تقرير

المدائن كلها زهو، يتحدى بعضها بعضًا، هذه من سفوح جبالها وتلك من سيف شطئانها.

رديارد كبلنج

تصور رواية عن شيكاجو، أو بفالو، أو قل عن ناشفيل بولاية تسي! إنه ليس ثم سوى ثلاث مدن كبيرة بالولايات المتحدة، تصلح للرواية — نيويورك بالطبع، ونيوأورلينس، وخير منهما سان فرنسيسكو.

فرانك نوريس

الشرق شرق، والغرب هو سان فرنسيسكو، فيما يرى أهل كاليفورنيا. وهم جيل من الناس، لا مجرد سكان ولاية، وهم الجنوبيون من أهل الغرب. وليس أهل شيكاجو، مثلًا، بأقل ولاء لمدينتهم، ولكنك تسألهم عن السبب فيتمتمون ويتحدثون عن سمك البحيرة، والبنى الشامخة، أما أبناء سان فرنسيسكو فيسهبون ويفيضون في التفصيل.

ولا شك أنهم يجدون في الجو والمناخ ما يصلح أن يكون حجة يقضون في الإدلاء بها نصف ساعة تكون أنت في خلالها مشغولًا بالتفكير في تكاليف الفحم والثياب التحتية الغليظة، ويركبهم الغلط فيتوهمون أن صمتك اقتناع، فيروحون يسبحون على متن التيار ويصورون لك مدينة البوابة الذهبية كأنها بغداد الدنيا الجديدة. وإلى هنا، وما دامت المسألة مسألة رأي، لا داعي للمناقضة والجدال، ولكن يا أبناء الأعمام جميعًا (من نسل آدم وحواء) إنه لمتهور ذاك الذي يضع إصبعه على الخريطة ويقول: «في هذه البلدة لا يمكن أن يحدث شيء يجري مجرى القصة — وماذا يمكن أن يحدث هنا؟» نعم من الجرأة بل التهور أن يتحدى الإنسان — بجملة واحدة — التاريخ، والخرافة، وراند، وماك ناللي!

ناشفيل — مدينة وثغر وعاصمة ولاية تنيسي، واقعة على نهر كمبرلاند، وملتقى خطوط حديدية. وتعد هذه المدينة أهم مركز للتعليم في الجنوب.

نزلت من القطار في الساعة الثامنة مساء. وقد أعياني الاهتداء إلى لفظ أصف به المدينة، فأنا ألجأ إلى تأليف «تذكرة» من المقارنات.

خذ من ضباب لندن ثلاثين جزءًا، ومن الملاريا عشرة أجزاء، ومن الثقوب في أنابيب الغاز عشرين جزءًا، ومن قطر الندى عند شروق الشمس في ساحة مبلطة خمسة وعشرين جزءًا، ومن أرج الأزهار خمسة عشر جزءًا، وامزجها.

وخليق بهذا الخليط أن يعينك على تصور ناشفيل إذ تجودها السماء.

وذهبت إلى الفندق في مركبة، واحتجت إلى كل ما أملك من قدرة على كبح النفس لمقاومة ما يغريني منها بالصعود إلى ظهرها وتقليد سدني كارتون. وكانت الدواب التي تجرها ترجع إلى عصر مضى وانقرض ما كان فيه، وكان السائق أسود ظامئًا ضاويًا.

وكنت مثقل الرأس من الإعياء والحاجة إلى النوم، فلما بلغت الفندق أسرعت فدفعت إلى السائق الخمسين سنتًا التي طلبها، وكنت أعرف عادات هؤلاء الزنوج، ولا أريد أن أتيح له فرصة يلغط فيها بذكر «سيده» ولا بما كان يحدث «قبل الحرب.»

وكان الفندق من الضرب الذي يوصف بأنه «مجدد» ومعنى التجديد إنفاق عشرين ألف ريال على عمد الرخام، والبلاط، والنور الكهربائي، والمقابض النحاسية والمباصق، ودليل جديد للسكة الحديدية، ورسم بارز للجبال في كل واحدة من الحجرات الكبيرة. وكانت الإدارة لا عيب فيها، ولا اعتراض عليها، والمعاملة كالمعهود من حفاوة أهل الجنوب ورقتهم، والخدمة أبطأ من السلحفاة، والقائمون بها في مثل سجاحة رِب فان ونكل وسلاسة طباعه، أما الطعام فيستحق أن يقطع المرء إليه ألف فرسخ، وليس في الدنيا فندق آخر تستطيع أن تظفر فيه بأكباد الدجاج مطبوخة على هذا النحو.

وسألت على العشاء خادمًا زنجيًّا عن ملاهي المدينة، فوقف يقدح زناد فكره لحظة ثم قال: «الحقيقة يا سيدي أني لا أظن أن هناك شيئًا بعد الغروب.»

وكان الغروب قد تم، وغرق في المطر من زمان طويل، وحرمت فرصة مشاهدته! ولكني مع ذلك خرجت إلى الشوارع في المطر لأرى ما عسى أن يكون هناك.

وهي مبنية على عارض من الأرض ينقاد ويرتفع، والشوارع مضاءة بالكهرباء وتبلغ تكاليفها في العام ٣٢٫٤٧٠ ريالًا.

وما كدت أغادر الفندق حتى رأيت سباقًا مضطربًا، فقد أقبل عليّ جماعة من الزنوج المحرّرين، أو الزولو، أو لا أدري من غير هؤلاء وأولئك، مسلحين بالـ … كلا، فقد تبينت أن في أيديهم سياطًا لا بنادق، فتنفست الصعداء، ورأيت كذلك، ولكن في غير وضوح، قافلة من المركبات السوداء، ولما سمعت صيحاتهم المطمئنة «إلى أي ناحية في المدينة بخمسين سنتًا» أدركت أني زبون ليس إلا، ولست بفريسة أو ضحية.

وسرت في شوارع طويلة، كلها إلى صعود، وكنت وأنا أمشي أتعجب لهذه الطرق كيف تنحدر مرة أخرى، ولعلها لا تنحدر إلا على درجات. وفي بعض الطرق الكبرى رأيت أضواء في حوانيت هنا وهناك، ومركبات تقل بعض أهل المدينة الكرام إلى هنا، وهنا، وناسًا يمرون بي وهم يتحدثون، وسمعت انفجار ضحكة شبه مرحة صادرة عن دكان أشربات مثلوجة، أما الطرق التي ليست «بالكبرى» فيظهر أنها مجعولة للسكينة والسلام والأعمال المنزلية، وكان في كثير من مساكنها أنوار تضيء من وراء الشبابيك المسدلة، وسمعت من بعضها عزفًا محتشمًا لا يعاب. فالحق أنه لا شيء في المدينة، فليتني دخلتها قبل الغروب! ومن أجل ذلك رجعت إلى فندقي.

في نوفمبر/تشرين الثاني سنة ١٨٦٤ زحف القائد الاتحادي الجنرال هود على ناشفيل وحاصر فيها قوة وطنية يقودها الجنرال طوماس. وقد خرج الأخير بعد ذلك وهاجم الاتحاديين وهزمهم في معركة فظيعة.

وأنا طول حياتي أسمع ببراعة أهل الجنوب في إصابة المرمى في معاركهم السامية في مناطق مصنع «الطباق» وأعجب بحذقهم هذا وأحب أن أشهد آياته، ولكني فوجئت بما لم يكن لي في حسبان، في الفندق. فقد كانت هناك في البهو اثنتا عشرة مبصقة جديدة لامعة في البهو الكبير، وهي عالية حتى ليمكن أن يقول المرء إنها قماقم، وواسعة حتى لتستطيع الواحدة من لاعبات كرة السلة أن ترمي الكرة في واحدة منها على مسافة خمس خطوات، ومع أن الحرب كانت ولا تزال دائرة بأقصى شدة وأعنف حال، إلا أن العدو لم يصبها بسوء، وظلت المباصق لامعة براقة، وواسعة نظيفة لا يمسها سوء. ولكن البلاط! البلاط الجميل! ولم يسعني إلا أن أفكر في معركة ناشفيل، وإلا أن أستخلص — كما هي عادتي — بعض النتائج، وأنتهي إلى بعض الآراء في وراثة البراعة في إصابة المرمى.

وهنا رأيت لأول مرة الماجور ونتورث كازويل، وما كادت عيني تقع عليه وتتأذى بالنظر إليه حتى أدركت أنه طراز قائم بذاته، وليس للجرذ موطن، وقد قال صديقي القديم الفريد تنيسون (الشاعر) وأجاد — كما هي عادته — «أيها النبي، العن لي الشفة الثرثارة، والعن لي الآفة البريطانية، الجرذ!»

وكان الرجل يروح ويجيء في البهو كالكلب المتضور الذي نسي أين خبأ عظمة! وكان وجهه عظيم الرقعة كبير المساحة، وأحمر ضخم الصفحتين ثقيلهما، مكتّلهما مع فتور كفتور النعاس. ولم تكن له سوى فضيلة واحدة، هي أنه حليق ناعم الخد أملسه. وأخلق بسمة الحيوان أن تلازم الإنسان إذا استبقى على وجهه سحالة.١ ولو أنه لم يجر الموسى على خديه في ذلك اليوم لما أطقته. ولكنت خليقًا أن أصده عني، ولكان إحصاء الجرائم في هذا العالم قد نقص جريمة قتل!

وكنت واقفًا على مسافة خمس أقدام من مبصقة، وإذا بالماجور كازويل يصوب إليها قذائفه! ولاحظت أنه يستعمل في هجومه مدفعًا رشاشًا لا بندقية، فتنحيت عن ميدان الضرب بخفة، فاغتنمها الماجور فرصة للاعتذار إلى مسالم غير محارب. وكانت «الشفة الثرثارة»، ففي أربع دقائق ليس إلا صار صديقي، وجرني إلى الحانة.

وهنا موضع التنبيه إلى أني من أهل الجنوب، ولكني لست كذلك بحكم المهنة أو الحرفة أو العادة. فأنا لا أتخذ رباط الحبل. ولا ألبس القبعة العريضة الحافة، ولا أبالي أكياس القطن التي أتلفها «شيرمان»، ولا أمضغ الطباق، وإذا عزفت الموسيقى «ديكسي» لم أهتف، وأتطامن على المقعد الجلدي وأطلب قدحًا وآخر، وأتمنى لو أن — ولكن ما الفائدة؟

وضرب الماجور كازويل منضدة الحانة بجمع يده، فجاوبه المدفع الأول بقلعة «سانتر» ولما أطلق آخر قذائفه على «أبوماتوكس» انتعشت آمالي. ولكنه شرع يتحدث عن شجرة الأسرة، ويبين أن آدم ليس سوى فرع ثالث من فروع أبناء الأعمام في أسرة كازويل، وبعد أن فرغ من أمر هذا النسب تناول على كره مني وسخط، شئون أسرته الخاصة، فتكلم عن زوجته، ونماها إلى حواء، ونفى كل قول بأنها قد تكون ذات قرابة بأحد من الأرض.

وقد دعاني هذا إلى الاسترابة به، فكبر في ظني أنه يحاول بهذه الضوضاء أن يذهلني عن كونه هو الذي طلب الشراب، عسى أن أؤدي ثمنه عنه، ولكنه بعد أن شربنا رمى ريالًا فضيًّا على المنضدة، فصار عليّ أن أسقيه كما سقاني، ففعلت وأديت الثمن واستأذنت في الانصراف، ومضيت بلا تمهل، فقد أضجرني فلم أعد أطيقه، على أنه قبل أن أنجو منه حدثني بصوت عال عن زوجته ودخلها وأراني حفنة من النقود الفضية.

وقال لي كاتب الفندق، وأنا آخذ مفتاحي منه: «إذا كان هذا الرجل — كازويل — قد أزعجك وكنت تحب أن تشكوه، فنحن مستعدون أن نقصيه عن المكان، فإِنه عاطل مزعج وليست له وسيلة معروفة لكسب الرزق وإن كان يبدو معظم الوقت ومعه شيء من المال. ولكنا لا نهتدي إلى ما نتكئ عليه لطرده.»

فقلت بعد تفكير: «كلا لست أرى سبيلًا إلى الشكوى، ولكني أحب أن يُروى عني أني أقرر أني لا أحب صحبته.» ثم أضفت إلى هذا «إن مدينتكم هادئة على ما يظهر، فأين يجد الغريب لهوًا أو مغامرة أو ما هو من ذلك بسبيل خارج بابكم.»

فقال الكاتب: «سيكون هنا معرض يوم الخميس الآتي، وهو … سأبحث وأَبعث إلى غرفتك بالإعلان، مع الماء المثلج. عم مساء يا سيدي.»

وصعدت إلى غرفتي، ونظرت من النافذة، وكانت الساعة حوالي العاشرة ولكن الشارع كان ساكنًا، وكانت السماء لا تزال تمطر، والأنوار تلمع هنا وهنا على مسافات بعيدة كالزبيب في الكعكة.

فقلت لنفسي: «مكان هادئ ليس فيه شيء من الحياة التي تكسب المدائن في الشرق والغرب، تلك البهجة وذلك التنوع — مدينة أعمال — حسنة، عادية، ساذجة.»

وتعد ناشفيل في طليعة المراكز الصناعية، ولها المرتبة الخامسة بين أسواق الأحذية في الولايات المتحدة، وفيها أكبر مصانع الحلواء في الجنوب، ولها تجارة عظيمة بالجملة في المنسوجات والأغذية والعقاقير.

ويجب أن أحدثك عن قدومي إلى ناشفيل كيف اتفق، وأن أؤكد لك أن هذا الاستطراد فيه من الإملال لي بقدر ما فيه لك: كنت ذاهبًا إلى بلد آخر في شأن لي، فتلقيت من مجلة أدبية تصدر في الشمال رسالة تكلفني فيها أن أقف في ناشفيل، وأن أوجد صلة شخصية بين المجلة وبين سيدة تكتب إليها اسمها أزاليا أدير.

وكانت أدير (التي لم يكن ثم مفتاح لشخصيتها غير خطها)، قد بعثت إلى المجلة بطائفة من الفصول في الأدب، ومن القصائد، أطراها المحررون إطراءً عظيمًا، فوكلوا إليّ أن أتصل بأدير هذه، وأن أعقد معها اتفاقًا على أن توافي المجلة بما تكتب، وأن يكون الأجر سنتين (الريال مائة سنت) لكل كلمة، وأن أعجل بذلك قبل أن يقع عليها ناشر آخر، ويعرض عليها عشرة سنتات أو عشرين للكلمة.

ففي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي بعد أن قضيت وطرًا من أكباد الفراريج (جربها إذا استطعت أن تهتدي إلى الفندق!) خرجت، وكانت السماء لا تزال تمطر، فوقعت في أول منعطف، على «العم قيصر»، وهو زنجي عظيم هرم كالأهرام، وله وجه ذكرني ببروتوس، ثم بعد هنيهة بوجه المرحوم الملك ستيوايا. وكان يرتدي أعجب معطف رأيته، أو أتوقع أن أراه في حياتي، فقد كان طويلًا يتدلى إِلى ساقيه، وكان في زمانه من أكسية قواد الاتحاديين في الحرب الأهلية، ولكن المطر والشمس والأيام نالت منه فرث، وبهت وصار لونه ألوانًا. ولا يسعني إلا أن أتريث عند هذا المعطف، فإن له لشأنًا في القصة، تلك القصة التي طال تلكؤها، لأن المرء لا يكاد يتوقع أن يحدث شيء في ناشفيل.

ولا شك أنه معطف قائد. وقد ذهب رأسه الذي كان ملتزقًا به، وكان صدره محلى بالأشرطة الزاهية الألوان. ولكن هذه الأشرطة اختفت، وحلت محلها أشرطة من الكتان خيطت بعناية، وقد بليت هذه الخطوط التي أريد بها أن تكون عوضًا عما زال من البهاء، وهيهات هذا من ذاك، ولكن اليد التي خاطت هذه الأشرطة توخت أن تجري على الأصل وتتبع خطوطه، وتمت مأساة الكساء أو مهزلته بأن سقطت أزراره جميعًا ما خلا واحدًا هو الثاني من فوق. وكان لابسه يشده على بدنه بحبال من الكتان تمر بعرى المعطف وبثقوب فيما يقابلها من الشق الثاني. وما رأيت قط ثوبًا كهذا في ألوانه وحلاه! وكان الزرار الباقي في حجم نصف الريال، وهو مصنوع من العظم الأصفر ومخيط إلى الثوب بالكتان.

وكان الزنجي واقفًا بجانب مركبة عتيقة كان يمكن أن يفتتح بها حام بن نوح خطًّا بعد أن نزل من السفينة، فلما اقتربت منها فتح الزنجي الباب، وتناول منفضة من الجلد جعل يلوح بها ولا يستعملها، وقال بصوت عميق: «تفضل يا سيدي! لن تجد ذرة واحدة من التراب فيها … عدت الآن فقط من جنازة يا سيدي!»

فاستخلصت من قوله هذا أنهم يعنون بنظافة المركبات في مثل هذه المناسبات، فأجلت عيني في صف المركبات الواقفة إلى جانب الرصيف، فلم أر محلًا للمفاضلة، فنظرت في مذكرتي باحثًا عن عنوان أزاليا أدير وقلت: «إني أريد أن أذهب إلى المنزل رقم ٨٦١ بشارع جيسامين.»

وهممت بالركوب، ولكن ذراعًا طويلة غليظة كذراع الغوريللا اعترضتني وبدت على الوجه الضخم الكئيب آيات الريبة والعداء ثم كأنما اطمأن فسأل: «ماذا تبغي من الذهاب إلى هناك يا سيدي؟»

فسألته بحدة: «وكيف يعنيك هذا؟»

فقال: «لا شيء يا سيدي، لا شيء يا سيدي. ولكنه جانب موحش من المدينة، وقل من له في تلك الناحية عمل. ولكن تفضل يا سيدي. المقعد نظيف … عدت الآن فقط من جنازة يا سيدي.»

ولا بد أن تكون المسافة ميلًا ونصف ميل إلى غايتنا، وكنت لا أسمع إلا صوت العجلات القديمة على الطريق الذي لا استواء فيه، ولا أشم إلا رائحة المطر مشوبة بدخان الفحم والقار ونوارات النبات المصوّح. وكل ما وسعني أن أراه من خلال النافذة التي يسيل على وجهها الماء، صفان غير واضحين من المنازل على الجانبين.

ومساحة المدينة عشرة أميال مربعة. ويبلغ طول شوارعها ١٨١ ميلًا، منها ١٣٧ ميلًا مرصوفة، وقد كلفت المجاري مليون ريال، وطولها ٧٧ ميلًا.

وكان البيت الذي وقفنا عنده عتيقًا متداعيًا. وهو قائم على مسافة ثلاثين ذراعًا من الطريق، وأمامه عدة أشجار جميلة، ونباتات هائجة لم تشذب أو تقلم. وكان النبات يكاد يحجب السور الباهت، وكان مصراعا الباب مربوطين بحبل، فإذا دخلت أيقنت أن البيت لم يبق منه إلا طيف أيامه الخوالي. ولكني لم أدخله بعد، فيحسن أن أقصر حتى أفعل.

لما كفت العجلات عن ضوضائها، ووقف الجوادان المكدودان، ناولت السائق خمسين سنتًا، وشيئًا على سبيل التجزية، وشعرت وأنا أفعل ذلك بوهج الكرم، ولكنه رفض وقال: «الأجر ريالان يا سيدي.»

فقلت: «كيف؟ لقد سمعتك بوضوح تام تقول عند الفندق خمسون سنتًا إلى أي مكان في المدينة.»

فقال بعناد: «ريالان يا سيدي. هذه مسافة طويلة من الفندق.»

فقلت: «إنها داخل نطاق المدينة، فلا تتوهم أنك وقعت على أبله يا صاحبي. أترى هذه الجبال؟ وأشرت إلى الشرق (وكنت أنا نفسي لا أراها من المطر!)، لقد ولدت ونشأت في الناحية الأخرى منها، أفلا تستطيع أيها الزنجي الأحمق أن تميز الناس وتعرف بعضهم من بعض حين تراهم؟»

فلان ما كان جامدًا من وجه الملك ستيوايا، وقال: «أَوَأنت من أهل الجنوب يا سيدي؟ أحسب أن حذاءيك هما اللذان خدعاني وغلطاني.»

فقلت: «أحسب أن الأجرة الآن خمسون سنتًا.»

فطاف بصفحة وجهه مزيج من الحرص والعداء، ولكنه ما لبث أن زال فقال: «يا سيدي، الأجر خمسون سنتًا، ولا جدال، ولكن بي حاجة إلى هذين الريالين يا سيدي. إني مضطر أن أحصل عليهما. ولست أطلبهما منك، بعد أن عرفت من أين جئت، ولكني أقول فقط إن بي فقرًا شديدًا إلى هذا القدر الليلة، والعمل نزر، وشحيح الخير.»

وانطبعت على أسارير وجهه آيات الثقة والاطمئنان، فقد كان أسعد حظًّا مما كان يرجو. فبدلًا من أن يقع على غرير جاهل بالأجور، ألفى نفسه حيال كنز موروث!

وقلت وأنا أدفع يدي في جيبي: «يا لك من لعين! لأولى بك أن تسلم إلى الشرطة!»

وللمرة الأولى رأيته يبتسم. لقد عرف … وفهم … وأدرك!

وناولته ورقتين بريالين. ولاحظت وأنا أمد يدي بهما إليه، أن إحداهما رثة، أبلاها التداول، فقد كانت الزاوية العليا من اليمين مقطوعة، وكانت الورقة مشطورة من منتصفها وموصولة بقطعة من الورق ملتزقة عند موضع التمزيق.

وحسبي الآن هذا عن الزنجي الشاطر، فقد تركته سعيدًا، وحللت وثاق الباب وفتحته.

والبيت، كما أسلفت، صَدَفة، وأحسب أن الفرشاة لم تمسه بدهان منذ عشرين سنة، وقد تعجبت كيف لم تهدمه ريح قوية، ثم رجعت البصر في الأشجار القائمة التي تحتضنه؛ الأشجار التي شهدت معركة ناشفيل والتي لا تزال تمد أغصانها الواقية حول البيت وتدفع عنه شر العواصف والأعداء والبرد.

واستقبلتني أزاليا أدير، وهي سيدة في الخمسين من عمرها، من سلالة الفرسان، نحيلة معروفة منسرقة المنة كالبيت الذي تعيش فيه، وعليها أرخص وأنظف ثياب وقعت عليها عيني، ولها سمت ملكة.

وخيل إليّ أن حجرة الاستقبال ميل مربع، لأنه لم يكن فيها إلا بضعة صنوف من الكتب على رفوف من خشب أبيض غير مدهون، ومنضدة قديمة متخاذلة عليها رخام، وبساط كالخرقة البالية، وأريكة رثة، وكرسيان أو ثلاثة، نعم كان على الحائط صورة — رسم بالطباشير الملون لزهرات من البنفسج — وقد تلفتُّ باحثًا عن صورة أندرو جاكسون والسلة المعلقة، ولكني لم أجدهما.

وقد دار بيننا حديث سأروي لك بعضه. وهي امرأة أنجبها الجنوب، ونشأت في عزلة، ولم يكن علمها واسعًا، ولكنه كان عميقًا، وروح الابتكار فيها رائعة، وقد تربت وتعلمت في البيت، فمعرفتها بالدنيا مستفادة من التفكير والإلهام، وهذا هو طراز كتاب الفصول والرسائل. وكنت — وهي تحدثني — أمسح أصابعي، وأحاول، وأنا غير مدرك لما أصنع، أن أنفض عن يدي التراب الذي لم يعلق بهما من لام، وتشوسر، وهازليت، ومارك أوريلياس، ومونتاني، وهود. والحق أنها كانت كنزًا رائعًا! فإن كل امرئ تقريبًا يعرف في هذه الأيام أكثر مما يجب — بل أكثر جدًّا مما يجب — عن الحياة الحقيقية.

وتبينت أن أزاليا أدير فقيرة جدًّا، وخيل إليّ أنها لا تملك أكثر من هذا البيت، والثوب الذي ترتديه. وكنت، وأنا أصغي إلى صوتها الذي يشبه صوت المعازف، موزع النفس بين واجبي للمجلة وولائي للشعراء والكتاب، ثم أيقنت أني لا أستطيع أن أُجري لساني في هذا المقام بذكر اتفاق أو عقد. وعسير في حضرة بنات الشعر أن يهبط المرء بالحديث إلى المساومة، فلا بد من إرجاء الأمر إلى جلسة أخرى بعد أن أستعيد روحي التجارية. ولكني أفضيت إليها بالغاية من زيارتي، واتفقنا على الاجتماع مرة أخرى في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي لبحث الموضوع.

وقلت وأنا أتهيأ للانصراف، وهذا هو أوان الكلام العام الناعم: «إن مدينتك تبدو هادئة رزينة، قلما يحدث فيها شيء غير عادي.»

فبدا عليها التفكير، وقالت بلهجة الإخلاص القوية التي هي من خصائصها: «لم يخطر لي هذا من قبل. أليست الأماكن الهادئة الساكنة هي التي يحدث فيها ما ليس في الحسبان؟ يخيل إليّ أنه لما شرع الله يخلق الأرض في صباح يوم الاثنين الأول كان المرء يستطيع أن يطل من النافذة، وأن يسمع صوت الطين الذي يسقط من الأصيص٢ وهو يبني الجبال الخالدة ويرفعها. وماذا أثمر في النهاية أشد الأعمال ضجة وضوضاء، أعني بناء برج بابل؟ صفحة ونصف صفحة من الإسبرنتو في مجلة أمريكا الشمالية.»

فقلت: «إن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان. ولكن بعض البلدان أقوى ألوانًا، وأحفل بالحركة وأزخر بالحياة من بعض.»

فقالت: «على السطح فقط. لقد جبت العالم وطوّفت في آفاقه عدة مرات في طيارة ذهبية ذات جناحين — الكتب والأحلام — ورأيت (في إحدى رحلاتي الخيالية) سلطان تركيا يردي بيديه إحدى زوجاته لأنها سفرت أمام الناس. ورأيت رجلًا في ناشفيل يمزق بطاقات الدخول إلى المسرح لأن زوجته خرجت وعلى وجهها حجاب من المساحيق والأصباغ. وفي حي الصينيين بسان فرنسيسكو رأيت الجارية «سنج يي» تُغمس قيراطًا فقيراطًا في زيت الجوز المغلي لتقسم ألا ترى عاشقها الأمريكي مرة أخرى. وقد أذعنت، وأقسمت لما جاوز الزيت المغلي ركبتها بمقدار ثلاثة قراريط. ورأيت «كيتي مورجان» ينكرها ويقاطعها سبع من رفيقات صباها في المدرسة وصواحبها طول حياتها لأنها تزوجت مبيّض حيطان. لقد كان الزيت المغلي يرتفع ويفور إلى ما فوق قلبها، وليتك رأيت ابتسامتها الجميلة وهي تتنقل من مائدة إلى مائدة! نعم، مدينتنا هادئة! لا شيء سوى بضعة أميال من البيوت المبنية بالآجر الأحمر، وإلا الطين والدكاكين، والمخازن.»

ونقر بعضهم على الباب الخلفي للبيت، فهمست أزاليا باعتذار خافت، ونهضت لترى من الطارق، وعادت بعد ثلاث دقائق، وفي عينيها وميض، وعلى وجنتيها اضطرام خفيف، وبدت كأنما انحطت عنها عشر سنوات من عمرها.

وقالت: «ينبغي أن تتناول فنجانًا من الشاي قبل أن تنصرف، وكعكة مسكرة.»

ومدت يدها فهزت ناقوسًا صغيرًا من الحديد، فجاءت زنجية صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، وكانت حافية القدمين، رثة غيرة نظيفة، وحملقت في وجهي بعينين جاحظتين وإصبعها في فمها.

وفتحت أزاليا أدير كيسًا دقيقًا عتيقًا باليًا وأخرجت منه ورقة نقدية بريال، وكانت الزاوية اليمنى من الورقة مقطوعة، وهي ممزقة من الوسط وملزقة بورقة زرقاء. أعني أنها إحدى الورقتين اللتين أخذهما مني السائق الزنجي، ما في هذا شك.

وقالت أزاليا وهي تمد يدها بالورقة إلى الفتاة: «اذهبي إلى مخزن المستر بيكر يا إمبي وهاتي منه ربع رطل من الشاي — من النوع الذي يبيعني منه دائمًا — وكعكًا محلى بعشرة سنتات. أسرعي.» والتفتت إليّ وقالت على سبيل الإيضاح: «لقد اتفق أن نفد ما عندنا من الشاي.»

وخرجت إمبي من الباب الخلفي، وقبل أن ينقطع صوت قدميها الحافيتين هتكت حجاب السكون صرخة — لم يخالجني شك في أنها صرخة الفتاة — ثم اختلط صوت خشن عميق بصيحات البنت وألفاظها.

فنهضت أزاليا أدير وهي غير مستغربة، ولا متأثرة وذهبت، وظللت نحو دقيقتين أسمع صوت الرجل، وتلت ذلك لعنة ثم وقع أقدام، وعادت أزاليا هادئة إلى كرسيها.

وقالت: «إن البيت واسع، وعندي ساكن في جانب منه. وإني آسفة لاضطراري إلى العدول عن دعوتك إلى الشاي، فقد تعذر الحصول على ذلك النوع من الشاي الذي أبتاعه دائمًا. ولعل المستر بيكر يستطيع غدًا أن يمدني بحاجتي منه.»

وكنت على يقين من أن الفتاة إمبي لم تغادر البيت، فاستأذنت في الانصراف، وتذكرت بعد أن قطعت مسافة من الطريق أني لم أعرف اسم أزاليا أدير، ولكن هذا يمكن إرجاؤه إلى الغد.

وفي ذلك اليوم نفسه تنكبت النهج القويم وأمالتني عنه هذه المدينة التي لا يحدث فيها شيء، وما مضى عليّ فيها يومان، ولكني في هذه المسافة القصيرة من الزمن رحت أكذب بلا حياء، وأبرق بالكذب، وأصبحت شريكًا — بعد الحادثة — في جريمة قتل.

وانعطفت عند آخر زاوية قرب الفندق، فطالعني ذلك العفريت السائق ذو المعطف الأثري المتعدد الألوان، وفتح باب ناووسه المتحرك، ولوح بمنفضة الريش وبدأ يكرر عبارته المحفوظة: «تفضل يا سيدي. المركبة نظيفة، وقد عادت الآن من جنازة، خمسون سنتًا إلى أي …»

ثم عرفني فتبسم وقال: «لا تؤاخذني يا سيدي، إنك السيد الذي ركب معي هذا الصباح، شكرًا لك يا سيدي.»

فقلت له: «إني ذاهب في الساعة الثالثة بعد ظهر الغد إلى هناك مرة أخرى، فإذا وجدتك هنا ركبت معك. إنك تعرف الآنسة أدير؟»

وكنت أفكر في ورقتي النقدية وأنا أسأله فقال: «لقد كنت عبدًا لأبيها القاضي أدير يا سيدي.»

فقلت: «أحسبها فقيرة جدًّا، وليس عندها ما يستحق الذكر، هه؟»

فأربدت صفحة وجهه مرة أخرى، وطالعني منها محيا الملك سيتوايا، ولكن سحنته ما لبثت أن عادت إلى مألوفها وقال ببطء: «لن تراها تموت جوعًا يا سيدي، فإن لها لموارد للعيش يا سيدي. نعم لها موارد.»

فقلت: «سأنقدك خمسين سنتًا ليس إلا.»

فقال بلهجة المتطامن: «لا ريب يا سيدي، ولكنه كان لا بد لي في هذا الصباح من الحصول على الريالين.»

وعدت إلى الفندق، وأبرقت بالأكاذيب وزعمت في برقيتي أن الآنسة أزاليا أدير تطلب ثمانية سنتات أجرًا للكلمة الواحدة. فجاءني الرد: «أجبها إلى سؤالها وعجل يا غبي.»

وقبيل العشاء أقبل عليّ «الماجور» ونتورث كازويل يحييني تحية من طال افتقاده لصديقه، وقل بين من عرفت في حياتي من أثاروا في نفسي شعور الكراهية لهم من أول لحظة، كما فعل هذا الرجل، يضاف إلى هذا أن التخلص منه لم يكن بالأمر السهل، وكنت واقفًا عند المشرب «البار» لما «غزاني» فلم يتيسر لي أن أنشر في وجهه الراية البيضاء، وكان يسرني أن أدفع ثمن الشراب، على رجاء الخلاص، ولكنه كان من أولئك السكيرين الحقراء، الصخابين الذين ينشدون الإعلان عن أنفسهم، ويودون لو عزفت الموسيقى وأطلقت الألعاب النارية كلما أنفقوا سنتًا واحدًا على حماقاتهم.

واتخذ هيئة المليونير وهو يخرج ورقتين كل منهما بريال ويلقي بواحدة على المشرب فوقعت عيني مرة أخرى على الورقة المقطوعة زاويتها العليا من اليمين، والممزقة من الوسط، وقد وصل النصفان بورقة زرقاء، فهي تطالعني ثانية، ولا يمكن أن تكون غيرها.

وصعدت إلى غرفتي، وقد اعتراني الملل والتعب والسهوم من هذه المدينة الجنوبية الكئيبة التي لا ينقطع مطرها ولا يحدث فيها شيء يختلف به الحال وتتنوع وجوه الحياة، وأذكر أني قبل أن يأخذني النوم فكرت في أمر هذه الورقة النقدية فقلت لنفسي والنعاس يغالبني: «يخيل إليّ أن كثيرين هنا يملكون أسهمًا في شركة حوذية! وتالله ما أسرع ما يقبض الشركاء أرباحهم! ومن يدري …»، وهنا غلبني النوم.

وكان «الملك سيتوايا» في مكانه في اليوم التالي، فأركبني ورض لي بدني في الطريق الوعر إلى البيت رقم ٨٦١. وقد أوصيته أن ينتظر ليرض لي عظامي مرة ثانية في الإياب.

وكانت أزاليا أدير أنظف، وأشد اصفرارًا، وأضعف منها في اليوم السابق ووقعت العقد الذي يجري أجرها على الكلمة الواحدة ثمانية سنتات، فزاد لونها امتقاعًا، وانحدرت عن كرسيها إلى الأرض مغشيًا عليها، فحملتها بلا عناء إلى الأريكة العتيقة، ثم ذهبت أعدو وأصيح بالزنجي أن يدعو طبيبًا، فأبدى من العقل ما لم أكن أتوقع منه، وترك جواديه المعروقين وراح يجري وقد أدرك قيمة السرعة، وعاد بعد عشر دقائق ومعه طبيب حاذق وقور أبيض اللحية، فشرحت له في بضع كلمات (قيمة الواحدة منها دون ثمانية سنتات بكثير) سبب وجودي في هذا البيت الفارغ الحافل مع ذلك بالأسرار والمعميات، فانحنى لي وقد فهم عني، والتفت إلى الزنجي العتيق وقال بلهجة متزنة: «يا عم قيصر، اجرِ إلى بيتي واطلب من الآنسة لوسي أن تعطيك ملء وعاء من اللبن الطازج، وقدحًا من النبيذ وعد بسرعة. لا تركب، اجر؛ فإني أريد أن تعود في هذا الأسبوع!»

فخطر لي أن الدكتور مريمان أيضًا يشك في قدرة جوادي الزنجي على العدو، وبعد أن خرج العم قيصر مسرعًا إلى الشارع رماني الطبيب بنظرة فاحصة ولكنها رقيقة، وقال: «إنها مسألة غذاء غير كاف، وبعبارة أخرى، هذه نتيجة الفاقة والكبرياء والجوع. وإن للسيدة كازويل لأصدقاء مخلصين عديدين يسرهم أن يمدوا إليها يد المعونة، ولكنها لا تقبل شيئًا إلا من ذلك الزنجي العتيق — العم قيصر — الذي كان فيما مضى عبدًا لأسرتها.»

فسألت متعجبًا: «السيدة كازويل؟»

ثم ألقيت نظرة على العقد فرأيتها قد وقعته باسم «أزاليا أدير كازويل.»

وقلت: «كنت أحسبها الآنسة أدير.»

فقال الطبيب: «لقد تزوجت سكيرًا متشردًا يا سيدي. ويقال إنه يسلبها حتى المبالغ الضئيلة التي يمدها بها خادمها القديم على سبيل المعونة» …

واستطاع الطبيب، بفضل اللبن والنبيذ، أن ينعش أزاليا أدير، فانطلقت تتحدث عن جمال أوراق الخريف وألوانها الزاهية، وأشارت إلى نوبة الإغماء التي عرتها وعزتها إلى لغط قديم في القلب، وكانت الخادمة إمبي تروح على وجهها وهي راقدة على الأريكة، وكان الطبيب مطلوبًا لعيادة أخرى فتبعته إلى الباب وأخبرته أن في وسعي وفي عزمي أيضًا أن أنقدها مبلغًا من المال على الحساب سلفًا، فسره هذا.

وقال: «على فكرة. قد يسرك أن تعرف أن هذا الحوذي من أرومة الملك، فقد كان جده ملكًا في الكونجو، ولعلك لاحظت أن لقيصر بعض سجايا الملوك.»

وبينما كان الطبيب يمضي عني، سمعت العم قيصر يقول: «هل أخذ منك كلا الريالين جميعًا يا سيدتي؟»

وسمعت أزاليا أدير تقول بصوت ضعيف: «نعم يا قيصر.»

ودخلت بعد ذلك، وقدمت لها خمسين ريالًا على الحساب زاعمًا أن هذا إجراء شكلي لازم لنفاذ العقد. ثم عاد بي العم قيصر إلى الفندق.

وإلى هنا ينتهي ما أستطيع أن أقسم على الشهادة به. أما ما يلي فليس أكثر من سرد لوقائع.

حوالي الساعة السادسة خرجت من الفندق لأتمشى، وكان العم قيصر واقفًا بمركبته في مكانه المألوف، ففتح بابها، ولوح بمنفضته، وشرع يلقي عبارته المحفوظة التي تبعث على الكآبة: «تفضل يا سيدي، خمسون سنتًا إلى أي مكان في المدينة. المركبة نظيفة جدًّا يا سيدي. عادت الآن فقط من جنازة …»

ثم عرفني، وأحسب أن نظره بدأ يضعف. وكان معطفه قد اكتسب ظلالًا أخرى باهتة من الألوان، وغاب الزرار الباقي الأخير، المصنوع من القرن الأصفر. فيا له من حفيد ملك!

وبعد ساعتين رأيت ناسًا كثيرين يتزاحمون على باب صيدلية، فكان هذا الحادث في مدينة مملة أشبه بنزول المن والسلوى في الصحراء، فزاحمت حتى دخلت، فأبصرت صناديق فارغة وكراسي قد اتخذ منها مرقد امتد عليه جثمان الماجور ونتورث كازويل، وكان الطبيب يفحصه باحثًا عن دماء من الحياة، فلم يجده.

وقد وجدوه ميتًا في طريق مظلم فحملوه إلى الصيدلية، وكان كل شيء يدل على أنه سقط بعد عراك شديد. وقد كان في حياته متشردًا ونذلًا، ولكنه كان شجاعًا، غير أنه غُلب، وكانت أصابعه مطبقة لا تفتح. وقد وقف حوله الذين عطفوا عليه ونقلوه إلى الصيدلية، يحاولون أن يجدوا ما يثنون به عليه، فقال رجل طيب منهم بعد تفكير طويل: «لما كان كازويل في الخامسة عشر كان من أبرع تلاميذ المدرسة في التهجّي.»

وبينما كنت واقفًا، تراخت أصابع يده اليمنى وكانت متدلية على جانب الصندوق، فسقط منها شيء عند قدميّ. فوضعت رجلي عليه بلا ضجة، ثم احتلت حتى وسعني أن ألقطه وأدسه في جيبي. وقلت لنفسي أن يده، وهي تعترك، قبضت على هذا الشيء، على غير قصد، ثم تخشبت عليه فبقي فيها.

وكان أكثر ما يجري فيه الحديث تلك الليلة بالفندق مقتل الماجور كازويل. وقد سمعت بعضهم يقول لمن حوله: «رأيي أيها السادة أن الذي قتل كازويل بعض هؤلاء الزنوج، طمعًا في ماله، فقد كان معه بعد ظهر اليوم خمسون ريالًا أراها لكثيرين في الفندق. ولما وجدوا جثته لم يجدوا معه المال.»

وبارحت المدينة في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، ولما أخذ القطار يعبر الجسر القائم على نهر كامبرلاند، أخرجت من جيبي زرارًا من القرن الأصفر في حجم نصف الريال وعليه خيوط عالقة به. وقذفت به من النافذة في الماء الجاري تحت الجسر.

هوامش

(١) السحالة البر والشعير قشرهما.
(٢) شيء كالجرة يحمل فيه الطين الذي يستعمل في البناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤