الفصل الأول

طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا

تأتي كلمة «هرمنيوطيقا» من الفعل اليوناني Hermeneuein ويعني «يفسِّر»، والاسم Hermeneia ويعني «تفسير»، ويبدو أنَّ كليهما يتعلق لغويًّا بالإله «هرمس» Hermes رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو الذي كان بحكم وظيفته يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة، ثم يترجم مقاصدهم، وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر، ويذكر كلُّ من اطَّلع على الإلياذة والأوديسا أنَّ هرمس كان ينقل الرسائل من زيوس — كبير الآلهة — إلى كل من عداه وبخاصةٍ من جنس الآلهة، وينزل بها أيضًا إلى مستوى البشر، وهو إذ يفعل ذلك فقد كان عليه أن يعبر البون الفاصل بين تفكير الآلهة وتفكير البشر.
وتقول الأساطير: إنَّ هرمس كان لديه خوذةٌ سحرية (طاقية هاديس) تجعل خفيًّا عن الأعين، وتمكنه من أن يظهر فجأة وقتما يشاء، وكان لديه خفان مجنحان لكي يحملاه بسرعة عبر المسافات الطويلة، وعصًا سحرية يمكنه أن يُنِيم بها من يشاء ويُوقِظ، فهو لا يعبر المسافات الفيزيائية والفجوات الأونطولوجية بين الآلهة والبشر فحسب، بل إنَّه ليجتاز البون بين المرئي والمحجوب، وبين اليقظة والمنام، وبين الوعي واللاوعي، إنَّه الإله الزئبقي (عطارد الرومان) للخواطر الشاردة والإلهامات والبصائر المفاجئة، وهو أيضًا لص، بل هو إله السرقة وقطع الطريق وضربات الحظ، وكان هرمس أيضًا إله مفارق الطرق والتخوم حيث تتراكم الصخور Herms لإجلاله، ولم يكن يُقام مذبحه في الأزمنة القديمة إلا في الطرق البعيدة والسُّبل المنقطعة، وهرمس هو مُرشد الأرواح إلى العالم السفلي، ومن ثم، فهو يعبر الخط الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى، بين العالم الأرضي والعالم السفلي (هاديس)، إنه بحق إله الفواصل والفجوات، إله التخوم وأعتاب كل شيء.

ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولوجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا وخصائص الإله هرمس هي صوابٌ مؤكدٌ ويقينٌ لا شك فيه، فالهرمنيوطيقا «هرمسيةٌ» قلبًا وقالبًا، من حيث هي «فن الفهم وتأويل النصوص»، ورغم أن مفهوم الهرمنيوطيقا قد اتسع في القرن الثامن عشر والقرن العشرين ليشمل مناهج فهم النصوص الدينية والدنيوية على حد سواء، فإن اللفظة قد بقيت توحي بمعنى التفسير الذي يضطلع بكشف شيءٍ ما خبيءٍ ومستورٍ وسرِّيٍّ، شيءٍ مضمرٍ باطنٍ في قلب النص يَنِدُّ عن الفهم العادي والقراءة المعهودة، لقد كانت النصوص القديمة غريبةً على المحدثين غرابةً مزدوجة: فهي قديمةٌ تاريخيًّا، وهي في لغةٍ مختلفة، ولم يكن خفيًّا على وعي المفسر وهو يستغرق في تأمل نصٍّ عبري أو يوناني أو لاتيني أنه يدلف إلى كيانٍ معرفي مختلف، وأنه يقوم بوساطةٍ بين دنياوين، ويقف جسرًا بين عالمين: عالمٍ غامضٍ مستغلق معتم هو عالم النص، وعالمٍ واضح المعالم محدد القسمات كثيف الإضاءة مبذول المعنى هو عالمنا القائم الذي نعيش فيه ونألف ملامحه ونجول في كنفه.

وهرمس هو بالضبط ذلك الوسيط: فهو المراسل فيما بين «زيوس» وبين البشر الفانين، يَعْبُر هذه العقبات الأنطولوجية بسهولةٍ ويسر، وهو، وفقًا للأسطورة، لص شهير يعبر أيضًا عتبة الشرعية دون تأنيب ضمير، وهو رب الأحلام ووسيطٌ بين اليقظة والحلم، بين النهار والليل، تخفيه خوذته المسحورة وتُظهره وقتما يشاء، وهو رب التأويب يتسربل بالليل، ورب الرقاد بيده النوم وبيده اليقظة، إنه دائمًا على الأعتاب، الأطراف، الهوامش، الحوافي، التخوم، المفارق، وحتى شهوته لم تكن موجهةً للإخصاب أو لتأسيس أسرة، بل هو شهوةٌ أفروديتيةٌ مختلَسة مُسترَقةٌ دون نظرٍ في العواقب.

يبدو، في رأي الأنثروبولوجي «فيكتور تيرنر»، أن اتخاذ موقفٍ هرمسيٍّ والنظر من المنطقة الحدودية هو ما يتيح لكبار الفنانين والكُتَّاب ونقاد المجتمع رؤيةً تتجاوز الأشكال الاجتماعية، وتسمح لهم أن يشهدوا المجتمع من خارج وأن يبلغوه رسالةً مما وراءه، هذا الموقف الحدي أو الحالة البينية، أو هذا المقام في «الصدع ما بين العوالم» على حد تعبير كارلوس كاستانيدا، هو مصدرٌ لكلٍّ من الإبداع والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود، وبتعبيرٍ آخر يمكننا القول بأن هذه القدرة على الانفصال عن الوسط الاجتماعي للحُكم عليه، أو الانسلاخ عن «الثقافة» المحيطة لرؤيتها وجعلها «موضوعًا» للنقد والتقويم، هي قدرةٌ لا يتحلى بها إلا القلة من المبدعين والمصلحين، فالخروج من أقطار العالم الثقافي الذي نشأ المرء في كنفه، وانغمر في قلبه، هو رحلةٌ شاقةٌ وسفرٌ طويلٌ ومهمةٌ «هرمسيةٌ» صميمة.

في كتابه «في الطريق إلى اللغة» يتناول هيدجر الصلة الوثيقة بين معنى الهرمنيوطيقا وبين شخصية هرمس، فيقول: إنه لَمِمَّا يحمل أعمق المغزى وأبلغ الدلالة أن هرمس هو رسول الآلهة، وليس مجرد رسولٍ بين البشر بعضهم وبعض، ذلك أنَّ الرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالةً عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل. التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرًا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤوِّل هو أن تستمع أولًا، وعندئذٍ تصبح أنت نفسك رسول الآلهة، تمامًا مثلما يفعل الشعراء، كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، من قدر الإنسان حقًّا أن يتخذ موقفًا تأويليًّا من وجوده الخاص، ومن قدر البشر، بقدر ما يكونون بشرًا حقيقيين، أن يستمعوا إلى الرسالة … أن يصغوا إليها وينتموا إليها بوصفهم بشرًا.

في هذه الفجوة، هذه الفاصلة، منطقة الإفضاء؛ يقف الإنسان فيتكشف له شيءٌ ما، ويأتي نحوه حاملًا الحضور والشيء الحاضر معًا في آن. على الإنسان هنا ألا يفعل بل ينفعل، ألا يتكلم بل يصغي، ألا يفسر بل يفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، لا يصبح الإنسان «هرمسًا» بحق، أي حامل رسالة، إلا لأنه أولًا وقبل كل شيء فتح كيانه كله لعملية «التجلي» Unconcealment الإنسان هو حامل الرسالة التي ألقى بها إليه هذا التجلي المزدوج.
إن الشيء المثير والمهم في هذا الوصف الهيدجري للتأويل هو أنه يعود بنا وراء تكنيك التفسير إلى لحظةٍ أكثر بداءةً، لحظةٍ سابقةٍ على أشكال فكرنا الحاضرة؛ لكي نعي شيئًا جوهريًّا، يحاول مثل هذا التأويل أن يدخل في حوارٍ وديٍّ وأساسيٍّ مع الجهود الكبرى السابقة لفهم معنى الوجود، هذا الإصغاء البدئي هو أيضًا إصغاءٌ تأويلي بمعنى آخر: إنه إصغاءٌ إلى النصوص، فالرسالة التي يتعين على المرء أن يؤولها هي في حقيقة الأمر مذاهب أسلافه وتفكيرهم كما هو متجسدٌ في النصوص الكبرى، «أن توجد» من الوجهة التأويلية ككائنٍ إنساني هو أن توجد «بين النصوص» Intertextually، أن تساهم في سلسلة التأويل اللانهائية التي تشكل تاريخ فهم الوجود، «إن كل كائنٍ إنساني في كل لحظة هو في حوار مع أسلافه، وربما أيضًا في حوارٍ أشد خفاءً مع أخلافه الذين سيأتون من بعده.» يريد هيدجر أن يحث المفسر على التأمل في النصوص بحب فقيه اللغة للألفاظ، و«أن يعطي كل لفظةٍ في كل موضعٍ وزنها الكامل، والذي يكون في الأغلب خفيًّا مستورًا».
وبوسعنا أيضًا أن نفهم لماذا يفضل هيدجر لفظة Hermeneutics على بدائلها الأخرى من مثل Interpretation، عندما نتذكر أن مشروع هيدجر ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى هيدجر أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، بل منذ زمن أفلاطون وأرسطو في حقيقة الأمر، فإذا تعين على المرء أن يبحث عن «الثقل الخفي» للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث. هذا الإصغاء الخاص والشديد الذي يدعو إليه هيدجر هو أمرٌ ضروري من أجل الانفلات من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنةٍ وأمكنةٍ ولغاتٍ أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو Categories أو تصنيفاته الذهنية (مشكلة الهرمنيوطيقا).

ومن الأمور الدالة أن هيدجر يحاول أن يشحذ تأملاته بحوارٍ مع شخصٍ ينتمي إلى عالمٍ مختلفٍ تمامًا؛ شخص ياباني، يمثل هذا الحوار محاولةً لفهم أشد التصورات صعوبةً واستغلاقًا: الجمال، القول، اللغة، وتشيع في هذا الحوار رقة الياباني واستعداده للتفهم والتقبل، وبوسع المرء أن يفهم افتتان هيدجر بشعبٍ يمثل فنه جهدًا لترك الوجود يسفر عن وجهه كما هو.

لم يكن اتخاذ محاورٍ ياباني هو المؤشر الوحيد على سعي هيدجر لتجاوز النظرة الغربية الحديثة للعالم، فهو يعلن بصريح العبارة أن على المستمع الجيد أن يضع موضع التساؤل تلك الأفكار الموجهة التي تقوم تحت أسماء «التعبير»، «الخبرة»، «الوعي»، بتحديد الفكر الحديث، إذا كانت هذه التصورات هي ما يشكل «عالم» المرء، فإن هيدجر يريد للهرمنيوطيقا أن تكون «مزلزلةً للعالم»، أن تكون هي رسالةً جليلة تزعزع أسس الفكر، لا يريد غير تأويلٍ يتخطى التصورات السائدة، تأويل يقوم ﺑ «تحويل للفكر»، ولسوء الحظ تفتقر لفظة Interpretation لتلك الدلالة على تناول شيء أجنبي مختلف، بينما تتحلى بذلك كلمة Hermeneutics لأنها تشير عادة إلى تفسير نصوصٍ قديمة من لغة أخرى، ومن ثم فهي تؤدي بالضبط معنى الاتصال بشيءٍ مغاير في صميمه ولكنه قابلٌ للفهم رغم ذلك.
من طبيعة هرمس كما قلنا إنه لا ينتمي إلى موضعٍ بعينه وليس له محل إقامةٍ دائمٌ، فهو دائمًا في الطريق بين هنا وهناك، وعندما يكون المرء في الطريق فهو عُرضةٌ لتقلبات الحظ، وحين يعثر المسافر أو التاجر على ثروةٍ مباغتةٍ غير مرتقبة ستكون تلك هبةً من هرمس؛ لأنه إله الثراء المفاجئ وضربات الحظ؛ وهو لذلك أصلح من يكون إلهًا لتأويل النصوص، لأن حل مشكلة تفسيرية ما قد يأتي بتوفيقٍ هرمسيٍّ: التأويل ومضٌ مفاجئٌ، بصيرةٌ مباغتةٌ، والفهم بارقةٌ، والقبض على المغزى حدثٌ خاطف، وهو مثل هرمس، «محايدٌ أخلاقيًّا» Amoral، فالفهم عمليةٌ عقلية خالصة لا دخل فيها للأخلاق، قد يكون الاستبصار المفاجئ إيقاظًا سارًّا وقد يكون محبطًا ومخيبًا إذ يجرد المرء من وهمٍ لذيذ، غير أن الفهم ذاته محايدٌ دائمًا من الوجهة الأخلاقية.
وقد أشار ولتر أوتو Walter Otto إلى وجود توازٍ بين هرمس وإله الفيدا «بوشان» الذي ينقذ التائهين في الطرق، فهو مثل هرمس يعرف الطرق، وله طريقة خاصة في مساعدة البشر وفي منحهم الكنز، وذلك بأن يتيح لهم أن يعثروا عليه بأنفسهم، كذلك الحال على صعيد التأويل؛ فالمناهج التأويلية قد صُممت لكي تُمكن النص من أن يؤتي كنزه، غير أن المؤول يرشد القارئ إلى الكنز ثم ينسحب، إن المؤول مجرد مُوجِّه، وهو بوصفه موجهًا يبقى صورةً هامشية، يبقى خارجيًّا، محرضًا فحسب.

وصفوة القول: أنَّ هرمس يظل إله الطرق والمفارق والعتبات وعابر الحدود، ويترأس جميع الصفقات التي تُعقد على الحدود؛ ولذلك فهو إله الترجمة وإله جميع التعاملات بين العوالم، ويبدو أن ماهية الهرمنيوطيقا أن تكون حديةً، أن تتوسط بين مجالات الوجود، سواء بين الله والبشر، الصحوة والنوم، الوعي واللاوعي، الحياة وما بعد الحياة، الجلي والخفي، النهار والليل، ويبدو أن أبعاد الإله الميثولوجي هرمس تومئ إلى عنصرٍ محوري في معنى الهرمنيوطيقا: وهو أنها وساطةٌ بين العوالم، وفي الحالات الشديدة تُعد رسالة هرمس مزلزلةً للعالم: فهي تُحْدِث، كما يقول هيدجر: «تحولًا في الفكر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤