الفصل السابع

هسرل: ما الفينومينولوجيا؟

(١) الفينومينولوجيا الخالصة (البحتة)

المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج ١٩١٧م
سيداتي، سادتي، زملائي الأجلاء، أصدقائي الأعزاء

  • (١)

    إن الحقبة التي قُدِّرَ لنا أن نعيش فيها، لَتَعُجُّ بالأحداث المذهلة في شتى مجالات الحياة الروحية للجنس البشري، فما من شيء أنشأته جهود الأجيال السابقة في كل حقل من حقول الثقافة، وتعهدته إلى أن صار نسقًا كليًّا مؤتلفًا، وما من أسلوب راسخ تأسس واستتب بوصفه منهجًا أو معيارًا، إلا اعتراه التغير في هذه الآونة وطفق يبحث عن أشكال جديدة يتسنى بها للعقل، الذي لم يهدأ له جنب، أن ينمو بحرية أكبر: في الحياة السياسية والاقتصادية، في التقنية، في الفنون الجميلة، وليس بأقلها على الإطلاق في العلوم، وحتى العلوم الطبيعية الرياضية التي كانت قديمًا نموذجًا للكمال النظري، قد غيرت أسلوبها تغييرًا كليًّا خلال بضعة عقود من إعادة البناء.

  • (٢)

    ولا تشذ الفلسفة في شيء عن هذه الصورة، ففي مجال الفلسفة كانت الفلسفات التي استنفدت طاقاتها في الفترة التي أعقبت الإطاحة بالفلسفة الهيجلية هي فلسفات النهضة بالدرجة الأساس، لقد كانت هذه الفلسفات بمثابة إعادة إنتاج لفلسفات الماضي، وكانت مناهجها وشطر من محتواها الجوهري تعود إلى مفكري الماضي العظام.

  • (٣)

    لقد عادت الحاجة تلح إلى فلسفة جديدة تمامًا، فلسفة لا تعيد إنتاج النهضة، بل تعيد استجلاء المشكلة الفلسفية بشكل جذري مسلطةً الضوء من جديد على معانيها وأفكارها الرئيسية؛ لكي تنفذ بذلك إلى الأرضية الأولى التي يجب أن تُصاغ على أساسها المشكلات إن كان لها أن تعثر على حل علمي أصيل.

  • (٤)

    ها هو علم أساسي جديد ينشأ داخل مجال الفلسفة، إنه «الفينومينولوجيا الخالصة (البحتة)»، إنه علم ذو نمط جديد تمامًا ومجال عريض لا نهاية له، ولا يقل صرامةً منهجيةً عن أيٍّ من العلوم الحديثة. على هذه الفينومينولوجيا الخالصة تتأسس جميع أفرع الفلسفة، ومن خلال نموها تستمد هذه الأفرع قوتها، عن هذه الفينومينولوجيا الخالصة أريد أن أتحدث: عن منهجها وموضوعها الذي تعجز المذاهب الطبيعية عن رؤيته وإدراك كنهه.

  • (٥)

    تدعي الفينومينولوجيا الخالصة أنها هي العلم الخاص بالظواهر المحضة، وهذا التصور عن «الظاهرة»، والذي نشأ تحت أسماء عديدة منذ القرن الثامن عشر دون أن يُسلط عليه الضوء، هو ما ينبغي أن نعرض له قبل أي شيء آخر.

  • (٦)
    سنعرض أولًا للارتباط الضروري بين «الموضوع» Object و«الصدق» Truth، والمعرفة، مستخدمين هذه الكلمات بأوسع معانيها، فكل موضوع تناظره منظومة مغلقة من «الحقائق» التي تصدق عليه، وله من جهة أخرى منظومة مثالية من العمليات التي يمكن بفضلها أن يُقدم الموضوع والحقائق إلى أي ذات عارفة.

    إذا أنعمنا النظر في هذه العمليات فسنجد في المستوى المعرفي الأدنى أنها عمليات تجربة أو خبرة، أو بمعنى أعم، عمليات حدس (عيان/معاينة) تقوم بإدراك الشيء في نسخته الأصلية.

  • (٧)

    من الواضح أن شيئًا شبيهًا بذلك يحدث في كل أنواع الحدوس وفي جميع العمليات الأخرى التي تقصد موضوعًا ما حتى لو كانت مجرد إعادة تمثيل (مثل تذكر معاينات صورية، ومثل عمليات تأمل موضوع رمزي)، أي حتى لو كانت لا تدرك الشيء بوصفه حاضرًا أمامها بشخصه بل تعيه بوصفه متذكرًا أو مُعادًا تمثيله بالصورة أو بطريق الإشارات الرمزية وما إليها، أو حتى عندما يكون الحكم على واقعية الشيء المدرك أمرًا غير محدد لسبب أو لآخر.

    ومن ثم فحتى الحدوس (العيانات) الخيالية هي معاينة موضوعات، ولها كل ما للظواهر الأخرى من خصائص مع إضافة خاصية تمييز «موضوعها» كشيء غير متحقق.

    ولكي يمكن للمعرفة النظرية العليا أن تبدأ على الإطلاق فلا بد من أن تسبقها معاينة للموضوعات التي تنتمي لمجالها، فلا بد مثلًا من أن نخبر الموضوعات الطبيعية أولًا حتى يمكننا القيام بأي تنظير عنها، و«أن نخبر» معناه أن نعاين شيئًا ما في وعينا وأن نحكم بأنه واقعي حقيقي، أي الوعي بالموضوع الأصلي بوصفه حاضرًا بشخصه، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن «الموضوعات» أو «الأشياء» قمينة بأن تكون لا شيء على الإطلاق بالنسبة للذات العارفة ما لم «تظهر» لهذه الذات، أي ما لم تحز هذه الذات على «ظاهرة» لهذه الأشياء، ومن هنا فإن كلمة «ظاهرة» Phenomenon في هذه الحالة تشير إلى محتوًى معين يقطن داخل الوعي الذي يعاينه ويكون أساسًا للحكم بواقعيته.
  • (٨)

    ولا يختلف الأمر عن ذلك إذا انتقلنا إلى عملية متابعة موضوع ما في سلسلة من العيانات التي تُشيِّد معًا وحدة مؤلفة من وعي واحد مستمر بموضوع واحد بعينه، إن الطريقة التي يُقدَّم بها الموضوع داخل كل حدس من حدوس هذا الوعي المستمر قد تختلف باستمرار؛ فتتغير العيانات مع كل لفتة وكل تحول ومع تغير زاوية النظر من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى إلى الأسفل ويظل مظهر الشيء يتحدد مع كل نقلة من إدراك حسي إلى آخر بلا انقطاع، ورغم ذلك فإن وعينا، «وبسبب من مسلك هذه الإدراكات الحسية المتعاقبة وطريقة تتابع صورها ومسار تغيرها»، يظل معاينًا لنفس الموضوع كموضوع واحد بعينه لا ككثرةٍ متغيرة من الموضوعات، وبتعبير آخر يمكننا القول بأنه في باطن هذا الوعي وفي صميمه ثمة ظاهرةٌ واحدة مفردة تتخلل جميع التمثلات الظاهرية العديدة.

  • (٩)

    ويمتد هذا المفهوم أكثر فأكثر حين ننعم النظر في الوظائف المعرفية الأعلى: في الأنشطة والترابطات المتعددة للإدراك النظري التصوري التركيبي الإشاري، فكل عملية مفردة من أي من هذه الأصناف هي في صميمها عملية وعي بالموضوع الخاص بها، غير أن الموضوع هنا هو عملية تفكير من نوع معين، ومن ثم يُدرك هذا الموضوع كطرف في رابطة، كمتعلق في علاقة، إلخ، من جهة أخرى تتحد العمليات المعرفية المفردة في الوعي الواحد الذي يشكل داخله موضوعيةً تأليفيةً واحدة أو حالةً حمليةً واحدة مثلًا أو سياقًا نظريًّا واحدًا، إننا هنا بإزاء موضوع كالذي نعبر عنه في جمل من قبيل: «الموضوع متعلق بهذه الطريقة أو تلك …» «إنه كلٌّ مكون من هذه الأجزاء أو تلك»، «العلاقة ب تلزم عن العلاقة أ» … إلخ.

  • (١٠)

    هذا الوعي الخاص بمثل هذه التكوينات التأليفية يحدث خلال هذه الأفعال المتعددة والتي تتحد لتكون وحدات عليا من الوعي، ويحدث بواسطة ظواهر تتشكل داخليًّا (محايثة) وتعمل في الوقت نفسه كأساس لمختلف عمليات الحكم: مثل الصدق اليقيني، الاحتمال، الإمكان … إلخ.

  • (١١)

    يمتد مفهوم «الظاهرة» أكثر لينسحب على الأحوال المتغيرة (الوضوح والغموض، الجلاء والخفاء …) لكون المرء على وعي بشيء ما، والتي يمكن فيها أن تُقَدَّم للوعي علاقة أو صلة واحدة بعينها، أو تُعطَى له نفس الحالة أو نفس الترابط المنطقي، وهكذا.

  • (١٢)

    وصفوة القول: أن المفهوم الأول والأكثر بداءة للظاهرة يشير إلى النطاق المحدود من تلك الوقائع المعطاة للحس، والذي من خلاله تظهر الطبيعة وتتبدى في عملية الإدراك.

  • (١٣)

    ثم امتد المفهوم تلقائيًّا ليشمل كل صنف من الأشياء التي يقصدها الحس أو يموضعها، ثم امتد ليشمل أيضًا نطاق تلك الموضوعات التركيبية التي تُعطي للوعي خلال تراكيب إشارية وترابطية، وبذلك يكون المفهوم قد شمل جميع الأحوال التي تُقدَّم فيها الأشياء إلى الوعي، وقد رأينا في النهاية أنه يشمل كل مجال الوعي وكل الطرائق التي يتم بها الوعي بشيء ما وكل المكونات التي تندرج تحت هذه الطرائق، وما دمنا نقول إن مفهوم الظاهرة يشمل جميع الطرق التي يكون بها المرء على وعي بشيءٍ ما فإن ذلك يعني أنه يشمل أيضًا كل صنف من أصناف المشاعر والرغبة والإرادة وما ينطوي عليه من نزوع أو سلوك.

  • (١٤)

    وبميسورنا أن نفهم هذا التوسع في المفهوم إذا ما تذكرنا أن هناك فئات هائلة من الموضوعات — شاملة جميع الموضوعات الثقافية وجميع القيم والفضائل والأعمال — لا يمكننا أن نَخْبُرها ونفهمها وندركها موضوعيًّا بما هي كذلك ما لم نشرك الوعي العاطفي والإرادي، ليس هناك موضوع من فئة «الأعمال الفنية» مثلًا يمكن أن يُمَوْضَع لأي كائنٍ خِلْوٍ من الحساسية الاستطيقية (الجمالية)، أو كائنٍ متصفٍ بالعمى الاستطيقي إن صح التعبير.

  • (١٥)
    حصلنا من خلال هذا العرض لمفهوم «الظاهرة» على تصورٍ مبدئي لعلم ظاهريات عام، أي علم الظواهر الموضوعية بجميع أنواعها، أو علم بكل نوع من الموضوعات، على أن يُؤخذ مصطلح «موضوع» فقط بمعنى أيما شيء لديه تلك التحديدات التي يقدم بها نفسه للوعي، وهو يقدم نفسه خلال تلك الأحوال المتغيرة التي يتبدى فيها؛ ومن ثم تكون مهمة الفينومينولوجيا هي أن تبحث في كيف يتراءى شيءٌ مدرك أو متذكر أو متخيل بالشكل الذي يتراءى به، أو كيف يبدو بفضل ما يضفيه الحس أو تضفيه تلك الخصائص الباطنة للمدرك أو المتذكر أو المتخيل نفسه، ومن الواضح أن على الفينومينولوجيا أن تبحث بنفس الطريقة كيف يبدو ما يُجمع أو كيف يتراءى في عملية جمعه، وكيف يبدو ما يُفرق إذ يفرق، وكيف يبدو ما يُنتج إذ ينتج، وبالمثل في كل فعل من أفعال التفكير كيف يحوز هذا الفكر «ظاهريًّا» على ما يفكر فيه، كيف يبدو العمل الفني في عملية التذوق الفني على ما يبدو عليه، كيف يبدو الشيء المشكَّل، في عملية التشكيل، على ما يبدو عليه، إلخ، ما تريده الفينومينولوجيا في جميع هذه البحوث هو أن تبرهن على كل ما تراه متضمنًا في النظرية بافتراض الصواب الكلي للنظرية، غير أنها إذ تفعل ذلك سيكون عليها أن تشير في بحوثها إلى الطبيعة الداخلية للإدراك نفسه، للتذكر (أو أي طريقة أخرى للتمثيل) نفسه، للتفكير والتقييم والإرادة والفعل، مع أخذ هذه الأفعال كما تتبدى في التأمل الحدسي الباطني، وبتعبير ديكارتي يمكننا القول بأن البحث سيكون مُنصبًّا على «الكوجيتو» Cogito (الأنا أفكر) بحد ذاته بالإضافة إلى «المُفَكَّر به بوصفه مُفَكَّرًا به» Cogitatum Qua Ccogitatum، وكما أن الاثنين مرتبطان ارتباطًا لا انفصام له في الوجود، فمن المتعقل أن يكونا مرتبطين في البحث أيضًا.
  • (١٦)
    إذا كانت هذه هي الموضوعات الرئيسية للفينومينولوجيا، فمن الممكن أيضًا أن نطلق عليها «علم الوعي» Science of Consciousness، على أن نأخذ الوعي هنا بمعناه الخالص، الوعي «بما هو كذلك».
  • (١٧)
    ولكي نحدد هذا العلم بشكل أكثر دقة، فسوف نُدخل تمييزًا بسيطًا بين «الظواهر» Phenomena والموضوعات Objects بالمعنى العريض للكلمة، فبلغة المنطق الشائعة يُعد أي «موضوع» Subject، بغض النظر عن صدق محمولاته، هو «موضوع» Object،١ بهذا المعنى إذن تُعد كل ظاهرة هي أيضًا موضوع، بهذا المفهوم الأعرض للموضوع وبهذا المفهوم للموضوع الفردي على وجه الخصوص، تقف الموضوعات من جهة والظواهر من جهة أخرى على طرفي نقيض، إن الموضوعات، جميع الموضوعات الطبيعية مثلًا، هي موضوعات غريبة عن الوعي، فالوعي يموضعها حقًّا ويضعها كحقائق واقعة، إلا أن من عجائب الوعي الذي يخبرها ويعيها أنه يضفي على ظواهره الخاصة حسًّا بأنها مظاهر لموضوعات غريبة عنه ويعرف هذه الموضوعات الخارجية خلال عمليات تلم بهذا الحس وتطلع عليه، هذه الموضوعات التي ليست عمليات واعية ولا مكونات محايثة لعمليات واعية سنسميها لذلك «موضوعات» Objects بالمعنى العريض للكلمة.
  • (١٨)

    يفضي بنا هذا إلى علمين منفصلين بينهما تفاوت كأشد ما يكون التفاوت: الفينومينولوجيا من جهة، أي علم كما هو في ذاته، والعلوم «الموضوعية» بعامة من جهة أخرى.

  • (١٩)
    إن الموضوعات الخاصة بهذين العلمين المتقابلين (وهي موضوعات بينها ارتباط واضح) يناظرها نوعان مختلفان جوهريًّا من الخبرة ومن الحدس بصفة عامة: الخبرة المحايثة (المباطنة) Immanent والخبرة الموضوعية (وتُسمى أيضًا الخبرة الخارجية أو الخبرة «المفارقة») Transcendent، تتألف الخبرة المحايثة من مجرد الرؤية التي تحدث في التأمل والتي يتم بها فهم الوعي وذلك الذي يعيه الوعي، مثال ذلك أن حبًّا أو رغبة ما أقوم بها الآن تدخل إلى خبرتي عن طريق مجرد نظرة استعادة، وبواسطة هذه النظرة تُقدم لي هذه الرغبة بشكل مطلق، وبمقدرونا أن ندرك ما يعنيه تعبير «بشكل مطلق» من خلال المقارنة: فليس بمقدورنا أن نخبر أي شيء خارجي إلا بقدر ما يقدم نفسه له حسيًّا من خلال هذه الإشارة أو تلك، أما الحب فليس له تمثيلات متغيرة وليس له منظورات أو إطلالات متبدلة؛ فأنظر إليه مثلًا من فوق أو من تحت أو من قريب أو من بعيد، إنه ليس شيئًا غريبًا بأية حال عن الوعي بحيث يقدم نفسه إلى الوعي خلال وساطة ظواهر مختلفة عن الحب نفسه، ﻓ«أن أحب» هو في الصميم «أن أعي».
  • (٢٠)

    يشتبك هذا مع حقيقة أن ما هو مُعطى للتأمل المحايث هو شيء لا شك في وجوده ولا يمكن أن يرقى إليه الشك، في حين أن ما نخبره من خلال التجربة الخارجية فإنه يقبل دائمًا احتمال أن يتكشف، في سياق الخبرات التالية، أنه موضوع مُتَوَهَّم.

  • (٢١)

    على أن الخبرتين المحايثة والمفارقة هما رغم ذلك مرتبطان بشكلٍ وثيق: فبوسعنا الانتقال من الواحدة إلى الأخرى بمجرد نقلة في الموقف أو تغيير في الاتجاه.

  • (٢٢)
    أما في الموقف الطبيعي Natural Attitude فنحن نَخْبُر (بين أشياء أخرى) عمليات في الطبيعة، نحن نلتفت إليها، نلاحظها، نصفها، نُدرجها تحت مفاهيم أو تصورات، وفيما نحن نقوم بذلك تحدث في وعينا الاختباري والنظري عملياتٌ شعوريةٌ متعددة الشكل ذات مكوناتٍ محايثةٍ متغيرةٍ على الدوام، فالأشياء التي ندركها تقدم نفسها عبر جوانب في تجدد مستمر، أشكالها مظللة بطرق محددة حسب المنظور، ويجري تأويل معطيات الحواس المختلفة بطرق محددة، كألوان مثلًا للأشكال المدركة أو كحرارة منبعثة منها، وتُعزى الكيفيات الحسية التي يتم تأويلها إلى أحوال واقعية، إلخ، تقدم كلٌّ من هذه الحواس معطياتها الإدراكية ويتم كل ذلك في الوعي بفضل سلسلة محددة من العمليات الواعية المتجددة، غير أن الشخص في الموقف الطبيعي لا يدري بشيء من ذلك، فهو ينفذ أفعال الخبرة والإسناد والتجميع ولكنه فيما يقوم بذلك لا ينظر (إلى الداخل) تجاه هذه الأفعال بل ينظر (إلى الخارج) تجاه الموضوعات التي يشملها بوعيه.
  • (٢٣)

    بمقدور المرء من جهة أخرى أن يحول بؤرة انتباهه الطبيعية إلى بؤرةٍ تأملية (انعكاسية) فينومينولوجية، فيجعل وعيه الحالي المتدفق، وبالتالي يجعل الظواهر المتعددة الأشكال بلا نهاية، مَحَطَّ ملاحظاته وأوصافه واستقصاءاته النظرية، تلك الاستقصاءات التي نسميها باختصار «فينومينولوجية».

  • (٢٤)

    إلا أنه عند هذه النقطة تبرز أسئلة يمكن في الموقف الراهن أن نسميها الأسئلة الأشد حسمًا: أليس هذا الذي وصفناه لتونا بأنه تأمل محايث، هو هو الخبرة السيكولوجية الداخلية؟ ألا يكون علم النفس هو المكان الصحيح لدراسة الوعي بجميع ظواهره؟ ومهما يكن من تعاميه عن جميع المشكلات الجذرية المتعلقة بالأوضاع التي تجري في الوعي المحايث، أليس من الواضح أن مثل هذه البحوث ينبغي أن تنتمي إلى علم النفس بل أن تكون أساسية فيه؟

  • (٢٥)

    ولكي نبدأ فإننا نطرح هذه القضية: الفينومينولوجيا الخالصة هي علم الوعي الخالص (الشعور المحض)، وهذا يعني أن الفينومينولوجيا الخالصة تعتمد على التأمل الخالص وحده، والتأمل الخالص يستبعد، بوصفه تأملًا خالصًا، كل نوع من الخبرة الخارجية، ومن ثم فهو يحظر إدخال أي موضوعات غريبة على الوعي، أما علم النفس فهو علم «الطبيعة» النفسية، وهو من ثم علم الوعي بوصفه «طبيعة» أو بوصفه حدثًا واقعيًّا يجري في العالم المكاني الزماني، ينصب علم النفس على عملية الخبرة النفسية، وهي عملية إدراك ذاتي تصل التأمل المحايث (المباطن/الجواني/الداخلي) بالخبرة الخارجية، البرانية، كما أنه في الخبرة السيكولوجية يكون الحدث النفسي معطى بوصفه حدثًا داخل لُحمة الطبيعة، يتميز علم النفس بأنه، بوصفه علمًا طبيعيًّا بالحياة النفسية، يعتبر عمليات الوعي عمليات واعيةً لكائنٍ حي، أي أنه ينظر إليها كملحقاتٍ سببيةٍ حقيقية لأجسامٍ حية، وعلى عالم السيكولوجيا أن يلجأ إلى التأمل لكي يضع يده على العمليات الواعية المعطاة خبرويًّا، غير أن هذا التأمل لا يظل ملتزمًا بالتأمل الخالص؛ لأنه ما دام منتميًا فعليًّا للجسم الحي المعني فهو موصول بتجربة الأشياء الخارجية، ومن ثم فإن الوعي بالخبرة السيكولوجية لا يعود وعيًا خالصًا، فحين نؤوله موضوعيًّا بهذه الطريقة يصبح الوعي نفسه شيئًا مفارقًا (برانيًّا)، يصبح حدثًا في العالم المكاني الذي يبدو، بفضل الوعي، شيئًا مفارقًا.

  • (٢٦)

    الحقيقة الجوهرية هي أن هناك صنفًا من الحدس (العيان) هو — بعكس الخبرة السيكولوجية — يبقى داخل التأمل الخالص: فالتأمل الخالص يستبعد كل ما هو معطى في الموقف الطبيعي، ويستبعد من ثم كل ما هو «طبيعة».

  • (٢٧)

    نتجه إذن إلى الوعي كما هو في صميمه وبمكوناته الداخلية الخاصة، ولا نُدخل في بحثنا أي شيء يتجاوز الوعي.

  • (٢٨)

    لن نُدخل في بحثنا إلا ما هو معطى للتأمل الخالص، بكل دقائقه الجوهرية المحايثة تمامًا كما هي معطاة للتأمل الخالص.

  • (٢٩)
    منذ زمن بعيد اقترب ديكارت من اكتشاف المجال الفينومينولوجي المحض، وذلك في تأمله الشهير والأساسي (والذي لم يؤتِ ثمارًا تُذكر رغم ذلك) الذي أفضى إلى عبارته المأثورة «أنا أفكر، أنا موجود.» وبمقدورنا أن نتوصل إلى ما يُسمى «الرد الفينومينولوجي» Phenomenological reduction بتحوير منهج ديكارت، وذلك باقتفائه بدقةٍ واستبصارٍ بنتائجه، مع إغفال كل ما كان يهدف إليه ديكارت من هذا المنهج.

    الرد الفينومينولوجي هو المنهج الكفيل بتنقية المجال الفينومينولوجي للوعي تنقيةً تامة من كل تطفلٍ من جانب الوقائع الموضوعية وإبقائه خالصًا منها، تأمل ما يلي: الطبيعة (العالم الموضوعي المكاني الزماني) مُعطاة لنا بصفة دائمة، فهي في الموقف الطبيعي تشكل مجال بحثنا في العلوم الطبيعية ومجال أغراضنا العلمية، ومع ذلك فليس هناك ما يمنعنا من أن نوقف — إن صح التعبير — أي اعتقاد في واقعيتها، رغم أن هذا الاعتقاد دائم الحدوث طوال الوقت في عملياتنا الذهنية. فليس هناك اعتقادٌ على أية حال ولا اقتناعٌ، مهما بلغ من وضوح، يستبعد بطبيعته إمكانية تحييدها بشكلٍ ما أو تجريدها من سطوتها، يمكننا أن ندرك ذلك حين نتأمل أي حالة نقوم فيها بتمحيص رأي من آرائنا، لنرد على الاعتراضات الموجهة إليه مثلًا أو لنعيد البرهنة عليه على أساس جديد، في هذه الحالة قد نكون في الحقيقة على يقين تام من هذا الاعتقاد ولا تساورنا فيه أي شكوك، غير أننا طوال مسار البحث نقوم بتغيير مسلكنا تجاه هذا الاعتقاد، وبدون أدنى تخلٍّ عن هذا الاعتقاد فنحن نتوقف عن الأخذ به وننكر على أنفسنا قبول ما ينص ببساطة على أنه حقيقة، وفيما البحث ماضٍ في سبيله فإن هذه الحقيقة تظل موضع بحث، موضع نظر، تظل معلقة.

  • (٣٠)

    في حالتنا هذه، حالة التأمل الفينومينولوجي الخالص، ليست غايتنا هي بحث أو اختبار اعتقادنا في وقائع غريبة عن الوعي، غير أن بإمكاننا القيام بتحييد ذلك الوعي بالواقع الذي يجعلنا نرى الطبيعة موجودة ومعطاة لنا، وبإمكاننا أن نفعل ذلك وفق مشيئتنا تمامًا، إن غايتنا الوحيدة هي بلوغ ميدان الوعي الخالص وإبقائه خالصًا، وفي سبيل هذه الغاية فنحن نتعهد بعدم قبول اعتقادات تتعلق بالخبرة الموضوعية، ونتعهد أيضًا بالامتناع عن استخدام أي استنتاج مستمد من الخبرة الموضوعية.

  • (٣١)

    سنتوقف — إذن — عن الحكم على وجود الطبيعة المادية، ووجود كل ما هو جسم، بما فيه وجود جسمي، أي جسم الذات المدركة.

  • (٣٢)

    يترتب على ذلك أننا سنتوقف — أيضًا — عن الحكم على كل خبرة سيكولوجية، فما دمنا قد امتنعنا تمامًا عن اعتبار الطبيعة والأشياء الجسمية كحقائق معطاة، فإن افتراض أي عملية شعورية من أي نوع كشيء له صلة جسمية أو كحدث يحدث في الطبيعة هو افتراض يزول من تلقاء نفسه.

  • (٣٣)

    «ماذا يتبقى لنا؟»

    ما الذي يبقى بعد أن يتم هذا الاستبعاد المنهجي لكل الوقائع الموضوعية؟ الجواب واضح، فبعد أن أقصينا كل واقعٍ اختباري وحيدناه وضربنا عنه صفحًا، فما يزال لدينا، وبدون أدنى شك، كل ظواهر الخبرة، ويصدق هذا أيضًا على العالم الموضوعي برمته، لقد امتنعنا عن الحكم على وجود العالم الموضوعي، كما لو أننا قد «وضعناه بين قوسين»، فالذي يبقى لنا هو جميع ظواهر العالم، تلك الظواهر التي تُدرَك بالتأمل كما هي في ذاتها على نحو مطلق، ذلك أن كل مكونات الوعي هذه تظل في صميمها كما هي، وإنما من مكونات الوعي هذه يتم تشييد العالم.

  • (٣٤)

    حين يكون اهتمامنا مُنصبًّا على المحتوى الظاهري للأشياء، فلن يضيرها البتة أن نعلق الحكم على وجودها الموضوعي، ولن ينال التأمل أي تأثيرٍ حين ينصب على رؤية الظواهر كما تُوجد وكما تتمثل في الوعي، بل عندها فقط في حقيقة الأمر يصبح التأمل نقيًّا وخالصًا، وحتى الاعتقاد نفسه في الأشياء الموضوعية، وهو ما يميز الخبرة الساذجة والفكر الإمبيريقية، لن يضيع علينا، بل سيقى لنا كما هو في صميمه ووفقًا للمعنى الكامن فيه، سنحلل خواصه المحايثة (المباطنة)، ونتعقب ترابطاته الممكنة، وبخاصة ما يتعلق بالأسس، وندرس بالتأمل المحض مراحل تكوُّن الاستبصار، ما يبقى من المعنى المقصود خلال هذه المراحل، وما يضفيه اكتمال الحدس على هذا المعنى، وما تضفيه ما تُسمى البنية من تغيير وإثراء، وأيما تَقَدُّم يُحرَز بواسطة ما يُسمى في هذا المقام «بلوغ الحقيقة الموضوعية من خلال الاستبصار».

    باتباع هذه الطريقة من الرد الفينومينولوجي (التوقف عن الاعتقاد في الأشياء الخارجية)، يمكن لأي نوع من الوعي النظري أو القيمي أو العملي أن يصبح موضوعًا للبحث، ويمكن لجميع الحقائق الموضوعية التي ينطوي عليها أن تُستكشف، وسوف ينظر البحث إلى هذه الحقائق الموضوعية باعتبارها، ببساطة، متلازمات Correlates للوعي، وسوف يكون التساؤل مقصورًا على الظواهر (ما هي؟ وكيف هي؟) التي يمكن استخلاصها من العمليات الشعورية والترابطات المعنية، بهذه الطريقة يصبح كل شيء موضوعًا للبحث الفينومينولوجي: الأشياء في الطبيعة، الأشخاص، الجماعات، الأشكال الاجتماعية، التكوينات الاجتماعية، التكوينات الشعرية والتشكيلية، وكل صنف من الأعمال الثقافية، ستخضع جميعًا للبحث الفينومينولوجي، لا بوصفها حقائق موضوعية كما تُعامل في العلوم الموضوعية المقابلة، بل بالنظر إلى الوعي الذي يشيِّد (من خلال توسُّط عددٍ مذهلٍ من بنيات الوعي) هذه الحقائق الموضوعية للذات الواعية.

    الوعي وما يعيه.

    ها هو ما يتبقى — إذن — كمجالٍ للتأمل الخالص فور قيامنا بعملية الرد الفينومينولوجي: التنوع اللانهائي لطرائق الوعي من جهة، وما لا نهاية له من المتلازمات القصدية من جهة أخرى، إن ما يعصمنا من تجاوز هذا المجال هو الدليل الإرشادي الذي، بفضل منهج الرد الفينومينولوجي، يحصله كل اعتقاد موضوعي بمجرد بزوغه في الوعي، يهيب بنا هذا الدليل: ألا نشارك في هذا الاعتقاد، وألا ننزلق إلى الموقف العلمي الموضوعي، وأن نتمسك بالظاهرة الخالصة، ومن الجلي أن الدليل شامل من حيث المجال الذي نتوقف فيه عن قبول العلوم الموضوعية نفسها وعلم النفس واحدٌ منها، وأن الدليل يستبدل بجميع العلوم ظواهر العلم، وهي في هذا الوضع الجديد تُعد من بين الموضوعات الكبرى للفينومينولوجيا.

  • (٣٥)

    ورغم ذلك، فما أن ندعي صدق أن قضية عن الأشياء الموضوعية، أي قضية على الإطلاق بما فيها الوقائع التي لا تقبل الشك، حتى نكون قد غادرنا أرض الفينومينولوجيا الخالصة؛ لأننا عندئذٍ نكون قد وقفنا على أرضٍ موضوعيةٍ ما ونمارس السيكولوجيا أو أي علم موضوعي آخر بدلًا من الفينومينولوجيا.

  • (٣٦)

    والحق أن التوقف التام عن الحكم على الطبيعة يتعارض مع أرسخ عاداتنا الخبروية والفكرية وأعمقها جذورًا، إلا أن هذا السبب هو بالتحديد ما يدعونا إلى توخي اليقظة الكاملة والوعي الذاتي التام أثناء القيام بالرد الفينومينولوجي، إذا كان لنا أن نستكشف الوعي بطريقة منهجية في دخيلته المحضة.

  • (٣٧)
    ولكن تظل تحفظاتٌ أخرى تراود الذهن؛ فهل الفينومينولوجيا الخالصة ممكنة حقًّا كعلم؟ وإن صح ذلك فكيف؟ فما إن يصبح تعليق الحكم نافذ المفعول حتى نكون بإزاء الوعي المحض، غير أن ما نجده في الوعي المحض هو تيارٌ مضطربٌ من الظواهر العابرة التي لا تتكرر أبدًا مهما بلغت درجة اليقين الذي تُقدَّم به في الشعور المحض، إن الخبرة بحد ذاتها ليست علمًا، وما دامت الذات المتأملة والعارفة لا تملك بحق غير تيار الظواهر الخاص بها، وما دامت كل ذات عارفة أخرى — جسمها وبالتالي وعيها أيضًا — تقع تحت طائلة الاستبعاد، فكيف يمكن قيام أي علم تجريبي بعد ذلك؟ فالعلم لا يمكن أن يكون «أناوحديًّا» Solipsistic، بل يجب أن يكون صوابًا بالنسبة لكل ذاتٍ مجرِّبة.
  • (٣٨)

    إننا لنكون في موقف عصيب حقًّا لو أن العلم التجريبي كان هو الصنف الوحيد من العلم، هكذا تُفضي بنا إجابة السؤال الذي طرحناه إلى المشكلات الفلسفية الأشد عمقًا التي لم تجد حلًّا لها حتى الآن، ومهما يكن من أمر فإن الفينومينولوجيا الخالصة لم تنشأ لكي تكون علمًا إمبيريقيًّا، وإن ما تسميه خلوصًا فيها ليس هو خلوص التأمل فحسب، بل هو في الوقت نفسه ذلك الصنف من الخلوص الذي يختلف كل الاختلاف عما نصادف في أسماء العلوم الأخرى؛ إذ تُسمى علومًا خالصةً أو بحتة.

  • (٣٩)
    كثيرًا ما نتحدث، بطريقة عامة ومفهومة، عن الرياضيات الخالصة أو البحتة، والحساب البحت، والهندسة البحتة، وعلم الحركة البحت … إلخ، ونحن نضع هذه العلوم، بوصفها علومًا قبلية a priori (سابقة على التجربة)، في طرف مقابل للعلوم القائمة على التجربة والاستقراء كالعلوم الطبيعية، والعلوم الخالصة (البحتة) بهذا المعنى، أي العلوم القبلية، هي علوم خالصة من أي تقرير أو حكم Assertion عن الواقع التجريبي، فهي تزعم أنها معنية بالممكن عقليًّا وبقوانينه الخالصة وليس بالوقائع الكائنة والحقائق الموجودة، أما العلوم التجريبية فهي على العكس من ذلك علوم بالواقع الفعلي القائم والمعطى كما هو من خلال التجربة.
  • (٤٠)
    وكما يَصْدِف التحليل الخالص عن تناول الأشياء الواقعية ومقاديرها الفعلية لكي يبحث في القوانين الضرورية المتعلقة بماهية أي مقدارٍ ممكن، وكما تَصْدِف الهندسة البحتة عن الأشكال الملاحَظة في التجربة الفعلية لكي تبحث في الأشكال الممكنة وتحولاتها، والمشكلة بحريةٍ في الخيال الهندسي المحض، ولكي تؤسس قوانينها الضرورية؛ كذلك تسعى الفينومينولوجيا الخالصة إلى دراسة عالم الوعي الخالص وظواهره لا بوصفه واقعًا فعليًّا بل بوصفه ممكناتٍ محضةً ذات قوانين محضة، والحق أن المرء حين يألف التأمل الخالص لا يسعه إلا الأخذ بأن الممكنات أيضًا خاضعة لقوانين عقلية في عالم الوعي المحض، مثال ذلك أن الظواهر المحضة لموضوع مكاني ممكن والتي يقدم بها نفسه إلى الوعي لديها نسقها المحدد القبلي من التكوينات الضرورية، والذي يفرض نفسه على كل وعي مدرِك إذا كان له القدرة على حدس الواقع المكاني … من ذلك يتبين أن تعبير «قبلي» A Priori ليس قناعًا نغطي به شطحًا أيديولوجيًّا معينًا بل هو ذو دلالة لا تختلف عن دلالة «الخلوص» في التحليل الرياضي الخالص أو في الهندسة الخالصة.
  • (٤١)

    من الواضح أنني لا أستطيع هنا أن أقدم أكثر من هذا الأنالوجي المفيد: فبدون ممارسةٍ حقيقيةٍ وعملٍ مضنٍ لا يمكن لأحدٍ أن يحصل على فكرةٍ كاملة عينية عما تكونه الرياضيات البحتة أو عن غزارة الاستبصارات التي تقدمها الرياضيات البحتة، كذلك يلزم المرء نفس الصنف من العمل الذكي الذي لا يغني عنه أي توصيف عام إذا شاء أن يفهم علم الفينومينولوجيا على الحقيقة، أما عن أهمية العمل فهو ظاهرٌ للعين يدل عليه الموقع الفريد الذي تحتله الفينومينولوجيا بالنسبة للفلسفة من جهة وعلم النفس من جهة أخرى، إن الأهمية القصوى للفينومينولوجيا الخالصة في تأسيس السيكولوجيا على أرض صلبة هي شيء واضح منذ البداية، فإذا كان كل شعورٍ خاضعًا لقوانين ضرورية بنفس الطريقة التي يخضع بها الواقع المكاني لقوانين الرياضيات، فإن هذه القوانين الضرورية ستكون بالغة الأهمية في دراسة حقائق الحياة الشعورية للكائنات البشرية وللحيوانات العجماء.

  • (٤٢)

    أما عن أهمية الفينومينولوجيا الخالصة بالنسبة للفلسفة فيكفي أن نشير إلى أن جميع المشكلات النظرية الخالصة، تلك المشكلات التي يشملها ما يسمى «نقد العقل»، العقل النظري والعقل العملي وملكة الحكم، هي مشكلات متعلقة تمامًا بالترابط الضروري القائم بين الموضوعات النظرية والعملية والقيمية من جهة والوعي الذي تحايثه وتتأسس في باطنه من جهة أخرى، وبميسورنا أن نبرهن على أن المشكلات النظرية الخالصة لا يمكن أن تُصاغ بصرامةٍ علمية ثم تُحل في ترابطها المنهجي إلا على صعيد الوعي الخالص فينومينولوجيًّا وداخل إطار فينومينولوجيا خالصة.

    فإن كان لنقد العقل ولجميع المشكلات الخاصة به أن توضع على طريق العلم الدقيق، فإنما يكون ذلك بنوعٍ من البحث يعتمد حدسيًّا على ما هو معطى فينومينولوجيًّا، وليس على تفكيرٍ من النوع الذي يؤلف مفاهيم قيمية، وهي لعبة يلعبها ببناءاتٍ مُنْبَتَّة تمامًا عن الحدس.

  • (٤٣)
    إن الفلاسفة، كما يبدو الأمر في هذه الأيام، مولعون غاية الولع بتقديم النقد من فوق بدلًا من دراسة الأشياء وفهمها من الداخل، وكثيرًا ما يقفون من الفينومينولوجيا نفس الموقف الذي وقفه باركلي Berkeley (الذي لا ننكر عبقريته كفيلسوفٍ وعالم نفس) منذ قرنين من الزمان تجاه «حساب اللامتناهي» Infinite Calculus الذي كان علمًا ناشئًا آنذاك، لقد ظن باركلي أنه استطاع أن يثبت، بنقده المنطقي الحاد والسطحي رغم ذلك، أن هذا النوع من التحليل الرياضي هو شطحٌ لا أساس له على الإطلاق، ولعبٌ فارغ بتجريداتٍ جوفاء، وليس هناك أدنى شك في أن علم الفينومينولوجيا، ذلك العلم الجديد الشديد الخصوبة، سوف يتغلب على كل عنادٍ وكل بلادة، وسوف ينمو نموًّا هائلًا، كما فعل حساب اللامتناهي الذي كان غريبًا على أهل عصره، وكما فعل علم الفيزياء الدقيق، في مواجهة الفلسفة الطبيعية الرائعة الغموض لعصر النهضة، منذ ظهور جاليليو.
إدموند هسرل
المحاضرة الافتتاحية في فرايبورج ١٩١٧م
وُلد إدموند هسرل Edmund Husserl (١٨٥٩–١٩٣٨م) في قرية بروسنيتز في مورافيا وكانت في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية، درس الرياضيات في جامعتي ليبزج وبرلين وحصل على الدكتوراه في الرياضيات عام ١٨٨١م، وفي جامعة ليبزج حضر المحاضرات الفلسفية لفيلهلم فونت، قرر هسرل أن يهب نفسه كليًّا للفلسفة، فارتحل إلى فينا حيث تلقى محاضرات فلسفية لفرانز برنتانو (١٨٣٨–١٩١٧م)، ومن عام ١٩١٦م حتى عام ١٩٢٩م قام بالتدريس في فرايبورج حيث قضى بقية عمره.
كانت المهمة الرئيسية التي نذر لها نفسه هي أن يجعل الفلسفة «علمًا دقيقًا»، علمًا صارمًا عامًّا شاملًا، الفلسفة عند هسرل إذن يجب أن تكون علمًا يبدأ بداية صحيحة ويتحرى الصواب منذ البداية، فلا يأخذ شيئًا على عِلاته ولا يُسلم بشيءٍ، أي إن الفلسفة يجب أن تكون علم العلوم … «علمًا بلا فروض مسبقة» Presuppositionless Science، يعتمد كل استدلالٍ استنباطي أو استقرائي في صحته على الفهم الحدسي المباشر لحقائق ليس لها، ولا يلزمها، تبريرٌ أبعد منها، إنها حقائق ضروريةٌ صدقها واضحٌ بذاته ولا تتطلبٌ أسسًا أخرى، مثل هذه الحقائق الضرورية لا بد من وجودها إذا شئنا ألا نقع في «نكوص لانهائي» Infinite Regress للتبرير، وعلى هذه الحقائق البينة بذاتها تتأسس الحقائق البينة بغيرها ويتأسس العلم كله، بهذا المعنى يُعد مشروع هسرل في تأسيس المعرفة كلها على أساسٍ يقينيٍّ موحدٍ نظيرًا لمشروع ديكارت وامتدادًا له.

(٢) حملته على النزعة السيكولوجية

كان هسرل في أول أعماله الكبرى «فلسفة الرياضيات» واقعًا في «النزعة السيكولوجية» Psychologism يفسر منشأ التصورات الرياضية، كالعدد والدوال والحقائق الحسابية … إلخ، تفسيرًا مشوبًا بمسحة سيكولوجية، فيفسر امتلاكنا مثلًا لتصور العدد على أنه مشتقٌّ من حدوس عقلنا بالتجمعات بما هي كذلك، غير أنه، تحت تأثير فريجه G. Frege (١٨٢٤–١٩٢٥م) الذي انتقده في ذلك انتقادًا عنيفًا، تخلى عن هذا المنحى وتحول من نصيرٍ للنزعة السيكولوجية إلى واحدٍ من أشد مناوئيها وأبعدهم أثرًا، وكان من المترتبات المباشرة لرفضه للمذهب السيكولوجي تأسيسه للفلسفة الفينومينولوجية.٢
ارتبط ظهور الفلسفة الفينومينولوجية بأزمة العلوم الإنسانية في مطلع القرن العشرين، فقد أدى ترقي البحوث السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية إلى تحول كل علم منها إلى «نزعة» Ism تريدنا أن نرى كل شيء بمنظارها ونرد كل شيء إلى مقولاتها، فالسيكولوجيون يردون كل شيء إلى علم النفس حتى قوانين المنطق، والاجتماعيون يفسرون كل شيء تفسيرًا اجتماعيًّا حتى التذوق الفني! والتاريخيون يرون منطق التاريخ مهيمنًا على كل الأشياء بما فيها صانع التاريخ نفسه؛ الإنسان!
تريد «النزعة السيكولوجية» (المذهب السيكولوجي) Psychologism أن تجعل المنطق مجرد فرع من فروع علم النفس، وكأن الماهية الذهنية لأي قضية من القضايا المنطقية يمكن أن ترتد إلى البواعث الذاتية التي صاحبتها، أو كأن معنى أي عبارة من العبارات لا يملك أي استقلال عن مجرى الشعور الذي اقترن به، ترى النزعة السيكولوجية أن تبرير «الاستدلال الاستنباطي» Deductive Inference والحقائق المنطقية أو الرياضية من قبيل ٢ + ٢ = ٤ يستند إلى أنها تمثل حقائق أساسية معينة عن الطريقة التي نفكر بها، غير أن هذا الموقف ينطوي على مغالطة، فمثل هذه النظرة تتعامى عن الضرورة المطلقة للحقائق المنطقية من جهة، وتُصادر على المطلوب من جهةٍ أخرى، فلو كانت الحقائق المنطقية تعتمد على أي صنفٍ من الوقائع حتى الوقائع الصادقة عالميًّا عن طريقة البشر في التفكير لكانت قائمة على أشياء كان من الجائز أن تكون على غير ما هي عليه، ما دامت هذه الوقائع هي دائمًا «عرضية» Contingent (غير «ضرورية» Necessary Apodictic)، إذا أخذنا مثلًا الاستدلال الاستنباطي المتضمن لقضيتين ق، ك والقائل: «ق تلزم عنها ك، ق صادقة، إذن ك صادقة.» قد ينزلق المرء إلى أن يعتبر هذه القضة تستمد تبريرها كاستدلال صحيح من وصفها لواقعة سيكولوجية عن الطريقة التي لا بد أن يفكر بها الناس: إذا رأى شخص ما أن «ق تلزم عنها ك»، ورأى أن هناك ق، فمن المتعين أن يرى أن ك تترتب على ذلك، غير أنه يخلط إذاك بين الشعور القهري السببي الواقعي (وهو أمر عرضي حتى لو كان عالميًّا) وبين الاستدلال المنطقي وهو أمر ضروري بغض النظر عما إذا كان أي شخص في الحقيقة يقوم بالاستدلال أم لا، قد يكون الاستدلال واصفًا للطريقة التي يفكر بها جميع الناس (وإن كنا نشك في ذلك)، غير أن هذا ليس هو الأساس الذي يستند إليه صواب الاستدلال، فصواب الاستدلال لا يعتمد على أي حقائق عامة عن عمليات سيكولوجية، والحق أن مما يُعد تفنيدًا لكل النزعات الطبيعية Naturalism أن حقائق المنطق لا تعتمد على أية وقائع على الإطلاق، فالمنطق «معياري» Prescriptive لا «وصفي» Descriptive.
ومن جهة أخرى فإن كل محاولة طبيعية Naturalistic لتبرير المنطق تبريرًا سيكولوجيًّا تنطوي على «دور»،٣   Vicious circle ذلك أن جميع الاستدلالات، بما فيها تلك المطلوبة لممارسة السيكولوجيا وإنتاج الحجج في السيكولوجيا، تفترض سلفًا صواب القواعد المنطقية للاستدلال، أي إن العلوم الطبيعية تفترض مسبقًا صواب القواعد المنطقية، ومن ثم فإن الحجج التي تستخدم قضايا العلم الطبيعي لا يمكن أن تُستخدم لتبرير قواعد المنطق.
من شأن هذه النزعة الطبيعية أن تشجع شتى ألوان النسبية، فإذا كانت القواعد المنطقية تعكس قوانين سيكولوجية للفكر، لكان من الجائز لهذه القوانين، بالنسبة لنا أو لغيرنا من الكائنات، في مكان آخر أو زمان آخر، أن تختلف وتتبدل، إن الروابط في علم المنطق بين المقدمات والنتائج ليست آلية أو «سببية» Causal بل هي «تصورية» Conceptual ومتعلقة بالمعاني، وفي كتابه «أبحاث منطقية» يرفض هسرل النزعة السيكولوجية وكل تعميمٍ للنزعة الطبيعية وإساءة استخدام التفسير الطبيعي ووضعه في غير موضعه.
بوسع المرء إذن أن يعتبر فلسفة هسرل رد فعلٍ ضد النزعة العلمية (المتطرفة) Scientism التي تقوم على الاعتقاد بأن كل شيءٍ قابلٌ للشرح والتفسير في ضوء العلم الطبيعي، لم يكن هسرل معاديًا للعلم، وإنما كان يريد أن يكشف مواطن قصور العلم ويبين حدوده، فالعلم يقوم على «افتراضات مسبقة» Presuppositions عن طبيعة الواقع يسلم بها تسليمًا ولا يضعها موضع التساؤل، ومن ثم فهو لا يملك تقديم تفسيرات أولية بالمعنى الذي يصلح أن يكون نقطة انطلاق قصوى، أو ركيزة أولى، لأي تفسير عقلاني للعالم، ولا بد للفلسفة إن شاءت أن تكون علمًا دقيقًا من أن تعود إلى ما هو معطى في التجربة في عموميته وقبل أن يناله أي تنظيرٍ أو تفسير، ولا بد لها من أن تقارب ما هو معطى وتتجه إليه بلا تصوراتٍ مسبقة أو فروضٍ مسبقة ظاهرة كانت أم خفية، فالفلسفة ينبغي أن تنشد الحقائق اليقينية الضرورية المُبرَّأة من الفروض المسبقة، وأن تلتمس ما يبقى لنا وتتبين ضرورته بوضوح ذاتي بمجرد أن نطرح ما هو عرضيٌّ غير ضروري، سيبقى لنا ذلك الذي لا بد من افتراضه والبدء منه في كل شكلٍ من أشكال البحث العقلي.

ويتحدث «هسرل» عن «أزمة الإنسان الأوروبي»، ومفادها أن العجز عن تأسيس العقلانية على أسس وطيدة قد أدى إلى النزعة اللاعقلية وإلى البربرية، ولكن الخطأ هنا ليس في العقلانية بل في تصور أن العقلانية والمذهب الطبيعي هما شيءٌ واحد وأن المذهب الطبيعي العلمي لديه تفسيرات عقلانية نهائية، الخطأ هو في هذا التصور الذي متى تبين فشله صارت العقلانية نفسها مهددةً بالنبذ، بينما مساواة العقلانية بالمذهب الطبيعي هو الذي يجب أن يُنبذ، فعجز العلم الطبيعي عن تقديم حقائق يقينية نهائية عن العالم ينبغي ألا يُعد فشلًا للمشروع العقلاني ذاته.

(٣) القصدية Intentionality

تبدأ قصة فينومينولوجيا «هسرل» من «فرانتس برنتانو» الذي تتلمذ عليه هسرل وأخذ عنه كثيرًا من الأفكار الخصبة وجعلها نقطة انطلاقه في فلسفته، كان برنتانو يعتقد أنه اكتشف ماهية «الذهني» The Mental أو ماهية «الوعي» Consciousness (الشعور) فالقاسم المشترك بين كل ما هو ذهني أو شعوري هو «القصدية» Intentionality، فخاصية كل شعور هي أن يكون شعورًا بشيء، وكل ما هو فعل ذهني أو موقف عقلي هو موجه نحو موضوع؛ «موضوع قصدي» Int Tentional Object، وجميع حالات الوعي (من تفكير واعتقاد ورغبة وحب وكراهية وتذكر … إلخ) لها دائمًا موضوع أو محتوًى، تختلف الطرق التي يرتبط بها الموضوع القصدي بالوعي المقابل ولكن في جميع الحالات لا اختلاف في أن الوعي هو وعي بشيء ما، الوعي دائمًا له موضوع، والوعي دائمًا موجه نحو موضوع؛ فهو يقصد هذا الموضوع ويعنيه ويراوده، والموضوع القصدي هو موضوع انتباه المرء في كل فعل ذهني.
والخاصية الأخرى التي تتحلى بها قصدية الوعي هي أنها تتجه نحو موضوعها وتعنيه بصرف النظر عما إذا كان هذا الموضوع موجودًا بالفعل أم غير موجود. إن الأفعال القصدية هي بعينها تلك الأفعال التي يمكنها تناول أشياء غير موجودة، فقد «يعتقد» طفل أو «يتمنى» أن يتحفه بابا نويل بالهدايا، وإن يكن بابا نويل كائنًا غير موجود، هذا ما يُعبَّر عنه أحيانًا بأن موضوعات الأفعال القصدية يمكن أن يكون لها «لا وجود قصدي» Intention Al Inexistence.٤
من الحق الذي لا يقبل الشك أن للأفعال الذهنية دائمًا موضوعًا ما، وأن ما يربط الوعي وأفعال الوعي بموضوعاتها القصدية ليس رباطًا عرضيًا، بل الموضوعات القصدية جزء لا يتجزأ من الفعل الذهني سواء تبين وجود الموضوع أو عدم وجوده، الموضوع القصدي «حالٌّ» أو «مباطن» أو «محايث» Immanent للفعل الذهني، وعلى العكس من ذلك نجد أن أي فعل جسمي (غير ذهني) يتطلب دائمًا موضوعًا موجودًا لكي يؤدي عليه الفعل، مثال ذلك أن أركل كرسيًّا بقدمي، فهو فعل يستلزم أن يكون ثمة كرسي لكي أركله، بينما «أن أفكر» في كرسي هو فعل لا يتطلب وجود أي كرسي، وحتى الشعور أو المزاج العام من قبيل القلق أو الانشراح، وإن بدا خِلْوًا من أي موضوعٍ قصدي بعينه، لا يشذ في رأي برنتانو عن القاعدة العامة وهي أن القصدية هي ماهية الذهني، فها هنا يكون المزاج نفسه هو الموضوع القصدي، هو «موضوع ذاته».
كل شعورٍ هو شعورٌ بشيء، وبهذه المثابة يمكن وصفه مباشرةً، والشعور بشيء هو التضايف المتواصل بين أفعال القصد بجميع أنواعها وبين الموضوع المقصود، من هنا تُعَدُّ فكرة القصدية بوصفها ماهية الذهني مناوئةً لنظرة ديكارت الثنائية إلى العقل باعتباره جوهرًا مستقلًّا قد يُوجد بمعزلٍ عن كل موضوع شعوري، ذلك أنه وفقًا لدعوى القصدية يُعد الفكر (الكوجيتو) Cogito وموضوعات الفكر (المفكَّر فيه) Cogitatum وحدة لا انفصام لها.
تقبل هسرل عن أستاذه فكرة القصدية وجعل يستخلص منها نتائج باهرة، منها أن فكرة القصدية تكشف مواطن القصور في المذهب الطبيعي السببي، ذلك أن مجال الشعور وموضوعاته القصدية يقدم حقلًا لا يتسنى فيه فهم الارتباطات إلا في ضوء المعنى والتبرير العقلي، وهو ما لا يقبل الرد إلى مجرد تفسيرات سببية أو تفسيرات سيكولوجية ترابطية Associationist، إن فهم سلاسل الأفعال الذهنية وموضوعاتها بوصفها معاني (اعتقاد س بسبب اعتقاد ص) يتطلب أن نصف الروابط بينها في حدود التصورات و«المبررات العقلية» Reasons والأغراض، وليس في حدود الروابط «السببية» Causal أو الآلية للأفعال الذهنية، فالسؤال «ما الذي يبرر اعتقادي اليقيني في أن ١٥٧٤ = ٩٢٦٨٤٦٢٦٦؟» أو السؤال «لماذا تكره الرجل الذي باعك السيارة؟» يتطلب لا إجابات أو تفسيرات «سببية» Causal بل «مبررات عقلية» Reasons أو «أدلة» Evidence، أي تبريرًا عقليًّا أو منطقيًّا، صحيح أن هناك مواقف يعتقد فيها المرء شيئًا أو يستنبط نتيجة لا تترتب منطقيًّا وذلك لدواعٍ سيكولوجية سببية، ومواقف أخرى يعتنق فيها الناس، مدفوعين بأسبابٍ سيكولوجية، اعتقادًا غير صائب عقليًّا أو يستخلصون نتيجةً لا تترتب منطقيًّا، غير أن هذا يثبت أن السؤال عن الظروف السببية التي جعلت المرء يعتقد بالفعل اعتقادًا معينًا هو سؤال مختلف عن السؤال عما إذا كان هناك مبرر عقلي أو منطقي لهذا الاعتقاد.
والحق أن هسرل لم يكن شديد الحرص على إثبات أن القصدية هي السمة المميزة للذهني، ذلك أن ما كان يهمه هو أن عالم الموضوعات القصدية أو المعاني يُقَيِّض للفلسفة موضوعًا مستقلًّا للدراسة بمعزلٍ عن، ولا يُرَدُّ إلى، أي افتراضات سببية طبيعية أوسع حول طبيعة هذه الموضوعات أو وجودها، فنحن في أي حال لدينا موضوعات أو معانٍ نحن على وعيٍ بها ما دام لنا وعي على الإطلاق، ومهما يكن صنف الافتراضات التي نكوِّنها عن طبيعة الواقع فإن من المتيقن أن أفعالنا الذهنية ستكون مسكونةً بمحتوًى معين أو موضوعٍ مقصود، وأن الأشياء تتبدى لنا على نحو معين، يتضمن الذهني دائمًا «إحالة» (إشارة) Reference إلى موضوع أو محتوًى ليس من المشترط أن يكون موجودًا بأي معنًى عدا كونه الموضوع المقصود في فعلنا الذهني، وموضوع الفينومينولوجيا هو الطبيعة الماهوية لهذه المحتويات منظورًا إليها باعتبارها موضوعاتٍ قصديةً صرفًا للأفعال الذهنية، ومن الجدير بالملاحظة أن «موضوعات الوعي» ليست مقصورة على الموضوعات الحسية للخبرة التجريبية، فأيما شيء يمكن أن يقع في الوعي: الألوان، الموضوعات الفيزيائية، المعادلات الرياضية، الحب، الزمن، الصداقة … إلخ هو موضوع ممكن للدراسة الفينومينولوجية، إذ تمكن دراسته كما هو بوصفه ظاهرة.

ترتكز الفينومينولوجيا على فكرة أننا حين نأتي لرؤية الموضوعات بما هي ظواهر في الوعي، يمكننا أن نرى حقائق يقينية وضرورية تتعلق بالملامح الماهوية لهذه الموضوعات؛ لأن بإمكاننا عندئذٍ أن نرى تلك الملامح التي لا يسعنا التغاضي عنها دون الوقوع في تناقض ذاتي بخصوص ما تكونه هذه الموضوعات، بذلك نفهم الموضوعات كما هي في ذاتها وبدون أية فروض مسبقة أو أية تفسيرات مقحمة عليها، وبين الملامح العديدة للأشياء ثمة ملامح «ماهوية»، وهي تلك الملامح التي، إن ظهرت لنا على الإطلاق، لا يمكننا أن نطرحها جانبًا إن كان لهذه الموضوعات أن تظهر لنا بوصفها ذلك الصنف من الأشياء، إن الطريقة التي لا بد أن تكونها الأشياء إن كان لها أن تظهر لنا على الإطلاق بوصفها تلك الأشياء هي ما يشكل «ماهيتها».

تشتق كلمة «فينومينولوجيا» من الكلمة اليونانية Phainomenon وتعني «مظهر»، وكلمة Logos وتعني علم، قانون، عقل، الظواهر هي الموضوعات النهائية لعلمٍ بلا فروض مسبقة، وتشير كلمة «ظاهرة» إلى ذلك الذي هو ما يبدو عليه، ومن ثم فهو شيءٌ ما يُرى كما هو في ذاته، والفينومينولوجيا في الحقيقة هي علم الموضوعات القصدية للوعي، ويتألف هذا العلم من قوانين قائمة على المعاني التي تصف الملامح الضرورية، البنائية والصورية، لشتى أصناف المظاهر. في حالة الموضوعات الظاهرية يمتنع التمييز بين المظهر والحقيقة، الموضوعات الظاهرية هي ما تظهر عليه؛ وذلك لأنها لا تعنينا إلا كما تظهر، وغني عن الذكر أن الأشياء «تظهر» لنا بطريقة معينة، وما دام المرء متمسكًا بظواهر الأشياء لا يتجاوزها فسيكون لديه نطاق من الموضوعات يمكنه أن يكوِّن عنها حقائق وصفية ضرورية ويقينية، تتخذ الفينومينولوجيا شعارًا لها «إلى الأشياء ذاتها» بمعنى أننا ينبغي أن نواجه الأشياء بالضبط كما نخبرها في الوعي، وبمعزلٍ عن أي فروض مسبقة نظرية أو ميتافيزيقية — لا أن نواجهها كأشياء بأي معنًى آخر — كأشياء فيزيقية مثلًا، ينبغي أن نعود إلى الخبرة ذاتها، إلى عالم الشعور المحض أو الذاتية الخالصة، ويطلق هسرل على حقيقة وجود ذاتية أو وعيٍ صريحٍ لقب «أعجوبة الأعاجيب جميعًا»، ليست تكمن المعجزة في الوجود نفسه بل في وجود موجودٍ يدري بهذا الوجود.

(٤) أزمة الأسس

لو أنعمنا النظر في بناء العلوم الطبيعية المختلفة وفي نظرة الحس المشترك إلى العالم لوجدناهما قائمين على مسلمات غير مستمدة من الظواهر، ثمة تحت نظرة الحس وتحت العلوم الطبيعية شبكةٌ من الفروض المسبقة عن طبيعة الواقع، وهي فروض تتخطى الظواهر Trans-Phenomenal أو «مفارقة» Transcendent، إننا نضع افتراضات عن الأشياء تتجاوز ما هي عليه الأشياء بوصفها ظواهر، ويطلق هسرل على النظرة «قبل-الفلسفية» إلى العالم اسم «الموقف الطبيعي» Natural Attitude.
وحتى المنطق والرياضيات لم يسلما من المسلمات! ولم يحققا مطلب «الخلو من الفروض المسبقة» Presuppositionlessness؛ لأنهما، داخل مجاليهما، لم ينتقدا جميع الأسس التي تقوم عليها المفاهيم الأساسية وقواعد الاستدلال ولم يضعا الأسس نفسها موضع تساؤل، ولم ينصرم القرن التاسع عشر حتى كان واضحًا للجميع أن من الممكن تشييد عدة أنساق صورية متناقضة فيما بينها وإن تحلت جميعًا بالاتساق الذاتي بدرجة متساوية، هناك على سبيل المثال هندساتٌ عديدةٌ مختلفةٌ فيما بينها رغم اتساقها الذاتي وترابطها الداخلي.

(٥) الرد الفينومينولوجي

لتحقيق حد أدنى من الوعي بنقاوة الأسس وخلوها من الفروض المسبقة، وهو متطلب أساسي للموقف الفلسفي الحقيقي، يقدم هسرل منهجًا يطلق عليه «الرد الفينومينولوجي» Phenomenological radiation، أو «الوضع بين أقواس» (التقويس) Bracketing، أو «الإبوخيه» Epoche (وهي من الكلمة اليونانية Epoche التي تعني «تعليق أو توقف» Suspension أي، في هذا المقام، تعليق الاعتقاد أو التوقف عن الحكم)، والإبوخيه هو قلب المنهج الفينومينولوجي، فالذي يبقى لنا بعد إطراح كل الفروض المسبقة عن الأشياء هو وحده اليقيني والضروري عن هذه الأشياء، وحقيقة الأمر أن الرد الفينومينولوجي يمر بمرحلتين:
  • (١)

    تعليق الحكم على وجود أو عدم وجود موضوعات الوعي، وبه يتسنى لنا التركيز عليها كظواهر خالصة، أي التركيز عليها كما تتراءى وتتبدى في الوعي.

  • (٢)
    أن ننظر إلى هذه الموضوعات (التي تم ردها إلى ظواهر محضة) لا في جزئيتها وعرضيتها، بل في كليتها وماهيتها، بمعنى ألا نتعلق من الظواهر إلا بما هو كلي ماهوي وألا تشغلنا الظواهر إلا بوصفها عينات أو نماذج لأنماط من الظواهر، بذلك نضرب صفحًا عن الجزئيات العرضية للظواهر ونضعها بين أقواس لكيما نخلص إلى الماهيات التي بها يكون الشيء ما هو وبدونها يكون أيَّ شيءٍ آخر، ويُطلق على هذه الخطوة «الرد الماهوي» (أو الصوري) Eidetic Reduction لأنه يرد الظواهر إلى الخلاصة المتبقية التي تجعلها ذلك النمط بالذات أو الصنف دون غيره من الظواهر، وتُشتق كلمة Eidetic من الكلمة اليونانية Eidos وتعني «صورة» أو «شكل»، وهي تُلْمِع إلى «الصور الأفلاطونية» التي هي «ماهيات».
لكي يتسنى لنا أن نركز على الأشياء كما هي مُعطاة للوعي فحسب، فإن علينا أن نضع جانبًا تلك المسلمات التي نسلم بها دون سؤال سواء الخاصة بنظرة الحس المشترك أو بنظرة العلم الطبيعي إلى العالم؛ لكي نُخلِص الوجهة إلى محتويات الوعي المحض وندرسها بحَيْدةٍ ونزاهة، وما نزال معلقين الحكم على أي أفكار سالفة لنا عن محتويات الوعي، سواء تلك المتعلقة بأسبابها أو بوجودها أو بطبيعتها أو بتمثيلها (أو عدم تمثيلها) للعالم الخارجي، وبمعزلٍ عن كل هذه الفروض المسبقة يمكننا أن ندرس كل ما يعن للذهن بوصفه موضوعًا فينومينولوجيًّا خالصًا، أي ندرسه كما يتبدى للوعي فحسب.٥

والإبوخيه لا يعني إنكار وجود العالم الخارجي (ولا إثباته)، فنحن لا نحذف الواقع الخارجي أو نقصيه أو نلغيه، وإنما نحن، ببساطة، نحيده ونضعه جانبًا ونضرب عنه صفحًا، وبهذه الطريقة يتمكن المرء من بلوغ الموقف الفلسفي القويم.

والفلسفة؛ إذ تبلغ هذا الموقف الفينومينولجي تجاه موضوعات الوعي، لا تشغلها هذه الموضوعات من حيث هي محتويات ذهنية معينة، بل تشغلها من حيث هي دلالات أو معانٍ، فالإبوخيه يسلخ موضوعات الوعي الظاهرية الخالصة من وجودها أو عدم وجودها ومن كل ما هو غير جوهري لها لكي تكون ما هي، عندئذٍ نراها كما هي في ذاتها، كما يتعين أن تكون من أي زاوية ومن أي وجهة رأي إن كان لها أن تكون ذلك الصنف من الأشياء الذي تكونه، وهو ما نعنيه حين نقول إننا عندئذٍ «نرى ماهيتها»، والحق أن الفينومينولوجيا، بل كل فلسفة حقة، لتأبى إلا أن تكون «علمًا للماهيات» Science of Essences أو «علمًا للصور» Eidetic Science.

هذه الماهيات مستقلة عن أي وعي فردي، وموضوعية بصفة مطلقة، وصائبة صوابًا عامًّا شاملًا، ذلك أنها تكشف لنا، في حالة مثول موضوعٍ معين للوعي، ما يتعين أن يكون جزءًا من وعي هذا الموضوع، والحق أن معرفة الماهيات هي شأنٌ مستقلٌّ تمامًا عن كل أسئلةٍ أو معرفةٍ عن الوجود أو الواقع، فماهية أي موضوع هي أمرٌ لا شأن له بما إذا كانت توجد بالفعل أي أمثلة لهذا الموضوع.

وهذه الماهيات «تُدرك بالحدس» Intuited أو العيان، أي بالرؤية العقلية المباشرة، وعندما يمثل موضوعٌ معينٌ للوعي، فهو يمثل دائمًا بوصفه ذلك المظهر بالذات وليس مجرد مظهر، أي إن له «دلالة» Significance أو «معنى» Meaning، هذه الدلالة أو هذا المعنى هو ما تحصره الماهية وتقبض عليه، وبدون هذه الماهيات أو هذه الدلالات فإن الأشياء لن تعني لنا أي شيءٍ على الإطلاق، إن الماهيات تسبغ المعنى والدلالة على الأشياء وعلى خبرة الأشياء، وهذه الماهيات، بما تسبغه من دلالات، هي الظواهر القصوى للوعي، ويؤكد هسرل، بطريقة ديكارتية، أن ماهية الشيء هي تلك الخصائص التي يحوزها الشيء يقينًا لا يقبل الشك؛ إذ بدون هذه الخصائص الماهوية لن يعود الشيء ماثلًا بوصفه ذلك النمط من الأشياء على الإطلاق، إن هذا المعنى العام هو القاسم المشترك الثابت بين جميع تمثلاتنا المختلفة للشيء الواحد (عندما نطوف حول الشيء على سبيل المثال) والذي يُوحِّد هذه التمثلات المتباينة في إشارتها إلى الموضوع نفسه، هكذا يكون وعينا ﺑ «منزل» مثلًا لا يعني منزلًا إلا بفضل احتوائه على ماهية المنزل، وبهذه الطريقة تتعالق الأفعال الشعورية المتفاوتة وتتوجه نحو «منزل» لا نحو أي شيء آخر.٦

(٦) معنى الشيء غير وجوده

تُعْزَى إلى فريجه الفكرة القائلة بأن التعبيرات قد تحمل معنًى أو مفادًا حتى لو لم يكن هناك شيءٌ أو «مشار إليه» (مرجع) Referent ينطبق عليه هذا المعنى، المعنى إذن مستقل عما إذا كان هناك أي شيء يفي بهذا المعنى، أو، بتعبير آخر، المعنى هو شأن منفصل عما إذا كان الموضوع المَعْنِيُّ أو المقصود موجودًا أو غير موجود، وفضلًا عن ذلك فمن الجائز لتعبيرات مختلفة أو أوصافٍ مختلفة أن تشير إلى نفس الشيء؛ وذلك إما لأنها تحمل معنًى واحدًا، أو لأنها تحمل معاني مختلفة تمثل أحوال تواجد نفس الموضوع الواحد، من ذلك مثلًا: «نجم الصباح» و«نجم المساء»؛ إذ تعين كوكب الزهرة، أو «١ + ١» و«٥ − ٣»؛ إذ تعين العدد ٢، ولو كان معنى التعبير هو هو مرجعه (أي الشيء الذي يشير إليه) لأمكنني إذا فهمت تعبيرين أن أعرف إن كانا يشيران إلى شيءٍ واحد أم إلى شيئين مختلفين، ولو كان فهم معنى تعبيرٍ ما هو أن أعرف مرجعه، لكان من المحال عليَّ لو فهمت المقصود ﺑ «نجم الصباح» و«نجم المساء» أن أخطئ في إدراك أنهما يشيران إلى الشيء نفسه، وهو كوكب الزهرة، ما دام فهم معنى التعبيرين يتضمن في كل حالة معرفتي بمرجعهما المشترك، من الواضح أن مثل هذه النتيجة زائفة، ومن البين أن عبارة «نجم الصباح هو هو نجم المساء» هو كشفٌ معرفي لعلم الفلك وليس مكافئًا للعبارة المنطقية النافلة «أ = أ»، وصفوة القول أنه من الواضح أن من الممكن وجود تعبيرات لها معنى وليس لها مرجع Referent (مشار إليه)؛ ومن ثم فإن علينا ألا نوحد بين المعاني وبين مراجعها، وأن نعرف أن المعاني مستقلةٌ عن مراجعها، ولسنا بحاجة بعد إلى افتراض «وجود» بيجاسوس حتى يكون لتعبير «بيجاسوس» مفادٌ معينٌ ومن ثم يكون ذا معنى.٧

(٧) قدرتنا الأصلية عن معاينة الماهية

يسلم هسرل بأننا نحتاج إلى أن نخبر حالاتٍ فرديةً للأبيض لكي نفهم ماهية «البياض»، غير أن المرء إذن يعي مباشرة ماهية البياض ما دام يرى الشيء كشيءٍ أبيض، فرؤية شيءٍ ما بوصفه شيئًا أبيض يتضمن أن المرء يفهم أصلًا ما هو البياض، فالأشياء إنما تُدرك بدلالةٍ معينة، ومن الخطأ أن نظن أن فهمنا لماهية البياض أو تصور البياض مستمد باستقراء سلسلةٍ من الأشياء البيضاء واستخلاص الخاصية المشتركة بينها؛ ذلك لأن هذه العملية تتضمن سلفًا قدرتنا على تمييز الأشياء البيضاء، فنحن هنا نتخير بالفعل بعض الأشياء كأشياء بيضاء وننبذ الأخرى، ووجه الأمر أننا إذ نرى شيئًا ما كشيءٍ أبيض فنحن في هذا الفعل الذهني عينه نعاين ماهية الأبيض ونراها بالحدس، إن لدينا قدرةً أصيلةً على تمييز الأشياء البيضاء، والفينومينولوجيا تصدع بهذا الوعي بالماهية الكامن في هذه القدرة، وشبيه بذلك تلك الطريقة التي نستطيع بها أن نتعرف مثلًا على الرجل الذي سطا على البنك (سوف أعرفه لو رأيته، وهو أساس عملية استعراض المشتبه بهم للتعرف على الجاني) وإن كنا عاجزين تمامًا عن الإدلاء بأي وصف محدِّد للرجل، وتهدف الفينومينولوجيا إلى بلوغ حالة ذهنية يمكن بها مثل هذا الإفصاح الوصفي الحدسي عن الماهية، وذلك باطِّراح كل ما هو غير ضروري ولا كافٍ للموضوع الظاهري لكي يكون هو ما هو، هنالك تبقى لنا بقية ماهوية، خُلاصة ماهوية، من الخصائص الضرورية والكافية التي سوف تمنحنا حقائق يقينية وضرورية.

وقد نستخدم موضوعاتٍ معينةً للوعي كأمثلةٍ لكي نتعرف على الماهيات، غير أننا نفعل ذلك بنفس الطريقة التي قد نستخدم بها رسمًا معينًا لمثلث كي نستظهر نظريةً هندسيةً ما مثل نظرية فيثاغوراس، إننا نرسم المثلث الخاص كمثال للتوضيح، غير أن الحقيقة المتعلقة بطبيعة الماهية لا تعتمد بحالٍ على وجود هذا المثلث الخاص ولا على غيره، ونحن في استخدامنا للأمثلة إنما نصف ما أسماه هسرل «أفق» الشيء، وباللعب الحر للمخيلة، و«التنويع الحر» Free Variation، نحدد الحدود التي يمكن داخلها للشيء أن يختلف فيما يبقى نفس النمط من الأشياء، هكذا نحول خبرتنا بكيان مفرد إلى خبرة بالماهية، ويكون لدينا عندئذٍ عيانٌ غير حسي بالماهية، أو رؤيةٌ حدسية للماهية Eidetic Intuition.
من خلال الحدوس (العيانات) يمكننا أن نصف البنية الجوهرية لخبراتنا باعتبارها ظواهر خالصة، تشتمل الظواهر آليًّا على أفعال ذهنية وعلى الموضوعات الظاهرية لهذه الأفعال، على الفكر وموضوع الفكر، الفينومنيولوجيا، ومن ثم الفلسفة، هي أساس أي علمٍ كان لأن أي وعيٍ معقول بالعالم على الإطلاق لا بد له من أن يبدأ بهذا الفهم الأساسي للماهيات، إذ بدون هذه الماهيات لن يكون للعالم أي دلالة لنا على الإطلاق، بهذا المعنى يعتبر هسرل أن الفينومينولوجيا مبحث «قبلي» a priori؛ لأن فهم المعاني والدلالات والماهيات الأساسية مقدمة منطقيًّا على كل تنظير ومستقلة عن أي وقائع عرضية.
تضطلع الفينومينولوجيا بتلك الخصائص المرتبطة بأصناف الظواهر ارتباطًا ضروريًّا، وتهدف الفينومينولوجيا إلى بلوغ حقائق ضرورية وموضوعية وذات يقين مطلق، من حيث هي لا تنتسب إلى منظور معرفي أو مكاني أو زماني، بهذا المعنى تكون هذه الحقائق حقائق مطلقة Categorical، فهي تُعاين مباشرةً من الخبرة ولا تعتمد في قبولها على قبول أي حقائق أخرى، مثل هذه الحقائق الأساسية المتصلة ببنية الأشياء الظاهرية يتعين أن تُرى مباشرة أو لا تُرى أبدًا.

لو أن الظواهر كانت محايدة تمامًا وخِلْوًا من أي دلالة أو معنى، لما كان هناك أي أملٍ في قيام أي علم على الإطلاق؛ لأن غياب المعاني والدلالات الأساسية لموضوعات الوعي كفيل بأن ينفي أي إمكانية لقيام علم يربط مفردات خبرتنا معًا في أي هيئة قابلة للتكرار والفهم، وغاية الفينومينولوجيا هي العودة إلى الدلالات الأصلية النهائية للخبرات، مبرأةً من ركام الدلالات البالية المدمجة في النظريات العلمية والافتراضات الدارجة، هنالك نرى العالم بدهشة ونضارة، أو نتعلم رؤية العالم من جديد.

(٨) الأنا الترانسندنتالية (الشارطة)

تتضمن فلسفة هسرل تطبيقًا جذريًّا آخر لمنهج الإبوخيه، لقد قلنا إن الرد الفينومينولوجي يضع بين أقواس كلًّا من العالم الخارجي الطبيعي والافتراضات المرتبطة بالاعتقاد في مثل هذا العالم، غير أن هناك شيئًا آخر يظل عُرضة للإبوخيه، ذلك هو الأنا الفردي أو الوعي، فكل فعل للوعي يفترض ذاتًّا أو «أنا» Ego افتراضًا مسبقًا، غير أن ما يهم ليس هو هذه الأنا الخاصة بل ما هو «ماهوي» بالنسبة للأنا، هذه الأنا الفردية هي أيضًا يجب أن تُوضع بين أقواس من أجل أن نعاين ماهية الفرد المفكر نفسه، ومثلما هو الحال في جميع الماهيات، فإن وجود أي أنا معينة هو أمر غير ذي صلة بتحديد الماهية الكلية للأنا بصفة عامة، ألا وهي «القصدية المحضة»، إن ذلك الذي ينخرط في عملية «تقويس» Bracketing العالم الطبيعي بما فيه الأنا التجريبية نفسها لا بد أن يكون شيئًا ما، وهسرل يسمي هذا الشيء «الأنا الترانسندنتالية» Transcendental Ego التي تقف «خارج العالم»، إن ماهية هذه الأنا الترانسندنتالية هي أنها تقف كشرطٍ سابقٍ لأي فعل ذهني أو لأي خبرة على الإطلاق بما فيها جميع أفعال الرد الفينومينولوجي. إننا الآن بإزاء بنية ثلاثية للوعي: أنا-أفكر-بموضوع فكري Ego-Cogito-Cogitatum، هذه هي العناصر الثلاثة المتصلة منطقيًّا ﻟ: الأنا الخالصة (الأنا التي تفكر)، والفعل الذهني (الفكر)، والمحتوى (موضوع الفكر).
يقدم لنا هذا التصور فينومينولوجيا ترنسندنتالية كاملة، موضوعاتها النهائية هي مجموعة هائلة من أصناف المعنى أو الدلالة (نوئيما Noema)، ترتبط بأفعال الفهم (نوئزيس Noeasis) الخاصة بالأنا الترنسندنتالية، والأنا الترنسندنتالية هي المطلق الوحيد؛ لأنها تبقى بعد كل تقويس Bracketing، إنها مفترضة سلفًا في كل فعل للوعي أو الخبرة أيًّا كان هذا الفعل، حتى فعل التقويس نفسه، والأنا الترانسندنتالية هي الشرط المسبق لكل معنى، إنها الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يطرحه الفكر لأنها مفترضةٌ سلفًا في كل تفكير.

وقد نزع «هسرل» في المراحل المتأخرة من فلسفته إلى إسداء دورٍ نشط للأنا الترانسندتالية، وخلص إلى أن الأنا الترنسندنتالية، وليس الأنا الفردية، تشكل أو تشيد بطريقةٍ نشطةٍ معنى موضوعات الوعي، الأنا الخالصة تمنح الموضوعات معناها الذي يجعلها موضوعاتٍ للوعي، ولكن هذا بحد ذاته لا يفضي إلى المثالية (المذهب القائل بأن الواقع معتمد على الوعي)، فلعل الأنا الترانسندنتالية لا تفعل أكثر من أن تدرج عالمًا مستقلًّا وجوديًّا في مقولاتٍ مفهومةٍ أو تصورات معقولة وبذلك تجعله موضوعًا للوعي.

غير أنه إذا كان الواقع الوحيد الذي يمكن أن يعترف به لموضوعٍ ما هو تلك الدلالة التي تسبغها عليه، بشكل نشط، تلك الأنا الترانسندنتالية، وهذه «مثالية» Idealism، وإذا كان أي عالم بدون دلالة للوعي هو عالم غير ممكن وجوديًّا، وكانت كل دلالة هي نتاج الأنا الترنسندنتالية، لترتب على ذلك أن العالم معتمد وجوديًّا على الأنا الترنسندنتالية، ويوحي ذلك أيضًا بأن الأنا الترنسندنتالية هي «المطلق» الوحيد، ما دام كل شيء معتمدًا وجوديًّا عليها وهي غير معتمدة وجوديًّا على أي شيء آخر.

تومئ نظرة «هسرل» إلى شكل من أشكال المثالية الذاتية (الواقع معتمد وجوديًّا على الذات) حيث الوجود كله مرتهن للمعنى الذي تسبغه الذات الترنسندنتالية (أو الذات بما هي كذلك) على الأشياء، ولكن يظل بالإمكان أيضًا الرد بأن مثل هذه الدلالات أو الماهيات هي موضوعية من حيث إنها مستقلة عن وجود أي وعي بعينه وإنها عامة مشتركة تشمل كل وعي بما هو وعي، وقد مالت آراء هسرل المتأخرة تجاه المثالية؛ لأنه ذهب إلى أن الحديث عن الوجود الحقيقي للعالم بمعزل عن مقولات الدلالة التي تعتمد على الوعي الخالص هو حديثٌ ممتنعٌ ولا معنى له، ولكن مرة أخرى يظل بالإمكان القول بأن العالم قد يستمر في الوجود بمعزلٍ عن الوعي المحض، إذا صحَّ ذلك، فمن الممكن عندئذٍ الرد بأن العالم الذي يتسم بذلك سيكون بلا معنى بنفس الطريقة التي ستكون بها جملة مكتوبة هي غير ذات دلالة إذا لم يكن ثمة عقولٌ لتعي معناها، إنه ليكون عالمًا غير قابلٍ للتصور فعلًا.

ينتقل «هسرل» إذن من فكرة أنه لا يمكن أن «يُتَصَوَّر» أي شيء إلا كموضوعٍ للوعي إلى فكرة أنه لا يمكن أن «يوجد» أي شيءٍ إلا كموضوعٍ للوعي، وكان جوابه على النزعة الشكية حول الطبيعة ووجود العالم الخارجي هو أن يقول بأن العالم الذي يبدو ذا معنى هو فقط العالم الحقيقي، وأن افتراض عالمٍ غير ذلك يمكن أن يُوجد أو لا يوجد هو لغوٌ أو هُراء.

(٩) مجمل لإدموند هسرل

اتفق هسرل مع «ديكارت» في أن هناك شيئًا واحدًا لا يرقى إليه الشك بالنسبة لكل واحد منا، ذلك الشيء هو وعينا الخاص، ومن ثم فإذا شئنا أن نشيد تصورنا للواقع على أسسٍ وطيدة، فهذه هي الصخرة التي نبدأ منها ونقيم عليها الصرح، غير أنه يتفق أيضًا مع هيوم في أنني إذ أنظر إلى مائدةٍ مثلًا فإن وعيي يكون وعيًا بالمائدة وليس وعيًا بنفسي حائزًا على خبرة النظر إلى المائدة، يأخذ الوعي دائمًا، في الظروف العادية، هذه الصيغة: أنا على وعيٍ مباشرٍ بالأشياء لا على وعيٍ بنفسي كموضوع، ولكن كل محاولة لإثبات أن هذه الموضوعات توجد بمعزل عن وعيي ودرايتي هي محاولةٌ مصيرها الفشل، وقد تبين دائمًا استحالة إثبات وجود العالم الخارجي نفسه.

ها هنا يقدم «هسرل» طرحًا وجيهًا بارعًا: فلنتجنب التورط في مشكلات لا حل لها عن الوجود المستقل لموضوعات الوعي، فمن المتيقن ومما لا يقبل الشك أنها موجودة بالنسبة لنا بوصفها «موضوعات للوعي» بغض النظر عن أي وضع وجودي آخر قد تحوزه أو لا تحوزه، فلندرس إذن هذه الموضوعات على أنها موضوعات وعي ونحن على يقين مطلق بوجودها بهذه الصفة، ودون أن نضع عنها أي فروض أخرى، فهي، كموضوعات وعي، قابلةٌ مباشرةً للبحث والدراسة بقدر ما يمكن لأي شيء آخر أن يقبل البحث والدراسة، فلننصرف إذن عن الأسئلة التي لا سبيل إلى حلها، ولنضرب عنها صفحًا ونضعها جانبًا (بين أقواس إن شئت)، ونعول على ما نحن مؤهلون جيدًا لبحثه.٨

كانت فينومينولوجيا هسرل «منهجًا» قبل أن تصبح مذهبًا صريحًا، بدأ هسرل بنقد الرياضيات قاصدًا من ذلك أن يكتشف أولًا طريقة تجعل في إمكاننا اكتساب حقائق أساسية وإثباتها بالبرهان، ومن ثم جعل قاعدته الجوهرية من البداية هي أن يتوجه «إلى الأشياء ذاتها»، لكي يتلقى منها ما يعرفنا بها، وبالتالي أن يستبعد أساسًا كل حكم سابق وكل نظرية سبق تصورها عن الواقع، هناك إذن مبدآن تتضمنهما نقطة البداية هذه: مبدأ سلبي، وهو يتألف من رفض كل ما ليس ثابتًا بالبرهان، أي مبرهنًا عليه بحيث يبدو من المحال تصوُّر نقيضه، ومبدأ إيجابي يتألف من الرجوع إلى الحدس المباشر في إدراك الأشياء، من حيث إن هذا الحدس، وهذا الحدس وحده، هو الذي يمكن أن يكون المنبع الأول لكل يقين، «التوقف» و«الحدس»: هذان هما المبدآن الرئيسيان في المنهج الفينومينولوجي.

ومع ذلك، ينبغي ألا تضلنا لفظة «الأشياء» وتوقعنا في الخطأ، فبفضل التوقف (أو وضع كل ما ليس له مبرر جلي بذاته، وفقًا لهسرل، بين قوسين) تكون الأشياء الوحيدة المعطاة لنا حقيقة هي «الظواهر» Phenomena، وليس الوجود (أو الشيء في ذاته) بالأمر البين بذاته على الإطلاق، وهكذا يتكون مجال الحدس الفينومينولوجي من كافة الظواهر المعطاة للشعور، أي من كل ما يظهر على نحو ما وعلى أي أساس كان، وبالتالي مع استبعاد كل المجال غير البين للوجود في ذاته الذي لا يظهر، ولا يقبل الظهور. وتنحصر مهمة الفينومينولوجيا في الكشف عن عالم الظواهر كله، ووصفه وصفًا محكمًا، ومحاولة إدراك العلاقات التي تربط بين هذه الظواهر في الوقت نفسه، مما يعني بوضوح تجاوز الوصف الخالص إلى تفسير الظواهر، أو تحديد معناها، يقول هسرل في كتابه «التأملات الديكارتية»: «إن التفسير الفينومينولوجي يوضح ما هو متضمن في معنى «المدرك بالفكر» Cogitatum دون أن يكون معطى عن طريق الحدس بأن يتمثل للإدراكات الحسية التي هي «بالقوة» Potential والتي تجعل غير الظاهر ظاهرًا»، ومن وجهة النظر هذه فإن كل نمط من أنماط الظواهر يتيح اصطناع مناهج خاصة للبحث والوصف والتأويل.
بوسعنا إذن أن نقول إن الفينومينولوجيا بوصفها منهجًا تبدو لأول وهلة أنها ضرب من «الوضعية» Positivism ولكن هذا لا يعني بحالٍ أنها تستبعد الفلسفة أو الميتافيزيقا، فالحق أن الاتجاه الفينومينولوجي لم يتوانَ عن أن يصبح اتجاهًا ميتافيزيقيًّا حقيقيًّا، ومن جهة أخرى فإن المنهج في حد ذاته يتضمن «مذهبًا»! وتأويل ذلك أنه لما كانت «الإبوخيه» عبارة عن وضع مجال الوجود كله بين قوسين، وكانت لا تترك أمام العقل سوى الظاهرة الخالصة، فإن فينومينولوجية هسرل تتضمن نوعًا من المثالية، وتُحيل الكون إلى أفكار، وإلى المضمون الباطني للوعي، ولا تعترف بنمط من المعرفة اليقينية سوى «مشاهدة الماهيات» أو «معاينة الماهيات»، والحق أن هسرل يتجه أكثر فأكثر نحو مثاليةٍ متطرفة.
ولو نحن أردنا بحسب رأيه أن نصل حقًّا إلى ما هو بَيِّنٌ بذاته من حيث درجة اليقين، فإننا لا بد أن نطبق منهج الإبوخيه لا على وقائع «العالم» فحسب بل على «الأنا» الطبيعية وأفعالها أيضًا، أو بعبارة أخرى فإن «الكوجيتو» الديكارتي يقف دون وجه حق عند «أنا جوهرية» Substantial I ليست بما هي كذلك سوى شيءٍ من أشياء العالم، وهي ليست الظاهرة الخالصة التي يعالجها المنهج الفينومينولوجي، وخطأ ديكارت (كما يحدده هيدجر، ومن قبله دلتاي) هو أنه تصور عبارة «أنا موجود» Sum في الكوجيتو وفقًا لنمط وجود «الأشياء» Res مفترضًا خطأ أن المعقولية واحدة الدلالة Univocal والحقيقة أن الأمر يتطلب «إبوخيه» أعمق من ذلك، يتطلب إبوخيه تنال «الذات التجريبية» وأفعالها الذاتية لإحالتهما إلى حالة الظواهر الخالصة، وبهذا وحده نصل إلى مجال الوعي الخالص الترانسندنتالي الذي لا تبقى فيه سوى الظواهر الخالصة الترانسندنتالية إلى جانب الأنا الترانسندنتالية التي هي في نهاية الأمر «الوجود» الأول اليقيني البين بنفسه الذي ينتهي إليه الارتداد الفينومينولوجي.٩

(١٠) المتضمنات التأويلية لفينومينولوجيا هسرل

تفترض فينومينولوجيا «هسرل»، شأنها شأن الهرمنيوطيقا الرومانسية عند «شلايرماخر» و«دلتاي»، أننا لكي نصل إلى تأويلٍ سديدٍ للموضوع يلزمنا سياق صحيح أو إطار ذهني، غير أنها لا تحفل بالأطر الخارجية التاريخية والثقافية، وترى أن النص يعكس إطاره الذهني الخاص، وحين يرفع هسرل شعار «إلى الأشياء ذاتها» فإنما يفعل ذلك لأنه يعتبر الموضوعات أشياء تامةً في ذاتها. أن تفسر، إذن، يعني أن تعزل النص منهجيًّا عن كل ما هو دخيل عليه، بما في ذلك تحيزات الذات، وأن تتيح للنص أن يوصل معناه إلى الذات، فهدف الفينومينولوجيا هو أن تقبض على حقيقة النص كما هي، دون أي تلوينٍ من الذات أو إسقاط من القارئ؛ ﻓ «التأويل من الوجهة الفينومينولوجية ليس شيئًا «يفعله» القارئ بل هو شيء «يحدث له».» وبقدر ما يضرب صفحًا عن السياق التاريخي والثقافي الصارم الذي تلتزم به التأويلية الرومانسية فإنه يولي انتباهًا شديدًا لعملية «تقويس» Bracketing التحيزات، وعملية التمعن الدقيق والوصف المفصل والتأمل العميق للنص، من أجل الوقوف على حقيقة النص كما هي.
١  ليلحظ القارئ أن كلمة «موضوع» الأولى (Subject) هي التي تقابل «المحمول» (Predicte) في المنطق، وأن كلمة «موضوع» الثانية (Object) هي التي تقابل «الذات» (Subject) في الميتافيزيقا وفي نظرية المعرفة.
٢  إن الجدير بالتنويه أن هناك من يرى أن فريجه لم يأخذ أطروحات هسرل في كتابه «فلسفة الرياضيات» على وجهها الصحيح، وأن هسرل كان اهتمامه في هذا الكتاب مُنصبًّا على دراسة طبيعة تصوراتنا الرياضية، ومنشئها، وأن مثل هذا البحث لا شأن له بمسألة موضوعية هذه التصورات نفسها، والحق أن هسرل في هذا الكتاب كان على وعي واضح بضرورة التفرقة بين أفكارنا عن الأعداد وبين الأعداد ذاتها.
٣  الدور المنطقي هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه (تعريفات الجرجاني).
٤  William J. Earle, Introduction to Philosophy, pp. 130-131.
٥  John Shand, Husserl, In: Philosophy and Philosophers, Penguin Books, 1993, pp. 238-239.
٦  Ibid., p. 240.
٧  Ibid., pp. 240-241.
٨  Bryan Magee, The History of Philosophy, DK Publishing, INC., 1998, p. 211.
٩  ريجيس جوفيليه، المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى جان بول سارتر، ترجمة فؤاد كامل، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ١٩٦٦م، ص٣٢٢–٣٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤