تماثيل خائفة
حين يظهَر الهلال:
أرسمُ على القماش حاجبًا لعين امرأةٍ
قادمةٍ في الزحام.
حين يظهَر نصف البدر:
يكون الأسبوع قد انقضى، وأكون قد أكملتُ
لوحتَها، وعلَّقتُها على جدار غرفتي.
حين يكتمل البدر:
أنتظرها أن تمُر عبْر النافذة،
أو تطرُق الباب عليَّ.
حين يختفي نصف البدر:
يزداد قلقي من غيابها،
فأصنع قاربًا من الورق، وأُطلِقه ليبحث
عنها.
حين يتبقَّى هلالٌ نحيف مثل الخيط:
أرتجفُ من الخوف،
وأشعُر أن قلبي سيتوقَّف.
أين ذهبت؟
حين يختفي الهلال أنحدر في بئرٍ عميقة، أضلِّل
مخاوفي وأُلاحِق فجرًا تنسجُه امرأة بين أصابعها
النحيلة، كم دخلتُ كهوف النساء ولم أجد سوى الظلام! كم
فتَّشتُ مغاراتهنَّ فلم أجد سوى الفحم! قلبي يُوجِعني
من تبدلاتهنَّ وتقلُّبهنَّ، ويدي تتخشَّب عندما
أُلامِسهن.
أحببتُ العذراء والأم والتقية واللعوب … ولم أَجنِ
سوى الغبار.
نفَخْن في سراديب حياتي الألمَ بجوار اللذَّة،
وأدْمَت أسلاكُهن أصابعي. أضع رأسي بين يديَّ
وأفكر:
ماذا جنيتُ سوى الحب الملتهب لهنَّ؟
ماذا فعلتُ سوى الرغبة المجنونة بهنَّ؟
أقطف من شجرةٍ صفراء ثمارًا تشبه الذكرى
أتوغَّل في الشجرة التي يكاد المنشار
يقطعُها
أتشبَّث بهذه الأغصان
وأهبط في صيحات فمي.
تضعُ البذورَ في الكواغد فتظهر كتاباتٌ عجيبة آسرة،
ترسمُ في لوحاتها النساء الغريبات الملفَّعات بالأزرق
والأصفر والأخضر، تُحيطُ بحنانها التماثيلَ الصغيرة
للغروب فتنبضُ.
لم يعُد الموت كافيًا،
لكي أنزل عن هذا الحصان.
لقد ذهب بي إلى الجحيم!
صوتها يُشْبه نداء الحَمَام، لُبدَتُها الصغيرة
المُسدَلة بين كتفَيها مثل ساقية من النور، عيونها
الخاكيَّة تتراسَل مع الخريف أسئلةً غامضة.
ترفع دلوها وتسقيني ماءً
تدير أغصانَ الشجرة نحو القمر
القديسات يركعنَ أمامها ليُشعلنَ شمعةً من نار
أصابعها.
لم تنَم لأن السهر طويلٌ
ولا لأن النسيمَ عليلٌ
ولا لأن مرحَها قليل
بل لأن أقدامها ما زالت عالقةً في النار
الأولى.

انسدلَت على ظهرها وأسندَت رأسَها على كفَّيها
ونظرَت إلى النجوم، كانت السماء تدور في محاجرها. هنا
شتلَت الذهبَ الملعون وكوَّرَت الأفعى حوله … تلمع
عيناها بالأخضر، وتتحرك في عنقها الغيوم.
سأُحدِّق في طفولتي بغضب … وسأرمي عن صباي
الخرق.
هنا سقَيتُ الوردة الهرمسية ولامستُ بها الجنون،
وكان أسد الشمس يتوغَّل في مُدني، الفضة رمز القسوة
واللذَّة، تحكُّ أفخاذها بأصابعها وتنام على بطنها
وتتلذَّذ، أردافُها في صعود ونزول وفمُها يتطاير
بالآهات …
كان شبابي نزهةً في الرغبات ونهشًا في جدار
الذهب.
هنا خريف العذراء حيث تركَت الثور في الحضيرة
والنجمة الخماسية في الحقول وحرثَت الجنون، محراثها
يصطدم بين حين وآخر بالكنوز فلا تبالي. تخمَّرت الأرضُ
بالنبيذ وسقطَت أوراق الغيب في يديَها. تنظرُ «رام» إلى
نهدَيها الصغيرَين وتبتسم بعينَين مشتعلتَين باللذة،
شَعرُها يتناثر
مثل شُعلٍ، أشارت وهي منطرحة أمام المندالا إلى
الشجرة
الصفراء، ونفخَت في أغصانها، امتلأت الغرفة
ثمارًا.
ظهر النحاسُ في عظامي، وأخذَتني جملٌ غامضةٌ إلى
المنافي،
ماذا أفعل ببغالي الصغيرة هذه؟
ها أنتِ مع شتاء العرَّاف القادم في النهرَين
تخوضين في المشاحيف آخر الأنهار وتطردين العقارب عنه،
تعزيماتُكِ تنتشرُ على المياه مثل أوراق القصب. هلالٌ
من الحديد يزيِّن السماء، متى تتوقَّفين عن النُّواح:
لقد أخذوه ولن يعود.
قالت رام أنت ذاهبٌ وهو عائد، الورد بدل الأغصان
العارية.
لماذا أنتَ حزين مثل الماء؟ … أغوارك تتَّسع
وموسيقاك تميلُ إلى الخفوت.

أظلِّلُ مخاوفي وأُلاحقُ غناءَها القادم من عصورٍ
غابرةٍ
كمانُها مكسور وأوراقُ نُوتاتِها معلَّقةٌ على
الحائط مع لوحاتها الحزينة
جفَّفَت آبارها خوفَ عابرٍ يسرق منها الماء
لم تعُد تقرأ للزهور أدعيةً لتنمو
كانت تتوغلُ في رماد أيامها القديمة
عندما تمشي ترى الناسَ أشباحًا
ابتساماتها لصدِّ العيون
وصلَت إلى باب الحاجات فمرَّرَت يدَها على الزجاج
البارد
والحناء اليابس وقرأَت: أأدخلُ يا مولاي؟
أمسكَت شبَّاك الفضة وبكت.

أتسلَّلُ إلى نافذتها وأجلسُ فوق إناء الورد وأتحول
إلى تمثالٍ خائفٍ لأنظرَ حزنها الفريد.
كان الجمالُ مرنَّحًا مثل غصنٍ مكسور
وكان يتكئُ عليَّ.
معطفها فاردٌ محملٌ بالزهور،
وأغانيها حزينة في آخر الليل
أضع يدي على خدِّي، في الشبَّاك، وأنظر لها
تلامسُ أصابعَ الأنبياء الذين يحرسونها
وتُراقِب سفن خوفها وهي تنحدر على الجدران
بعيدًا.