، وَرَفْرَفَ عَلَيْهِما وُدٌّ وَمَحَبَّةٌ وَسَلامٌ.

أَرَاكَ فِي شُوَقٍ إِلَى سَماعِ قِصَّتِي مَعَ هذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ.

أَصْغِ بِسَمْعِكَ إِلَيَّ، حَتَّى أَسُوقَ حَدِيْثَ ما كانَ إِلَيْكَ.

(٢) سَبَبُ الْمُشاجَرَةِ

كُنْتُ — عَصْرَ يَوْمٍ، بَعْدَ انْقِضاءِ عَمَلِي — عَائِدًا إِلَى بَيْتِي. عَلَى الطَّرِيقِ اسْتَوْقَفَنِي هذانِ الشَّقِيقانِ، وَهُما يَتَحاوَرانِ وَيَتَصايَحانِ.

هذانِ الشَّقِيقانِ مِنْ أَبْناءِ الْجِيرانِ، كَثِيرًا ما عَهِدْتُهُما يَتَنازَعانِ.

لَمْ أَشَأْ أَنْ أَمْضِيَ وَأَتْرُكَهُما، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِما، وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُما.

قُلْتُ لَهُما: «كَيْفَ اخْتِلافُكُما أَيُّها الْأَخَوانِ؟ وَفِيمَ أَنْتُما مُخْتَلِفانِ؟»

ما لَبِثَ الصَّبِيَّانِ الْأَخَوانِ أَنْ كَفَّا عَنِ التَّحاوُرِ والتَّصايُحِ.

انِدَفَعا إِلَيَّ، وَتَسابَقَ كُلٌّ مِنْهُما فِي عَرْضِ شَكْواهُ عَلَيَّ.

قالا، بِصَوْتٍ واحِدٍ: «أَنْتَ عَمُّنا، فَاحْكُمْ بِما تَراهُ بَيْنَنا.»

رَبَّتُّ كَتِفَيْهِما، وابْتَسَمْتُ لَهُما، حَتَّى أُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهِما.

قُلْتُ لَهُما: «لَيْسَ مِنَ الْمَقْبُولِ أَنْ يَتَنازَعَ أَخَوانِ شَقِيقانِ. احْكِيا لِي قِصَّتَكُما، وَلا تُخْفِيا عَنِّي شَيْئًا مِنْ أَمْرِكُما. ماذا غَيَّرَ حَالَكُما؟ ماذا كَدَّرَ صَفْوَكُما؟ فِيمَ الْخُلْفُ بَيْنَكُما؟»

تَعَجَّلَ أَصْغَرُ الشَّقِيقَيْنِ «سَمِيرٌ»، فَطَلَبَ مِنِّي أَنْ أَسْتَمِعَ إِلَيْهِ.

قُلْتُ لَهُ: «لا بَأْسَ بِأَنْ أَسْتَمِعَ إِلَيْكَ أَنْتَ، بادِئَ بَدْءٍ.»

قال لِي: «هذِهِ التُّفَّاحَةُ الْمَقْسُومَةُ الَّتِي تَراها سَبَبُ الْخِلافِ. اشْتَرَيْناها مَعًا مِنْ فاكِهِيٍّ. كُلٌّ مِنَّا أَدَّى نِصْفَ ثَمَنِها. رَغِبْتُ إِلَى أَخِي فِي أَنْ يَدَعَ لِي أَنْ أَشُقَّها نِصْفَيْنِ. أَخِي ابْتَسَمَ وَقالَ: «سَأُرِيحُكَ مِنَ الْقِسْمَةِ. دَعْنِي أَقْسِمُها».

أَخِي لَمْ يَكُنْ مُنْصِفًا فِي شَقِّ التُّفَّاحَةِ نِصْفَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ. أَخِي اسْتَصْغَرَنِي، فَأَلْقَى إِلَيَّ مِنَ التُّفَّاحَةِ بِالنِّصْفِ الْأَصْغَرِ. أَخِي ظَلَمَنِي بِذلِكَ، فَخَصَّ نَفْسَهُ بِنِصْفِ التُّفَّاحَةِ الْأَكْبَرِ.»

سَأَلْتُ «مَرْوانَ» مُتَلَطِّفًا: «لِماذا فَعَلْتَ ذلِكَ، يا ابْنَ أَخِي؟»

قالَ «مَرْوانُ»: «أَخِي «سَمِيرٌ» لَيْسَ عَلَى حَقٍّ فِيما ادَّعَى. لَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَشُقَّ التُّفَّاحَةَ شِقَّيْنِ مُتَساوِيَيْنِ.»

صاحَ «سَمِيرٌ»: «أَحَقًّا أَنْتَ مُؤْمِنٌ بِهذا الَّذِي تَزْعُمُهُ؟! لَوْ صَحَّ زَعْمُكَ لَسَهُل عَلَيْكَ إِعْطائِي الشِّقَّ الَّذِي مَعَكَ.»

قالَ «مَرْوانُ»: «ما فائِدَةُ ذلِكَ، وَالشِّقَّانِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما؟»

قالَ «سَمِيرٌ»: «الْفائِدَةُ لِي: إِرْضائِي، وَلَكَ: إِثْباتُ زَعْمِكَ.»

قالَ «مَرْوانُ»: «لا داعِيَ لِهذِهِ الْمُجادَلَةِ، ما دامَتِ الْقِسْمَةُ عادِلَةً.»

قالَ «سَمِيرٌ»: «أَخْبِرْنِي، بِحَقِّكَ: لِماذا أَنْتَ مُتَشَبِّثٌ بِرَأْيِكَ؟»

قالَ «مَرْوانُ»: «كَيْفَ لا أَتَشَبَّثُ بِرَأْيِي، وَأَنَا عَلَى صَوابٍ؟»

قالَ «سَمِيرٌ»: «سَلْ عَيْنَيْكَ، تُخُبِراكَ بِما لا يَحْتَمِلُ الْعِنادَ. هُما تَرَيانِ الشِّقَّ الَّذِي فِي يَدِكَ أَكْبَرَ مِمَّا فِي يَدِي.»

قالَ «مَرْوانُ»: «عَيْناكَ أَنْتَ هُما الْمَخْدُوعَتانِ، فِيما تَرَيانِ.»

قالَ «سَمِيرٌ»: «إِلَى مَتَى نَحْنُ مُتَحاوِرانِ، يا أَخِي«مَرْوانُ»؟»

قال «مَرْوانُ»: «اقْنَعْ بِما عَرَضْتُهُ عَلَيْكَ، فَالنِّصْفانِ مُتَسَاوِيانِ.»

قالَ «سَمِيرٌ»: «الَّرأْيُ أَنْ نَتْرُكَ الْفَصْلَ لِعَمِّنا «أَبِي جَحْوانَ».»

(٣) دَرْسٌ لا يُنْسَى

شَعَرْتُ بِفَرَحٍ وَسُرُورٍ، حِينَما عَرَضَ «سَمِيرٌ» هذا الِاقْتِراحَ.»

قُلْتُ لِلْأَخَوَيْنِ: «أَقْبَلُ الْفَصْلَ بَيْنَكُما، إِذا قَبِلْتُمانِي قَاضِيًا بَيْنَكُما.»

قالَ «مَرْوانُ»: «لا أَسْتَطِيعُ رَدَّكَ، إِذا عَرَضْتَ التَّدَخُّل بَيْنَنا.»

قُلْتُ: «رَضِيتُمانِي قاضِيًا لَكُما، فارْضَيا بِحُكْمِي بَيْنَكُما.»

قالَ الْأَخَوانِ: «اقْضِ بِما شِئْتَ. ما تَحْكُمْ بِهِ نُذْعِنْ لَهُ.»

مَدَدْتُ إِلَيْهِما كِلْتا يَدَيَّ، وَقُلْتُ لَهُما: «هاتِيا شَطْرَيِ التُّفَّاحَةِ، سَأُوَازِنُ بَيْنَ الشَّطْرَيْنِ، لِأَرَى: هَلْ هُما حَقًّا يَتَناصَفانِ؟»

لَمْ يَتَوانَ كُلٌّ مِنْهُما فِي إِعْطائِيَ النَّصْفَ الَّذِي فِي يَدِهِ.

وَضَعْتُ النِّصْفَيْنِ فِي كِلْتا يَدِيَّ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِمَا، وَوَزَنْتُ بَيْنَهُما.

تَبَيَّنَتْ لِي الْحَقِيقَةُ، وَلكِنِّي كَتَمْتُها، وَقُلْتُ لِـ«مَرْوانُ» ساخِرًا: «صَدَقْتَ، يا ابْنَ أَخِي. اَلْحَقُّ مَعَكَ. اَلْقِسْمانِ مُتَساوِيانِ.»

ما سَمِعَ «مَرْوانُ» ذلِكَ، حَتَّى بَرَقَتْ عَيْناهُ، وَأَشْرَقَ مُحَيَّاهُ.

لَمْ يَغِبِ عَنِّي — مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ — أَيُّ الْقِسْمَيْنِ أَكْبَرُ؟

مَدَدْتُ يَدِي بِهِ إِلَى «سَمِيرٍ»، قائِلًا لَهُ: «هذا نَصِيبُكَ.»

صاحَ «مَرْوانُ» غاضِبًا: «لا تُعْطِهِ الْقِسْمَ الَّذِي كانَ فِي يَدِي.»

بِهذا وَضَحَ لِلْعِيانِ، بِأَجْلَى بَيانٍ، أَنَّ الظَّالِمَ هُوَ «مَرْوانُ».

رَأَيْتُ أَنَّهُ آنَ الْأَوانُ، لِإِلْقاءِ دَرْسٍ ينْتَفِعُ بِهِ الْأَخَوانِ. سَيَعِيشانِ عَلَى مَرِّ الْأَزْمانِ لا يَتَخالَفانِ، وَلا يَتَظالَمانِ.

قُلْتُ لِـ«سَمِيرٍ»: «تَبَيَّنَ لَنا الْآنَ، أَنَّ الْقِسْمَيْنِ لا يَتَساوَيانِ. سَأَعْمدُ إِلَى الْقِسْم الْأَكْبَرِ مِنَ التُّفَّاحَةِ، فَأَنْقُصُ مِنْهُ قَلِيلًا. سَأَحْرِصُ جاهِدًا عَلَى أَنْ يَتَساوَى الْقِسْمانِ، وَيَتعادَلَ النَّصِيبانِ.»

رَفَعْتُ الْقِسْمَ الْأَكْبَرَ إِلَى فَمِي، فَقَضِمْتُ مِنْهُ قَضْمَةً ضَخْمَةً.

بهذا انْعَكَسَتِ الْحالُ، فَأَصْبَحَ الْقِسْمُ الْأَكْبَرُ هُوَ الْقِسْمَ الْأَصْغَرَ.

أَعْنِي أَنَّ نَصِيبَ «مَرْوانَ» صارَ أَصْغَرَ مِنْ نَصِيبِ «سَمِيْرٍ».

صاحَ «مَرْوانَ»: «أَنا الْآنَ أَرْضَى بِالْقِسْمِ الَّذِي كانَ لِأَخِي. لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِسْمَ الَّذِي كانَ — مِنْ قَبْلُ — نَصِيبًا لِي.»

قُلْتُ لَـ«مَرْوَنَ»: «الْقَضْمَةُ الَّتِي قَضِمْتُها غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ. لَقَدْ أَرَدْتُ بِها التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَأَخْطَأْتُ، غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ. سَأَقْضَمُ مِنْ قِسْمِ «سَمِيرٍ» قَلِيلًا، حَتَّى يُساوِيَ الْقِسْمَ الْآخَرَ.»

داوَلْتُ الْقَضْمَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، مَرَّاتٍ، بِحُجَّةِ الْمُعادَلَة بَيْنَهما. لَمْ أُبْقِ — بَعْدَ الْقَضْمِ، مِنَ الْقِسْمَيْنِ — إِلَّا قِطْعَتَيْنِ صَغِيرتيْن.

(٤) نَصِيبُ الْقاضِي

«سَمِيرٌ» وَ«مَرْوَانُ» كانا يُتابِعانِ ما حَلَّ بِالتُّفَّاحَةِ، فَيَتَأَلَّمانِ.

أَقْبَلَ كِلاهُما عَلَيَّ، يُطالِبانِ بِما بَقِيَ مِنْ قِسْمَيِ التُّفَّاحَةِ.

لَمْ أَسْتَجِبْ لِمَطْلَبِهِما، لِيَكُونَ فِي صَنِيعِي مَعَهُما دَرْسٌ لَهُما.

قُلْتُ: «أَخْشَى عَلَيْكُما أَنْ تُحْدِثَ بَقِيَّةُ التُّفَّاحَةِ خِلافًا لَكُما.»

قالَ «مَرْوانُ»: «لَنْ نَخْتَلِفَ. كُلٌّ مِنَّا يَرْضَى بِأَيَّةِ الْقِطْعَتَيْنِ.»

ظَهَرَ لِي تَغَيُّرُ حالَيْهِما، فَأَلْقَيْتُ نَظْرَةً ساخِرَةً عَلَيْهِما، وَقُلْتُ: «أَتَظُنَّانِ أَنَّ عَمَّكُما «جُحَا» يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِالْقَضاءِ دُونَ ثَمَنٍ؟ أَلَيْسَ الْعَدْلُ أَنْ تَكُونَ بَقِيَّةُ التُّفَّاحَةِ نَصِيبِي، مُكافَأَةً لِي؟ إِنَّي لَبِثْتُ — أَيُّها الصَّبِيَّانِ — وَقْتًا طَوِيلًا مَعَكُما، مِنْ أَجْلِكُما. دَرَسْتُ قَضِيَّتَكُما، وَأَزَلْتُ الْخِلافَ بَيْنَكُما، وَرَفَعْتُ الظُّلْمَ عَنْكُما.»

قالَ «سَمِيرٌ»: «الدَّرْسُ الَّذِي أَلْقَيْتَهُ عَلَيْنا، تَعْوِيضٌ عَنِ التُّفَّاحَةِ. نَحْتَمِلُ مَرارَةَ الْحِرْمانِ مِنْها، لِحَلاوَةِ هذا الدَّرْسِ الْمُفِيِد النَّافِعِ.»

قالَ «مَرْوانُ»: «الدَّرْسُ كانَ خاصًّا بِي، فانْتِفاعِي بِهِ أَكْبَرُ.»

قُلْتُ لَهُما: «لا تَسْخَطا إِذَنْ عَلَيَّ، لِهذا التَّصرُّفِ مَعَكُما. لا شَكَّ فِي أَنَّكُما مُؤْمِنانِ بِأنِّي لَمْ آكُلِ التُّفَّاحَةَ طَمَعًا فِيها. ارْجِعا إِلَى بَيْتِكُما، وَأَبْلِغا أَباكُما، ما جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكُما؛ قُولا لَهُ: «إِنَّ عَمَّكُما أَزْعَجَهُ نِزاعُكُما مِنْ أَجْلِ تُفَّاحَتِكُما، لِذلِكَ أَكَلَها دَفْعًا لِخُصُومَتِكُما، وَحِمايَةً لَكُما، وَإِعْزازًا لِأُخُوَّتِكُما».»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤