الفصل الثاني عشر

الغرب … الحضارات … الحضارة

(١) تجديد الغرب

ينتهي التاريخ مرة على الأقل في تاريخ كل حضارة، وأحيانًا أكثر من مرة. وعندما تنشأ دولة الحضارة العالمية يغشى بصر شعبِها ما يُطلِق عليه «توينبي» «سراب الخلود»، ويصبح مقتنعًا بأن ما لديه هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني. هكذا كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية والخلافة العباسية والإمبراطورية المغولية والإمبراطورية العثمانية. مواطنو مثل هذه الدول العالمية «في تحدٍّ للحقائق المجردة الواضحة، يميلون إلى اعتبارها أرض الميعاد وهدفًا للسعي الإنساني، وليس مجرد مأوًى ليلي في البرية.» هكذا كان الأمر في أوج «السلم البريطاني» بالنسبة للطبقة المتوسطة الإنجليزية في سنة ١٨٩٧م حيث «كانوا يرَون أن التاريخ بالنسبة لهم قد انتهى، وكان لديهم من الأسباب ما يكفي ليجعلهم يهنئون بعضهم على الحالة الدائمة من السعادة العظيمة التي خلعتها عليهم نهاية التاريخ.»1
المجتمعات التي تفترض أن تاريخها قد انتهى، هي دائمًا مجتمعات يكون تاريخها على حافة الانهيار. فهل الغرب استثناء من هذا النمط؟ السؤالان الرئيسيان صاغهما «ميلكو» على نحو جيد:
  • أولًا: هل الحضارة الغربية صنف جديد، في مرتبة وحدَها … مختلفة … لدرجة ألا يمكن مقارنتها بكل الحضارات الأخرى التي كانت قائمة؟
  • ثانيًا: هل اتساعها العالمي يهدد (أو يعد) بإنهاء إمكانية تقدم كل الحضارات الأخرى؟2

يميل معظم الغربيين، وهذا طبيعي، إلى الإجابة عن السؤالين بالإيجاب، وربما كانوا على حق. في الماضي على أية حال، كانت شعوب الحضارات الأخرى تُفكر على نفس النحو وكانوا مخطئين. من الواضح أن الغرب يختلف عن جميع الحضارات التي كانت قائمة في أن تأثيره طاغٍ على كافة الحضارات الأخرى التي وجدت منذ سنة ١٥٠٠م، كما أنه هو الذي دشن عملية التحديث التي أصبحت عالمية. وكنتيجة لذلك كانت المجتمعات في الحضارات الأخرى كلها تحاول اللحاق به في الثروة والحداثة.

فهل تعني سمات الغرب هذه أن تطوره وقواه المحركة كحضارة، مختلفة تمامًا عن النمط الذي كان سائدًا في الحضارات الأخرى؟ الدليل التاريخي وأحكام الباحثين في التاريخ المقارن تقول بالعكس. تقدم الغرب حتى الآن لم ينحرف بشكلٍ كبير عن أنماط التطور التي كانت معروفة في الحضارات عبر التاريخ. الصحوة الإسلامية والقوى الاقتصادية المحركة في آسيا تدلُّ على أن الحضارات الأخرى حية وبحالة جيدة وأنها — على الأقل — يمكن أن تُهدد الغرب. إن حربًا رئيسية تضمُّ الغرب ودول المركز في حضارات أخرى ليست أمرًا حتميًّا، ولكنها قد تقع. من ناحيةٍ أخرى فإن انهيار الغرب التدريجي وغير المنتظِم والذي بدأ في بداية القرن العشرين قد يستمرُّ لعدة عقود وربما لقرونٍ قادمة. أو قد يمر الغرب بفترة يقظة ويقلب نفوذه المتدهور في الشئون العالمية ويُعيد تأكيد وضعه كقائدٍ تتبعه وتُقلده الحضارات الأخرى.

«كارول كويجلي» أكد أن هناك نمطًا عامًّا من سبع مراحل في تطور الحضارات التاريخية.3 يقول في مُحاجَّته، إن الحضارة الغربية بدأت تأخذ شكلها بالتدريج بين عامي ٣٧٠م، ٧٥٠م من خلال مزج عناصر الثقافات الكلاسيكية والسامية والعربية والبربرية. استمرت فترة الحمل من منتصف القرن الثامن إلى نهاية القرن العاشر، تبعها حركة غير مألوفة بين الحضارات، إلى الأمام وإلى الخلف بين مراحل تمدُّد ومراحل صراع. وحسب تعبيره وتعبير الباحثين في الحضارات الأخرى فإن الغرب يبدو الآن وكأنه يتحرك خارجًا من مرحلة الصراع. الحضارة الغربية أصبحت منطقة أمنية: وبصرف النظر عن حرب باردة عارضة، فمن غير الوارد أن تقوم حروب داخل الغرب. الغرب — كما بيَّنَّا في الفصل الثاني— يقوم بتطوير مُعادلة لإمبراطورية كونية على شكل نظام مُعقد من الكونفيدراليات والفيدراليات وغيرها من أنماط المؤسسات التعاونية التي تجسد التزامه بالسياسة الديمقراطية والتعددية على المستوى الحضاري. الغرب، باختصار، أصبح مجتمعًا ناضجًا، يدخل في ما سوف تُسمِّيه الأجيال القادمة ﺑ «العصر الذهبي» في نظام الحضارات المتكرر، و«فترة سلام» ناتجة، كما يقول «كويجلي»، عن «غيبة أي وحدات متنافسة داخل مساحة الحضارة ذاتها، وعن بُعد وربما عدم وجود صراعات مع مجتمعاتٍ خارجية أخرى.» وهي أيضًا فترة رخاء نابعة من «انتهاء التدمير القتالي الداخلي وتخفيض معوقات التجارة الداخلية وإقامة نظام عام للموازين والمقاييس والعملة، ونظام واسع للإنفاق الحكومي المرتبطة بإقامة إمبراطورية عالمية.»

في الحضارات السابقة، مرحلة العصر الذهبي السعيد هذه بتصوراتها عن الخلود، إما أنها انتهت بشكلٍ درامي وبسرعةٍ بانتصار مجتمع خارجي، أو انتهت ببطءٍ وبشكل مؤلم نتيجة للتفسخ الداخلي. ما يحدث داخل حضارةٍ ما، مهم جدًّا بالنسبة لقدرتها على مقاومة الدمار الذي تُسببه مصادر خارجية، كما هو مُهم بالنسبة لوقف التآكل من الداخل.

في سنة ١٩٦١م كان «كويجلي» يقول إن الحضارات تنمو لأن لديها «آلية التوسع»، أو التنظيم العسكري أو الديني أو السياسي أو الاقتصادي الذي يُراكم الفائض ويستثمره في ابتكاراتٍ منتجة. الحضارات تنهار عندما تتوقف عن «تطبيق الفائض على أساليب جديدة لعمل الأشياء، وهو ما نُعبر عنه بمصطلحاتٍ حديثة عندما نقول إن معدل الاستثمار يقل.» وهذا يحدث لأن المجموعات الاجتماعية المتحكمة في الفائض، لها مصالح راسخة في استخدامه في «أغراض غير إنتاجية وإن كانت مُشبعة للذات، توزع الفائض من أجل الاستهلاك ولكنها لا تُقدم مزيدًا من طرق الإنتاج الفاعلة.» الناس يستنفدون رأسمالهم، وتتحرك الحضارة من على مسرح الدولة العالمية إلى مسرح الانهيار. وهي فترة:

كساد اقتصادي حاد، مستويات معيشية متدهورة، حروب أهلية بين المصالح المختلفة الراسخة، زيادة في نسبة الأمية. المجتمع يزداد ضعفًا. جهود ضائعة تُبذل لإيقاف الفقد عن طريق التشريع، ولكن الانهيار يستمر. المستويات الدينية والثقافية والاجتماعية في المجتمع تبدأ في فقدان ولاء الجماهير على نطاق واسع، حركات دينية جديدة تبدأ في الانتشار في المجتمع. شعور بالتردُّد يتنامى بالنسبة للكفاح من أجل المجتمع أو حتى مساعدته بدفع الضرائب.

حينئذ يؤدي التدهور إلى مرحلة الغزو، عندما تُصبح الحضارة غير «قادرة» على الدفاع عن نفسها لأنها لم تعُد لديها «الإرادة» للدفاع عن نفسها، فتُصبح مفتوحة أمام «الغزاة البرابرة» الذين يجيئون غالبًا من «حضارة أخرى أكثر شبابًا وأكثر قوة»،4 إلا أن الدرس المهيمن في تاريخ الحضارات هو أن هناك أشياء كثيرة ولكن لا شيء حتمي. الحضارات تستطيع أن تتجدَّد وأن تُصلح من شأنها، وقد حدث ذلك بالفعل. القضية الرئيسية بالنسبة للغرب هي إذا ما كان قادرًا على إيقاف وقلب عمليات التآكل الداخلي، بصرف النظر عن أي تحدٍّ خارجيٍّ. هل يستطيع الغرب أن يُجدد نفسه، ترى يتفاقم العفن الداخلي ويُعجل بنهايته أو تبعيته لحضارات أخرى أكثر حيوية، اقتصاديًّا وديموغرافيًّا؟١

في منتصف التسعينيات كانت لدى الغرب سمات عرفها «كويجلي» بأنها سمات الحضارة الناضجة الموشكة على الانهيار.

من الناحية الاقتصادية كان الغرب أغنى بكثيرٍ من أي حضارةٍ أخرى، ولكن معدلات نموه الاقتصادي ومعدلات الادخار والاستثمار كانت منخفضة، وبخاصة إذا ما قورنت بمعدلات مجتمعات شرق آسيا. الاستهلاك الفردي والجماعي كانت له الأولية على خلق قدرات لقوة اقتصادية وعسكرية في المستقبل. النمو السكاني الطبيعي كان منخفضًا وبخاصة إذا ما قورن به في الدول الإسلامية. لا شيء من هذه المشكلات يمكن أن يؤدي إلى نتائج تصل إلى الكارثة. الاقتصادات الغربية كانت في حالة نمو، الشعوب الغربية كانت أوضاعها المعيشية تتحسن، الغرب كان ما يزال في الصدارة بالنسبة للبحث العلمي والإبداع التكنولوجي. معدلات المواليد المنخفضة لم يكن من المرجح أن تعالَج عن طريق الحكومات (وجهودها لذلك أقل نجاحًا من جهودها لتخفيض الزيادة السكانية).

الهجرة أيضًا كانت مصدرًا محتملًا لقوة جديدة ورأسمال بشري بشرطين:
  • أولًا: إذا أعطيت الأولية للمؤهَّلين والقادرين والنشطاء والموهوبين والخبرات اللازمة لبلد الهجرة.
  • ثانيًا: إذا تمَّ استيعاب المهاجرين الجدد وأبنائهم في ثقافة الدولة والغرب. كان من المرجح أن تواجِه الولايات المتحدة مشكلاتٍ بالنسبة للشرط الأول، إلا أن خبرة وكفاءة الحكومات الغربية تُمكنها من وضع سياسات تضبط مستويات ومصادر ومواصفات وأساليب استيعاب المهاجرين.
هناك ما هو أهم من النواحي الاقتصادية والسكانية، وهو مشكلات الانهيار الأخلاقي والانتحار الثقافي والتفكك السياسي في الغرب. تجليات الانهيار الأخلاقي التي يشار إليها غالبًا تتضمن:
  • (١)

    زيادة في السلوك غير الاجتماعي مثل الجريمة وتعاطي المخدرات وأعمال العنف بشكل عام.

  • (٢)

    التفكك الأسري ويشمل ارتفاع نِسب الطلاق والأطفال غير الشرعيين وحمل الفتيات الصغيرات وزيادة عدد الأُسَر المكونة من والد واحد.

  • (٣)

    التدهور في الرأسمال الاجتماعي — على الأقل في الولايات المتحدة — أي عضوية المؤسسات التطوعية، والثقة المتبادلة المرتبطة بتلك العضوية.

  • (٤)

    الضعف العام في «أخلاقيات العمل» وصعود توجهات الانغماس الذاتي.

  • (٥)

    تناقص الالتزام بالتعلم والنشاط الفكري، ويظهر ذلك في المستويات المتدنية للتحصيل الدراسي في الولايات المتحدة.

حالة الغرب الصحية في المستقبل وتأثيرها على المجتمعات الأخرى تعتمد إلى حدٍّ كبير على نجاحه في التغلب على هذه التوجهات، التي تؤدي بالطبع إلى تأكيد التفوق الأخلاقي للمسلمين والآسيويين.

الثقافة الغربية تواجه تحدياتٍ من جماعات داخل المجتمعات الغربية. أحد هذه التحديات يجيء من المهاجرين الذين قدموا من حضارات أخرى ويرفضون الاندماج ويواصلون الالتزام بقِيَم وعادات وثقافات مجتمعاتهم الأصلية والترويج لها. هذه الظاهرة أكثر ما نلاحظها بين المسلمين في أوروبا وهم أقلية صغيرة على أية حال، كما أنها واضحة بين الهيسبانيين في الولايات المتحدة وهم أقلية كبيرة.

عندما يفشل الاستيعاب أو الاندماج في مثل هذه الحالة ستُصبح الولايات المتحدة دولة مُتشقِّقة أو مصدوعة، مع كل ما يستتبع ذلك من احتمالات الصراع والتفكك الداخلي.

أما في أوروبا، فإن ضعف المسيحية التي هي المكون الرئيسي للحضارة الغربية قد يُقلل من شأن تلك الحضارة. تدهور نسبة الأوروبيين الذين يظهرون إيمانهم بالدين أو يحافظون على الممارسات ويشاركون في الأنشطة الدينية.5

هذه التوجُّهات لا تعكس عداء للدين بقدر ما تعكس عدم اكتراث به، ورغم ذلك فإن المفاهيم والقيم والممارسات المسيحية متغلغلة في الحضارة الأوروبية. يقول أحد السويديين «ربما كان السويديون أكثر الناس تدينًا في أوروبا، ولكنك لن تفهم هذا البلد أبدًا إلا إذا أدركتَ أن مؤسساتنا وممارساتنا الاجتماعية وأُسَرنا وسياساتنا وأساليب حياتنا كلها متأثرة بتراثنا اللوثري.»

الأمريكيون، على عكس الأوروبيين، أكثريتهم يؤمنون بالله ويعتقدون أنهم شعب مُتدين، كما يتردَّدون على الكنائس بأعداد كبيرة. وبينما لا يُوجَد دليل على يقظة دينية في أمريكا منذ منتصف الثمانينيات، إلا أن العقد التالي بدا وكأنه يشهد نشاطًا دينيًّا واسعًا.6 تآكُل المسيحية بين الأوروبيين من المرجح أن يكون، على أسوأ افتراض، هو الخطر البعيد المدى على صحة الحضارة الغربية. ولكنَّ هناك تحديًا آخر أكثر مباشرة وأكثر خطرًا في الولايات المتحدة. تاريخيًّا، كانت الهوية القومية الأمريكية تعرف ثقافيًّا بتراث الحضارة الغربية، وسياسيًّا بمبادئ «القانون الأمريكي» الذي يتفق عليه الأمريكيون بشكلٍ إجماعي: الحرية، الديمقراطية، الفردانية، المساواة أمام القانون، الدستورية، الملكية الخاصة.
في أواخر القرن العشرين كانت كل مكونات الهوية الأمريكية تحت هجومٍ مُرَكَّز ومُتواصل من عددٍ قليل، وإن كان مؤثرًا، من المثقفين وخبراء الشئون العامة. وباسم التعدُّدية الثقافية كانوا يُهاجمون توحُّد الولايات المتحدة بالحضارة الغربية، ويُنكرون وجود ثقافة أمريكية مشتركة ويتبنَّون تجمعاتٍ عرقية وجنسية وهويات ثقافية فرعية أخرى. ويستنكرون، كما جاء في أحد تقاريرهم: «الانحياز المستمر للثقافة الأوروبية ومشتقاتها» في التربية، و«سيادة المنظور الأوروبي الأمريكي الأحادي الثقافة». وكما يقول: «آرثر. م. شليزنجر الأصغر»: «دعاة التعددية الثقافية في الغالب انفصاليون متمركزون حول العرق، لا يرون في التراث الغربي أكثر من الجرائم.» «حالتهم هي حالة تعرية للأمريكيين من الموروث الأوروبي الخاطئ، والبحث عن غرس تعويضي من الثقافات غير الغربية.»7 تَوجُّهُ التعددية الثقافية ظهر كذلك في تشريعاتٍ كثيرة تلت قوانين الحقوق المدنية في الستينيات. وفي التسعينيات جعلت إدارة «كلينتون» تشجيع التنوُّع كأحد أهدافها الرئيسية. التناقض مع الماضي لافت للنظر. الآباء المؤسسون كانوا يرَون التنوع حقيقة ومشكلة: ومن هنا الشعار القوي E pluribus unum الذي اختارته لجنة من الكونجرس القاري مكونة من «بنيامين فرانكلين» و«توماس جيفرسون» و«جون آدمز». القادة السياسيون الذين جاءوا فيما بعد، والذين كانوا يخشون التنوع الجنسي والإقليمي والإثني والاقتصادي والثقافي (الذي أدى بالفعل إلى أكبر حرب في القرن بين عامي ١٨١٥م و١٩١٤م)، استجابوا لنداء «قربوا بيننا»، وجعلوا الوحدة القومية مسئوليتهم الرئيسية. وكما حذر «تيودور روزفلت»: «الطريقة الوحيدة المؤكدة التي تؤدي بهذه الأمة إلى الدمار ومنع كل إمكانية لاستمرارها كأمة، هي السماح لها بأن تصبح كتلة متشابكة من قوميات متنازعة.»8

إلا أن قادة الولايات المتحدة في التسعينيات لم يكتفوا بالسماح بذلك، بل تبنَّوا التنوع بشكل جاد أكثر من تبنيهم للوحدة بين الشعب الذي يحكمونه.

وكما رأينا فإن قادة الدول الأخرى حاولوا (أحيانًا) أن يتنصلوا من موروثهم الثقافي وتحويل هوية بلدهم من حضارة إلى أخرى، وحتى الآن لم ينجحوا، ولكن الذي حدث هو أنهم خلقوا بلادًا ممزقة مُصابة بحالة من الانفصام. ومثلهم، يرفض دعاة التعددية الثقافية الأمريكيون تراث بلدهم الثقافي. وبدلًا من محاولة توحيد الولايات المتحدة بثقافةٍ أخرى، يرغبون في خلق بلد ذي حضارات متعددة، أي بلد لا ينتمي لأي حضارة، ويفتقر إلى قلب ثقافي. ويرينا التاريخ أن دولةً بهذا الشكل لا يمكن أن تستمر طويلًا كمجتمع متماسك. ولايات متحدة متعددة الحضارات لن تكون الولايات المتحدة، بل ستكون الأمم المتحدة. كذلك يتحدَّى دعاة التعددية الثقافية عنصرًا رئيسيًّا في القانون الأمريكي، بوضعهم حقوق الجماعات مكان حقوق الأفراد وتحديدها إلى درجة كبيرة بالجنس والعرق والنوع والأفضلية الجنسية. في الأربعينيات كان «جونار ميردال» يقول مدعمًا لتعليقات المراقبين الخارجيين منذ «هيكتور سان جون دي كيفيكر» و«أليكس دي توكفيل»: أن القانون كان هو دائمًا «الأسمنت اللازم لبناء هذه الأمة العظيمة المتنوعة».

ويوافق «ريتشارد هوفستارد»: «قَدَرُنَا كأمة ألا يكون لدينا أيديولوجيات، بل أن نكون نحن أيديولوجية.»9

ماذا يحدث إذن للولايات المتحدة إذا تخلَّت نسبة كبيرة من مواطنيها عن هذه الأيديولوجية؟ إن مصير الاتحاد السوفيتي، الدولة الرئيسية الأخرى، والتي كانت وحدتها أكثر تحديدًا من الولايات المتحدة، مثال جيد أمام الأمريكيين.

يقول الفيلسوف الياباني «تاكيشي أومي هارا»: الإخفاق التام للماركسية … والتفكك الدرامي للاتحاد السوفيتي ليسا سوى نُذُرٍ بسقوط الليبرالية الغربية التي هي تيار التحديث الرئيسي. وبعيدًا عن كونها بديلًا للماركسية والأيديولوجية الحاكمة في نهاية التاريخ، ستكون الليبرالية هي حجر الدومينو الذي عليه الدور في السقوط.10 وفي حقبة تعرف فيها الشعوب نفسها في كل مكان بالأسلوب الثقافي … أين مكان مجتمع ليس له قلب ثقافي، ويعرف نفسه فقط بقانون سياسي؟

المبادئ السياسية أساس غير مكين لبناء مجتمع يدوم. وفي عالم مُتعدِّد الحضارات، للثقافة أهمية كبيرة فيه، ستكون الولايات المتحدة — ببساطة — هي آخر البقايا الشاذة لعالم غربي آفل كانت للأيديولوجية فيه أهمية كبيرة.

رفض قانون الحضارة الغربية يعني نهاية الولايات المتحدة التي نعرفها، ويعني كذلك بالفعل نهاية الحضارة الغربية. لو تخلصت الولايات المتحدة من أثر الغرب، فإن الغرب سيتم اختزاله إلى أوروبا وقليل من دول الاستيطان الأوروبي الصغيرة فيما وراء البحار، وبدون الولايات المتحدة يُصبح الغرب جزءًا صغيرًا جدًّا، ومنهارًا، من سكان العالم على شبه جزيرة صغيرة، وغير مُتساوق مع عظم مساحة أوراسيا. الصدام بين دعاة التعددية الثقافية والمدافعين عن الحضارة الغربية والقانون الأمريكي، هو «الصدام الحقيقي» داخل الفِلْقَة الأمريكية من الحضارة الغربية. كما يقول جيمس كورت.11

الأمريكيون لا يمكنهم أن يتجنَّبوا قضية: هل نحن شعب غربي أم نحن شيء آخر؟ ومستقبل الولايات المتحدة والغرب يتوقف على تأكيد الأمريكيين لالتزامهم بالحضارة الغربية. داخليًّا، يعني ذلك رفض دَعَاوى التعددية الثقافية المسببة للشقاق. وعالميًّا، يعني رفض الدعوات المراوغة والمضللة لتعريف الولايات المتحدة بآسيا. مهما كانت العلاقات الاقتصادية بينهما إلا أن الهوة الثقافية الأساسية بين المجتمعَين الآسيوي والأمريكي تعوق تلاقيهما معًا في بيت مشترك.

ثقافيًّا، الأمريكيون جزء من الأسرة الأوروبية، وقد يضر دعاة التعددية الثقافية بهذه العلاقة، وربما دمَّروها، ولكنهم لا يستطيعون استبدالها. وعندما ينظر الأمريكيون إلى جذورهم الثقافية يجدونها في أوروبا.

في منتصف التسعينيات كانت هناك مناقشات جديدة حول طبيعة ومستقبل الغرب، وظهر اعتراف جديد بوجود تلك الحقيقة بالفعل كما زاد الاهتمام بما يؤكد وجودها المستمر. وكان ذلك في جزء منه نابع من الحاجة الملحوظة لتوسيع المؤسسة الغربية الرئيسية: حلف شمال الأطلنطي (ناتو)، لكي تضم الدول الغربية الموجودة في الشرق، ونتيجة للانقسامات الخطيرة التي حدثت داخل الغرب حول كيفية التصرف بخصوص تشقق يوغوسلافيا.

كما كانت تعكس أيضًا مدى القلق بخصوص الوحدة المستقبلية للغرب بعد زوال الخطر السوفيتي، وما يعنيه ذلك على وجه الخصوص بالنسبة لالتزام الولايات المتحدة بأوروبا.

وحيث إن المجتمعات الغربية تتعامل وتتفاعل بشكلٍ متزايد مع مجتمعات غير غربية تتزايد قوتها، تصبح المجتمعات الغربية أكثر وعيًا بالجذور الثقافية الغربية المشتركة التي تربطهم معًا.

القيادات على جانبي الأطلنطي يؤكدون الحاجة إلى تجديد التجمع الأطلنطي. في أواخر سنة ١٩٩٤م وفي سنة ١٩٩٥م تبنى وزيرا الدفاع الألماني والبريطاني، ووزيرا الخارجية الفرنسي والأمريكي، و«هنري كسينجر»، وشخصيات قيادية أخرى كثيرة، هذه القضية. وقد لخصها وزير الدفاع البريطاني «مالكوم ريفكند» الذي كان يقول في نوفمبر ١٩٩٤م: من أجل «تجمع أطلنطي» يقوم على أربعة أعمدة: الدفاع والأمن مجسدان في اﻟ «ناتو» و«إيمان مشترك بحكم القانون والديمقراطية البرلمانية» و«رأسمالية ليبرالية وتجارة حرة» و«التراث الثقافي الأوروبي المشارك الذي جاء من اليونان وروما عبر النهضة إلى القيم المشتركة والمعتقدات وحضارة القرن الذي نعيش فيه.»12

وفي سنة ١٩٩٥م طرحت اللجنة الأوروبية مشروعًا «لتجديد» العلاقة عبر الأطلنطي، والذي أدى إلى توقيع ميثاقٍ شامل بين الاتحاد والولايات المتحدة. وفي نفس الوقت، صادق عدد كبير من القيادات السياسية ورجال الأعمال على إقامة منطقة حرة عبر الأطلنطي.

ورغم أن اﻟ AFL-CIO عارض اﻟ NAFTA وغيرها من الإجراءات الخاصة بتحرير التجارة، إلا أن رئيسه كان يؤيد بشدة هذا الاتفاق الخاص بحرية التجارة الذي لن يُهدد الوظائف الأمريكية بمنافسةٍ من دولٍ الأجورُ فيها منخفضةٌ. كما أيده كذلك المحافظون الأوروبيون (مارجريت تاتشر) والأمريكيون (نيوت جنجرتش) إلى جانب قيادات كندية وبريطانية أخرى.

الغرب، كما قُلنا في الفصل الثاني مرَّ بمرحلة أولى، أوروبية، من التطور والتوسع استمرت عدة قرون، ثم بمرحلة ثانية، أمريكية، في القرن العشرين.

إذا جددت أمريكا الشمالية وأوروبا حياتهما الأخلاقية وبنَيا على العوامل الثقافية المشتركة بينهما، وطورا أشكالًا وثيقةً من التكامل الاقتصادي والسياسي لاستكمال تعاونهما الأمني في اﻟ «ناتو»، فسيكون بمقدورهما استيلاد مرحلة ثالثة، أوروبية أمريكية، من الثراء الاقتصادي والنفوذ السياسي الغربي. إن تكاملًا سياسيًّا ذا مغزى، يمكن أن يواجه — إلى حدٍّ ما — التدهور النسبي في نصيب الغرب من سكان العالم والناتج الاقتصادي والقدرات العسكرية ويحيي قوة الغرب في عيون قادة الحضارات الأخرى. رئيس الوزراء «ماهاتير» كان يحذر الآسيويين: «بفضل قوتها التجارية يمكن أن تملي كونفيدرالية اﻟ EU-NAFTA شروطها على العالم»13 إلا أن تقارب الغرب سياسيًّا واقتصاديًّا يتوقف تمامًا على ما إذا كانت الولايات المتحدة تؤكد هويتها كدولةٍ غربية، وتحدد دورها الكوني كقائدٍ للحضارة الغربية.

(٢) الغرب في العالم

إن عالَمًا تكون فيه الهويات الثقافية — العرقية والقومية والدينية والحضارية — هي المركز الرئيسي، وتتشكل فيه العداوات والتحالفات وسياسات الدول طبقًا لعوامل التقارب أو الاختلاف الثقافي، لا بد أن يتضمن ثلاثة معانٍ عريضة بالنسبة للغرب عمومًا وللولايات المتحدة بخاصة.

  • أولًا: رجال الدولة لا يمكنهم تغيير الواقع إلا في حالة إدراكه وفهمه. السياسات الناشئة عن الثقافة والقوة الصاعدة للحضارات غير الغربية، والتوكيد الثقافي المتزايد لتلك المجتمعات … كل ذلك قد تم إدراكه في العالم غير الغربي، والقادة الغربيون يشيرون إلى القوى الثقافية التي تقرب بين الناس أو تباعد بينهم. على العكس من ذلك فإن النخب الأمريكية كانت بطيئة في قبول تلك الحقائق القائمة والتمسك بها. إدارتا «بوش» و«كلينتون» كانتا تؤيدان وحدة الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا والبوسنة وروسيا المتعددة الحضارات، في مساعٍ بلا جدوى لإيقاف القوى الإثنية والثقافية التي كانت تدفع بقوة نحو التفسخ، وتبنَّتا مشروعات تكامل اقتصادي متعددة الحضارات، إما بلا معنى مثل اﻟ APEC، أو تنطوي على تكاليف اقتصادية وسياسية باهظة وغير متوقعة كما حدث بالنسبة ﻟ NAFTA والمكسيك. كما حاولت الإدارتان تطوير علاقات وثيقة مع دول المركز في الحضارات الأخرى على هيئة «مشاركات عالمية» مع روسيا أو «مشاركة بناء» مع الصين في مواجهة الصراعات الطبيعية بين الولايات المتحدة وتلك الدول. في نفس الوقت فشلت إدارة «كلينتون» في أن تجعل روسيا تشارك بإخلاص في البحث عن السلام في البوسنة، رغم مصلحة روسيا الرئيسية في الحرب كدولة مركز للأرثوذوكسية.
    وسيرًا وراء وهْم الدولة متعددة الحضارات، أنكرت الولايات المتحدة على الأقليات الصربية والكرواتية حق تقرير المصير وساعدت على أن يخرج إلى حيز الوجود شريك إسلامي بلقاني لإيران، قائم على نظام الحزب الواحد. وبنفس الأسلوب أيدت الحكومات الأمريكية خضوع المسلمين للحكم الأرثوذوكسي، مستمرة في اعتبار «شيشينيا جزءًا من الاتحاد الفيدرالي الروسي دون نقاش»،14 ورغم أن الأوروبيين يعترفون بشكلٍ عام بالأهمية الأساسية للخط الفاصل بين المسيحية الغربية من جهة، والأرثوذوكسية والإسلام من جهة أخرى، إلا أن الولايات المتحدة كما قال وزير خارجيتها: «لن تعترف بأي فصل رئيسي بين الأجزاء الكاثوليكية والأرثوذوكسية في أوروبا.» ولكن الذين لا يعترفون بالتقسيمات الأساسية سيصابون بالإحباط في النهاية، بسببها. في البداية كانت إدارة «كلينتون» تبدو غافلة عن ميزان القوى المتغير بين الولايات المتحدة ومجتمعات شرق آسيا، ومن هنا كانت تنادي كثيرًا بأهداف تتعلق بالتجارة وحقوق الإنسان والانتشار النووي وقضايا أخرى لم تكن قادرة على تحقيقها. وكانت الولايات المتحدة، بشكل عام، تجد صعوبة غير عادية في التكيف مع منطقة تتشكل فيها السياسة الكونية طبقًا لحركة المد والجزر الثقافية والحضارية.
  • ثانيًا: كان التفكير الأمريكي بالنسبة للسياسة الخارجية يعاني أيضًا من التردد في تجنب أو تغيير أو حتى إعادة النظر أحيانًا في السياسات المتبعة لمواجهة متطلبات الحرب الباردة. عند البعض كان ذلك يأخذ شكل الاستمرار في تصور عودة الاتحاد السوفيتي كخطر محتمل. وبشكل عام، كان الناس يميلون إلى تكريس تحالفات الحرب الباردة واتفاقيات السيطرة على السلاح. اﻟ NATO لا بد أن يبقى كما كان أثناء الحرب الباردة. معاهدة الأمن اليابانية الأمريكية مسألة رئيسية بالنسبة لأمن شرق آسيا. معاهدة ABM يجب أن تحترم وتنفذ. معاهدة CFE لا بد من تنفيذها. والواضح أن لا شيء من موروثات الحرب الباردة هذه يمكن أن ينحَّى جانبًا ببساطة، كما أنه ليس من صالح الولايات المتحدة أو الغرب بالضرورة أن تبقى هذه الموروثات بنفس شكلها الذي كانت عليه في الحرب الباردة.
    حقائق العالم المتعدد الحضارات توحي بأن اﻟ NATO لا بد أن يتسع ليضم مجتمعات غربية أخرى تسعى إلى ذلك، ولا بد من الاعتراف بأنه ليس هناك معنى لوجود دولتَين كلتاهما عدو لدود للأخرى، وكلتاهما لا تُوجَد بينها وبين بقية الأعضاء قرابة ثقافية.
    معاهدة مثل ABM المصممة لمواجهة متطلبات الحرب الباردة وتأمين التعرض المتبادل للمجتمعات السوفيتية والأمريكية، وبالتالي تردع الحرب النووية بين الدولتَين، قد تعوق قدرة الولايات المتحدة والمجتمعات الأخرى على حماية نفسها ضد أي تهديداتٍ نووية غير متوقعة، أو أي أعمال هجومية من قِبَل حركات إرهابية أو مستبدين حمقى.

    معاهدة الأمن الأمريكية اليابانية ساعدت على ردع العدوان السوفيتي ضد اليابان، فما الهدف المقصود أن تخدمه هذه المعاهدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة؟ هل هو احتواء وردع الصين؟ أم إبطاء عملية التكيف الياباني مع الصين الصاعدة؟ أم وقف التوجهات العسكرية اليابانية؟

    في اليابان تتصاعد شكوك متزايدة عن التواجد العسكري الأمريكي هناك، كما تتصاعد شكوك متزايدة كذلك في الولايات المتحدة حول الحاجة إلى التزامٍ من طرفٍ واحد بالدفاع عن اليابان. اتفاق القوات التقليدية في أوروبا CFE كان يهدف إلى تهدئة المواجهة بين حلفي اﻟ «ناتو» و«وارسو» في أوروبا الوسطى، وهي المواجهة التي زالت. الأثر الرئيسي للاتفاق الآن هو خلق صعوبات لروسيا في التعامل مع ما تتصوَّر أنه تهديدات أمنية من قِبَل الشعوب الإسلامية في جنوبها.
  • ثالثًا: يمثل التنوع أو الاختلاف الحضاري تحديًا للاعتقاد الغربي والأمريكي بخاصة في عالمية الثقافة الغربية. هذا الاعتقاد يتم التعبير عنه على نحوٍ وصفي وعلى نحو معياري في نفس الوقت. وصفيًّا، يرى أن كل المجتمعات تريد أن تتبنَّى القيم والمؤسسات والممارسات الغربية. وإذا ظهر أنه لا توجد لديها هذه الرغبة وأنهم يريدون أن يكونوا ملتزمين بثقافاتهم التقليدية فلا بد أن يكونوا ضحايا «وعي زائف» يُشبه ذلك الذي أوجده الماركسيون بين البروليتاريا التي كانت تؤيد الرأسمالية.

معياريًّا، فإن المعتقدات الغربية العالمية تفترض أن شعوب العالم بأسرِه لا بد لها أن تعتنق القيم والمؤسسات والثقافة الغربية، لأنها تُجسد أرقى فكر ولأنها أكثرها استنارة وليبرالية وعقلانية وحداثة وتحضرًا.

في عالم الصدام الحضاري والإثني الناشئ، يُعاني اعتقاد الغرب في عالمية ثقافته من ثلاث مشكلات: فهو اعتقاد زائف، ولا أخلاقي، وخطر. أما عن كونه زائفًا فتلك هي الفرضية المركزية لهذا الكتاب، وهي فرضية يلخصها جيدًا «مايكل هووارد»:

«الافتراض الغربي العام بأن التنوع الثقافي عبارة عن فضول تاريخي يتآكل بسرعة بسبب نمو ثقافة أنجلوفونية عالمية مشتركة ذات توجُّهٍ غربي تُشكل قيَمَنا الأساسية … وهذا بكل بساطة أمر غير صحيح.»15 والقارئ الذي لم يقتنع حتى الآن بحكمة «سير مايكل» هذه، إنما يعيش في عالمٍ بعيدٍ جدًّا عن العالم الذي نصِفه في هذا الكتاب.

الاعتقاد بأن الشعوب غير الغربية لا بدَّ لها من أن تتبنَّى القيم والمؤسسات والثقافة الغربية، اعتقاد لا أخلاقي بسبب ما يجب عملُه لكي يتحقَّق ذلك. إن وصول القوة الغربية إلى العالمية تقريبًا في أواخر القرن التاسع عشر، والسيطرة الكونية للولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين قد نشرا قدرًا كبيرًا من الحضارة الغربية في أرجاء العالم. العالمية الأوروبية لم تعُد موجودة على أي حال، والهيمنة الأمريكية تنحسِر حتى ولو كان ذلك فقط لأنها لم تعُد مطلوبةً لحماية الولايات المتحدة ضد خطرٍ عسكري سوفيتي بأسلوب الحرب الباردة.

الثقافة، كما ناقشنا، تتبع القوة. وإذا كانت المجتمعات غير الغربية سوف تتشكَّل مرةً أخرى بواسطة الثقافة الغربية، فإن ذلك سيكون نتيجةً لتوسُّع وانتشار وتأثير القوة الغربية. الاستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية للعالمية. بالإضافة إلى أن الغرب كحضارة في حالة نضج، لم تعُد لدَيه الدينمية الاقتصادية أو الديموغرافية المطلوبة لفرض إرادته على المجتمعات الأخرى، كما أن أي محاولةٍ لعمل ذلك ستكون ضدَّ القِيَم الغربية الخاصة بتقرير المصير والديمقراطية. وكلما مضت الحضارتان الآسيوية والإسلامية أكثر وأكثر في توكيد الصِّلة العالمية بحضارتيهما، فإن الغربيين سيقبلون الصلة بين العالمية والاستعمار أكثر وأكثر.

عالمية الغرب خطر على العالم لأنها قد تؤدي إلى حربٍ بين دول المركز في حضارات مختلفة، وهي خطر على الغرب لأنها قد تؤدي إلى هزيمته. بسقوط الاتحاد السوفيتي، يرى الغربيون حضارتهم في وضع سيادةٍ لا نظير له، بينما تبدأ المجتمعات الآسيوية والإسلامية وغيرها في اكتساب القوة في نفس الوقت، ومن هنا قد يؤدي بهم الأمر إلى تطبيقِ منطق «بروتس» المعروف والقوى:

«فيالقنا مملوءة حتى الحافة، قضيتنا ناضجة.
العدو يتزايد كل يوم.
نحن على المرتفعات جاهزون للنزول.
إذا سارت مع المد ستؤدي إلى الحظ السعيد،
وإذا أهملت، فكل رحلة حياتها.
سيكون مصيرها إلى المياه الضحلة والشقاء.
لا بد لنا أن نأخذ اتجاه التيار عندما يكون مواتيًا،
أو نخسر مغامرتنا.»

على أن هذا المنطق أدى إلى هزيمة «بروتس» في «فيليبي»، والمسار الحصيف للغرب هو ألا يحاول أن يوقف تحول القوة، وإنما أن يعرف كيف يُبحر في المياه الضحلة ويتحمَّل الشقاء ويُخفِّف من مغامرته ويحمي ثقافته.

جميع الحضارات تمرُّ بعمليات مشابهة من البزوغ والنهوض والانهيار، والغرب يختلف عن الحضارات الأخرى، ليس في طريقة تطوره وإنما في الطبيعة المميزة لقيمه ومؤسساته، وهذه تضمُّ على نحوٍ خاص: مسيحيته، تعدُّديته، فردانيته، وحكم القانون، وهي الأمور التي مكَّنت الغرب من اختراع الحداثة والتوسُّع في أرجاء العالم ومن أن يُصبح محلَّ حسد المجتمعات الأخرى. وفي مجموعها، فإن هذه الخواص غريبة بالنسبة للغرب. وكما يقول «آرثر م شليزنجر الأصغر»: «أوروبا هي المصدر … المصدر الفريد لأفكار الحرية الفردية والديمقراطية السياسية وحكم القانون وحقوق الإنسان والحرية الثقافية … هذه كلها أفكار «أوروبية» وليست آسيوية ولا إفريقية ولا شرق أوسطية، إلا بالتبني.»16 وهي التي تجعل الحضارة الغربية فريدة، كما أن الحضارة الغربية ذات قيمةٍ لا لأنها عالمية وإنما لأنها فريدة. وبالتالي فإن المسئولية الرئيسية على قادة الغرب ليست هي محاولة إعادة تشكيل الحضارات الأخرى على صورة الغرب وهذا ليس في مُستطاع قدراتهم المتدهورة، وإنما في الحفاظ على الصفات الفريدة للثقافة الغربية وتجديدها. ولأن الولايات المتحدة هي أقوى دولة غربية، فإن هذه المسئولية بكامِلها تقع على عاتقها.
وللحفاظ على الحضارة الغربية في وجه القوة الغربية المتدهورة يُصبح من صالح الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن:
  • تحقق تكاملًا سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا أكبر، وتنسق بين سياساتها حتى تحول دون استغلال دول الحضارات الأخرى للاختلافات القائمة بينها.

  • تدمج دول أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى في الاتحاد الأوروبي واﻟ «ناتو»: وهي دول الفيزيجارد وجمهوريات البلطيق وسلوفينيا وكرواتيا.

  • تشجيع تغريب أمريكا اللاتينية وانحيازها إلى الغرب بقدر المستطاع.

  • تكبح القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للدول الإسلامية والصينية.

  • تبطئ من عملية ابتعاد اليابان عن الغرب وتوجهها نحو التكامل مع الصين.

  • تقبل أن تكون روسيا مركزًا للأرثوذوكسية وقوة إقليمية رئيسية ذات مصالح مشروعة في أمن حدودها الجنوبية.

  • تحافظ على تفوقها التكنولوجي والعسكري على الحضارات الأخرى، ثم الأهم من ذلك كله أن تعترف بأن التدخل الغربي في شئون الحضارات الأخرى يمكن أن يكون المصدر الوحيد والأشد خطرًا بالنسبة لعدم الاستقرار والصراع الكوني المحتمل في عالم متعدد الحضارات.

في أعقاب الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة مُستهَلَكَة في جدلٍ كبير حول المسار الملائم للسياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة في هذه الحقبة لا يمكنها أن تسيطر على العالم ولا أن تهرب منه. فلا العالمية ولا الانعزالية ولا التعدُّدية ولا الأحادية يمكن أن تكون الأفضل لخدمة مصالِحها. إن مصالحها يمكن أن تتقدَّم بتجنُّب كل هذه الإجراءات المتطرفة والمتعارضة، وبأن تتبنَّى بدلًا من ذلك سياسة أطلنطية للتعاون الوثيق مع شركائها الأوروبيين من أجل حماية وترقية مصالح وقيم الحضارة الفريدة التي يشتركون فيها.

(٣) حرب الحضارات والنظام

إن حربًا كونية تشارك فيها دول المركز في حضارات العالم الرئيسية أمر بعيد الاحتمال، ولكنه ليس مستحيلًا. وحرب كهذه كما أوضحنا، قد تنشأ نتيجة تصعيد حربٍ من حروب خطوط التقسيم بين جماعات من حضارات مختلفة، وتضمُّ على الأرجح دولًا إسلامية في جانب، ودولًا غير إسلامية في جانب آخر. كما أنَّ التصعيد يُصبح أكثر احتمالًا إذا كانت دول المركز الإسلامية الطامحة تتنافس لتقديم المساعدة لشركائها في الدين. وتُصبح أقل احتمالًا بسبب المصالح التي قد تكون لدول القرابة من الدرجة الثانية أو الثالثة في عدم التورُّط في الحرب.

ميزان القوى المتغير بين الحضارات وبين دول المركز بها، هو أيضًا أحد المصادر الخطرة لحرب كونية بين الحضارات. إن صعود الصين، والتوكيد المتزايد «لأكبر لاعب في تاريخ الإنسانية» إذا استمر، سوف يخلق توترًا شديدًا في الاستقرار العالمي في أوائل القرن الحادي والعشرين. وبزوغ الصين كقوةٍ مسيطرة في شرق وجنوب شرق آسيا سيكون ضد المصالح الأمريكية كما تُفَسَّرُ تاريخيًّا.17 وبفرض وجود هذه المصالح: كيف يمكن أن تتطور الحرب بين الولايات المتحدة والصين؟

لنفترض أننا في عام ٢٠١٠م، القوات الأمريكية خرجت من كوريا بعد أن اتَّحدت، الوجود العسكري الأمريكي في اليابان انخفض، تايوان وصين البر الرئيسي توصَّلتا إلى تكييفٍ تحتفظ فيه تايوان بمعظم استقلالها الحالي ولكنها تقرُّ بكل وضوحٍ بسيادة «بكين»، وبفضل رعاية الصين استطاعت أن تدخل الأمم المتحدة بنفس الأسلوب الذي تم مع أوكرانيا وروسيا البيضاء (بيلاروسيا) في سنة ١٩٤٦م، تنمية الموارد البترولية في بحر الصين الجنوبي تتقدم بسرعة ومعظمها برعاية الصين، وبعض المناطق الخاضعة للسيطرة الفيتنامية تقوم شركات أمريكية بتطويرها.

وبسبب كل إمكانيات القوة هذه، تتعاظم ثقة الصين بنفسها فتعلن أنها سوف تفرض سيطرتها على البحر بكاملِه وعلى كل ما كانت تطالب بالسيادة عليه. الفيتناميون يقاومون، وينشب القتال بين السفن الحربية الصينية والفيتنامية. الصينيون المتلهفون للانتقام بسبب الإذلال الذي لحق بهم في سنة ١٩٧٩م، يقومون باحتلال فيتنام. الفيتناميون يطلبون المساعدة من أمريكا. الصينيون يحذرون الولايات المتحدة لكي تظلَّ بعيدة. اليابان ودول آسيا الأخرى يرتعِدون خوفًا. الولايات المتحدة تُعلن أنها لن تقبل أن تقهر الصين فيتنام وتُطالب بفرض عقوبات اقتصادية على الصين، وتدفع بقواتها المحمولة الباقية إلى بحر الصين الشمالي. الصينيون يستنكرون ذلك ويعتبرونه انتهاكًا لمياههم الإقليمية ويُوجهون ضرباتٍ جوية للقوة الأمريكية. جهود السكرتير العام للأمم المتحدة ورئيس وزراء اليابان لوقف إطلاق النار تفشل، وينتشر القتال ليعم مناطق أخرى في آسيا، اليابان تحظر استخدام القواعد الأمريكية الموجودة على أراضيها في العمل ضد الصين ولكن الولايات المتحدة تتجاهل هذا الخطر. اليابان تعلن حيادها وتقوم بعزل القواعد. الغواصات والطائرات التي تعمل من قواعد في تايوان والبر الرئيسي تنزل خسائر فادحة بالسفن الأمريكية وتسهيلاتها في شرق آسيا. في نفس الوقت تدخل القوات البرية الصينية هانوي وتحتل أجزاءً كبيرة من فيتنام. وحيث إن كلًّا من الصين والولايات المتحدة لدَيه صواريخ قادرة على توجيه الأسلحة النووية إلى أراضي الآخر، يحدث تحفظ ضِمني ولا تُستخدَم هذه الأسلحة في المراحل الأولى من الحرب، إلا أن الخوف من مثل هذه الهجمات موجود في كلا المجتمعين وهو أقوى في الولايات المتحدة. لذا يبدأ الكثير من الأمريكيين في التساؤل: لماذا يتعرضون لهذا الخطر؟ وما الفرق إذا سيطرت الصين على بحر الصين الجنوبي وفيتنام أو حتى على جنوب شرق آسيا بالكامل؟

معارضة الحرب قوية وبخاصة في الولايات التي تسيطر عليها الهيسبانية في جنوب غرب الولايات المتحدة والتي تقول شعوبها وحكوماتها: «هذه ليست حربنا»، ويحاولون أن يكون خيارهم على نمط نيو إنجلند في حرب سنة ١٨١٢م، وبعد أن يعزز الصينيون انتصاراتهم الأولية في شرق آسيا يبدأ الرأي العام الأمريكي في التحرك في الاتجاه الذي كانت تتمناه اليابان في سنة ١٩٤٢م: إن تكلفة إلحاق هزيمة بهذا التوكيد الجديد للقوة المهيمنة باهظة جدًّا، دعنا نهدأ من أجل التوصُّل إلى إنهاء لذلك القتال المتقطع أو تلك «الحرب الزائفة» الدائرة في جنوب الباسيفيك. إلا أن هذه الحرب لها تأثير في نفس الوقت على الدول الرئيسية في حضارات أخرى. فالهند تنتهز الفرصة التي تتيحها لها الصين بتقيدها بشرق آسيا لكي تشن هجومًا ساحقًا على باكستان، وفي ذهنها تجريد تلك الدولة من قدراتها العسكرية النووية والتقليدية.

الهند تنجح في البداية، ولكن التحالف العسكري بين باكستان وإيران والصين ينشط، وتهرع إيران لمساعدة باكستان بقوات عسكرية حديثة ومتقدمة. الهند تغوص في مستنقع الحرب مع قوات إيرانية وعصابات باكستانية من جماعات إثنية كثيرة مختلفة. كل من الهند وباكستان يلجأ إلى الدول الإسلامية طلبًا للمساعدة — الهند تحذر من خطر السيطرة الإيرانية على جنوب شرق آسيا — ولكن النجاح الأولي للصين ضد الولايات المتحدة يُحفز على تحركاتٍ رئيسية مُعادية للغرب في المجتمعات الإسلامية. الحكومات الموالية للغرب في الدول العربية وتركيا تسقط الواحدة بعد الأخرى بفعل الحركات الإسلامية التي تقويها الكتائب الأخيرة من الوفرة الشبابية. انبعاث التوجهات المعادية للتغريب والتي يُثيرها الضعف الغربي يؤدي إلى هجومٍ عربي شامل على إسرائيل التي تُعتبَر الصورة المصغرة للولايات المتحدة.

الأسطول السادس لا يستطيع أن يتوقف. الصين والولايات المتحدة تحاولان حشد الدعم من دولٍ رئيسية أخرى، وحيث إن الصين تُسجل انتصارات عسكرية، تبدأ اليابان في الانضمام إليها بكلِّ عصبيةٍ محوِّلةً موقفها من الحياد التقليدي إلى حياد تقليدي موالٍ للصين، ثم ترضخ لمطالبها بعد ذلك وتُصبح دولة مشاركة في الحرب ضد عدو مشترك.

القوات اليابانية تقوم باحتلال القواعد الأمريكية المتبقية في اليابان، كما تقوم القوات الأمريكية بإجلاء قواتها على عجل. تعلن الولايات المتحدة حصارًا على اليابان وتشتبك السفن الأمريكية واليابانية في قتالٍ متقطع غربي الباسيفيك. في بداية الحرب اقترحت الصين معاهدة أمن متبادل مع روسيا (تذكرنا بمعاهدة هتلر-ستالين على نحوٍ ما)، إلا أن النجاحات الصينية يكون لها أثر عكسي على روسيا أكثر مما هو على اليابان.

توقعات الانتصار الصيني والسيطرة الصينية الكاملة على شرق آسيا تُخيف موسكو. وحيث تتحرك روسيا في اتجاهٍ مُعادٍ للصين وتبدأ في تعزيز قواتها في سيبيريا، يتدخَّل المستوطنون الصينيون في سيبيريا — وهم كثيرون — في هذه التحركات. حينئذٍ تتدخَّل الصين عسكريًّا لحماية أبنائها فتحتل «فيلاديفستوك» و«وادي أمور» وأجزاء مهمة أخرى من شرق سيبيريا. وعندما يتسع نطاق القتال بين روسيا والقوات الصينية في سيبيريا الوسطى تظهر تمردات في منغوليا التي كانت الصين قد وضعتها تحت «الحماية».

التحكم في النفط والوصول إليه أمر بالغ الأهمية بالنسبة لجميع الأطراف المتحاربة. فاليابان بالرغم من استثمارها الواسع في الطاقة النووية، ما زالت تعتمد على واردات النفط وهذا يقوي من ميلها إلى التكيف مع الصين وتأمين تدفُّق النفط إليها من الخليج الفارسي وإندونيسيا وبحر الصين الجنوبي. أثناء سير الحرب، وحيث تُصبح الدول العربية تحت سيطرة المسلحين الإسلاميين، تتناقص إمدادات النفط من الخليج الفارسي إلى حدٍّ هزيل، ويُصبح الغرب بالتالي مُعتمدًا بدرجة متزايدة على الوارد من روسيا والقوقاز وآسيا الوسطى، الأمر الذي يجعله يكثف جهودَه لاستمالة روسيا إلى جانبِهِ وتأييدها في بسط نفوذها على الدول الإسلامية الغنية بالنفط والموجودة إلى الجنوب منها.

في نفس الوقت تحاول الولايات المتحدة جاهدةً حشد الدعم الكامل لها من حلفائها الأوروبيين، الذين يمدُّون لها يد المساعدة الاقتصادية والسياسية ويتردَّدون في التورُّط العسكري. الصين وإيران خائفتان من تجمُّع الدول الغربية في النهاية خلف الولايات المتحدة، حتى كما ساعدت الولايات المتحدة كلًّا من إنجلترا وفرنسا في النهاية في حربين عالميتين.

ولكي يمنعوا ذلك، يقومون سرًّا بنشر صواريخ ذات قدرةٍ متوسطة المدى في البوسنة والجزائر ويحذرون القوى الأوروبية لكي تبقى بعيدةً عن الحرب. وكما كانت الحال دائمًا في جهود الصين لكي تُرعب دولًا أخرى غير اليابان، فإن هذا العمل تكون له نتائج على عكس ما تريد الصين. الاستخبارات الأمريكية تكتشِف أمر الصواريخ وتُبلغ عنها، ويعلن مجلس اﻟ «ناتو» أنَّ لا بدَّ من إزالتها فورًا. وقبل أن يتصرف اﻟ «ناتو»، تقوم صربيا التي ترغب في استعادة دورها التاريخي كمدافعٍ عن المسيحية ضد الأتراك، بغزو البوسنة. وتنضمُّ إليها كرواتيا وتحتل الدولتان البوسنة وتقتسمانها وتستوليان على الصواريخ وتقومان بجهودٍ لاستكمال التطهير العرقي الذي كانتا قد أجبرتا على التوقُّف عنه في التسعينيات. ألبانيا وتركيا تحاولان مساعدة البوسنيين، اليونان وبلغاريا تقومان بغزو تركيا الأوروبية وينتشر الفزع في إسطنبول ويفرُّ الأتراك عبر البوسفور، في نفس الوقت ينفجر صاروخ حامل لرأس نووية بالقُرب من مرسيليا كان قد أطلق من الجزائر، ويقوم اﻟ «ناتو» بالانتقام بهجماتٍ جوية ضد أهدافٍ في شمال أفريقيا. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والهند مشتركةً في صراعٍ كوني حقيقي، ضد الصين واليابان ومعظم الدول الإسلامية.

كيف يمكن أن تنتهِيَ حرب كهذه؟

الجانبان لديهما قدرات نووية. ومن الواضح أن هذه القدرات لو استُخدمت في أكثر من اللعب في الحد الأدنى، فإن الدول الرئيسية في كِلا الجانبَين يمكن أن تُدمَّر تمامًا. ولو نجح الردع المتبادل، فإن الإنهاك المتبادَل يمكن أن يؤدي إلى تفاوض وهدنة، ولكن ذلك لن يحلَّ القضية الرئيسية، قضية الهيمنة الصينية على شرق آسيا.

من ناحيةٍ أخرى، قد يحاول الغرب أن يُلحق الهزيمة بالصين عن طريق استخدام القوة العسكرية التقليدية. انحياز اليابان إلى جانب الصين يُحقق للأخيرة الوقاية عن طريق شريطٍ عازل يمنع الولايات المتحدة من استخدام قواتها البحرية ضدَّ مراكز الكثافة السكانية والصناعية على امتداد ساحلها. البديل، هو الاقتراب من الصين من الجهة الغربية. القتال بين روسيا والصين يجعل اﻟ «ناتو» يرحب ﺑ «روسيا» كعضوٍ في المنظمة والتعاون معها للوقوف ضدَّ الإغارات الصينية في سيبيريا، والحفاظ على سيطرة روسيا على الدول الإسلامية الغنية بالنفط والغاز في آسيا الوسطى، وتبني انتفاضات أهالي التبت ضد الصينيين وكذلك انتفاضات «الأويغور» و«المنغوليين»، وبالتدريج تعبئة ونشر قواتٍ غربية وروسية ناحية الشرق في سيبيريا من أجل الهجوم الأخير عبر السور العظيم نحو بكين ومنشوريا وقلب أراضي اﻟ «هان».

وأيًّا كانت النتيجة المباشرة لهذه الحرب الحضارية الكونية (تدمير نووي متبادل أو توقف بعد تفاوض نتيجة الإنهاك المتبادل أو المسيرة النهائية للقوات الروسية والغربية في ميدان تيانان من)، فإن النتيجة الأشمل على المدى البعيد ستكون حتمًا هي الانهيار الكبير في القوة الاقتصادية والديموغرافية لكل المشاركين الرئيسيين في الحرب. ونتيجة لذلك، فإن القوةَ الكونية التي كانت قد تحوَّلت عبر القرون من الشرق إلى الغرب، ثم بدأت حينئذٍ في التحول عائدة من الغرب إلى الشرق، سوف تتحوَّل الآن من الشمال إلى الجنوب. أكثر المستفيدين من حرب الحضارات هي الحضارات التي امتنعت عن الاشتراك فيها. وبخروج الغرب وروسيا والصين واليابان مُدمَّرين بدرجات مختلفة، يُصبح الطريق مشرعًا أمام الهند — إذا نجت من هذا الدمار حتى وإن كانت مشاركة — لكي تحاول إعادة تشكيل العالم على امتداد خطوط هندوسية.

قطاعات كبيرة من الشعب الأمريكي تعزو ضعف الولايات المتحدة الشديد إلى التوجُّه الغربي الضيِّق لنخب اﻟ WASP،٢ والقادة الهيسبانيون يصلون إلى السلطة مدعومين بالوعد بمساعدةٍ واسعة على نمط مشروع مارشال من دول أمريكا اللاتينية المزدهرة التي لم تشارك في الحرب. من جانب آخر، فإن أفريقيا لا تملك إلا القليل الذي يمكن أن تُقدمه لإعادة بناء أوروبا، وبدلًا من ذلك تلفظ حشودًا من البشر المعبئين اجتماعيًّا للانقضاض على البقايا.

في آسيا، إذا كانت الصين واليابان وكوريا قد دمرت في الحرب، فإن القوة ستتحوَّل في اتجاه الجنوب أيضًا. إندونيسيا التي ظلت محايدة تُصبح هي الدولة المسيطرة. وبتوجيهٍ من مستشاريها الأستراليين تعمل على تشكيل الأحداث من نيوزيلاندة في الشرق إلى ميانمار وسريلانكا في الغرب وفيتنام في الشمال. كل ذلك يُنذر بصراعٍ مستقبلي مع الهند والصين العائدة إلى الحياة. مركز السياسة العالمية يتحرك جنوبًا على أي حال.

وإذا كان هذا السيناريو يبدو محضَ خيالٍ وغير قابلٍ للتصديق، فهذا أمر جيد، ودعنا نأمل ألا تكون هناك سيناريوهات أخرى لحربٍ حضارية كونية أكثر قابلية للتصديق.

أما ما هو أكثر قابلية للتصديق وبالتالي الأكثر إزعاجًا في هذا السيناريو فهو سبب الحرب: تَدَخُّل دولة مركز في إحدى الحضارات (الولايات المتحدة) في نزاع بين دولة مركز في حضارة أخرى (الصين) ودولة عضو في تلك الحضارة (فيتنام).

هذا التدخل كان ضروريًّا بالنسبة للولايات المتحدة، لدعم القانون الدولي، وصد العدوان، وحماية حرية البحار، والحفاظ على طريقها إلى نفط بحر الصين الجنوبي، ومنع سيطرة قوة منفردة على شرق آسيا. بالنسبة للصين، هذا التدخُّل لم يكن مسموحًا به، وإنما هي محاولة متعجرفة من الدولة الغربية القائدة لإذلال وإرهاب الصين وإثارة المعارضة ضدها داخل مجال نفوذها المشروع وإنكار دورها الملائم في الشئون العالمية.

وباختصار، فإن تجنُّب حروب رئيسية بين الحضارات في الحقبة القادمة يتطلَّب أن تحجم دول المركز عن التدخُّل في صراعات الحضارات الأخرى. وسوف تجد بعض الدول بلا شكٍّ صعوبةً في قبول هذه الحقيقة، وبخاصة الولايات المتحدة.

«قانون الامتناع» هذا، أي أن تمتنع دول المركز عن التدخُّل في صراعات داخل الحضارات الأخرى، هو أول متطلبات السلام في عالم مُتعدِّد الحضارات، متعدِّد الأقطاب.

المتطلَّب الثاني هو «قانون الوساطة المشتركة»، أي أن تتفاوض دول المركز مع بعضها الآخر لاحتواء أو إيقاف حروب خطوط التقسيم الحضاري بين دولٍ أو جماعاتٍ داخل حضاراتها.

قبول هذه القوانين في عالم تسود فيه مساواة أكبر بين الحضارات، لن يكن من السهل على الغرب أو على تلك الحضارات التي تسعى إلى أن تكمل دور الغرب، أو أن تحل محله في السيطرة.

على سبيل المثال، في عالم كهذا قد ترى دول المركز أن من حقها (حق الامتياز) أن تمتلك أسلحة نووية، بينما تنكر ذلك الحق على أعضاء آخرين في نفس الحضارة.

عندما كان «ذو الفقار علي بوتو» يتجه بفكره نحو السعي لتطوير «قدرة نووية كاملة» لباكستان كان يبرر ذلك بقوله: «نحن نعلم أن إسرائيل وجنوب أفريقيا لديهما قدرة نووية كاملة. والحضارات المسيحية واليهودية والهندوسية لديها تلك القدرة أيضًا، الحضارة الإسلامية فقط هي التي لا تملكها، ولكن هذا الوضع كان على وشك أن يتغير.»18

المنافسة على الزعامة داخل الحضارات التي لا يوجَد بها دولة مركز، قد تُثير أيضًا المنافسة على الأسلحة النووية. رغم أن إيران لها علاقات وثيقة مع باكستان، إلا أنها تشعر جيدًا أنها في حاجة إلى أسلحة نووية بقدْر حاجة باكستان إليها. من جانب آخر فإن البرازيل والأرجنتين قد تخلتا عن برامجهما في هذا الاتجاه، كما قامت جنوب أفريقيا بتدمير أسلحتها النووية رغم أنها قد تكون راغبة في الحصول عليها، إذا بدأت نيجيريا تطوير قدراتها في هذا المجال. ورغم أن الانتشار النووي ينطوي على بعض المخاطر كما أشار «سكوت سيجان» وآخرون، إلا أن عالَمًا توجد فيه دولة مركز واحدة أو دولتان في كلٍّ من الحضارات الرئيسية تمتلكان وحدهما أسلحة نووية، قد يكون عالَمًا مستقرًّا إلى حدٍّ ما.

معظم المؤسسات أو المنظمات الدولية الرئيسية نشأت بعد الحرب العالمية بفترةٍ قصيرة، وتم تشكيلها وفقًا للمصالح والقِيَم والممارسات الغربية. وحيث إن الحضارة الغربية في حالة انهيار مقارنةً بالحضارات الأخرى، فإن الضغوط سوف تستمر لإعادة تشكيل هذه المؤسسات لكي تتكيف مع مصالح تلك الحضارات. القضية الأكثر وضوحًا والأكثر أهمية، وربما الأكثر إثارةً للجدل، تتعلق بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. هذه العضوية مكونة من قوى رئيسية خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة، وتحمل علاقة متناقصة بحقيقة القوة في العالم. وعبر المسار بعيد المدى، فإما أن تحدث تغييرات في عضوية المجلس أو أن تُستحدَث أساليب أخرى أقل رسميةً من أجل التعامل مع القضايا الأمنية، ولو مثل اجتماعات السبعة الكبار التي تتناول القضايا الاقتصادية العالمية.

في عالم متعدد الحضارات، الوضع المثالي هو أن يكون لكلِّ حضارةٍ من الحضارات الرئيسية مقعد واحد دائم على الأقل في مجلس الأمن. في الوقت الحاضر، ثلاث حضارات فقط لها مقاعد دائمة. الولايات المتحدة وافقت على عضوية اليابان وألمانيا، ولكن الواضح أنهما لن تكونا عضوين دائمين إلا إذا تحقق ذلك بالنسبة للدول الأخرى.

البرازيل اقترحت خمسة أعضاء دائمين جدد بدون حق «الفيتو» وهي: ألمانيا، واليابان، والهند، ونيجيريا، والبرازيل. ومعنى ذلك أن يظلَّ بليون مسلم في العالم بدون تمثيل، إلا إذا حملت نيجيريا هذه المسئولية.

ومن وجهة نظر حضارية، واضح أن اليابان والهند لا بد أن تكونا عضوين دائمين، كما أن أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي لا بد أن يكون لهم مقاعد دائمة يمكن شغلها بشكلٍ دوري بواسطة الدول الرئيسية في تلك الحضارات، ويكون الاختيار عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة الدول الأمريكية (بدون الولايات المتحدة)، كما سيكون من الملائم كذلك دمج المقعدَين البريطاني والفرنسي في مقعدٍ واحد للاتحاد الأوروبي، يقوم الاتحاد باختيار من يشغله. سبع حضارات سيكون لكل منها مقعد واحد وللغرب اثنان، وهي حصص تمثل توزع البشر والثروة والقوة في العالم بشكل عام.

(٤) العوامل المشتركة في الحضارة

يتبنى بعض الأمريكيين التعدُّدية الثقافية في الداخل، وبعضهم يتبنَّى العالمية في الخارج، والبعض يفعل الشيئين معًا. التعددية الثقافية في الداخل تهدد الولايات المتحدة والغرب. العالمية في الخارج تهدد الغرب كما تهدد العالم. وكلاهما يُنكر فرادة الثقافة الغربية.

دعاة الواحدية الثقافية يريدون أن يجعلوا العالم مثل أمريكا. دعاة التعددية الثقافية في الداخل يريدون أن يجعلوا أمريكا مثل العالم. أمريكا متعددة الثقافة مستحيلة، لأن أمريكا غير غربية، لن تكون أمريكية.

عالم متعدد الثقافة، لا يمكن تجنُّبه؛ لأن الإمبراطورية الكونية أمر مستحيل. الإبقاء على الولايات المتحدة والغرب يتطلَّب تجديد الهوية الغربية. أمن العالم يتطلَّب قبول التعددية الكونية. هل فراغ العالمية الغربية وواقع التنوُّع الثقافي الغربي يؤدِّيان حتمًا وبشكلٍ نهائي إلى النسبية الأخلاقية والثقافية؟ إذا كانت العالمية تجعل الاستعمار شرعيًّا، فهل تجعل النسبية القمع شرعيًّا؟ مرة أخرى نجد أن الإجابة عن هذه الأسئلة هي: «نعم» و«لا». الثقافات نسبية والأخلاق مطلقة. الثقافات كما يقول «مايكل والزر»: «سميكة»، إنها تصف المؤسسات وأنماط السلوك من أجل إرشاد الناس إلى الطرق الصحيحة في مجتمعٍ ما. فوق ووراء ومن قلب هذه الأخلاق القصوى تُوجَد أخلاق «رقيقة» تجسد في حدِّها الأدنى «الملامح المتكررة لأخلاق معينة قصوى أو سميكة»، المفاهيم الأخلاقية الدنيا للحقيقة والعدل موجود في كل الأخلاق «السميكة» ولا يمكن أن تنفصل عنها. هناك أيضًا وصايا أخلاقية دنيا مثل «القوانين ضد القتل والخداع والتعذيب والاضطهاد والظلم». والمشترك بين الناس هو «الإحساس بعدوٍّ (أو شرٍّ) مشترك أكثر مما هو الالتزام بثقافة مشتركة».

المجتمع الإنساني «عالمي لأنه إنساني، وخاص لأنه مجتمع». نحن نسير مع الآخرين أحيانًا، ولكننا نسير بمفردنا معظم الوقت،19 إلا أن الأخلاق «الرقيقة»، الدنيا، جزء من الشرط الإنساني العام، كما أن النزعات العامة موجودة في كل الثقافات.20 وبدلًا من تبنِّي الملامح العامة المفترضة في حضارةٍ ما، فإن ضروريات التعايش الثقافي تتطلَّب البحث عما هو مشترك بالنسبة لمعظم الحضارات. وفي عالم مُتعدِّد الحضارات فإن المسار البنَّاء هو التخلِّي عن العالمية وقبول التنوع والبحث عن العوامل المشتركة.

في سنغافورة، جرت محاولة نسبية لتحديد هذه العوامل المشتركة في مكانٍ صغير جدًّا في أوائل التسعينيات. سكان سنغافورة تقريبًا عبارة عن ٧٦٪ صينيين، ١٥٪ مالاي ومُسلمين و٦٪ هنودًا «هندوس» و«سيخ». في الماضي كانت الحكومة قد حاولت أن تتبنى «القيم الكونفوشية» بين الشعب ولكنها صممت أيضًا على أن يتعلَّم الجميع الإنجليزية وأن يُتقنوها. في يناير ١٩٨٩م أشار الرئيس «وي كيم وي» في خطاب افتتاح البرلمان إلى تعرُّض ٢٫٧ مليون سنغافوري للمؤثرات الثقافية الغربية التي «وضعتهم في احتكاكٍ مباشر مع الأفكار الجديدة والتكنولوجيا القادمة من الخارج»، ولكنها قد «عرضتهم» أيضًا ﻟ «أساليب حياة وقيم غربية»، وحذر من أن «الأفكار الآسيوية التقليدية المتعلقة بالأخلاق والواجب والمجتمع، والتي أبقت علينا في الماضي، تُفسح الطريق لنظرةٍ للحياة أكثر تغربًا وفردانية وتمركزًا حول الذات». وقال إن من الضروري تحديد القيم الجوهرية «التي تمسك بجوهر أن تكون سنغافوريًّا». واقترح الرئيس «وي» أربع قيم: «وضع المجتمع قبل الذات، ودعم الأسرة بصفتها كتلة البنية الأساسية في المجتمع، وحل القضايا الرئيسية عن طريق الإجماع بدلًا من الخلاف، والتأكيد على التسامح والتآلف الجنسي والديني.» وقد أدى حديثه إلى مناقشات واسعة للقيم السنغافورية، وبعد عامَين صدرت «ورقة بيضاء» تُحدد موقف الحكومة. هذه الورقة البيضاء أقرت القِيم الأربع المقترحة من قِبَل الرئيس ولكنها أضافت قيمةً خامسة لدعم الفرد، وكان ذلك إلى حدٍّ كبير بسبب الحاجة إلى تأكيد أولية الجدارة الفردية في المجتمع السنغافوري، في مواجهة القِيَم الكونفوشية في التسلسل الهرمي والأسرة والتي قد تؤدي إلى محاباة الأقارب، وحددت الورقة البيضاء القِيَم المشتركة بين السنغافوريين كما يلي:

  • الأمة قبل التجمع (الإثني) والمجتمع قبل النفس.

  • الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع.

  • الاحترام والدعم المجتمعي للفرد.

  • الإجماع بدلًا من الخلاف.

  • التآلف الجنسي والديني.

وعند ذكر التزام سنغافورة بالديمقراطية البرلمانية والتفوق الحكومي، استبعد بيان «القيم المشتركة»، القيم الأساسية من المجال. الحكومة أكدت أن سنغافورة كانت «مجتمعًا آسيويًّا في جوانب مهمة» ولا بد أن تبقى كذلك. «السنغافوريون ليسوا أمريكيين ولا أنجلو ساكسون رغم أننا نتكلم الإنجليزية ونرتدي الملابس الغربية … ولو أصبح من الصعب على المدى الطويل تمييز السنغافوريين عن الأمريكيين أو الإنجليز أو الأستراليين، أو أصبحوا — على أسوأ افتراض — تقليدًا بائسًا لهم (أي دولة ممزقة) فسوف نخسر أفضليتنا على تلك المجتمعات، تلك الأفضلية التي تُمكِّننا من الحفاظ على مجتمعنا عالميًّا.»21

المشروع السنغافوري كان جهدًا طموحًا ومستنيرًا لتحديد هوية ثقافية سنغافورية مشتركة بين جماعاتها العرقية والدينية، تميزها عن الغرب. من المؤكد أن بيانًا عن القِيَم الغربية، خاصة الأمريكية، سوف يُعطي أهمية أكبر لحقوق الفرد إزاء حقوق المجموع، ولحرية التعبير والصدق الناتجة عن صراع الأفكار، وللمشاركة السياسية والمنافسة، ولحكم القانون في مقابل أحكام الخبراء والحكماء والمسئولين. على المستوى الأخلاقي «الرقيق» هناك على الأقل بعض العوامل المشتركة بين آسيا والغرب. بالإضافة إلى أن الأديان الرئيسية في العالم: المسيحية الغربية والأرثوذوكسية والهندوسية والبوذية والإسلام والكنفوشية والطاوية واليهودية، تشترك كلها في بعض القيم الأساسية، كما أشار كثيرون، ومهما كانت الدرجة التي قسموا بها البشرية. ولو قيض للبشر أن يتبنوا حضارة عالمية، فإنها سوف تنبثق تدريجيًّا من خلال استكشاف وتوسيع هذه العوامل المشتركة.

وهكذا، بالإضافة إلى «قانون الامتناع»، و«قانون الوساطة المشتركة»، فإن القانون الثالث للسلام في عالم مُتعدِّد الحضارات، هو «قانون العوامل المشتركة»: لا بد أن تبحث شعوب جميع الحضارات عن تلك القيم والمؤسسات والممارسات المشتركة بينهم وبين شعوب الحضارات الأخرى وأن يقوموا بتوسيعها.

هذا الجهد يمكن أن يُسهم، ليس فقط في وضع حدٍّ لصدام الحضارات، وإنما أيضًا في تقوية «الحضارة» بمفهومها المفرد (الكلمة موضوعة بين علامتَي تنصيص للتوضيح). «الحضارة» بمفهوم المفرد تُشير إلى مزيجٍ مُعقَّد من الأخلاق والدين والتعليم والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي و— ربما — أشياء أخرى. هذه الأشياء كلها لا تختلف بالضرورة عن بعضها البعض، إلا أن الدارسين يمكنهم بسهولةٍ أن يُحددوا نقاطًا عُليا ونقاطًا دنيا في مستوى الحضارة عبر تاريخ الحضارات.

السؤال إذن هو: كيف يمكن أن يحدد المرء المرتفعات والمنخفضات في تطوير البشرية للحضارة؟ إذا كان هناك اتجاه هكذا، فهل هو نتاج عمليات التحديث التي تزيد من سيطرة البشر على بيئتهم، ومن هنا تولد مستويات أعلى وأعلى من التعقيد التكنولوجي والرخاء المادي؟ وفي الحقبة المعاصرة، هل المستوى العالمي من التحديث مَطلب ضروري لمستوى أعلى من الحضارة؟ أم أن مستوى الحضارة يختلف بدايةً داخل تاريخ الحضارات الفردية؟

هذه القضية، هي أحد التجليات الأخرى للجدل حول الطبيعة الخطية أو الدائرية للتاريخ. من المتصوَّر أن التحديث والتطوُّر الأخلاقي الإنساني، اللذَين ينتجان عن طريق التعليم الأرقى والوعي والفهم للمجتمع الإنساني وبيئته الطبيعية، يفرزان حركة مستمرة نحو مستويات من الحضارة أعلى فأعلى. من الناحية الأخرى، فإن مستويات الحضارة — وببساطة — قد تعكس مراحل في تطور الحضارات. عندما تبزغ الحضارات أولًا، فإن شعوبها عادة ما يكونون نشطاء وحركيين ودقيقين وتوسُّعيين، ونسبيًّا يكونون غير متحضرين. وعندما تتطور الحضارة، تُصبح أكثر استقرارًا وتُطَوِّرُ الأساليب والمهارات التي تجعلها أكثر تحضرًا. وحيث إن المنافسة بين عناصرها المكونة تتناقص تدريجيًّا وتنشأ حالة عالمية، تصل الحضارة إلى مستوى حضاري … إلى «عصرها الذهبي» مع ازدهار للأخلاق والفن والأدب والفلسفة والتكنولوجيا والكفاءة العسكرية والاقتصادية والسياسية. وعندما تدخل في الانهيار كحضارة، فإن مستواها الحضاري ينهار أيضًا حتى تختفيَ تحت أنقاض حضارة أخرى منتفضة، ذات مستوى حضاري أقل. التحديث عمومًا، يعزز المستوى المادي للحضارة في كل العالم. ولكن هل عزز الأبعاد الأخلاقية والثقافية للحضارة؟

في بعض الجوانب تبدو الحال هكذا. العبودية والتعذيب وسوء معاملة الأفراد أصبحت أقل قبولًا، فأقل، في العالم المعاصر. ولكن هل ذلك مجرد نتيجة لأثر الحضارة الغربية على الثقافات الأخرى، وبالتالي يمكن أن يحدُث انهيار أخلاقي عندما تنهار الحضارة الغربية؟ هناك في التسعينيات أدلة كثيرة على علاقة نموذج «الفوضى المطلقة» في العلاقات الدولية:

هناك انهيار كوني في القانون والنظام، ومافيا عابرة للقوميات، وكارتلات للمخدرات، وإدمان متزايد لها في كثير من المجتمعات، وضعف عام في الأسرة، وانهيار في الثقة والتضامن في كثير من الدول، وعنف إثني وديني وحضاري، وحكم بقوة السلاح يسود أنحاء كثيرة من العالم. وفي مدينة بعد أخرى — موسكو، ريودي جانيرو، بانجكوك، شانغهاي، لندن، روما، وارسو، طوكيو، جوهانسبرج، دلهي كراتشي، القاهرة، بوجوتا، واشنطن — تبدو معدلات الجريمة في صعود كبير وتخبو عناصر الحضارة الرئيسية. الناس يتكلَّمون عن أزمة كونية في الحكم. صعود المؤسسات العابرة للقوميات المنتجة للسلع الاقتصادية يتناسب بدرجةٍ متزايدة مع صعود المافيا الإجرامية العابرة للقوميات وكارتلات المخدرات وعصابات الرعب التي تهاجم الحضارة بعنف.

القانون والنظام هما المتطلب الأول للحضارة، وفي أنحاء كثيرة من العالم — أفريقيا، أمريكا اللاتينية، الاتحاد السوفيتي السابق، جنوب آسيا، الشرق الأوسط — يبدو أن القانون والنظام يتلاشيان، بينما يتعرضان أيضًا لهجوم خطير في الصين واليابان والغرب. وعلى مستوى عالمي، تبدو الحضارات وكأنها تستسلم للبربرية في جوانب كثيرة، مخلفةً صورة لظاهرة غير مسبوقة. وربما تنزل على الإنسانية عصور كونية مظلمة.

في الخمسينيات كان «ليستر بيرسون» ينبه إلى أن البشر يتحركون نحو عصر «سيكون على الحضارات المختلفة أن تتعلم فيه كيف تعيش جنبًا إلى جنب في علاقات سلمية متبادلة، ويتعلمون من بعضهم، ويدرسون تاريخ ومُثُل وفنون وثقافات بعضهم، وتثري حياة كل منهم حياة الآخر، البديل في عالم شديد الازدحام كهذا، هو سوء الفهم والتوتر والصدام والكارثة.»22 مستقبل كل من السلام والحضارة يعتمِد على الفهم والتعاون بين القادة السياسيين والروحانيين والمفكرين في حضارات العالم الرئيسية.

في صدام الحضارات، سوف تتساند أوروبا وأمريكا معًا، أو تتساند كلٌّ منهما على حدة. في الصدام الأكبر، الصدام الكوني «الحقيقي» بين الحضارة والبربرية، حضارات العالم الكبرى بكل إنجازاتها في الدين والأدب والفن والفلسفة والعلم والتكنولوجيا والأخلاق والتراحم … سوف تتساند أيضًا معًا، أو تتساند فرادى.

في الحقبة الناشئة، صدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديدًا للسلام العالمي، والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم على الحضارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤