الفصل السادس

دلتاي

قدر العلوم الإنسانية أنها اختصت بدراسة آثار كائنٍ حرٍّ مُريد، تقف القوانين السببية عنده مستأذنةً، وتتحدد نتائجه بيقين الحتمية مضروبًا في «لا يقين» الحرية.

إنه المخلوق الخالق، الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته.

إنه الكائن الذي يُدخل «الوعي» في نسيج العالم.

ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة.

ويسبغ المعنى على صمت الكون.

ويفرز «عدمًا» من حوله (على قول سارتر) في قلب الوجود الشيئي المكتمل.

إنه الدودة في التفاحة:

أرقٌ في سُبات الضرورة.

صدعٌ بين «الأشياء».

مملكة داخل المملكة Imperium in Imperio (على قول سبينوزا).

ولا حيلة للعلم في التنبؤ بمآله.

وليس يُجدي بإزائه إلا «الفهم» لا «التفسير» …

«التأويل» لا «التنبؤ».

بعد وفاة «شلايرماخر» عام ١٨٣٤م تراجع مشروع الهرمنيوطيقا العامة، وحدثت ردةٌ في الفكر التأويلي وعودةٌ إلى حدود الأفرع التخصصية لتصبح الهرمنيوطيقا مرة أخرى تأويلًا فيلولوجيًّا أو قانونيًّا أو تاريخيًّا بدلًا من أن تكون هرمنيوطيقا عامة بوصفها فن الفهم كما أراد لها شلايرماخر.

غير أنه في أواخر القرن التاسع عشر بدأ الفيلسوف النابغ ومؤرخ الأدب «فيلهلم دلتاي» W. Dilthey (١٨٣٣–١٩١١م) يرى في الهرمنيوطيقا أساسًا لكل «العلوم الروحية» Geisteswissens-Chaften أي الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية، أي كل تلك الأفرع البحثية التي تضطلع بتفسير تعبيرات الحياة الداخلية للإنسان سواء كانت هذه التعبيرات إيماءاتٍ أو أفعالًا تاريخية أو قانونًا مدونًا أو أعمالًا فنية أو أدبية.

كان هدف «دلتاي» هو تشييد مناهج للوصول إلى تأويلات «صائبة موضوعيًّا» ﻟ «تعبيرات الحياة الداخلية»، وكان رد فعله حادًّا تجاه ميل الدراسات الإنسانية إلى تبني طرق التفكير الخاصة بالعلوم الطبيعية وتطبيقها في دراسة الإنسان، ولم تكن الاتجاهات المثالية في نظر دلتاي بديلًا أقوم، فقد ذهب تحت تأثير كونت إلى أن الخبرة العيانية وليس التأمل النظري هي ما ينبغي أن يكون نقطة البدء لأي نظرية في «العلوم الروحية»، الخبرة المعاشة التاريخية الملموسة هي نقطة البدء وهي الختام في علوم الروح، الحياة نفسها هي ما يجب أن ينبع منه تفكيرنا وما يجب أن يتجه إليه تساؤلنا اتجاهًا مباشرًا، علينا ألا نذهب وراء الحياة إلى عالم من الأفكار: «فوراء الحياة نفسها لا يمكن لتفكيرنا أن يمضي.»

ثمة مسحة رومانسية١ في هذا التوكيد على العودة إلى الحياة نفسها، وليس من المستغرب أن دلتاي أصدر دراسات حول نوفاليس وجوته وشلايرماخر، لقد كان مغمورًا في الإرث الرومانسي إذن بحيث تبدى له بوضوح شديد عجزت الوضعية والواقعية بجميع صورهما عن الإمساك بالخبرة الحية ذاتها في امتلائها ومباشرتها وتعدد ألوانها، إننا نلمس في دلتاي شيئًا من ذلك التوتر الأساسي الذي يسم تفكير القرن التاسع عشر: تلك الرغبة الرومانسية في المباشرة والكلية حتى عندما نكون بصدد البحث عن معطيات يُفترض أن تكون «صائبة صوابًا موضوعيًّا»، لقد كان عقله الدءوب يناضل ضد النزعة التاريخية والسيكولوجية، وقد تجاوزهما بعض الشيء؛ إذ نجد في فكره فهمًا للتاريخ أعمق من فهم المدرسة التاريخية في ألمانيا، ونجد تجاوزًا للنزعة السيكولوجية عند شلايرماخر في التأويل، والحق أننا نجد في دلتاي التقاء لتيارَيْن فلسفيَّيْن كبيرَيْن لم يلتقيا من قبل: التيار الواقعي والوضعي الإنجليزي والفرنسي من جهة، وتيار المثالية الألمانية وفلسفة الحياة من جهة أخرى، لقد حاول دلتاي أن يصوغ أساسًا إبستمولوجيًّا للعلوم الروحية فكانت محاولته نقطة التقاء لنظريتين مصطرعتين حول المنهج الصحيح لدراسة الإنسان.٢

(١) البحث عن أساس منهجي للعلوم الروحية

كان مشروع دلتاي هو صياغة منهج ملائم للعلوم المختصة بفهم التعبير الإنساني الاجتماعي والفني، وكان على وعي واضح بعجز المنظور الرديء والآلي للعلوم الطبيعية عن الإيفاء بهذه المهمة والإمساك بُجمع الظاهرة الإنسانية، ومن هنا فقد نظر إلى هذه المهمة على أنها مشكلة إبستمولوجية من جهة، وأنها تتطلب تعميق تصورنا للوعي التاريخي من جهة ثانية، وأنها تعكس حاجة إلى فهم التعبيرات التي تنبع من «الحياة ذاتها» من جهة ثالثة، وعندما يتم لنا فهم هذه العوامل الثلاثة سيتضح لنا الفارق بين طريقة معالجة العلوم الروحية وطريقة معالجة العلوم الطبيعية.

يرفض «دلتاي» ابتداءً أية نظرة ميتافيزيقية في وصف ما يحدث عندما نقوم بفهم ظاهرة من صنع الإنسان، فالمشكلة عنده هي: أي صنف من الفهم ذلك الذي يلائم تفسير الظواهر الإنسانية، المشكلة عنده، باختصار، مشكلة إبستمولوجية وليست مشكلة ميتافيزيقية.

كان «دلتاي» بمعنًى ما امتدادًا للمثالية النقدية عند كانْت، وإن لم يكن من الكانتيين الجدد بل من فلاسفة الحياة، لقد كتب كانْت «نقد العقل الخالص» الذي قدَّم الأسس الإبستمولوجية للعلوم، بينما شرع دلتاي عن قصد في كتابة «نقد العقل التاريخي» لكي يضع الأسس الإبستمولوجية للدراسات الإنسانية. لم يناقش دلتاي المقولات الكانتية ولم يشكك في كفايتها بالنسبة للعلوم الطبيعية، غير أنه رأى الأُطُرَ الكانتية، مثل المكان والزمان والعدد … إلخ، لا تكفي لفهم الحياة الباطنة للإنسان، كذلك لم يجد مقولة «الشعور» وافية لفهم الطابع التاريخي الداخلي للذات الإنسانية، يقول دلتاي: «إنها مسألة تطوير الاتجاه الكانتي النقدي كله، ولكن في مقولة «التأويل الذاتي» بدلا من نظرية المعرفة … إنه نقد للعقل التاريخي بدلًا من العقل الخالص.»

يقول دلتاي: «ليس من خلال «الاستبطان» Introspection، بل من خلال التاريخ وحده يتأتى لنا أن نفهم أنفسنا.» إن مشكلة فهم الإنسان هي مشكلة استعادة ذلك الوعي ﺑ «تاريخية» وجودنا الخاص والذي ضاع في المقولات السكونية للعلم، إننا نَخْبُر الحياة لا في المقولات الآلية السببية بل في لحظات فردة معقدة من «المعنى»، من خبرة مباشرة بالحياة في كليتها وفي فهمٍ مُحبٍّ للأشياء الجزئية، هذه الوحدات من المعنى تتطلب سياقًا يضم الماضي ويضم أفق التوقعات المستقبلية، إنها زمانية في صميمها ومتناهية، ولا يتم فهمها إلا في ضوء هذه الأبعاد، أي لا يتم فهمها إلا تاريخيًّا.

وقد ينبغي أن نأخذ اهتمام «دلتاي» بصياغة نظرية في العلوم الإنسانية في سياق «فلسفة الحياة» الخاصة به، ارتبطت فلسفة الحياة بصفة خاصة بثلاثة من فلاسفة أواخر القرن التاسع عشر هم نيتشه و«دلتاي» و«برجسون»، ويمكن تعقب هذا الاتجاه العام في الفلسفة إلى القرن الثامن عشر حيث علت بعض الاحتجاجات ضد النزعة الصورية والعقلية المحضة وضد أي فكر مجرد يغفل الفرد ككل ويعمى عن الشخصية الحية الشاعرة المريدة، بذلك يُعد روسو وجاكوبي وهردر وفِخته وشيلنج وغيرهم من مفكري القرن الثامن عشر مرهِصين بفلسفة الحياة في محاولاتهم إدراك الوجود الإنساني في العالم من حيث هو امتلاء خبروي، في مثل هؤلاء المفكرين يمكننا أن نلمس جهد فيلسوف الحياة من أجل الوصول إلى واقع غير مزيف بالعوارض الخارجية وبالثقافة. كانت كلمة «الحياة» حتى في ذلك الحين هي صرخة احتجاج ضد ثبوت التراث الفكري وتحديداته، تشير كلمة «الحياة» إلى قوى الإنسان الداخلية مجتمعة ملتئمة كمقابل للقوة السائدة للفهم العقلي، واعتبر فريدريك شليجل فلسفة الحياة هي الحضور الحي للوعي الإنساني والعيش الإنساني في مقابل التأملات المجردة وغير المفهومة ﻟ «الفلسفة المدرسية»، أما فِخته فقد اعتبر أساس كل فلسفته هو التناقض بين ثبوتية الكينونة والتدفق العارم للحياة.

وبوسعنا أن نجد قائمة المفكرين ذوي التوجه الشبيه بفلسفة الحياة لتشمل شخصيات مثل وليم جيمس وماركس وديوي وشيلر وأورتيجا جاسيت، في جميع هؤلاء ثمة ميل عام إلى العودة إلى امتلاء الخبرة المعاشة، وهو ميل يعبر في معظمه عن رفض للتجريد والآلية والصورية التي تَسِم الحضارة التكنولوجية، لقد برزت لدى هؤلاء قوى «العقل» و«الوجود» لتتحدى قوى التصلب والموات، وكانت قوى الحياة Leben هي المعين الذي لا ينضب لجميع صور الإبداع والمعنى.
أما عند دلتاي فقد أفصح هذا الاتجاه المضاد عن نفسه في صورة رفض لأشكال الفكر ذي التوجه السببي Causality Oriented  والنزعة الطبيعية Naturalistic عندما يُستخدم بهدف فهم الحياة الباطنة والخبرة الداخلية للإنسان، ذهب دلتاي إلى أن ديناميت الحياة الداخلية للإنسان هي مركب من المعرفة والشعور والإرادة، وهذه أمور لا يمكن إخضاعها لمعايير العلِّية وتصلب التفكير الكمي الالي، ورأى دلتاي أن جلب مقولات فكرية من «نقد العقل الخالص» لكي تستخدم في فهم الإنسان هو في حقيقة الأمر إقحامٌ لمجموعةٍ من المقولات المجردة من خارج الحياة وغير مستمدة من الحياة، إنها مقولات سكونية، لا زمانية، مجردة، أي نقيض الحياة ذاتها.

إن موضوع العلوم الإنسانية هو الحياة الإنسانية، وفهم الحياة الإنسانية ينبغي ألا يقوم على مقولات خارجة عن الحياة، بل على مقولات من صميم الحياة ومستقاة من الحياة، فهم الحياة يجب أن يتم من خبرة الحياة ذاتها، يقول دلتاي: إن «الذات العارفة» التي شيدها لوك وهيوم وكانت «لا يجري في عروقها دمٌّ حقيقي»، ذلك أن هؤلاء يضيِّقون نطاق المعرفة ويقصرونها على ملكة الإدراك بانفصال عن الشعور والإرادة، وفضلًا عن ذلك فإنهم كثيرًا ما يتحدثون عن الإدراك كما لو أن بالإمكان عزلَه عن السياق التاريخي الصميم لحياة الإنسان الباطنة، في حين أننا في حقيقة الأمر ندرك ونفكر ونفهم في ضوء الماضي والحاضر والمستقبل ووفقًا لمشاعرنا ومطالبنا والتزاماتنا الأخلاقية. من الواضح إذن أننا لا بد أن نعود إلى الخبرة المعاشة، وإلى الوحدات ذات المعنى كما هي موجودة في الخبرة المعاشة.

والعودة إلى «الحياة» لا تعني عند دلتاي العودة إلى أرضية صوفية أو مصدر سري لكل حياة إنسانية وغير إنسانية، أو لعودة لنوع ما من الطاقة النفسية الأساسية، بل هو يرى الحياة من حيث «المعنى»، فالحياة هي «الخبرة الإنسانية؛ إذ تُعرف من الداخل» و«ليس بوسع الفكر أن يمضي فيما وراء الحياة»، ومقولات الحياة ليست نابعة من واقع مفارق، بل من واقع الخبرة المعاشة، لقد أفصح هيجل من قبل عن نيته في أن يفهم الحياة من الحياة ذاتها، فجاء دلتاي ليضع هذا المقصد في سياق غير ميتافيزيقي (مضاد للميتافيزيقا)، سياق ليس بالواقعي ولا بالمثالي بل سياق فينومينولوجي، لقد ذهب مثل هيجل إلى أن الحياة هي واقع «تاريخي»، غير أن التاريخ عنده ليس غاية مطلقة أو تجليًا لروحٍ مطلقٍ بل هو تعبير عن الحياة، فالحياة نسبية، وهي تعبر عن نفسها في أشكالٍ عديدة، والحياة في الخبرة البشرية ليست «مطلقًا» بأي معنًى من المعاني.

(٢) العلوم الإنسانية كمقابل للعلوم الطبيعية

ماذا يعني الطرح الذي قلناه بالنسبة لمناهج دراسة الإنسان؟ يؤكد دلتاي أن على «الدراسات الإنسانية» أو «العلوم الروحية» Geisteswissenschaften أن تصوغ لها نماذج جديدة لتأويل الظواهر الإنسانية، هذه النماذج ينبغي أن تكون مستمدة من طبيعة الخبرة المعاشة ذاتها، وأن تكون قائمةً على مقولات «المعنى» Meaning بدلًا من «القوة» Power، قائمة على التاريخ بدلًا من الرياضيات، لقد كان دلتاي يرى فارقًا جوهريًّا بين الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية.

فالدراسات الإنسانية تتناول وقائع وظواهر ليست منبتة عن الإنسان، بل لا يكون لها معنًى إلا بقدر ما تسلط الضوء على العمليات الداخلية في الإنسان، على «خبرته الداخلية»، إن المناهج الملائمة للموضوعات الطبيعية لا تكفي لفهم الظواهر الإنسانية إلا في حالتها من حيث هي موضوعات طبيعية، ومع ذلك فالدراسات الإنسانية متاح لها شيء غير متاح في العلوم الطبيعية، وهو إمكانية فهم الخبرة الداخلية لشخص آخر من خلال عملية انتقال ذهني باطنة وخفية، يقول دلتاي: «بالضبط لأن هناك انتقالًا حقيقيًّا يمكن أن يحدث (عندما يفهم إنسانٌ إنسانًا)، ولأن تقارب الفكر وعموميته يمكن أن يمتدا ويُشكلا عالمًا اجتماعيًّا تاريخيًّا، يمكن للأحداث والعمليات الداخلية في الإنسان أن تتميز عن تلك الأحداث والعمليات الخاصة بالحيوان، وبفضل هذا «الانتقال الحقيقي» الذي يمكن حدوثه من خلال الموضوعات التي تجسد خبرةً داخلية يستطيع الإنسان أن يبلغ درجةً من الفهم وعمقًا فيه يتعذر بلوغه بالنسبة لأي نوع آخر من الموضوعات، ومن الواضح أن مثل هذا الانتقال ما كان ليحدث لولا وجود تشابه بين وقائع خبرتنا الذهنية الخاصة وبين تلك الحقائق الخاصة بشخص آخر، هذه الظاهرة تحمل معها إمكانية أن نجد في الشخص الآخر أعمق أعماق خبرتنا نحن، وأن نكتشف من التقائنا به عالمًا داخليًّا أكثر امتلاءً.»

من الجدير بالذكر أن «دلتاي» قد أخذ بتعاليم المفكر النابوليتاني «جيامباتيستا فيكو» G. Vico حول دراسة الطبيعة البشرية كظاهرة طارئة (حادثة) Contingent تاريخيًّا، كان فيكو هو الخصم الأول لمنظور ديكارت للعلم والنصير الأساسي لعلم تاريخي متميز، في كتابه «العلم الجديد» يسلم فيكو بتميز الطبيعة البشرية والتاريخ البشري، ويخلص من ذلك إلى استحالة تطبيق نماذج العلم الطبيعي على الطبيعة الإنسانية، ويعلن أن الدراسة العلمية للطبيعة الإنسانية لا بد لها أن تقوم على أساس صيغة إنسانية بحتة من التفاعل والتفاهم.

يرى «فيكو» أن هناك هوة لا يمكن اجتيازها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو مُعطى في الطبيعة، لم يصنع الإنسان الأعمال الفنية والقوانين وحسب، وإنما صنع التاريخ كذلك، حتى هذه النقطة لا يوجد اختلاف بين فيكو وبين ديكارت، يبدأ الاختلاف الجذري بين فيكو وبين ديكارت وخلفائه الذين كانوا يبتغون علمًا موحدًا يقوم على غرار العلوم الطبيعية حين يذهب فيكو إلى أن منتجات العمل البشري، كالفن والقانون والتاريخ نفسه، وبالضبط لأنها من صنع الإنسان، يمكن فهمها فهمًا أفضل من فهم العالم الطبيعي، حيث إن هذا العالم الطبيعي هو عالم «مغاير» لنا بشكل لا حيلة فيه وغير قابل لأن نعرف حقيقته النهائية. إن أية محاولة لدراسة البشر على أنهم كيانات طبيعية صرف، شأنهم شأن الأنهار والنباتات والأحجار، هي عمل يقوم على خطأ أساسي، ونحن البشر — فيما يتعلق بأنفسنا ملاحظين — نتمتع بامتياز خاص هو الرؤية من الداخل (الرؤية الباطنة)، ويُعد تجاهل ذلك سعيًا وراء مثال من العلم الموحد لكل ما هو موجود وطريقة عالمية مفردة للبحث، يُعد إصرارًا على الجهل وتعمدًا له.

ذهب «فيكو» إلى أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال تحليل تاريخي للغة والأسطورة والطقوس، كان فيكو يؤمن بأن «علمه الجديد» يمكن أن يؤدي إلى مجموعة عالمية من المبادئ الخاصة بالطبيعة الإنسانية، ذلك أنه حتى المجتمعات التي لا يوجد بينها أي اتصال تواجه نفس المشاكل الوجودية.٣
أخذ «دلتاي» بتعاليم «فيكو» كما أسلفنا وذهب إلى أن الدراسات الإنسانية متاح لها شيء غير متاح للعلوم الطبيعية، وهو إمكان فهم الخبرة الداخلية لشخص آخر من خلال عملية انتقال ذهني ملغزة وسرية، يرى دلتاي، مقتفيًا في ذلك أثر شلايرماخر، هذا الانتقال بوصفه إعادة تشييدٍ أو إعادة معايشةٍ لعالم الخبرة الداخلية لشخص آخر، غير أن اهتمامنا لا ينصب على الشخص الآخر بل على العالم نفسه، وهو عالم ننظر إليه كعالم «اجتماعي-تاريخي»، إنه عالم الأوامر الأخلاقية الداخلية، عالم مشترك من المشاعر والاستجابات ومن الخبرة المشتركة بالجمال، وإن لدينا القدرة على النفاذ إلى هذا العالم الإنساني الداخلي، «لا من خلال «الاستبطان» Introspection بل من خلال التأويل، أي فهم تعبيرات الحياة وقراءة بصمة الإنسان على الظواهر وفك رموزها.»
الفرق إذن بين الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية لا يكمن بالضرورة في صنف مختلف من الموضوعات في حالة الدراسات الإنسانية أو في صنف مختلف من الإدراك، إنما يكمن الفرق في السياق الذي يتم فيه فهم الموضوع المدرك، فقد تستخدم الدراسات الإنسانية في بعض الأحيان نفس الموضوعات أو «الوقائع» Facts التي تستخدمها العلوم الطبيعية، ولكن في سياق مختلف من العلاقات، وهو سياق يتضمن الخبرة الداخلية أو يشير إليها، هذه الإحالة إلى الخبرة الإنسانية أو الحياة الباطنة للإنسان هي الشيء الغائب في العلوم الطبيعية والموجود بالضرورة في الدراسات الإنسانية، يقول دلتاي بناءً على ذلك: «إن الفرق بين العلوم الطبيعية والإنسانية لا يتحدد بالضرورة وفقًا لطريقة معينة من المعرفة بل هو فارق في المضمون، فقد يشتمل الموضوع نفسه والواقعة نفسها على أنساق مختلفة من العلاقات، ومن المتعين على الدراسات الإنسانية أن تتناول الموضوع أو الواقعة وتستخدمها في ضوء «مقولات» Categories غير علمية مستمدة من الحياة نفسها، مثال ذلك أننا قد نفسر موضوعًا معينًا وفقًا لمقولات سببية خالصة (أي بطريقة علمية)، أو نفسره بالنظر إلى ما ينبئنا به عن الحياة الباطنة للإنسان، أو — بتعبير أكثر موضوعية — عن العالم الاجتماعي التاريخي للإنسان والذي هو مادة الخبرة الداخلية ومظهرها معًا، لا يمكن للعلوم الطبيعية أن تستخدم وقائع عقلية وتظل بعد ذلك علومًا طبيعية، بينما يمكن للدراسات الإنسانية أن تستخدم وقائع فيزيائية، غير أنها إذَّاك لا تتعامل مع العالم الخارجي إلَّا في علاقته بالبشر ذوي الشعور والإرادة، ولا تعنيها الوقائع الفيزيائية إلا بقدر ما تؤثر على السلوك وتساعد أو تعوق الغايات والأغراض البشرية.»
والكلمة المفتاحية في الدراسات الإنسانية، كما يراها دلتاي، هي كلمة «الفهم» Understanding، فإذا كان «التفسير» Explanation هو غاية العلوم، فإن المدخل الصحيح إلى الظواهر التي تضم الداخل والخارج هو «الفهم»، و«إذا كانت مهمة العلوم أن «تفسر» Explain الطبيعة فإن مهمة الدراسات الإنسانية هي أن «تفهم» Understand تعبيرات الحياة.» بوسع الفهم أن يحيط بالكيان المفرد بينما يتعين على العلم دائمًا ألا ينظر إلى «الفردي» Individual إلا كوسيلة لبلوغ «الكلي» أو الوصول إلى «النمط» Type، ونحن في مجال الفنون بصفة خاصة نقدر «الجزئي» لذاته، ونتلبث بحبٍّ في تفهم الظاهرة في فردانيتها، هذا الشغف المستغرق في الحياة الداخلية الفردية يقف على نقيض أساسي من موقف العلوم الطبيعية وإجراءاتها، وعلى الدراسات الإنسانية، كما يؤكد دلتاي، أن تحاول صياغة منهج للفهم يتجاوز الموضوعية الرَّدِّيَّة Reductionist Objectivity للعلوم، وأن تعود إلى امتلاء «الحياة»، امتلاء الخبرة الإنسانية.

هذه هي الخطوط الرئيسية لتصور «دلتاي» عن العلوم الإنسانية، فهل يمكن تبرير هذا الفصل الصارم بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؟ الحق أن أغلب المفكرين، بما فيهم بعض من أشد المؤيدين لدلتاي، يرون غير ذلك، من ذلك أن جورج ميرش قد أدرك منذ البداية أن التوفيق المثمر بين المنهجين هو أمر ممكن ومطلوب، كما لاحظ بولنو بحق أنه إذا كان هذا الفصل مفيدًا في الفهم النظري لهذين الفرعين الكبيرين من المعرفة، فمن المفيد بنفس الدرجة أن نسلم بأن «الفهم» ليس مقصورًا على الدراسات الإنسانية ولا «التفسير» السببي مقصورًا على العلوم الطبيعية، بل إن كليهما يعمل متآزرًا مع الآخر بدرجات مختلفة في كل فعل حقيقي من أفعال المعرفة، ومن المفارقات الساخرة أن بإمكاننا من موقعنا الحالي أن نرى إلى أي مدًى تسللت التصورات العلمية وحتى النزعة التاريخية (التي جهد «دلتاي» للتغلب عليها) إلى تصوره عن الدراسات الإنسانية، ذلك أن بحثه عن «المعرفة الصائبة موضوعيًّا» كان بحد ذاته تعبيرًا عن المثل الأعلى في العلوم وهو البحث عن المعطيات الواضحة الخالصة، وقد أدى ذلك من حيث لا يدري إلى توجيه فكره نحو استعارات وصور مكانية لا زمانية للحياة العقلية، وهي صور تلائم التفكير العلمي، ومن جهة أخرى فقد أدت به تعاليم شلايرماخر إلى تصور للفهم على أنه إعادة بناء وإلى شيء من النزعة السيكولوجية لم يتخلص منها إلا بجهدٍ جهيد، وذلك عندما تحول إلى تأسيس نظريته على الهرمنيوطيقا بدلًا من تأسيسها على صنف جديد من السيكولوجيا.

ومهما يكن من شيء، فإن مشروع دلتاي لفهم الحياة وتعميق الجانب التاريخي للفهم ونقده الحاد للنزعة العلمية المتطرفة التي تسللت إلى الدراسات الإنسانية؛ كل أولئك قد لعب دورًا كبيرًا في الهرمنيوطيقا منذ دلتاي، ونحن نرى فكر دلتاي استباقًا لبعض الأهداف الأساسية للتأويل وافتتاحًا لبعض المشكلات الجوهرية للهرمنيوطيقا بوصفها مشكلات، وقد قُدِّر لهيدجر أن يؤسس على هذه الأهداف، ومن الجلي أنه رجع إلى دلتاي في محاولته لتجاوز الميول العلمية الراسخة في أستاذه إدموند هسرل.٤

(٣) الصيغة التأويلية عند دلتاي: «الخبرة، التعبير، الفهم»

نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فإن علينا أن نفهمه.

دلتاي

يقول دلتاي: «لا ينتمي علمٌ ما إلى الدراسات الإنسانية ما لم يصبح موضوعه متاحًا لنا من خلال إجراء قائم على العلاقة المنهجية بين الحياة والتعبير والفهم.» هذه الصيغة «الخبرة-التعبير-الفهم» ليست واضحة بذاتها لأن كل حد من حدودها له معنًى محدد في فلسفة دلتاي، ويستحق منا وقفةً استكشافيةً منفصلة.

(٣-١) الخبرة Experience

يستخدم دلتاي لفظة ألمانية هي Erlebnis (الخبرة المعاشة)٥ لم تكن تُستخدم من قبله كاسم مفرد، وقد استخدمها بمعنًى شديد الخصوصية والتحديد، ويعني بها وحدةً متقومةً بمعنًى مشترك يجعل منها كلًّا مُدمجًا، يقول دلتاي: «ذلك الذي في مجرى الزمان يشكل وحدةً في الحاضر بفضل حيازته لمعنًى موحد هو الكيان الأصغر الذي يمكن أن نسميه «خبرة»، فإذا مضينا أبعد من ذلك فإن بوسع المرء أن يطلق على كل وحدة جامعة مكونة من أجزاء حياتية مدمجة معًا بفضل معنًى مشترك لمسار الحياة اسم «خبرة»، حتى لو كانت هذه الأجزاء العديدة منفصلة بعضها عن بعض ﺑ «أحداث اعتراضية».»
وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الخبرة الدالة للوحة فنيةٍ على سبيل المثال قد تشتمل على مشاهدات كثيرة للوحة منفصلة زمنيًّا، وتظل رغم ذلك تُسمى «خبرة» Erlebnis، وخبرة الحب الرومانسي مثلًا هي خبرة لا تقوم على لقاء واحد بل تضم أحداثًا مختلفة في الزمن والمكان والنوع، غير أن وحدتها المعنوية كخبرة ترفعها خارج تيار الحياة وتضمها معًا في وحدة من المعنى، أي في «خبرة».

بم تتسم هذه الوحدة من المعنى؟ يجيب دلتاي عن هذا السؤال بإسهاب كبير، ويُعد فهم ذلك الشيء المسمى «الخبرة» وفهم مكوناته أمرًا أساسيًّا لفهم تأويلية دلتاي، أولًا يجب ألا نفهم الخبرة على أنها «محتوى» فعل انعكاسي (تأملي) للوعي؛ لأنها عندئذٍ ستغدو شيئًا نحن على وعي به، بل هي الفعل ذاته، إنها شيء نحيا فيه وخلاله، إنها الموقف نفسه الذي نتخذه تجاه الحياة ونعيش فيه، إنها الخبرة بما هي كذلك، الخبرة كما هي معطاة في المعنى قبل أي تأملٍ انعكاسي، وبوسع الخبرة أن تصبح فيما بعد موضوعًا للتأمل، ولكنها عندئذٍ لا تعود خبرةً مباشرة، بل موضوعًا لفعل آخر من أفعال المواجهة، الخبرة إذن ليست موضوعًا للوعي بقدر ما هي فعل للوعي، وينبغي ألا نتصورها كشيء يقف الوعي بإزائه ويعيه.

يعني ذلك أن الخبرة لا تدرِك، ولا يمكن أن تدرِك، نفسها بشكلٍ مباشر؛ لأنها عندئذٍ ستكون فعلًا انعكاسيًّا للوعي، والخبرة ليست «مُعْطًى» من معطيات الوعي، لأنها عندئذٍ ستكون واقفة بإزاء «ذاتٍ» بوصفها «موضوعًا» مقدمًا إليها، الخبرة إذن توجد قبل انفصال «الذات-الموضوع»، ذلك الانفصال الذي يُعد هو نفسه نموذجًا يستخدمه الفكر الانعكاسي (التأملي)، الخبرة في حقيقة الأمر ليست متميزة عن الإدراك أو الفهم نفسه، وكلمة Erlebnis تمثل ذلك الاتصال المباشر بالحياة الذي يمكن أن نسميه «الخبرة المعاشة المباشرة».

من المُتعين أن يكون التحليل الوصفي لهذا العالم الرواغ السابق على الفكر الانعكاسي هو الأساس لكل من الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية، غير أنه مهم بصورة خاصة للدراسات الإنسانية؛ ذلك أن مقولات الفهم الإنساني والتأويلي نفسها يجب أن تُستمد منه، هذا العالم من الوعي قبل الانعكاسي هو بالضبط ما سيُدخر لكي تظفر به فينومينولوجيا هسرل وهيدجر، فبينما كان دلتاي يسعى لإنجاز مشروعه المنهجي بانسجام شديد مع فلسفة الحياة عنده، وفيما كان يفصل فصلًا واضحًا بين مجرد «التفكير» وبين «الحياة» (أو الخبرة) «كان في الحقيقة يؤسس القواعد لفينومينولوجيا القرن العشرين».

على أنه من الخطأ الفادح أن نتصور أن الخبرة تشير إلى ضرب من الواقع الذاتي لا أكثر؛ لأن الخبرة هي بالتحديد ذلك الواقع الذي يتمثل لي قبل أن تغدو الخبرة موضوعية (وتفترض من ثم انفصالًا عن الذاتي)، هذه الوحدة الأولى هي ما يريد دلتاي أن يصوغ منه مقولات يُرجى لها أن تضم (لا أن تفصل) الشعور والمعرفة والإرادة (وهي العناصر الملتئمة معًا في الخبرة)، مقولات من قبيل «القيمة»، «المعنى»، «العلاقة» … وقد لاقى دلتاي صعوبات كبيرة في صياغة هذه المقولات، غير أن المهمة بحد ذاتها هي على أعلى درجة من الأهمية، كان اختيار دلتاي محكومًا بهدفه في بلوغ «معرفة ذات صواب موضوعي»، وهذا الهدف بالتحديد هو ما فرض على تفكيره حدودًا وقيودًا لا داعي لها، غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بسعيه الدءوب من أجل مقولات تعبر عن «حرية الحياة وحرية التاريخ»، إن استبصاره المثمر إنما يكمن في رؤية الخبرة كمجال سابق على الذات والموضوع، مجال يقدم لنا العالم وخبرتنا بالعالم معًا في آن، لقد رأى بوضوح فقر نموذج «الذات-الموضوع» كنموذج لالتقاء الإنسان بالعالم، وعاين بوضوحٍ سطحية الفصل بين المشاعر والموضوعات، والفصل بين الإحساسات والفعل الكلي للفهم، يقول دلتاي بتهكم وازدراء: «نحن نعيش ونتحرك لا في عالم من الإحساسات بل في عالم من الموضوعات التي تقدم نفسها إلينا، لا في عالم من المشاعر بل في عالم من القيم والمعاني.» ومن الممتنع وغير المعقول أن نفصل إحساسات المرء ومشاعره عن السياق الكلي للعلاقات المتضامة معًا في وحدة الخبرة.

ثمة استبصار خصب آخر «لدلتاي» وهو توكيده على الطبيعة الزمانية لسياق العلاقات المُعطاة في الخبرة، فالخبرة ليست شيئًا سكونيًّا، بل هي على العكس تميل في وحدة معناها إلى الامتداد لتضم تحت جناحها كلًّا من إعادة معايشة الماضي وتوقع المستقبل في السياق الكلي للمعنى، فنحن لا يمكن أن نتخيل المعنى إلا في ضوء ما نتوقع من المستقبل أن يكون، ولا بإمكان المعنى أن يتحرر من الاعتماد على المادة التي يقدمها الماضي، الماضي والمستقبل إذن يشكلان وحدة بنائية مع حاضر كل خبرة، وهذا السياق الزماني هو الأفق الذي لا مهرب منه والذي يتم داخله تأويل أي إدراك يحدث في الحاضر.

وقد أفاض «دلتاي» في إثبات أن زمانية الخبرة ليست شيئًا يفرضه الوعي بطريقة انعكاسية (كما هو موقف الكانتيين، فالعقل لديهم هو الكيان النشط الذي يفرض وحدةً على الإدراك)، وإنما الزمانية عند دلتاي هي شيء كامن في الخبرة ذاتها كما هي معطاة لنا، في هذا الصدد يمكن أن يُسمى دلتاي «واقعيًّا» لا «مثاليًّا»: زمانية الخبرة عند دلتاي، كما ستكون عند هيدجر، مساوية في أوليتها للخبرة ذاتها، إنها ليست شيئًا مضافًا إلى الخبرة، إذا حاول المرء، على سبيل المثال، أن يستوعب مسار حياته الخاصة في فعل انعكاسي تأملي للوعي، فها هنا في هذه الممارسة الخاصة وحدة مرشدة لنا فيما نريد أن نبينه، فهي تكاد تكون صورة طبق الأصل للطريقة الفعلية التي تتمثل بها هذه الوحدة في الوعي على مستوى سابق على التأمل، يقول دلتاي واصفًا محاولته الخاصة في هذا السبيل:

«ماذا يحدث عندما تصبح «الخبرة» هي موضوع تأملي؟ إنني، على سبيل المثال، أرقد صاحيًا بالليل، يؤرقني احتمال ألا أكمل في شيخوختي العمل الذي كنت بدأته، وأفكر ماذا أفعل، ثمة في هذه «الخبرة» مجموعة بنائية من العلاقات: يشكل الفهم الموضوعي للموقف أساسًا لها، وفوق هذا الأساس يقوم توجه هو القلق حول الواقعة المدركة موضوعيًّا والسعي إلى تجاوز هذه الواقعة، كل ذلك يتمثل لي في السياق البنائي للواقعة، لقد قمت الآن بطبيعة الحال بتقديم الموقف للوعي الفاحص والمميز، وأبرزت العلاقات البنائية بوضوح وجلاء؛ لقد قمت ﺑ «عزل» الموقف، غير أن كل ما قمت بطرحه هنا في حقيقة الأمر كامن سلفًا في الخبرة ذاتها، وما فعلت غير أن سلطت عليه الضوء في هذا الفعل التأملي.»

إن «معنى» واقعة مدرَكة موضوعيًّا هو مُعطًى مع الواقعة نفسها، والمعنى أمر زماني في صميمه؛ إذ يُعرَّف في السياق الحياتي للمرء، يقول دلتاي إكمالًا للفقرة السابقة إن هذا يعني شيئًا ذ أهمية أساسية لكل دراسة للواقع الإنساني: «فالأجزاء المكونة لما يشكل رأينا في مسار حياتنا هي جميعًا محتواة معًا في الحياة ذاتها.» يمكننا أن نسمي ذلك بالزمانية أو التاريخية الداخلية، وهي غير مقحمة على الحياة بل هي باطنة فيها، يقرر دلتاي حقيقة عظيمة الأهمية للهرمنيوطيقا: وهي أن الخبرة «زمانيةٌ» في صميمها (أي تاريخية بأعمق معاني الكلمة)، ومن ثم فإن فهم الخبرة ينبغي أيضًا أن يتم في مقولات فكرية زمانية (تاريخية) بنفس الدرجة.

بذلك يكون «دلتاي»، بتوكيده على زمانية الخبرة، قد وضع الأساس لكل المحاولات التي ستأتي بعده لتأكيد «تاريخية» الوجود في العالم، و«التاريخية» لا تعني التركيز على الماضي ولا تعني ضربًا من السلفية الذهنية التي تجعل المرء مستعبدًا لأفكار قديمة ميتة، فالتاريخية هي جوهريًّا إثبات زمانية الخبرة البشرية كما بينا لتونا، إنها تعني أننا لا نفهم الحاضر في حقيقة الأمر إلا في أفق الماضي والمستقبل، وهذه مسألة لا تعتمد على جهد واع، بل هي متأصلة في بنية الخبرة ذاتها، على أن إبراز هذه التاريخية وإخراجها إلى النور له نتائج تأويلية مؤكدة، فلم يعد بوسعنا أن نفترض لاتاريخية التأويل ونقنع بتحليلٍ مصوغٍ في مقولات غريبة تمامًا عن تاريخية الخبرة الإنسانية، إنها تكشف بوضوح قاسٍ أن الخبرة لا ينبغي فهمها في مقولات علمية، وأن مهمتنا واضحة جلية: إيجاد مقولات «تاريخية» تلائم طبيعة الخبرة المعاشة.٦

(٣-٢) التعبير Expression

وهو الحد الثاني في صيغة دلتاي التأويلية «الخبرة-التعبير-الفهم»، ومن الضروري الانتباه إلى أن استخدام دلتاي لهذا المصطلح ينبغي ألا يُلحقه آليًّا بالنظريات التعبيرية في الفن، ذلك أن هذه النظريات مصوغة في حدود نموذج الذات-الموضوع، فنحن مثلًا نصل لفظة «تعبير» بشكل شبه آلي «بالمشاعر»: نحن «نعبر» عن مشاعرنا، ونظرية التعبير في الفن ترى العمل الفني على أنه تمثيل رمزي للمشاعر، وشاعر مثل وردزورث (وهو من دعاة نظرية التعبير في الخلق الشعري) ينظر إلى القصيدة على أنها تدفق تلقائي لمشاعر عارمة.

أما «دلتاي»، فهو حين يستخدم لفظة «تعبير» Ausdruck فهو لا يشير إلى تدفق ولا شعور، بل إلى شيء أعم وأشمل بكثير، التعبير عند دلتاي لس بالدرجة الأولى تجسيدًا لمشاعر شخص واحد بل هو «تعبير عن الحياة»، يمكن للتعبير أن يشير إلى فكرة، قانون، شكل اجتماعي، لغة، أي إلى أي شيء يعكس بصمة الحياة الداخلية للإنسان، التعبير إذن ليس مجرد رمز للشعور.
وربما أمكننا ترجمة لفظة Ausdruck لا إلى «تعبير»، بل إلى «موضعة» Objectification العقل الإنساني (المعرفة، والشعور، والإرادة)، أما الدلالة التأويلية للموضعة فهي أن بفضلها يمكن للفهم أن يركز على تعبير «موضوعي» ثابت للخبرة المُعاشة بدلًا من محاولة الإحاطة به من خلال الاستبطان، فالاستبطان Introspection لا يمكن أن ينهض كأساس للدراسات الإنسانية، فقد أدرك دلتاي أن التأمل المباشر في الخبرة يؤدي إما إلى: (١) حدس لا يمكن إيصاله، وإما إلى (٢) تصور هو ذاته تعبير عن الحياة الداخلية، الاستبطان إذن طريقة غير مأمونة لا إلى معرفة النفس ولا إلى معرفة الإنسان في الدراسات الإنسانية، فالدراسات الإنسانية ينبغي بالضرورة أن تنصب على «تعبيرات الحياة» Expressions of Life فهذه الدراسات؛ إذ تنصب على موضعة الحياة هي دراسات تأويلية في صميمها، ولكن على أية أنواع من الموضوعات يمكن للدراسات الإنسانية أن تنصب؟ لقد كان دلتاي محددًا تمامًا في مسألة مجال الدراسات الإنسانية ونطاقها: «أيما شيء موضعت فيه روح الإنسان فهو يقع في نطاق العلوم الروحية.» إن محيط هذه الدراسات واسع بقدر سعة الفهم، والفهم يجد موضوعه الحقيقي في موضعة الحياة ذاتها.٧

(أ) العمل الفني بوصفه موضَعة للخبرة المُعاشة

إذا كان نطاق الدراسات الإنسانية بهذا الاتساع، فأين يقع فهمنا للعمل الفني، ولا سيما العمل الفني الأدبي؟

يصنف دلتاي المظاهر المختلفة للحياة أو الخبرة الداخلية للإنسان (الحياة عند دلتاي ليست شيئًا ميتافيزيقيًّا، ليست مصدرًا عميقًا وراء الخبرة المعاشة نفسها، فالخبرة الإنسانية هي ذلك الشيء الذي وراءه لا يصح ولا ينبغي للتأمل أن يمضي) إلى ثلاثة أصناف كبرى: (١) الأفكار Ideas (أي المفاهيم والأحكام، والصور الكبرى للفكر) «مجرد مضمون فكري» وهي مستقلة عن الشخص والمكان والزمان الذي يظهر فيه؛ وهي لذلك على درجة من الدقة وسهولة الإيصال. (٢) الأفعال Actions وهي أصعب في التأويل؛ لأن في كل فعل هناك غرض محدد، ولكن ليس بغير صعوبة كبيرة يمكننا تحديد العوامل التي أثرت في القرار الذي أدى إلى الفعل، القانون على سبيل المثال هو فعل عمومي يشمل المجتمع كله، ولكن تسري عليه نفس الصعوبة، فليس بالإمكان مثلًا معرفة ما كان يُراد من القانون أن يضبط عندما تم وضعه. (٣) وهناك أخيرًا «تعبيرات عن الخبرة المُعاشة» Expressions of Lived Experience، وهي تمتد من التعبيرات التلقائية عن الحياة الباطنة كالهتاف والإيماء إلى التعبيرات التي تمليها الروية والتحكم الواعي والمتجسدة في «الأعمال الفنية».

يشير «دلتاي» — بصفة عامة — إلى التصنيفين الأولين، الأفكار والأفعال، على أنهما «مظاهر الحياة»، أما الثالث فقد كان أميل إلى أن يدخر لها المصطلح الأكثر تخصيصًا «تعبيرات الخبرة المعاشة»، في هذه الفئة الثالثة تجد الخبرة الإنسانية الداخلية أكمل تعبير، وفيها يواجه الفهم أكبر تحدٍّ، يقول دلتاي:

«تختلف تعبيرات الخبرة المعاشة اختلافًا تامًّا عن الأفكار والأفعال، ثمة علاقة خاصة بينها كتعبير عن الحياة ذاتها وبين الفهم الذي يُحدثها ويأتي بها، بوسع التعبير أن يتضمن من سياق الحياة الباطنة أكثر مما يمكن لأي استبطانٍ أن يدرِك، ذلك أن التعبير ينبع من أعماق لا يضيئها الوعي على الإطلاق.»

العمل الفني — بطبيعة الحال — يتخطى في مرونته ووثوقه مجرد الإيماء أو الهتاف بما لا يُقاس، فالإيماءات يمكن تزييفها، أما الفن فهو يشير إلى الخبرة ذاتها أو يعبر عنها ولذلك فهو بمأمنٍ من التزييف:

«في الأعمال الفنية العظيمة تنبت رؤيةٌ ما عن خالقها (الشاعر أو الفنان أو الكاتب) فنرتحل إلى عالمٍ ليس فيه خداعٌ ممن يُعبِّر، ليس هناك عمل فني حقيقي يحاول أن يعكس واقعًا مخالفًا للمحتوى الباطن لمؤلفه، وحقيقة الأمر أن العمل الفني لا يريد أن يقول أي شيء على الإطلاق عن مؤلفه، بل يقف هناك: حقًّا في ذاته، ثابتًا، مرئيًّا، باقيًا.»

لم يعد مكانٌ لمشكلة التزييف الموجودة في الإيماءات وفي أي فعل بشري أو موقف بشري تصطرع فيه المصالح، «ذلك أن العمل الفني لا يشير إلى مؤلفه على الإطلاق بل إلى الحياة ذاتها.» ولهذا السبب بالتحديد فإن العمل الفني هو أكثر موضوعات الدراسات الإنسانية وثوقًا وثباتًا وخصوبة، بهذا الوضع الثابت والموضوعي يصبح الفهم الفني الوثيق للتعبير أمرًا ممكنًا، «هكذا تبزغ في الحدود القائمة بين المعرفة والفعل حلقةٌ أو عالمٌ تفصح فيه الحياة عن نفسها بعمقٍ غير متاحٍ في الملاحظة أو التأمل أو النظرية.»

ولعل الأعمال الفنية المتجسدة في اللغة (الأدب) هي بين جميع الأعمال الفنية أعظمها قدرةً على كشف الحياة الباطنة للإنسان، وبسبب وجود هذه الموضوعات الثابتة الباقية (الأعمال الأدبية في هذه الحالة) فقد ظهر بالفعل حشدٌ من النظريات حول تفسير النصوص هو الهرمنيوطيقا، يؤكد «دلتاي» أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تهدي إلى نظريةٍ عامة في الفهم، ذلك أنه «فوق كل شيء فإن فهم بنية الحياة الباطنة يقوم على تفسير الأعمال، الأعمال التي تعبر عن نسيج الحياة الباطنة تعبيرًا كاملًا.» هكذا تأخذ الهرمنيوطيقا عند دلتاي دلالةً جديدة أكبر مما أخذته في السابق؛ إذ تصبح نظريةً غير مقتصرةٍ على مجرد تفسير النصوص، بل نظرية في كيف تكشف الحياة عن ذاتها وتعبر عن نفسها في الأعمال.

غير أن التعبير في هذه الحالة ليس تعبيرًا عن واقعٍ فردي وشخصي محض؛ لأنه عندئذٍ يتعذر فهمه من جانب شخص آخر، عندما يأخذ التعبير شكل الكتابة فإنه يستعمل اللغة، وهي وسيطٌ مشتركٌ بين الكاتب والمتلقي، وبالمثل فإن الخبرة هي شيءٌ مشترك بين القائل والمستمع، فالفهم يأتي في حقيقة الأمر بفضل تماثل الخبرة، هكذا يمكننا أن نفترض وجود بناءات عمومية يحدث الفهم الموضوعي فيها ومن خلالها، التعبير إذن ليس تعبيرًا عن شخصٍ على الإطلاق كما تذهب النزعة السيكولوجية، بل عن واقع اجتماعي-تاريخي يكشف عن نفسه في الخبرة، ذلك هو الواقع الاجتماعي-التاريخي للخبرة ذاتها.٨

(٣-٣) الفهم Understanding

لكلمة «الفهم»، شأنها شأن الكلمتين المفتاحين الآخرين في صيغة دلتاي «الخبرة-التعبير-الفهم»، معنى خاص يختلف عن معناها في الاستعمال الدارج، فهي لا تشير إلى فهم تصورٍ عقلي مثل مسألة رياضية مثلًا، بل يدخر دلتاي كلمة «فهم» لكي يسمي بها تلك العملية التي فيها يقوم العقل بفهم عقل شخصٍ آخر، إنها ليست عملية معرفية خالصة على الإطلاق، بل هي تلك اللحظة الخاصة حيث الحياة تفهم الحياة، «إننا نفسر Explain بواسطة عمليات فكرية محضة، ولكننا نفهم Understand بواسطة النشاط المشترك لجميع القوى الذهنية في الإدراك.» ويعبر دلتاي عن هذه الكفرة في عبارته المحكمة الشهيرة: «نحن نفسر الطبيعة، أما الإنسان فينبغي علينا أن نفهمه.» الفهم إذن هو العملية الذهنية التي يتم لنا بواسطتها إدراك الإنسانية الحية، إنها الفعل الذي يشكل أفضل اتصال لنا بالحياة ذاتها، وللفهم Understanding، شأنه شأن الخبرة المعاشة Erlebnis، امتلاءٌ معينٌ يَنِدُّ عن التنظير العقلي.

يفتح لنا الفهمُ عالمَ الأشخاص الفرديين، وهو بذلك يفتح لنا أيضًا الاحتمالات الكامنة في طبيعتنا نحن، ليس الفهم مجرد فعل فكري، وإنما هو انتقال وإعادة معايشة العالم كما يجده شخصٌ آخر في الخبرة المعاشة، وليس الفهم عملية مقارنةٍ واعية تأمُّلية، بل عملية تفكير صامت يتم فيها انتقال المرء بطريقةٍ سابقة على التأمل إلى دخيلة الشخص الآخر، إن المرء ليعيد اكتشاف نفسه في الشخص الآخر.

ثمة حقيقة أخرى تُبرِز الطريقة التي يختلف بها الفهم عن مجرد التفسير العلمي، وهي أن للفهم قيمةً في ذاته بمعزل عن أي اعتباراتٍ عملية، فالفهم ليس بالضرورة وسيلةً لشيءٍ آخر، بل هو خيرٌ بحد ذاته، فمن خلال الفهم وحده نلتقي بالجوانب الشخصية وغير التصورية من الواقع: «إن لغز «الشخص» ليجذبنا من أجل ذاته فحسب إلى محاولات للفهم تزداد جدةً وعمقًا على الدوام.» وفي مثل هذا الفهم يبزغ عالَم الفرد، ذلك العالم الذي يشتمل على الإنسان وإبداعاته، ها هنا تكمن وظيفة الفهم الملائمة للدراسات الإنسانية على أتم وجه، ويؤكد دلتاي، مثلما أكد سلفه شلايرماخر من قبل، أن الدراسات الإنسانية تتريث بحبٍّ عند «الجزئي» من أجل ذاته، أما التفسيرات العلمية، فهي قلما تُقَدَّر في ذاتها، بل تُقدر من أجل شيء آخر، وحين تكون بعض الرسائل العلمية ممتعةً لنا بحد ذاتها (كما هو الحال مع رسالة لوكريتس «في طبيعة الأشياء») فنحن إنما نراها على أنها مفاتيح لفهم الطبيعة الداخلية للإنسان؛ إننا، بمعنى أصح، نَلِجُ إلى داخل الدراسات الإنسانية ومقولات الفهم وليس إلى مجرد التفسير.

(٤) معنى «التاريخية» في هرمنيوطيقا دلتاي

ولو طار جبريلٌ بقية عمره
عن الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
المعري
ألح دلتاي مرارًا على أن الإنسان «كائنٌ تاريخي» a Historical Being ولكن ماذا تعني كلمة «تاريخي» في هذا المقام؟ الجواب هنا على جانب كبير من الأهمية، ليس من أجل فهم هرمنيوطيقا دلتاي فحسب، بل أيضًا بسبب التأثير الذي سيمارسه مفهوم «التاريخية» على النظرية التأويلية اللاحقة.

التاريخ في تصور «دلتاي» ليس شيئًا ماضيًا يقف بإزائنا بصفته موضوعًا، ولا «التاريخية» عنده تشير إلى تلك الحقيقة الواضحة موضوعيًّا للجميع وهي أن الإنسان يُولد ويعيش ويموت في مسار الزمن، إنها لا تشير إلى زوال الوجود الإنساني وقِصر عمره، والذي هو موضوعٌ للشعر، التاريخية عند «دلتاي» تعني أمرين:

وفيما يتولى الإنسان على الدوام امتلاك التعبيرات المصوغة التي تشكل إرثه وتركته فهو يصبح «تاريخيًّا» بطريقة إبداعية، فهذا الفهم للماضي ليس شكلًا من العبودية، بل من الحرية، حرية الفهم الذاتي المتنامي على الدوام والوعي بقدرته على أن يريد ما سيكونه، وما دام بقدرة الإنسان أن يغير ماهيته ذاتها، فمن الممكن القول بأن لديه القدرة على أن يغير الحياة ذاتها، إن لديه قوًى حقيقية وجذرية على الخَلق.

إن من شأن ذلك أن يدعم ما قلناه آنفًا عن الزمانية الصميمة للفهم: فالمعنى دائمًا يقف في «سياق/أفق» يمتد في الماضي، ويمتد في المستقبل، وشيئًا فشيئًا تصبح هذه الزمانية جزءًا لا يتجزأ من مفهوم «التاريخية»، بحيث «لا يقتصر لفظ «التاريخية» على الإشارة إلى اعتماد الإنسان على التاريخ في فهم ذاته وتأويلها، وإلى تناهيه الإبداعي في تحديد ماهيته تاريخيًّا، بل يشير أيضًا إلى استحالة الفكاك من التاريخ، وإلى الزمانية الصميمة لكل فهم.»

والنتائج التأويلية لهذه «التاريخية» واضحة في كل كتابات دلتاي بحيث يصح أن نقول مع بولنو إن مفهوم التاريخية، إلى جانب مفهوم وحدة الحياة والتعبير، هو مفهوم محوري لفهم فلسفة دلتاي، فإذا اختلف «دلتاي» عن سواه من فلاسفة الحياة فإن هذه «التاريخية» بالتحديد هي ما يفرقه عن «برجسون» وغيره، لقد كان دلتاي هو من أعطى الدفعة الحقيقية للاهتمام الحديث بالتاريخية، وكما لاحظ بولنو بحق فإن «جميع المحاولات الحديثة لفهم تاريخية الإنسان تجد في دلتاي بدايتها الحاسمة والمؤكدة».٩

إنه باختصار أبو التصورات الحديثة للتاريخية، فلا تأويلية دلتاي نفسها، ولا تأويلية هيدجر وجادامر، يمكن تصورها إلا في ضوء التاريخية، وبخاصة تاريخية الفهم، فالنظرية التأويلية ترى إلى الإنسان بوصفه معتمدًا على تأويلٍ دائمٍ للماضي، ومن هنا أمكن القول بأن الإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقًا لتأويل ميراثٍ وعالمٍ مشتركٍ تسلمه من الماضي، ميراثٍ حاضرٍ وناشطٍ دائمًا في أفعاله وقراراته، وصفوة القول أنه في التاريخية تجد الهرمنيوطيقا الحديثةُ أُسُسَها النظرية.

(٥) الدائرة التأويلية والفهم

يرى «دلتاي» أن عمليات الفهم تحدث في إطار مبدأ «الدائرة التأويلية» Hermeneutical Circle الذي صرح به آست وشلايرماخر من قبل، ومفاده أن «الكل» يأخذ دلالته ومعناه من «الأجزاء»، و«الأجزاء» في الوقت نفسه لا يمكن فهمها إلا بالإحالة إلى «كل»، والكلمة المحورية هنا هي كلمة «المعنى» Meaning فالمعنى هو ذلك الذي يظفر به الفهم في عملية التفاعل الجوهري المتبادل بين الكل والأجزاء.

وكما أشرنا من قبل، فإن «الجملة» اللغوية تقدم لنا مثالًا واضحًا على التفاعل المتبادل بين الكل والأجزاء وعلى أهمية الطرفين في عملية الفهم: فنحن من معنى الأجزاء نظفر بفهمٍ لمعنى الكل الذي يغير بدوره حالة اللاتحديد في الكلمات المفردة إلى نمطٍ ثابت وذي معنى، يورد دلتاي هذا المثال ثم يصرح بأن العلاقة نفسها توجد بين الكل والأجزاء في حياة المرء، فمعنى الكل مستمد من معنى الأجزاء، ومن الممكن لحدثٍ أو خبرةٍ أن تغير حياتنا بحيث يصبح ما كان ذا معنى من قبل شيئًا لا معنى له، وبحيث تأخذ خبرةٌ ماضيةٌ هينةٌ معنًى عظيمًا بأثرٍ رجعي، إن معنى الكل يحدد معنى الأجزاء ووظيفتها، والمعنى هو شيء تاريخي، إنه علاقة كلٍّ بأجزاء، ونحن نرى هذه العلاقة من وجهة نظر معينة في زمن معين بالنسبة لتجمع بعينه من الأجزاء، إنها ليست شيئًا عاليًا على التاريخ أو خارجًا عنه بل جزء من دائرةٍ تأويليةٍ محددة تاريخيًّا بصفة دائمة.

المعنى إذن أمرٌ «سياقي» Contextual، إنه جزء من الموقف، من ذلك أن معنى عبارة «جئت لأسلم على مليكي وسيدي» أو «جئت لأقول لمليكي ومولاي»:
  • (١)

    الخادم القديم في «بستان الكرز».

  • (٢)

    التابع الخاص في «فاوست».

  • (٣)

    سمردياكوف في «الإخوة كرامازوف».

  • (٤)

    كِنت في «الملك لير».

ولننظر — الآن — بإيجاز إلى معنى هذه الجملة في سياقها، في المشهد الأخير من مسرحية «الملك لير»، بعد أن انتهت المعركة وبعد أن سقط إدموند وجعل يلهث محتضرًا، يدخل المخلص كِنت، ويُعبر عن ولائه العظيم بكلمات استئذان بسيطة ومؤثرة، فأي عالم من المعنى تفصح عنه كلمة «سيد» (مولى) Master هنا! إننا لا نسمع فيها علاقة كنت بلير فحسب، بل نسمع، برجع الصدى، تيمة الولاء البسيط في النظام التراتبي للأشياء، بالطبع هذه الكلمات تتجاوز مجرد التعبير عن كِنت وعلاقته بلير، إن لها دلالة عملية فاعلة؛ لأن هذه الجملة البسيطة متبوعة مباشرة بالسؤال «أليس هو هنا؟» الذي يفجر النهاية المأساوية للمسرحية، ويتركز الانتباه على الفور إلى الغياب المشئوم لليروكورديليا، والذي يدفع إدموند إلى أن يخبرهم بأنه قد أمر بالقضاء على حياتهما، وأن يقوم بمحاولة غير مجدية لإلغاء الأمر، هنالك يدخل «السيد» العجوز، سيدًا الآن على نفسه وليس سيدًا على الأحداث التي جرها فشله في السيادة الحقيقية، يدخل حاملًا على ذراعيه الكنز الذي ازدراه يومًا ما وألقاه عنه على أنه هباء (كورديليا)، فما أهول التغير الذي اعترى معنى «الحب» و«الولاء» عند لير خلال المسرحية! وشد ما غيرت الأحداث معنى قراره بتقسيم مملكته!١٠

المعنى شيءٌ تاريخي، لقد تغير الزمن، إنه مسألة علاقة، فهو دائمًا مرتبط بمنظور تُرى منه الأحداث، المعنى ليس شيئًا ثابتًا صلبًا، حتى «معنى» الملك لير كمسرحية يتغير، فمعناها عندنا بعد زوال العالم الطبقي الربوبي وفي سياقٍ اجتماعي مغاير تمامًا لا بد أنه مختلف عما كان عليه لدى معاصري شكسبير، إن تاريخ التفسيرات المسرحية لشكسبير لتُظهر لنا أن هناك شكسبير للقرن السابع عشر، وشكسبير للقرن الثامن عشر وآخر للتاسع عشر، ورابعًا للقرن العشرين، تمامًا مثلما أن هناك صيغة أرسطية لأفلاطون وهناك أفلاطون المسيحية المبكرة وأفلاطون العصر الوسيط وأفلاطون القرن السادس عشر وحتى أفلاطون القرن العشرين، فالتفسير دائمًا يقف في الموقف نفسه الذي يقف فيه المفسر نفسه، إن المعنى يتوقف على ذلك مهما بلغ اكتفاؤه الذاتي الظاهري داخل مسرحية أو قصيدة أو حوار.

هكذا يتجلى صواب دلتاي حين ذهب إلى أن المعنى قد يكون له أنماط مختلفة غير أنه دائمًا نمط من التماسك أو العلاقة أو القوة الرابطة، إنه ورغم أن المعنى هو مسألة علاقة وسياق، فإن هذا لا يعني أنه «معلق في فراغ» مثل تكوين فني عائم طليق! إنه ليس شيئًا مكتفيًا بذاته يقف قبالتنا كموضوع، إنه ذلك الشيء غير الموضوعي الذي نموضعه حين نستظهر معنًى ما، يقول دلتاي: «ينمو المعنى أساسيًّا من علاقة الجزء بالكل، تلك العلاقة المتأصلة في طبيعة الخبرة المُعاشة.» وبعبارة أخرى فالمعنى داخل في نسيج الحياة، أي في مشاركتنا في الخبرة المُعاشة، إنه «المقولة الأساسية الجامعة التي تصبح تحتها الحياة قابلة للفهم»، والحياة، كما قلنا آنفًا، ليست شيئًا ميتافيزيقيًا بل «خبرة مُعاشة»، في هذه الحقيقة الأساسية، يقول دلتاي قوله المأثور:

الحياة هي العنصر أو الحقيقة الأساسية التي يجب أن تشكل نقطة البداية للفلسفة، إنها تُعرف من الداخل، إنها ذلك الشيء الذي وراءه لا يمكن أن نمضي، الحياة لا يمكن أن يُزج بها إلى محكمة العقل.

إن منفذنا إلى فهم الحياة هو في موقع أعمق من العقل، فالحياة تصبح قابلة للفهم من خلال موضعتها، ها هنا في مجال الموضوعات يمكن أن يُشيَّد عالم من العلاقات الحقيقية التي يفهمها الأفراد في معرض الخبرة المعاشة، المعنى ليس شيئًا ذاتيًّا، ليس إسقاطًا للفكر على الشيء (الموضوع Object)، بل هو إدراكٌ لعلاقةٍ حقيقية داخل رابطة سابقة على انفصال الذات-الموضوع في الفكر، فأن نفهم معنًى هو أمر يتضمن أن ندخل في علاقة حقيقية، وليس علاقة خيالية، مع صور «الروح» المموضعة المنبثة حولنا، إنه مسألة تفاعل متبادل بين الشخص الفرد وبين الروح الموضوعي داخل دائرة تأويلية تفترض مسبقًا تفاعل الاثنين معًا، المعنى هو الاسم الذي يُطلق على مختلف ضروب العلاقات في هذا التفاعل المتبادل.
ولدائرية المعنى نتيجة أخرى بالغة الأهمية للهرمنيوطيقا: فليس هناك، في واقع الأمر، نقطة بدء حقيقية للفهم، ما دام كل جزء يفترض الأجزاء الأخرى مسبقًا، يعني ذلك استحالة الفهم «بلا فروض مسبقة» Pre-Suppositionless فكل فعل للفهم يتم في سياق أفقٍ مُعْطًى، وحتى في مجال العلوم فإن المرء لا يفسر شيئًا إلا «بالنسبة إلى» أو «وفقًا ﻟ» إطار مرجعي ما، وفي الدراسات الإنسانية فإن الفهم يتخذ «الخبرة المعاشة» كسياق له، والفهم الذي لا يتعلق بالخبرة المعاشة ولا ينتسب إليها ليس فهمًا ملائمًا للدراسات الإنسانية (العلوم الروحية Geisteswissenschaften) وإنه لمما يبعث على السخرية أن يدعي «الموضوعية» أيُّ تأويلٍ يغفل تاريخية الخبرة المعاشة ويطبق مقولات لا زمانية على موضوعاتٍ تاريخية، ذلك أن مثل هذا التأويل قد قام بتحريف الظاهرة منذ البداية.

وحيث إننا نفهم دائمًا داخل أفقنا الخاص الذي هو جزء من الدائرة التأويلية، فإن من المتعذر وجود أي فهم غير موقفي لأي شيء من الأشياء، فنحن نفهم بواسطة الإحالة الدائمة لخبرتنا، من ذلك يتبين أن المهمة المنهجية التي يتعين على المفسر أن يضطلع بها هي ألا يغمر نفسه كليًّا في موضوعه (وهو أمر مستحيل على كل حال)، بل أن يجد طرقًا ممكنة عمليًّا للتفاعل المتبادل بين أفقه الخاص وبين أفق النص، وهذه، كما سوف نبين فيما بعد، هي المسألة التي أولاها جادامر انتباهًا كبيرًا: كيف يمكننا أن نحقق، داخل أفقنا الخاص الذي لا مناص من استخدامه، انفتاحًا معينًا على النص لا يُقحم مقدمًا مقولاتنا الخاصة عليه؟

خلاصة

أهمية «دلتاي» لفلسفة التأويل

أسهم «دلتاي» إسهامًا كبيرًا في توسيع نطاق الهرمنيوطيقا، وذلك بأن وضعها في سياق التأويل في الدراسات الإنسانية، وقد كان تفكيره التأويلي المبكر قريبًا جدًّا من النزعة السيكولوجية عند شلايرماخر، ولم يتخلص من هذه النزعة إلا بعد جهدٍ وعبر تطورٍ فكري تدريجي؛ لكي يصل إلى تصورٍ للتأويل على أنه منصبٌّ على التعبير عن «الخبرة المعاشة» ودون إحالةٍ إلى مؤلفه، غير أنه منذ أن وصل إلى ذلك أصبحت الهرمنيوطيقا، وليس علم النفس، هي أساس الدراسات الإنسانية، وقد حقق دلتاي بذلك هدفين من أهم أهدافه الكبرى: فهذا التصور أولًا قد ركز مشكلة التأويل على شيء له وضع ثابت ودائم وموضوعي، وبذلك أمكن للدراسات الإنسانية أن تأمل في بلوغ معرفةٍ ذات صواب موضوعي، ما دام موضوعها ثابتًا في ذاته إلى حد ما، ومن الواضح ثانيًا أن هذا الموضوع يدعو إلى طُرُق للفهم «تاريخية» لا علمية؛ إذ يتعذر أن يُفهم إلا من خلال الإحالة إلى الحياة ذاتها بكل ما تتصف به من تاريخية وزمانية، ومن المحال النفاذ، بعمق متزايد على الدوام، إلى معنى تعبيرات الحياة، إلا من خلال الفهم التاريخي.

يترتب على ذلك نتائج تتعلق بنظرية الأدب: فقد عاد بمقدور المرء أن يتحدث، بحق ومعقولية، عن «الصدق» Truth في عملٍ أدبي ما، وأن ينظر إلى «الشكل» لا على أنه عنصر منفصل في حد ذاته، بل على أنه رمز لحقائق داخلية، الفن عند دلتاي هو أنقى تعبيرٍ عن الحياة، والأدب العظيم متجذرٌ في الخبرة المعاشة لأسرار الحياة: لماذا نُولد ونموت ونفرح ونحزن ونحب ونكره، ما سر قوة الإنسان وضعفه، ومكانه الغامض الملتبس في الطبيعة، وقد أصاب بولنو حين قال: «إذا المرء قدر الفن لأنَّه حقق التعبير عن الحياة، فإنه إذن يغفل أنه إنما يقدر الفن لأجل ذاته فحسب.» فرغم أن العمل الفني هو خيرٌ في ذاته، ورؤيته ليست وسيلة لأي غاية أخرى، فإن العمل ليس صامتًا تجاه الإنسان بل هو يخاطب طبيعته الداخلية، وهو مرتبط لشيءٍ ما يتخطى ذاته. الفن، بتعبير آخر، ليس مجرد لعب حر بالأشكال كما يفترض بعض الجماليين المتطرفين Aestheticians، بل الفن ضرب من الغذاء الروحي الذي يعبر عن الينابيع الثَّرَّة للحياة التي نضطرب فيها، وفي مستهل كتابه «الحقب الثلاث للاستطيقا الحديثة ومهمتها الحاضرة» (١٨٩٢م) يضع دلتاي كشعارٍ له قول شيلر: «عسى أن نكف عن طلب الجمال ونستبدل به طلب الحقيقة.» الحق (الصدق) Truth هنا، بطبيعة الحال، لا يُستخدم بمعنًى ميتافيزيقي، بل يشير إلى التمثيل الأمين للحقيقة الداخلية.

هكذا يضع دلتاي تأويل العمل الفني الأدبي في سياق تاريخية الفهم الذاتي للإنسان، إنه تاريخي ليس فقط لأنه يتعين عليه أن يفسر موضوعًا (شيئًا) موروثًا تاريخيًّا، بل لأن المرء يجب أن يفهم الموضوع في أفق زمانيته هو ومن موقعه هو في التاريخ (أي زمانية المرء وموقع المرء)، ولأن العمل المعبر يتضمن فهم الإنسان لنفسه، فهو يفتح واقعًا لا هو «ذاتي» ولا هو «موضوعي» حقًّا (أي منفصل عن أفق فهمنا لأنفسنا)، ومن الوجهة الميثودولوجية، فإن هذا يَجْبَه التأويل بمشكلة فهم معنًى خارجٍ — بطريقة ما — عن قسمة «الذات-الموضوع» التي تميز التفكير العلمي.

لقد جرت مياهٌ كثيرةٌ في الهرمنيوطيقا منذ دلتاي وتغيرت أمورٌ كثيرة، وبوسعنا أن نلاحظ من موقعنا الحالي أنه لم ينجح تمام النجاح في التخلص من النزعة العملية والموضوعية للمدرسة التاريخية التي أخذ على نفسه أن يتجاوزها، إننا نرى اليوم بوضوح أكثر أن طلب «المعرفة الصائبة موضوعيًّا» كانت هي نفسها انعكاسًا لمُثُلٍ علميةٍ مناقضةٍ تمامًا لتاريخية فهمنا الذاتي، وربما أمكننا أن نصرح بأن «الحياة» هي نفسها مقولة قريبة بشكل مريب ﻟ «الروح الموضوعي» Objective Spirit عند هيجل رغم اعتراض دلتاي ومناوأته للمثالية المطلقة ومحاولته تأسيس الهرمنيوطيقا على وقائع إمبيريقية خالية من أي عنصر ميتافيزيقي، وقد نأخذ على دلتاي كذلك أنه نَظَرَ إلى الفهم — كما فعل شلايرماخر — على أنه إعادة معايشة وإعادة بناء لخبرة المؤلف، وأنه من ثم مماثل لفعل الإبداع؛ ذلك لأن عملية فهم السمفونية التاسعة لبيتهوفن هي بالطبع مختلفة غاية الاختلاف عن عملية إبداع بيتهوفن لها، إن العمل ليخاطبنا في تأثيره الكلي، فعمليات خلقه تقتضي معرفةً لا يلزمنا امتلاكها لكي «نفهم» ما «يُقال» في العمل.

على أن دلتاي قد جدد مشروع الهرمنيوطيقا العامة وخطا بها خطوات كبيرة إلى الأمام، لقد وضعها في أفق «التاريخية» الذي أحرزت فيه تطورًا هامًّا فيما بعد، لقد أرسى الأسس لتفكير هيدجر في زمانية الفهم الذاتي، ومن الممكن أن نعد دلتاي بحق أبا «الإشكالية» التأويلية المعاصرة.

١  جرى العرف على أن يُطلق اسم «الهرمنيوطيقا الرومانسية» على تأويلية دلتاي وشلايرماخر ومن نحا نحوهما.
٢  Hermeneutics, pp. 98-99.
٣  مايكل كول، علم النفس الثقافي — ماضيه ومستقبله، ترجمة د. كمال شاهين، د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى ٢٠٠٢م، ص٥١–٥٨.
٤  Hermeneutics, pp. 103–106.
٥  لعل الصواب النحوي/الصرفي هو «معيشة»، غير أني آثرت «معاشة» لأنها آلف للسمع، ولأنها أقل التباسًا، وهي على أية حال لا تعدم «تخريجة» تبرر صوابها، فهي اسم المفعول من الفعل الرباعي «أعاش» الذي قد يتعدى لمفعولين، وليس ما يمنع أن تكون «الخبرة» مفعولًا ثانيًا له في سياقٍ ما، فتكون «مُعاشة» اسم مفعولٍ صحيحًا على هذا الوجه.
٦  Ibid., pp. 107–111.
٧  Ibid., pp. 111-112.
٨  Ibid., pp. 112–114.
٩  Ibid., p. 117.
١٠  وليم شكسبير، الملك لير، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ١٩٨٦م، ص١٥٦–١٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤