مذكرات نيكول

١

٢٩ ديسمبر ٢٢٠٠

أول من أمس، في الساعة العاشرة وأربع وأربعين دقيقة بتوقيت جرينتش، أطلت سيمون تياسو ويكفيلد على الكون. لقد كانت تجربة مذهلة. كنت أعتقد أنني شعرت بمشاعر جياشة من قبل، ولكن الأحاسيس التي اعتملت في نفسي على مدار حياتي لم يبلغ أيٌّ منها القوة التي بلغها إحساسي بالفرح والارتياح عندما سمعت أخيرًا أول صرخة تطلقها سيمون؛ ومن ذلك: مشاعري تجاه وفاة أمي، وفوزي بالميدالية الذهبية الأوليمبية في لوس أنجلوس، والست والثلاثون ساعةً التي قضيتها مع الأمير هنري، وحتى مولد جنيفياف على مرأى من والدي الذي ظل ساهرًا في المستشفى الواقع في مدينة تور.

كان مايكل قد توقع أن تولد الطفلة في يوم عيد الميلاد. وقال بأسلوبه المحبب المعهود إنه يؤمن بأن الله «سيجعل لنا آية» بأن يأتي بطفلنا المولود في الفضاء في اليوم الذي يؤمن أن المسيح قد وُلد فيه. هنا سخِر ريتشارد كما يفعل زوجي دائمًا عندما تتقد حماسة مايكل الدينية. ولكن بعد أن شعرتُ بأول موجة من الانقباضات القوية عشية عيد الميلاد أوشك ريتشارد نفسه أن يصبح مؤمنًا.

كان نومي في الليلة السابقة لعيد الميلاد متقطعًا. وقبل أن أستيقظ، رأيت حلمًا عميقًا واضحًا كفلق الصبح. رأيت فيه أنني كنت أسير بجوار بحيرتنا في بوفوا، ألعب مع بطتي دنوا ورفاقها من البط البري، عندما سمعتُ صوتًا يناديني. لم أستطع التعرف على الصوت، ولكنني كنت على يقين من أن المتحدث امرأة. أخبرتني أن الولادة ستكون صعبة للغاية، وأنني سأحتاج إلى كل ذرة من قوتي كي آتي بطفلتي الثانية إلى النور.

في يوم عيد الميلاد نفسه تبادلنا الهدايا البسيطة التي طلبها كلٌّ منا سرًّا من سكان راما، ثم بدأت أدرب مايكل وريتشارد على مواجهة سلسلة من الطوارئ المحتملة. أعتقد أن سيمون كانت ستولد بالفعل يوم عيد الميلاد لو لم يكن عقلي الواعي واعيًا إلى هذه الدرجة بأن كلا الرجلين غير مهيأين على الإطلاق لمساعدتي إذا ما حدثت مشكلة كبيرة. وربما تكون إرادتي وحدها هي التي تسببت في تأخير ميلاد الطفلة يومين.

ومن بين الطوارئ التي ناقشناها يوم عيد الميلاد احتمال أن يكون وضع الطفل مقلوبًا. منذ شهرين، عندما كان لطفلتي المنتظرة حرية الحركة في رحمي، كنت متأكدة تمامًا من أن رأسها إلى أسفل. ولكني أعتقد أنها انقلبت في الأسبوع الأخير. كان تفسيري صحيحًا نسبيًّا. فقد تمكنت من النزول إلى قناة الولادة برأسها، غير أن وجهها كان متجهًا إلى أعلى باتجاه معدتي، وبعد موجة الانقباضات الشديدة الأولى، عَلِقت مقدمةُ رأسِها الصغير بتجويف الحوض في وضع صعب.

لو كنا في مستشفى على كوكب الأرض، لكان الأرجح أن يجري الطبيب عملية قيصرية، ولأصبح بالتأكيد على استعداد لمواجهة إجهاد الجنين، ولشرع في التدخل بالأدوات الجراحية الآلية في وقت مبكر لمحاولة قلب رأس سيمون قبل أن تنحشر وتصبح في هذا الوضع المؤلم.

قرب النهاية، أصبح الألم شديدًا. حاولت أن أصرخ بالتوجيهات إلى مايكل وريتشارد في اللحظات التي تفصل بين الانقباضات الشديدة التي تدفعها باتجاه عظامي الصلبة. كان ريتشارد عديم النفع تقريبًا. إذ لم يستطع التعامل مع موقف المخاض (أو «الورطة»، كما أطلق عليها لاحقًا)، كما لم يستطع المساعدة في إجراء شق جراحي لتوسيع مخرج الولادة، أو في استخدام ملقط الولادة الذي أحضرناه من راما. أما مايكل — باركه الرب — فقد كافح بشهامة ليتبع تعليماتي التي كانت في بعض الأحيان غير واضحة وجبينه يتصبب عرقًا رغم برودة الغرفة. فالتقط المشرط من علبة أدواتي واستخدمه ليشق فتحةً أوسع في جسدي، وبعد لحظة من التردد بسبب رؤية ذلك القدر الهائل من الدماء، عثر على رأس سيمون باستخدام ملقط الولادة. ونجح بطريقة ما — في محاولته الثالثة — في أن يُعيدها إلى قناة الولادة وفي أن يقلبها حتى تصبح الولادة ممكنة.

أطلق الرجلان صيحةً عندما ظهرت سيمون في فتحة المهبل. ظللتُ أركز على نمط تنفسي، وكلي خوف من أن أفقد الوعي. ورغم مداهمة الألم الشديد لي، فقد أطلقتُ بدوري صرخةً عاليةً عندما اندفعت سيمون بفعل الانقباضة القوية التالية لتتلقفها يدا مايكل. كانت مهمة قطع الحبل السري من نصيب ريتشارد بصفته والد الطفلة. وعندما انتهى، رفع مايكل سيمون لأراها. وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع: «إنها فتاة.» ثم وضعها برفق على بطني فاعتدلتُ قليلًا لأراها. كان أول انطباع أخذته هو أنها تشبه والدتي تمامًا.

أجبرت نفسي على أن أبقى يقظة حتى أُزيلَت المشيمة وحتى أنهَيتُ — بمساعدة مايكل — خياطة الجروح التي فتحها مايكل بالمشرط. ثم انهرت. لا أذكر الكثير من التفاصيل المتعلقة بالساعات الأربع والعشرين التي تلت ذلك. كنت متعبة جدًّا من المخاض والوضع (كانت الانقباضات تحدث كل خمس دقائق طيلة إحدى عشرة ساعة قبل أن تولد سيمون فعلًا) حتى إنني كنت أنام كلما أُتيحَت لي الفرصة. أقبلت ابنتي الجديدة على الرضاعة دون أن يستحثها أحد على ذلك، حتى إن مايكل يؤكد أنها رضعت مرة أو مرتين وأنا شبه نائمة. وأصبح اللبن يندفع في ثديي فور أن تبدأ سيمون في الرضاعة. وعندما تنتهي كان يبدو عليها الشبع. وسرَّني أن لبني كفاها؛ إذ إنني كنت خائفة من أن أواجه معها نفس المشكلة التي واجهتها مع جنيفياف.

كلما استيقظت وجدت أحد الرجلين بجواري. كانت ابتسامات ريتشارد دائمًا ما تبدو مفتعلة بعض الشيء، ولكنني كنت أقدرها على الرغم من هذا. أما مايكل فكان يسرع بوضع سيمون في يدي أو عند ثديي عندما أستيقظ. كان يمسكها بطريقة مريحة حتى وهي تبكي ويظل يتمتم: «إنها جميلة».

والآن، تنام سيمون بجواري ملفوفة بشيء يشبه البطانية صنعه سكان راما (إنه لفي غاية الصعوبة وصف الأقمشة، بخاصة، باستخدام كلمات تصف النوعية مثل «ناعم»، على نحو يمكن أن يفهمه مضيفونا كميًّا). إنها تشبه والدتي بالفعل. فلون بشرتها أسمر، ربما أشد سمرةً من بشرتي، وشعرها أسود فاحم. ولون عينيها بني داكن. ونظرًا إلى أن رأسها لا يزال مخروطيًّا مشوَّهًا بفعل الولادة الصعبة، ليس من السهل وصف سيمون بالجميلة. ولكن مايكل محق بالطبع. إنها فائقة الجمال. تستطيع عيناي أن تريا بسهولةٍ الجمال الكامن في أعماق هذا المخلوق الضعيف الذي يميل لونه إلى الحمرة ويتنفس بسرعة شديدة. مرحبًا بكِ في عالمنا يا سيمون ويكفيلد.

٢

٦ يناير ٢٢٠١

مر عليَّ يومان حتى الآن وأنا مكتئبة. وكذلك متعبة، أوه، متعبة جدًّا. ومع إدراكي أنني أمرُّ بحالة عادية من حالات اكتئاب ما بعد الولادة، فإنني عجزت عن التخفيف من شعوري بالاكتئاب.

كان هذا الصباح هو الأسوأ. استيقظت قبل ريتشارد واستلقيت في هدوء على الجزء الخاص بي من الفراش. وألقيت نظرة على سيمون التي كانت نائمة في سلام في مهدها الموضوع بمحاذاة الحائط. وعلى الرغم من إحساسي بالحب تجاهها، لم أستطع أن أتصور أفكارًا إيجابية عن مستقبلها. فقد انكسرت أجنحة النشوة التي رفرفت على مولدها واستمرت مدة اثنتين وسبعين ساعةً. وظل سيلٌ متصل من الأفكار اليائسة والأسئلة التي لا إجابة لها يجري في عقلي. تُرى، كيف ستكون حياتك يا صغيرتي سيمون؟ كيف يمكننا، أنا ووالدك، أن ننهض بعبء تأمين السعادة لك؟

ابنتي الحبيبة، إنك تعيشين مع والديك وصديقهما المخلص مايكل أوتول في ملجأ تحت الأرض على متن سفينة فضاء عملاقة لا تنتمي إلى كوكب الأرض. والثلاثة الراشدون الذين ستعرفينهم على مدار حياتك جميعهم رواد فضاء من كوكب الأرض، وهم من أفراد طاقم بعثة نيوتن التي أُرسلت منذ حوالي عام لاستكشاف عالَم أسطواني صغير اسمه راما. وكانت والدتك ووالدك والجنرال أوتول هم البشر الوحيدون الباقون على متن السفينة الفضائية عندما حولت راما مسارها فجأة لتتفادى الإبادة بفعل قاذفات فالنكس النووية التي أطلقتها الأرض المصابة بجنون الارتياب.

وفوق ملجئنا، تقع مدينة على جزيرة فيها ناطحات سحاب غريبة نسميها نيويورك. وهذه المدينة محاطة ببحر متجمد يطوق مركبة الفضاء الضخمة هذه تطويقًا كاملًا ويقسمها نصفين. في هذه اللحظة، نحن، وفقًا لحسابات والدك، في مدار كوكب المشتري (مع أن هذا الكوكب نفسه، والذي هو عبارة عن كرة غازية هائلة، يقع على الجانب الآخر من الشمس بمسافة شاسعة) سائرين في مدار قطع زائد سيلقي بنا في نهاية المطاف خارج المجموعة الشمسية بأسرها. نحن لا نعرف إلى أين نحن سائرون. ولا نعرف من صنع هذه السفينة أو لماذا صنعها. كل ما نعرفه هو أن هناك سكانًا آخرين على متنها، ولكن ليس لدينا فكرة عن المكان الذي جاءوا منه، ولدينا من الأسباب ما يجعلنا نشك في أن بعضهم على الأقل قد يكونون معادين لنا.

ظلت أفكاري تسير على نفس الوتيرة مرارًا وتكرارًا على مدى اليومين الماضيين. وفي كل مرة أتوصل إلى نفس النتيجة المحبِطة، وهي أنه ليس من المُغتفر أننا — باعتبارنا بالغين ناضجين — جئنا بهذا المخلوق الضعيف البريء إلى بيئة لا نفهم عنها إلا أقل القليل وليس لنا عليها أية سيطرة.

في ساعة مبكرة من صباح اليوم، فور أن أدركت أن اليوم هو عيد ميلادي السابع والثلاثين، بدأت أبكي. في البداية كنت أبكي في صمت، بلا صوت، ولكن عندما بدأت تتدفق إلى عقلي ذكريات جميع أعياد ميلادي السابقة، حل النحيب محل البكاء الصامت. إذ كنت أشعر بحزن شديد يعتصر قلبي، لا على سيمون وحسب، وإنما على نفسي أيضًا. وعندما تذكرت الكوكب الأزرق الرائع الذي جئنا منه ولم أستطع أن أتخيل وجوده في مستقبل سيمون، ظللت أسأل نفسي نفس السؤال. لماذا أنجبت طفلةً ونحن في خضم هذه الورطة؟

ها هي تلك الكلمة ثانيةً. إنها إحدى الكلمات المفضلة لريتشارد. ففي المفردات التي عادةً ما يستخدمها، تأتي كلمة «ورطة» في استخدامات لا تحصى. فهو يشير بكلمة «ورطة» إلى كل ما هو فوضوي أو خارج عن السيطرة، سواء أكان مشكلة فنية أم أزمة عائلية (مثل زوجة تنتحب وهي تعاني من نوبة حادة من نوبات اكتئاب ما بعد الولادة).

لم يساعدني أيٌّ من الرجلين كثيرًا هذا الصباح. ولم تفلح محاولاتهما العقيمة للتسرية عني إلا في زيادة غمي. وإني لأسأل نفسي: لماذا يفترِض الرجل على الفور كلما واجه امرأةً حزينةً أن لحزنها صلة به على نحو ما؟ في الحقيقة، أنا لست عادلة في هذا. فمايكل رُزق ثلاثة أطفال وعلى دراية بعض الشيء بالشعور الذي أعايشه. فكان غالبًا ما يسألني عن نوع المساعدة التي يمكن أن يقدمها لي. أما ريتشارد، فقد تأثر بدموعي كل التأثر. وأصيب بالرعب عندما استيقظ على صوت نحيبي. وظن في بادئ الأمر أنني أعاني من ألم عضوي رهيب. لكنه اطمأن قليلًا عندما أوضحت له أنني فقط مكتئبة.

وبعد أن تيقن ريتشارد من أنه لا ذنب له في حالتي المزاجية، استمع في صمت إلى حديثي عن مخاوفي بشأن مستقبل سيمون. أقر بأنني كنت في حالة اهتياج إلى حدٍّ ما، ولكن لا يبدو أنه استوعب أيًّا مما قلت. وأخذ يردد نفس العبارة القائلة بأن مستقبل سيمون ليس أكثر غموضًا من مستقبلنا، معتقدًا أن اكتئابي ينبغي أن يزول على الفور، ما دام لا يوجد أي سبب منطقي لانزعاجي. وفي النهاية، وبعد أكثر من ساعة عجزنا فيها عن التواصل السليم، توصل ريتشارد إلى نتيجة صحيحة هي أنه غير ذي نفع، وقرر أن يتركني لحالي.

(بعد مرور ست ساعات.) أشعر بتحسن الآن. بقيت ثلاث ساعات على انقضاء عيد ميلادي. أقمنا حفلًا صغيرًا الليلة. انتهيت لتوِّي من إرضاع سيمون وها هي ترقد بجواري. تركنا مايكل منذ حوالي خمس عشرة دقيقةً؛ ليذهب إلى حجرته على الجانب المقابل من الردهة. استغرق ريتشارد في النوم في أقل من خمس دقائق بعد أن وضع رأسه على الوسادة. إذ قضى اليوم كله في العمل على تلبية طلبي بالحصول على حفاضات محسنة.

يستمتع ريتشارد بإمضاء وقته في الإشراف على تفاعلاتنا مع سكان راما أو مع أيٍّ ما كان يشغِّل أجهزة الكمبيوتر التي نُفعِّلها بالضغط على لوحة المفاتيح الموجودة في حجرتنا، وفي عمل قوائم بتلك التفاعلات. لم نرَ قط أي شخص أو أي شيء في النفق المظلم الذي يقع خلف الشاشة السوداء مباشرة. ولذا لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت توجد هناك بالفعل مخلوقات تستجيب لمطالبنا وتأمر مصانعها بأن تصنع حاجياتنا الغريبة، غير أنه من المناسب أن نشير إلى مضيفينا المحسنين إلينا باعتبارهم سكان راما.

عملية التواصل معهم معقدة ومباشرة في آنٍ واحد. هي معقدة لأننا نتحدث معهم باستخدام صور تظهر على الشاشة السوداء، وصيغ كمية دقيقة بلغة الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وهي مباشرة لأن الجمل الفعلية التي ندخلها باستخدام لوحة المفاتيح ذات تركيب بسيط بساطة مدهشة. وأكثر ما نستخدمه من الجمل هو: «نود أن نحصل على» أو «نريد»، يتبعها وصفٌ مفصل لما نود أن يزودونا به (بالطبع، لا نستطيع أن نعرف بأية حال الترجمة الدقيقة لطلباتنا، فنحن نفترض أننا نستخدم صيغة مهذبة، ولكن يُحتمل أن التعليمات التي نصدرها تظهر لهم في صورة أوامر وقحة تبدأ ﺑ «أعطني»).

الجزء الأكثر صعوبةً في هذه العملية هو الجزء المتعلق بالكيمياء. فالأشياء البسيطة التي نستخدمها يوميًّا كالصابون والورق والزجاج معقدة كيميائيًّا، ويصعب جدًّا وصفها من حيث العدد ونوع المركبات الكيميائية. وفي بعض الأحيان، يكون علينا أيضًا أن نصف عملية التصنيع بما فيها من أنظمة حرارية؛ وإلا فسنحصل على شيء لا يحمل أدنى شبهٍ بما طلبناه، وهذا ما اكتشفه ريتشارد في مرحلة مبكرة من عمله على لوحة المفاتيح والشاشة السوداء. وتتضمن عملية الطلب قدرًا كبيرًا من المحاولة والخطأ. ولم تكن مجدية على الإطلاق في البداية. وأخذنا نتمنى، نحن الثلاثة، لو أننا كنا نذكر المزيد من الكيمياء التي درسناها في الكلية. في الواقع، كان عجزنا عن تحقيق تقدم مرضٍ في تزويد أنفسنا بالضروريات اليومية أحدَ العوامل التي حفزت على القيام ﺑ «الرحلة العظيمة» — كما يحب ريتشارد أن يطلق عليها — التي قام بها الرجلان منذ أربعة أشهر.

في هذا الوقت كانت الحرارة المحيطة، في الجانب الأعلى من نيويورك وفيما تبقى من راما، قد وصلت بالفعل إلى خمس درجات تحت الصفر، وكان ريتشارد قد أكد أن البحر الأسطواني قد تجمد مرةً أخرى. بدأ يساورني القلق من أننا قد لا نصبح على استعداد كافٍ لمولد الطفل. كنا نستغرق وقتًا طويلًا أكثر مما ينبغي في القيام بكل شيء. فعلى سبيل المثال، استغرقت محاولة طلب وتركيب حمام صالح للاستخدام شهرًا كاملًا، ولم تفِ النتيجة إلا بالحد الأدنى من المراد حتى الآن. في أغلب الأحيان، كانت مشكلتنا الأساسية تتمثل في أننا نمد مضيفينا بمواصفات غير كاملة. غير أنه في بعض الأحيان تأتي المشكلة من جانب سكان راما أنفسهم. فكثيرًا ما أخبرونا — باستخدام لغتنا المشتركة، لغة الرموز الحسابية والكيميائية — أنهم لن يستطيعوا إتمام تصنيع شيء معين في غضون الوقت الذي حددناه.

على أية حال، أعلن ريتشارد ذات صباح أنه سيترك ملجأنا ويحاول أن يصل إلى المركبة العسكرية التي شاركت في بعثة نيوتن والتي لم تتحرك من مكانها. كان هدفه المعلن هو استعادة العناصر الأساسية لقاعدة البيانات العلمية المخزنة في أجهزة الكمبيوتر بالمركبة (مما سيساعدنا مساعدةً كبيرةً في صياغة طلباتنا لسكان راما)، ولكنه أقر أيضًا بأنه يتحرق للحصول على بعض الطعام ذي الطعم المستساغ. لقد نجحنا في أن نبقى على قيد الحياة وبصحة جيدة بفضل الأطعمة المعدة من مكونات كيميائية التي وفرها لنا سكان راما. غير أن معظم الطعام كان إما لا طعم له أو كريه المذاق.

إحقاقًا للحق أقول إن مضيفينا كانوا يلبون طلباتنا كما يجب. ومع أننا كنا نعرف كيف نصف المحتويات الكيميائية الأساسية التي تحتاجها أجسادنا معرفةً عامةً، فإن أيًّا منا لم يدرس من قبل بالتفصيل العملية الحيوية الكيميائية المعقدة التي تحدث عندما نتذوق شيئًا ما. وفي تلك الأيام الأولى، كان الأكل ضرورة، لا متعة على الإطلاق. وغالبًا ما كان يصعب علينا، إن لم يكن يستحيل، بلع «المادة اللزجة». وحدث أكثر من مرة أن أصابنا الغثيان بعد تناول الوجبات.

أمضينا حوالي يوم في مناقشة الحجج التي تؤيد الرحلة العظيمة والحجج التي تعارضها. لقد وصل حملي إلى المرحلة التي تصاحبها الإصابة بالحموضة، وكنت أشعر بعدم الارتياح. ومع أنني لم أمِل إلى فكرة البقاء بمفردي في ملجئنا بينما يشق الرجلان طريقهما في الثلج، ويحددان موقع مركبة استكشاف الأجسام الفضائية، ويعبران «السهل الرئيسي»، ثم يقطعان عدة كيلومترات وصولًا إلى محطة الترحيل الرئيسية؛ فقد سلمت بأنهما سيساعدان بعضهما من عدة نواحٍ. واتفقت معهما على أن قيام شخص واحد فقط بالرحلة يعد من قبيل التهور.

كان ريتشارد متأكدًا تمامًا من أن مركبة الاستكشاف ستكون صالحة للعمل ولكنه لم يكن متفائلًا بالقدر نفسه بشأن التلفريك. وناقشنا باستفاضةٍ الأضرار التي ربما تكون قد لحقت بسفينة نيوتن العسكرية بعد ما تعرضت له وهي خارج راما من انفجارات نووية وقعت خارج الدرع الواقي. خمن ريتشارد أنه ما دام لا توجد أضرار مرئية في الهيكل (فقد شاهدنا صور سفينة نيوتن العسكرية على الشاشة السوداء عدة مرات خلال الشهور التي مرت منذ الانفجارات وحتى وقتنا هذا، وذلك باستغلال قدرتنا على الوصول إلى المعلومات التي جاءت بها المستشعرات التي صنعها سكان راما)؛ فإنه من المحتمل أن تكون راما نفسها قد حمت السفينة من كل الانفجارات النووية دون قصد، ونتيجةً لهذا قد لا يكون الجزء الداخلي من السفينة قد أصيب بأي ضرر ناتج عن الإشعاع.

لم أكن متفائلة بشأن الاحتمالات. فقد عملت مع المهندسين البيئيين في وضع تصميمات الدروع الواقية لسفن الفضاء وكنت على وعي بمدى قابلية كل نظام من أنظمة نيوتن الفرعية للتأثر بالإشعاع. ومع أنني كنت أعتقد أن هناك احتمالًا كبيرًا بأن تكون قاعدة البيانات العلمية سليمة (فمعالجها وذاكرتها مصنوعان من أجزاء معالجة لمقاومة الإشعاع)، كنت تقريبًا متأكدة من أن المخزون الغذائي سيكون ملوثًا. كنا دائمًا على علم بأن أغذيتنا المعلبة مخزنة في موقع غير محمي نسبيًّا. وقبل الانطلاق، في واقع الأمر، ثارت بعض المخاوف من أن حدوث توهج شمسي غير متوقع قد يُنتج إشعاعًا يكفي لجعل الطعام غير آمن.

لم أخَف من الإقامة بمفردي في المدة التي سيمضيها الرجلان في رحلة الذهاب والعودة إلى السفينة العسكرية، والتي قد تستغرق بضعة أيام أو أسبوعًا. وإنما أثار مخاوفي احتمال عدم عودة أحد الرجلين أو كليهما. وهذا الخوف لا يتعلق بالأوكتوسبايدر أو أي مخلوقات فضائية أخرى قد تكون على متن هذه السفينة الفضائية الضخمة معنا. إذ كانت هناك أمور بيئية نجهلها يجب أن تُؤخَذ أيضًا بعين الاعتبار. ماذا سيحدث لو بدأت راما مناورة فجأة؟ ماذا سيحدث لو وقع أي حدث مشئوم آخر منعهما من العودة إلى نيويورك؟

أكد ريتشارد ومايكل لي أنهما لن يقوما بأية مجازفات، وأنهما لن يقوما بأي عمل سوى الذهاب إلى السفينة العسكرية والعودة منها. ورحلا مباشرةً بعد فجر أحد أيام راما التي يبلغ طولها ثمانيًا وعشرين ساعة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أمكث فيها بمفردي منذ إقامتي الطويلة وحدي في نيويورك التي بدأت عندما سقطت في الحفرة. بالطبع، لم أكن وحيدة فعلًا. فقد كنت أشعر بحركات سيمون بداخلي. أن تحمل طفلًا بداخلك فذاك شعور مذهل. ففكرة أن بداخلك روحًا حية أخرى تبدو لي رائعة إلى حد لا يوصف. ولا سيما عندما تكون هذه الروح طفلًا ينشأ من جيناتك أنت بصفة أساسية. كم يؤسفني أن الرجال لا يستطيعون خوض تجربة الحمل! فلو أتيح لهم ذلك، لاستطاعوا فهم سبب قلقنا الكبير نحن معشر النساء بشأن المستقبل.

بحلول اليوم الأرضي الثالث بعد رحيل الرجلين، بدأت أمر بحالة سيئة من رهاب الاحتجاز. قررت أن أخرج من ملجئنا وأن أقوم بنزهة طويلة حول نيويورك. كان الظلام يخيم على راما، ولكنني كنت أشعر بضجر شديد، فبدأت المشي على أية حال. كان الجو باردًا جدًّا. فأغلقت سترة الطيران الثقيلة حول بطني المنتفخة. لم يمضِ على سيري سوى دقائق قليلة عندما سمعت صوتًا يأتي من بعيد. سرت قشعريرة في بدني وتوقفت على الفور. ويبدو أن الأدرينالين اندفع إلى سيمون هي الأخرى إذ أخذت تركل بقوة وأنا أُرهف سمعي ترقبًا لسماع هذا الصوت. وبعد حوالي دقيقة، سمعته مرة أخرى، كان صوت فُرش تمرُّ على سطح معدني يصحبه طنين ذو تردد عالٍ. وكان الصوت لا تخطئه أذن؛ لا بد وأن الأوكتوسبايدر كان يتجول في نيويورك. رجعت بسرعة إلى الملجأ وانتظرت طلوع الفجر على راما.

عندما ظهر الضوء رجعت إلى نيويورك وتجولت فيها. وعندما كنت في جوار الورشة الغريبة حيث سبق أن وقعت في الحفرة، بدأت الشكوك تساورني بشأن استنتاجنا بأن الأوكتوسبايدر لا يظهر إلا ليلًا. كان ريتشارد قد أكد من البداية على أنها مخلوقات ليلية. وأثناء أول شهرين مرَّا بعد أن تجاوزنا الأرض، وقبل أن نبني الشبكة الواقية التي تمنع الزوار غير المرحب بهم من النزول إلى ملجئنا، نشر ريتشارد سلسلة من أجهزة الاستقبال البدائية (إذ لم يكن قد صقل بعدُ قدرته على وصف الأجزاء الإلكترونية لسكان راما وصفًا تفصيليًّا) حول غطاء ملجأ الأوكتوسبايدر وأكد أنه، هو على الأقل، مقتنع بأنهم لا يظهرون على السطح إلا ليلًا. وفي النهاية، اكتشف الأوكتوسبايدر كل أجهزة المراقبة التي نشرها وحطموها، غير أن هذا لم يحدث إلا بعد حصول ريتشارد على ما يعتقد أنه بيانات حاسمة تؤيد فرضيته.

ومع ذلك، لم يخفف استنتاج ريتشارد من قلقي عندما سمعت فجأة صوتًا عاليًا وغريبًا تمامًا يأتي من اتجاه ملجئنا. في هذا الوقت كنت واقفة في الورشة أحدق في الحفرة التي كدت أموت فيها منذ تسعة أشهر. زاد خفقان قلبي واقشعرَّ جلدي على الفور. وأكثر ما أزعجني هو أن الضجة كانت قادمة من مصدر يقع بيني وبين منزلي في راما. تسللت ببطء تجاه الصوت المتقطع في حذر وأنا أحدق حول المباني في كل خطوة قبل أن أتقدم. وبعد فترة طويلة، اكتشفت مصدر الصوت؛ إذ كان ريتشارد يقطع أجزاءً من شبكة باستخدام منشار كهربائي صغير أحضره من نيوتن.

في الواقع، كان يتجادل هو ومايكل عندما وجدتهما. كانت هناك شبكة صغيرة نسبيًّا — تتكون من حوالي خمسمائة عقدة لها أبعاد مربعة ويبلغ طول ضلعها حوالي ثلاثة أمتار — مثبتة على إحدى السقائف المنخفضة الغريبة الموجودة على بعد مائة متر شرقي فتحة ملجئنا. كان مايكل يشكك في الحكمة من الهجوم على الشبكة بمنشار كهربائي. وعندما رأياني، كان ريتشارد يبرر ما يفعله بسرد مزايا المادة المطاطية التي صُنعت منها الشبكة.

تعانقنا وتبادلنا القبل لعدة دقائق ثم بدآ يخبراني عن الرحلة العظيمة. لم تكن الرحلة شاقة. وعملت مركبة الاستكشاف والتلفريك بلا صعوبة. كشفت آلاتهما عن أن المركبة العسكرية كانت تحتوي على قدر هائل من الإشعاع؛ لذا لم يمكثا طويلًا هناك ولم يحضرا معهما أيًّا من الطعام. ولكن قاعدة البيانات العلمية كانت في حالة جيدة. كان ريتشارد قد استخدم روتينات ضغط البيانات الفرعية الخاصة به لاستخراج أغلب ما في قاعدة البيانات ووضعها في مكعبات متوافقة مع أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بنا. كما أحضرا حقيبة ظهر كبيرة مليئة بالأدوات، مثل المنشار الكهربائي، التي كانا يريان أنها ستفيد في إتمام تجهيزات المعيشة الخاصة بنا.

عمل ريتشارد ومايكل بلا توقف منذ ذلك الحين وحتى مولد سيمون. أصبح طلب ما نحتاجه من سكان راما أكثر سهولة بعد استخدام المعلومات الكيميائية الإضافية الموجودة في قاعدة البيانات. وقد جربت رش بعض الإسترات غير المضرة وغيرها من المواد العضوية البسيطة على الطعام مما أدى إلى بعض التحسن في طعمه. أنهى مايكل إعداد حجرته الموجودة في الجانب المقابل من الممر، وجرى تركيب مهد سيمون، وتحسنت حماماتنا تحسنًا ملحوظًا. ومع أخذ كل القيود في الاعتبار، فإن ظروف معيشتنا الآن تعد مقبولة إلى حد بعيد. ربما في وقت قريب … ما هذا؟ إنني أسمع صوت بكاءٍ رقيق بجواري. حان وقت إطعام ابنتي.

•••

قبل أن تنقضي آخر ثلاثين دقيقة من عيد ميلادي، أريد أن أعود إلى ذكريات أعياد ميلادي السابقة التي أثارت اكتئابي هذا الصباح. لطالما كنت أرى أن عيد ميلادي هو أهم أحداث العام. صحيح أن فترة عيد الميلاد المجيد ورأس السنة تحتل مكانة خاصة، ولكن بطريقة مختلفة، فهي فترة احتفال يشارك فيها الجميع. أما عيد ميلاد شخص معين فيركز بطريقة مباشرة أكثر عليه. كنت دائمًا ما أستغل أعياد ميلادي للتأمل والتفكر في اتجاه حياتي.

إذا حاولتُ، سأتمكن على الأغلب من تذكر شيء خاص عن كل عيد ميلاد مر عليَّ منذ أن كنت في الخامسة من عمري. بالطبع، بعض الذكريات تكون مؤثرة أكثر من غيرها. هذا الصباح، أثار الكثير من صور الاحتفالات الماضية أحاسيس قويةً بالحنين إلى الماضي، والحنين إلى وطني وأسرتي. وفي ظل حالة الاكتئاب التي غمرتني، شكوت مرَّ الشكوى من عدم قدرتي على إضفاء النظام والأمان على حياة سيمون. ولكن حتى وأنا في خضم هذا الاكتئاب، وأنا أواجه كل هذا الغموض الذي يكتنف وجودنا هنا، لم أكن لأتمنى حقًّا ألا تأتي سيمون للحياة لتكون بجانبي. لا، فنحن مسافرتان تربطنا أوثق رابطة، وهي الرابطة التي تجمع بين أم وابنتها ونشتركان في أعجوبة الوعي التي نسميها الحياة.

كنت طرفًا في علاقة مماثلة من قبل، ليس فقط مع والدتي ووالدي، وإنما أيضًا مع ابنتي الأولى جنيفياف. ممممم! من الرائع أن صور والدتي لا تزال تبدو واضحة بشدة في مخيلتي. ومع أنها ماتت منذ سبعة وعشرين عامًا، عندما كنت في العاشرة من عمري، فإنها تركتني مع باقة من الذكريات الرائعة. آخر عيد ميلاد قضيته معها كان مميزًا جدًّا. ذهب ثلاثتنا إلى باريس بالقطار. كان والدي يرتدي بذلته الإيطالية الجديدة ويبدو وسيمًا للغاية. اختارت والدتي أن ترتدي أحد فساتينها الزاهية ذات الألوان المتعددة التي يرتديها أهل بلدها. وعادت أمي، بشعرها المصفف في طبقات ملتفة حول رأسها، إلى هيئة الأميرة السينوفوية التي كانت عليها قبل أن تتزوج والدي.

تناولنا العشاء في أحد المطاعم الراقية التي تقع في شارع متفرع من الشانزلزيه مباشرةً. ثم توجهنا إلى أحد المسارح حيث شاهدنا فرقةً كل أعضائها زنوج تؤدي مجموعة من الرقصات التي يرقصها سكان المناطق الغربية لأفريقيا. وبعد العرض، سُمِح لنا بالدخول إلى حجرات المسرح حيث عرَّفتني أمي على إحدى الراقصات، وكانت امرأة طويلة وجميلة، تتسم بشرتها بسَمار غير عادي. كانت تعود أصولها إلى ساحل العاج، وتربطها بأمي صلة قرابة بعيدة.

استمعت إلى الحوار الذي دار بينهما بلغة سينوفو القبلية وأنا أتذكر مقتطفات من تدريبي أمام جمعية بورو السرية قبل ثلاث سنوات، وتعجبت مجددًا من أن وجه أمي يصبح دائمًا معبرًا بدرجة أكبر عندما تكون وسط أهلها. ومع أن الأمسية سحرتني، فإنني لم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري وكنت أفضل أن أحظى بحفلة عيد ميلاد عادية مع أصدقاء من المدرسة. ونحن نستقل القطار في رحلة العودة إلى بيتنا في ضاحية شيلي-مازارن، لاحظت أمي أن الإحباط يرتسم على وجهي. وقالت: «لا تحزني يا نيكول، ففي العام القادم سنقيم لك حفلًا. لقد أردنا أنا ووالدك أن نستغل هذه الفرصة ونذكرك مرة أخرى بالنصف الآخر من تراثك. أنت مواطنة فرنسية عاشت حياتها كلها في فرنسا، ولكن جزءًا منك سينوفوي خالص تضرب جذوره بعمق في التقاليد القبَلية لغرب أفريقيا.»

في وقت مبكر من هذا اليوم، وأنا أتذكر رقصات ساحل العاج التي أدتها قريبة والدتي وزملاؤها، تصورت بعين الخيال للحظة أنني أدلف إلى مسرح جميل وابنتي سيمون ذات العشر سنوات بجواري؛ ولكن هذا الوهم سرعان ما تبدد. فلا توجد مسارح فيما وراء مدار المشتري. في الواقع، لن تتفهم ابنتي أبدًا المقصود بمفهوم المسرح. فالأمر برمته مربك.

ومن بين الأسباب التي دفعتني للبكاء صباح اليوم فكرة أن سيمون لن تتعرف على جدَّيها أبدًا، والعكس صحيح. إذ سيكونان شخصيتين خياليتين في نسيج حياتها، ولن تعرفهما إلا عن طريق الصور ومقاطع الفيديو فحسب. لن تحظى أبدًا بمتعة سماع صوت أمي المذهل. ولن ترى رقة وحنان الحب في عينَي والدي أبدًا.

بعد وفاة والدتي، كان والدي حريصًا بشدة على أن يجعل كل عيد من أعياد ميلادي ذا مذاق خاص. ففي عيد ميلادي الثاني عشر، بعد أن انتقلنا إلى الفيلا في بوفوا مباشرةً، تمشينا معًا تحت الثلج المتساقط بين الحدائق المقلمة في قصر شاتو دي فيلاندري. في ذلك اليوم وعدني بأن يقف دائمًا إلى جواري عندما أحتاجه. شددت قبضتي على يده ونحن نسير بمحاذاة سياج الأشجار. وبكيت ذلك اليوم أيضًا وأنا أصرح له (ولنفسي) بمدى خوفي من أن يتركني هو الآخر. فضمني إلى صدره وطبع قبلة على جبيني. ولم يُخلف وعده قط.

في العام الماضي فقط، بدأ عيد ميلادي في قطار من القطارات المتوجهة إلى منتجعات التزلج على الثلج كان ينطلق بالقرب من الحدود الفرنسية، وهي الرحلة التي أراها الآن وكأنها عمر آخر. كنت لا أزال مستيقظة عند منتصف الليل وأنا أستعيد لحظات لقائي بهنري عند الظهيرة في الشاليه الذي يقع في طرف فايسفلويوخ. لم أخبره أنه أبو جنيفياف، عندما استفسر عن ذلك بطريقة غير مباشرة؛ إذ أبيت أن أريحه بإطلاعه على هذا.

ولكنني أتذكر أنني تساءلت وأنا في القطار: هل من العدل أن أخفي عن ابنتي أن والدها هو ملك إنجلترا؟ هل احترامي لذاتي وكبريائي بلغا من الأهمية ما يمنحني مبررًا لمنع ابنتي من معرفة أنها أميرة؟ كنت أدير هذين السؤالين في رأسي وأنا أحدق مشدوهة في الليل البادي من النافذة، وعندئذٍ ظهرت جنيفياف في مكان نومي في القطار، في اللحظة المناسبة. قالت بابتسامة عريضة: «كل عام وأنت بخير يا أمي.» وحضنتني. كدت أن أخبرها بشأن أبيها. أنا متأكدة من أنني كنت سأفعل هذا إذا ما علمت بما سيحدث لبعثة نيوتن. أفتقدك يا جنيفياف. كنت أتمنى لو حظيت بتوديعك وداعًا مناسبًا.

كم يحيرني أمر الذكريات! هذا الصباح، وأنا في حالة اكتئاب، أدى سيل صور أعياد الميلاد السابقة الذي تدفق في عقلي إلى زيادة إحساسي بالعزلة والضياع. الآن، وأنا في حالة نفسية أفضل، أجد نفسي أستمتع بنفس تلك الذكريات. في هذه اللحظة لم تعد تحزنني فكرة أن سيمون لن تستطيع أن تعايش ما عايشتُه أنا. فأعياد ميلادها ستكون مختلفة تمامًا عن أعياد ميلادي وستكون فريدة بالنسبة إلى حياتها. من واجبي ومن حقي أن أسعى لأن تكون أعياد ميلادها مميزة يرفرف عليها الحب، قدر المستطاع.

٣

٢٦ مايو ٢٢٠١

بدأت سلسلة من الأحداث الغريبة تقع في راما منذ خمس ساعات. كنا نجلس معًا في ذلك الوقت نتناول وجبة العشاء المكونة من اللحم البقري المشوي والبطاطس والسلطة (أطلقنا اسمًا كوديًّا على كلٍّ من المركبات الكيميائية التي نحصل عليها من سكان راما في إطار محاولة لإقناع أنفسنا بأن ما نأكله لذيذ، وهذه الأسماء مستقاة إلى حدٍّ ما من نوع التغذية الذي تمنحه لنا هذه المركبات؛ لذا فإن «اللحم البقري المشوي» غني بالبروتين، و«البطاطس» غنية بالكربوهيدرات بصفة أساسية … إلخ) عندما سمعنا صفيرًا واضحًا يأتي من بعيد. توقفنا جميعًا عن الأكل، وارتدى الرجلان ملابس ثقيلة ليصعدا إلى أعلى. عندما استمر الصفير، أمسكت بسيمون وملابسي الثقيلة وغطيت الرضيعة بعدة بطانيات، وخرجت وراء مايكل وريتشارد في الجو البارد.

كان الصفير أعلى كثيرًا على السطح. كنا نظن أنه قادم من الجنوب، ولكن لأن الظلام كان يلف راما، انتابنا خوف من الابتعاد عن ملجئنا. ولكن بعد دقائق قليلة، بدأنا نرى ومضات من الضوء تنعكس على أسطح ناطحات السحاب المحيطة المغطاة بالزجاج، فلم نستطع أن نتمالك فضولنا. تسللنا بحذر تجاه الشاطئ الجنوبي للجزيرة حيث لا توجد مبانٍ تحجب عنا الأبراج المهيبة في التجويف الجنوبي من راما.

عندما وصلنا إلى شاطئ البحر الأسطواني، كان يُقدم عرض أضواء مدهش. ظلت أقواس النور المتعددة الألوان التي تتطاير حولنا وتضيء الأبراج العملاقة في التجويف الجنوبي لأكثر من ساعة. حتى الرضيعة سيمون سحرتها الأنوار الصفراء والزرقاء والحمراء وهي تتراقص بين الأبراج في الظلام على شكل قوس قزح. عندما انتهى العرض فجأة، أضأنا مصابيحنا اليدوية وعدنا ثانيةً إلى ملجئنا.

بعد دقائق قليلة من المشي قطعت حديثنا المتقد صرخة طويلة قادمة من بعيد، وأدركنا أنها بالتأكيد صادرة عن أحد المخلوقات الطائرة التي كانت قد ساعدتني أنا وريتشارد في الهرب من نيويورك العام الماضي. توقفنا فجأة وأنصتنا. انتابتنا أنا وريتشارد حالة من الإثارة الشديدة لأننا لم نرَ أو نسمع أيًّا من المخلوقات الطائرة منذ أن عدنا إلى نيويورك لنحذر سكان راما من الصواريخ النووية المهاجمة. وقد سبق لريتشارد التوجه إلى ملجئها عدة مرات، غير أنه لم يلقَ أية استجابة عندما أخذ ينادي وهو يقف في الممر الرأسي الكبير. قال ريتشارد من شهر فقط إنه يعتقد أن المخلوقات الطائرة رحلت عن نيويورك بأسرها، ولكن الصرخة التي سمعناها في هذه الليلة تشير بوضوح إلى أن واحدًا على الأقل من أصدقائنا لا يزال موجودًا هنا.

في خلال ثوانٍ، وقبل أن تتاح لنا الفرصة لمناقشة ما إذا كان أحدنا سيسير في اتجاه الصرخة أم لا، سمعنا صوتًا آخر، صوتًا مألوفًا كالصوت الأول، وقد كان عاليًا بشدة بحيث أزعجنا جميعًا. لحسن الحظ لم يكن بيننا وبين ملجئنا. لففت ذراعَيَّ حول سيمون وعدوت بأقصى سرعة باتجاه البيت، وكدت أن أصطدم بالمباني مرتين على الأقل بسبب سرعتي وأنا أجري في الظلام. كان مايكل آخر من وصل. عندها كنت قد انتهيت من فتح الغطاء والشبكة. قال ريتشارد وهو يلهث وصوت الأوكتوسبايدر يرتفع شيئًا فشيئًا حتى عمَّ المكان: «يوجد الكثير منهم.» وسلط شعاع المصباح اليدوي على الممر الطويل الذي يؤدي إلى المنطقة التي تقع شرقيَّ ملجئنا، ورأينا جميعًا شيئين كبيرين داكنين يتجهان نحونا.

عادةً ما نخلد إلى النوم في غضون ساعتين أو ثلاث ساعات بعد تناول العشاء، ولكن الليلة كانت استثناء. فقد دب النشاط في ثلاثتنا بفعل عرض الضوء، وصرخة المخلوقات الطائرة، واللقاء غير المتوقع مع الأوكتوسبايدر الذي خرجنا منه سالمين. فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث. كان ريتشارد مقتنعًا بأن هناك حدثًا جللًا على وشك الوقوع. وذكَّرنا بأن مناورة الاصطدام بالأرض التي قامت بها راما كان قد سبقها هي الأخرى عرض ضوئي صغير في التجويف الجنوبي. وأضاف ريتشارد أنه في ذلك الوقت أجمع طاقم نيوتن على أن الغرض من العرض هو الإعلان عن أمرٍ ما أو ربما التحذير من خطر ما. وتساءل عن دلالة العرض الباهر الذي أُقيم الليلة.

أما عن مايكل، الذي لم يمكث في راما طويلًا قبل مرورها العابر بكوكب الأرض ولم يكن له أي احتكاك مباشر مع المخلوقات الطائرة أو الأوكتوسبايدر، فكان لأحداث الليلة تأثير كبير عليه. فعندما لمح المخلوقات ذات المجسات لمحةً عابرةً وهي قادمة تجاهنا في الممر تفهَّم بعض الشيء الرعب الذي كنت قد شعرت به أنا وريتشارد عندما كنا نتسلق بسرعة تلك النتوءات الغريبة هاربين من ملجأ الأوكتوسبايدر العام الماضي.

سألَنا مايكل الليلة قائلًا: «هل الأوكتوسبايدر هم سكان راما؟» وأضاف قائلًا: «إن كان هذا صحيحًا، فلماذا نفر منهم؟ لقد تطورت التكنولوجيا لديهم أكثر من التكنولوجيا لدينا كثيرًا حتى إن بوسعهم أن يفعلوا بنا ما يحلو لهم.»

أسرع ريتشارد بالإجابة قائلًا: «الأوكتوسبايدر ركاب في هذه المركبة مثلنا بالضبط. ومثل المخلوقات الطائرة. وهم يظنون أننا قد نكون سكان راما، ولكنهم ليسوا متأكدين. أما المخلوقات الطائرة فهي بمثابة لغز. بالتأكيد لا يمكن أن تكون مجرد نوع من أنواع المخلوقات التي تجوب الفضاء. فكيف جاءت على متن السفينة في المقام الأول؟ هل هي جزء من النظام البيئي الأصلي في راما؟»

ضممت سيمون بشدة غريزيًّا. فالأسئلة كثيرة جدًّا. والإجابات قليلة جدًّا. مرت بذهني ذكرى دكتور تاكاجيشي المسكين وهو محنط كسمكة ضخمة أو نمر ضخم، ومعروض في متحف الأوكتوسبايدر، وجعلتني تلك الذكرى أرتجف. وقلت بهدوء: «إذا كنا ركابًا، فإلى أين نحن ذاهبون؟»

تنهد ريتشارد. وقال: «كنت أقوم ببعض الحسابات. والنتائج ليست مشجعة. فمع أننا نسافر بسرعة كبيرة قياسًا بالشمس، فإن سرعتنا تافهة قياسًا بمجموعة النجوم القريبة منا. إذا لم يتغير مسارنا، فسنخرج من النظام الشمسي في الاتجاه العام لنجم برنارد. سنصل إلى مجموعة برنارد خلال عدة آلاف من السنوات.»

بدأت سيمون تبكي. فقد تأخر الوقت وكانت متعبة جدًّا. استأذنت منهم ونزلت إلى حجرة مايكل لأرضعها بينما يحلل الرجلان المعلومات التي جاءت بها المستشعرات على الشاشة السوداء ليحددا ما يحدث. رضعت سيمون بعصبية حتى إنها آلمتني في أحد الأوقات. كان انزعاجها غير معتاد بالمرة. فهي بطبيعتها طفلة هادئة. قلت لها: «أنت تشعرين بخوفنا، أليس كذلك؟» قرأت أن الرضع يشعرون بأحاسيس البالغين الموجودين حولهم. ربما يكون هذا صحيحًا.

ظللت عاجزة عن النوم حتى بعد أن غطت سيمون في نوم مريح على بطانيتها على الأرض. كانت حاسة الإنذار بالخطر تنذرني بأن أحداث الليلة تشير إلى الدخول في طور جديد من أطوار حياتنا على متن راما. ولم تطمئني حسابات ريتشارد التي تقول إن راما قد تحلق في الفضاء الواقع بين النجوم لآلاف السنوات. حاولت أن أتخيل العيش في ظل الظروف الراهنة لما تبقَّى من حياتي، فأبى عقلي. لا بد أن هذه الحياة ستكون مملة لسيمون. وجدت نفسي أصلي إلى الله أو سكان راما أو أيِّ من يملك القدرة على تغيير مستقبلنا. كانت صلاتي بسيطة. فقد طلبت أن تؤدي التغييرات المقبلة بطريقة ما إلى تحسين مستقبل طفلتي الرضيعة.

٢٨ مايو ٢٢٠١

للمرة الثانية سمعنا الليلة صفيرًا طويلًا أعقبه عرض ضوئي مبهر في التجويف الجنوبي من راما. ولكني لم أذهب لأراه. فقد مكثت في الملجأ مع سيمون. لم يقابل مايكل أو ريتشارد أيًّا من السكان الآخرين في نيويورك. قال ريتشارد إن العرض استغرق تقريبًا نفس الوقت الذي استغرقه العرض الأول، ولكن كل عرض كان مختلفًا عن الآخر اختلافًا كبيرًا. أما مايكل فكان انطباعه هو أن الفرق الملحوظ الوحيد في العرض كان في الألوان. ففي رأيه كان اللون المهيمن الليلة هو اللون الأزرق، بينما كان اللون الأصفر سائدًا منذ يومين.

كان ريتشارد متأكدًا من أن سكان راما يعشقون العدد ثلاثة، وأنه لذلك سيكون هناك عرض ضوئي آخر عند حلول الليل. سيبدأ العرض الثالث في خلال يومين من أيام الأرض، وذلك لأن الأيام والليالي في راما أصبحت متساوية الآن تقريبًا ومجموعها ثلاث وعشرون ساعةً، وهي المدة الزمنية التي يطلق عليها ريتشارد اعتدال راما، وقد تنبأ بها زوجي الذكي تنبؤًا صحيحًا في التقويم الذي أصدره لي ولمايكل منذ أربعة أشهر. نتوقع جميعًا حدوث شيء غير معتاد بعد العرض الثالث مباشرة. سأرى ما سيحدث إلا إذا كان في ذلك خطر على سلامة سيمون.

٣٠ مايو ٢٢٠١

بدأت سرعة بيتنا الأسطواني الضخم تزداد زيادةً كبيرةً منذ أربع ساعات. ريتشارد يشعر بحماسة بالغة حتى إنه لا يستطيع تمالك نفسه. فهو مقتنع أنه يوجد تحت نصف الأسطوانة الجنوبية المرتفعة نظام دفع يعمل وفقًا لمبادئ الفيزياء على نحو يفوق تصورات أوسع مهندسي الأرض وعلمائها خيالًا. وهو يحدق في البيانات التي جاءت بها المستشعرات الخارجية على الشاشة السوداء حاملًا الكمبيوتر المحمول الحبيب الخاص به في يده، ويدخل بعض البيانات الإضافية استنادًا إلى ما يراه على الشاشة، ومن وقت إلى آخر يتمتم محدِّثًا نفسه أو مخاطبًا إيانا برأيه عن تأثير مناورة راما على مسارنا.

كنت غائبة عن الوعي في قاع الحفرة في الوقت الذي قامت فيه راما بتصحيح مدارها في منتصف رحلتها لكي تدخل في مدار من الممكن أن يحدث معه اصطدام بالأرض؛ لذا لا أعرف كم اهتزت الأرض أثناء المناورة السابقة. ولكن ريتشارد يقول إن تلك الاهتزازات تافهة مقارنةً بما نمر به الآن. فقد بات مجرد المشي في الوقت الحاضر أمرًا صعبًا. فالأرض تعلو وتهبط بسرعة كبيرة جدًّا وكأن هناك آلة لثقب الصخور تعمل على بعد أمتار قليلة منا. منذ أن بدأت عملية الإسراع ونحن نمسك بسيمون بين أذرعنا. فنحن لا نستطع أن نضعها على الأرض أو في مهدها لأن الاهتزاز يخيفها. أنا الوحيدة التي تتحرك حاملة سيمون، وأنا أتوخى كل الحذر. إذ يقلقني بشدةٍ احتمال فقدان توازني وسقوطي — لقد سقط ريتشارد ومايكل مرتين حتى الآن — وقد تصاب سيمون إصابة خطيرة إذا ما سقطتُ في وضع خاطئ.

إن قطع الأثاث البسيطة تقفز في أنحاء الغرفة. بل إن أحد الكراسي قفز خارج الغرفة إلى الممر واتجه نحو السلالم منذ نصف ساعة. في بادئ الأمر كنا نعيد قطع الأثاث إلى مكانها كل عشر دقائق أو نحوها، أما الآن فإننا نتجاهلها — إلا إذا خرجت من المدخل إلى الردهة.

وإجمالًا، فإن أحداث تلك المدة التي بدأت بالعرض الضوئي الثالث والأخير في الجنوب لا يصدقها عقل. كان ريتشارد أول من خرج بمفرده تلك الليلة قبل حلول الظلام مباشرة. وعاد بسرعة بعد دقائق قليلة وقد غلبه الحماس وسحب مايكل معه. عندما عادا بدا مايكل وكأنه رأى شبحًا. صرخ ريتشارد: «كائنات الأوكتوسبايدر! تتجمع العشرات منها بطول الشاطئ على بعد كيلومترين شرقًا.»

قال مايكل: «لا يمكنك أن تعرف عددها الحقيقي. فلم نرها سوى لعشر ثوانٍ على أقصى تقدير قبل أن تنطفئ الأنوار.»

تابع ريتشارد حديثه قائلًا: «شاهدتها فترةً أطول عندما كنت بمفردي. واستطعت أن أراها بوضوح شديد بالمنظار المقرب. في بادئ الأمر كانت هناك حفنة منها، ولكنها بدأت تتدفق بأعداد كبيرة فجأة. وما إن بدأتُ في عدِّها حتى انتظمت في شيء يشبه التشكيل. وكان هناك أوكتوسبايدر عملاق ذو رأس مخطط باللونين الأحمر والأزرق واقفًا بمفرده فيما يبدو في مقدمة التشكيل.»

أضاف مايكل، وأنا أحدق فيهما غير مصدقة: «لم أرَ العملاق ذا اللونين الأحمر والأزرق، ولا أي تشكيل. ولكنني بالتأكيد رأيت الكثير من المخلوقات ذات الرءوس السمراء والمجسات ذات اللونين الأسود والذهبي. أعتقد أنها كانت تنظر نحو الجنوب منتظرة بدء العرض الضوئي.»

قال لي ريتشارد: «شاهدنا المخلوقات الطائرة أيضًا.» والتفتَ إلى مايكل متسائلًا: «في اعتقادك، كم كان يضم هذا السرب؟»

أجاب مايكل: «خمسًا وعشرين، ربما ثلاثين.»

قال ريتشارد: «كانت تحلق عاليًا في الجو فوق نيويورك، وهي تطلق صرخاتٍ أثناء ارتفاعها، ثم طارت باتجاه الشمال عبر البحر الأسطواني.» توقف ريتشارد لحظة ثم تابع: «أعتقد أن هذه الطيور مرت بهذا من قبل. أعتقد أنها تعرف ما سيحدث.»

بدأت أدثِّر سيمون في أغطيتها. سأل ريتشارد: «ماذا تفعلين؟» أوضحت أنني لن يفوتني العرض الضوئي الأخير. وذكَّرت ريتشارد أيضًا بأنه حلف لي بأن كائنات الأوكتوسبايدر لا تغامر بالخروج إلا ليلًا. ولكنه أجاب بثقة، في اللحظة التي بدأ الصفير يدوي فيها: «هذه مناسبة خاصة.»

بدا لي عرض الليلة أكثر روعة. وربما يرجع ذلك إلى أنني كنت في حالة ترقب. كان اللون الأحمر هو السائد في تلك الليلة. ففي لحظة ما، رسم تدفق من النور لونه أحمر ناريٌّ شكلًا سداسيًّا كاملًا يوصل بين الأبراج الستة الأصغر. ولكن مع أن أنوار راما كانت رائعة للغاية، فلم تكن المشهد الأكثر الأهمية في تلك الأمسية. فبعد حوالي ثلاثين دقيقة من بدء العرض، صرخ مايكل فجأة: «انظرا»، وأشار باتجاه امتداد الشاطئ بالاتجاه الذي رأى فيه هو وريتشارد كائنات الأوكتوسبايدر في وقت سابق.

اشتعلت عدة كرات من النور معًا في السماء فوق البحر الأسطواني المتجمد. كانت تلك الأنوار الساطعة تبعد عن الأرض نحو خمسين مترًا وتنير مساحة من الثلج تحتها تبلغ حوالي كيلومتر مربع. خلال دقيقة أو نحو ذلك استطعنا فيها أن نرى بعض التفاصيل، رأينا كتلة سوداء ضخمة تتحرك إلى الجنوب فوق الثلج. ناولني ريتشارد منظاره في الوقت الذي بدأ فيه النور النابع من تلك الأنوار الساطعة يخبو، فرأيت بعض المخلوقات داخل ذلك القطيع. وكان عدد كبير جدًّا من كائنات الأوكتوسبايدر ذات رءوس ملونة، ولكن الغالبية كانت ذات لون رمادي داكن مثل ذاك الذي طاردنا في الملجأ. وحين رأينا المجسات ذات اللونين الأسود والذهبي وأشكال أجساد تلك المخلوقات، تأكدنا أنها من نفس فصيلة ذلك المخلوق الذي رأيناه يتسلق النتوءات العام الماضي. كان ريتشارد محقًّا. إذ كان هناك العشرات منها.

عندما بدأت المناورة، عدنا بسرعة إلى ملجئنا. إذ كان من الخطر البقاء في الخارج في راما في الوقت التي تحدث فيه الاهتزازات القوية. من وقت إلى آخر كانت تنفصل أجزاء صغيرة من ناطحات السحاب المحيطة بنا وتتحطم على الأرض. وبدأت سيمون تبكي فور أن بدأ الاهتزاز.

بعد رحلة نزولٍ شاقة إلى ملجئنا، بدأ ريتشارد يفحص المستشعرات الخارجية وصبَّ جل اهتمامه على تفقد أوضاع النجوم والكواكب (يمكن رؤية كوكب زحل بالتأكيد في بعض الصور التي ترسلها مستشعرات راما) ثم أجرى بعض الحسابات استنادًا إلى البيانات التي حصل عليها من المشاهدة. تناوبت أنا ومايكل حمل سيمون — في النهاية جلسنا في ركن بالغرفة حيث أعطانا الحائطان المتجاوران إحساسًا بشيء من الاستقرار — وأخذنا نتحدث عن وقائع اليوم المدهش.

بعد ساعة تقريبًا أعلن ريتشارد نتائج التحديد الأوَّلي للمدار. بدأ بإعطائنا إحداثيات المدار — نسبة إلى الشمس — الخاصة بمسار القطع الزائد الذي كنا نسير فيه قبل أن تبدأ المناورة. ثم عرض علينا بطريقة درامية عناصر التماس (حسبما أطلق عليها) الجديدة لمسارنا الحالي. لا بد أنني خزنت في مكان ما في أعماق عقلي معلومات تقدم تعريفًا لمصطلح عناصر التماس، ولكن لحسن الحظ لم أكن في حاجة لاستعادتها. فقد استطعت أن أفهم من السياق أن ريتشارد كان يستخدم طريقة مختصرة ليخبرنا إلى أي حد تغير القطع الزائد خلال الساعات الثلاث الأولى من المناورة. ورغم هذا فاتني أن أفهم المعنى الضمني الكامل لحدوث تغير في لامركزية القطع الزائد.

كان مايكل يتذكر ما درسه من الميكانيكا السماوية أكثر مني. وسأل على الفور تقريبًا: «هل أنت متأكد؟»

أجاب ريتشارد: «للنتائج الكمية هامش خطأ كبير. ولكن لا شك في الطبيعة النوعية لتغير المسار.»

سأل مايكل: «إذن هل «تتزايد» سرعة خروجنا من النظام الشمسي؟»

أومأ ريتشارد برأسه وهو يقول: «هذا صحيح. زيادة سرعتنا تصب فعليًّا في اتجاه يزيد من سرعتنا قياسًا بالشمس. لقد أضافت المناورة بالفعل عدة كيلومترات في الثانية لسرعتنا المحسوبة قياسًا بالشمس.»

أجاب مايكل: «آه! هذا مذهل.»

فهمت لب ما كان يقوله مايكل. إذا كنا نحتفظ بأي أمل في إمكانية سفرنا في رحلة غير مباشرة ستعود بنا إلى الأرض على بساط سحري، فإن هذا الأمل كان يتبدد الآن. فراما كانت على وشك مغادرة النظام الشمسي بسرعة أكبر بكثير مما تخيل أيٌّ منا. بينما أخذ ريتشارد يتغنى بنظام الدفع الذي تمكَّن من إدخال كل هذا التغيير على سرعة هذه «السفينة العملاقة»، أرضعت سيمون ووجدت نفسي أفكر مرة أخرى في مستقبلها. إذن فنحن نغادر النظام الشمسي لا محالة، وفي طريقنا إلى مكان آخر. فهل سأرى عالمًا آخر؟ هل سترى سيمون عالمًا آخر؟ هل من المحتمل يا ابنتي أن تكون راما هي موطنك طوال حياتك؟

ظلت الأرض تهتز بقوة، ولكن هذا يواسيني. يقول ريتشارد إن سرعة خروجنا لا تزال تتزايد بسرعة. هذا حسن. ما دمنا ذاهبين إلى مكان جديد فأنا أريد السفر إلى هناك بأسرع ما يكون.

٤

٥ يونيو ٢٢٠١

استيقظت في منتصف الليلة الماضية بعد سماع صوت دقات متواصلة يأتي من اتجاه الممر الرأسي في ملجئنا. ومع أن المستوى الطبيعي للضوضاء الصادرة عن الاهتزاز المستمر مرتفعٌ، فقد استطعت أنا وريتشارد أن نسمع الطَّرْق بوضوح وبلا أية صعوبة. سرنا بحذر إلى الممر الرأسي بعد أن ألقيت نظرة على سيمون، وتحققت من أنها نائمة نومًا مريحًا في مهدها الجديد الذي صنعه ريتشارد بحيث يحد من الاهتزازات.

اشتد صوت الطَّرَقات تدريجيًّا ونحن نصعد السلم تجاه الشبكة التي تحمينا من الزوار غير المرغوب فيهم. وعند إحدى بسطات السلم مال ريتشارد إليَّ وهمس لي قائلًا: «لا بد أن مكدف يدق على البوابة» وأن «فعلتنا الشريرة» سرعان ما ستُفتضح. كنت متوترة توترًا يجعلني عاجزة عن الضحك. عندما كنا على بعد عدة أمتار أسفل الشبكة، رأينا ظلًّا ضخمًا متحركًا يظهر على الحائط أمامنا. فتوقفنا لنتفحصه. أدركت أنا وريتشارد على الفور أن غطاءَ ملجئنا الخارجي مفتوحٌ — إذ كان ضوء الشمس يغمر الجانب الأعلى من راما في هذا الوقت — وأن المخلوق أو الكائن الآلي الراميَّ الذي كان يطرق هو صاحب الظل الغريب الذي يظهر على الحائط.

أمسكت بيد ريتشارد تلقائيًّا. وتساءلت بصوت مرتفع قائلة: «ترى ماذا يكون ذلك؟»

قال ريتشارد بهدوء شديد: «لا بد أنه شيء جديد.»

أخبرته أن الظل يشبه مضخة بترول قديمة الطراز تتحرك إلى أعلى وإلى أسفل وسط حقل إنتاج. فابتسم ابتسامة عريضة والقلق يعلو وجهه ووافقني الرأي.

بعد أن ظللنا ننتظر نحو خمس دقائق دون أن نرى أو نسمع أي تغير في إيقاع الطَّرَقات التي يسببها الزائر، أخبرني ريتشارد أنه سيصعد إلى الشبكة حتى يتاح له رؤية شيء له ملامح محددة أكثر من مجرد ظل. بالطبع هذا معناه أن الكائن الذي يدق بابنا في الخارج سيستطيع أيضًا أن يراه، على افتراض أن له عينين أو ما يقوم مقامهما. لسبب ما تذكرت دكتور تاكاجيشي في هذه اللحظة واجتاحتني موجة من الخوف. فقبَّلتُ ريتشارد وطلبت منه ألا يجازف.

عندما وصل ريتشارد إلى البسطة الأخيرة من السلم، أعلى المكان الذي كنت أنتظر فيه مباشرةً، أصبح الضوء يغمر معظم جسده، وحجب الظلَّ المتحرك. توقف الطَّرْق فجأة. صاح ريتشارد: «إنه كائن آلي، بلا ريب. ويبدو أشبه بحشرة فرس النبي وله يد إضافية في وسط وجهه.»

اتسعت عيناه فجأة. ثم أضاف وهو يقفز من على بسطة السلم: «وهو الآن يفتح الشبكة.»

وصار بجواري في لحظة. ثم خطف يدي وهرعنا نطوي درجات السلم طيًّا. ولم نتوقف إلا بعد أن عدنا إلى الطابق الذي نقيم فيه، والذي يقع أسفل المدخل بعدة درجات.

كان صوت الحركة فوقنا يصل إلى مسامعنا. وقال ريتشارد وهو يلهث: «هناك فرس نبي آخر وكائن جرَّاف واحد على الأقل خلف فرس النبي الأول. وما إن رأوني حتى بدءوا في رفع الشبكة … يبدو أنهم كانوا يدقون لينبهونا إلى وجودهم.»

طرحتُ عليه سؤالًا بلاغيًّا: «ولكن ماذا يريدون؟» وأخذت الضجة التي تأتي من فوقنا تزداد. علقت قائلةً: «يبدو وكأنه جيش.»

في خلال ثوانٍ سمعناهم ينزلون الدَّرَج. قال ريتشارد باهتياج شديد: «يجب أن نستعد للهرب. أحضري سيمون وأنا سأوقظ مايكل.»

تحركنا بسرعة في الممر متوجهين إلى المنطقة التي نقيم فيها. كان مايكل قد استيقظ بالفعل بسبب كل تلك الضوضاء، وبدأت سيمون تستيقظ هي الأخرى. تجمعنا في حجرتنا الرئيسية وجلسنا على الأرض المهتزة أمام الشاشة السوداء في انتظار الغزاة الفضائيين. استخدم ريتشارد لوحة المفاتيح لإعداد طلب لسكان راما تقوم الشاشة السوداء بمقتضاه بالارتفاع عقب إدخال أمرين إضافيين مثلما ترتفع عندما يكون مضيفونا الذين لم نرهم على وشك إمدادنا بمنتج جديد. قال ريتشارد: «إذا تعرضنا لهجوم، سنجازف بالدخول في الأنفاق التي تقع خلف الشاشة.»

مرت نصف ساعة. وأدركنا من الضوضاء القادمة من اتجاه السلم أن الدخلاء وصلوا بالفعل إلى الطابق الذي نقيم فيه، ولكن لم يدخل أيٌّ منهم بعد الممر الذي يؤدي إلى المنطقة التي نقيم فيها. بعد خمس عشرة دقيقة أخرى استبد الفضول بزوجي. قال ريتشارد: «سأتفقد الموقف»، وترك مايكل معي أنا وسيمون.

عاد في أقل من خمس دقائق. وقال وقد قطب جبينه حيرةً: «يوجد منها خمسة عشر، ربما عشرون. ثلاثة من الكائنات الشبيهة بفرس النبي ونوعان مختلفان من الكائنات الجرَّافة. يبدو أنها تبني شيئًا في الجانب المقابل من الملجأ.»

نامت سيمون مرة أخرى. فوضعتها في المهد وسرت خلف الرجلين في اتجاه الضوضاء. عندما وصلنا إلى المنطقة المستديرة التي يقع فيها السلم الذي يصعد إلى الفتحة المؤدية إلى نيويورك، وجدنا المكان يموج بالحركة. وكان يستحيل الإلمام بكل العمل الذي تقوم به في الجانب المقابل من الحجرة. وكان يبدو أن الكائنات الشبيهة بفرس النبي كانت تشرف على الكائنات الآلية الضخمة وهي تقوم بتوسيع ممر أفقي على الجانب الآخر من الحجرة المستديرة.

تساءل مايكل هامسًا: «هل لدى أيٍّ منكما فكرة عما يفعلون؟»

أجاب ريتشارد: «ولا أدنى فكرة.»

مر حوالي أربع وعشرين ساعة حتى الآن وما زلنا لا نعلم على وجه اليقين ما الذي تبنيه الكائنات الآلية. يعتقد ريتشارد أن توسعة الممر تتم لاستيعاب نوع ما من التجهيزات الجديدة. وقال أيضًا إن كل هذه الأنشطة لها علاقة بنا في الأغلب لأنها في النهاية تتم في ملجئنا.

تعمل الكائنات الآلية دون أن تتوقف لأخذ قسط من الراحة أو لتناول الطعام أو للنوم. يبدو أنها تتبع خطة أو مجموعة خطوات رئيسية سبق إبلاغها بها بدقة؛ لأنها لا تتناقش أبدًا في أي شيء. إنه لمشهد مهيب أن يشاهد المرء عملها المتواصل. ولم تُبدِ الكائنات الآلية قط أي إشارة توحي بإدراكها أننا نقف ونشاهدها.

منذ ساعة تحدَّث ثلاثتنا قليلًا عن الإحباط الذي نشعر به بسبب عدم معرفتنا بما يجري حولنا. عند نقطة ما من الحديث، ابتسم ريتشارد. وقال والغموض يغلف حديثه: «في الواقع لا يختلف الوضع هنا عن الوضع على الأرض اختلافًا كبيرًا.» عندما ضغطنا عليه أنا ومايكل ليوضح ما يعنيه، لوَّح بيده بحركة دائرية. وأجاب وهو شارد الذهن: «حتى في كوكبنا، معرفتنا محدودة إلى درجة خطيرة. فدائمًا ما يكون البحث عن الحقيقة تجربة محبطة.»

٨ يونيو ٢٢٠١

لا أصدق أن الكائنات الآلية أنهت التجهيزات بهذه السرعة. منذ ساعتين تدحرج آخرها صاعدًا السلم واختفى، وهو كبير العمال من بين الكائنات الشبيهة بفرس النبي، بعد أن أبلغنا بالإشارة (مستخدمًا «يده» التي في وسط «وجهه») أن نعاين الحجرة الجديدة بعد الظهر مباشرةً. قال ريتشارد إنه ظل في ملجئنا حتى تأكد أننا فهمنا كل شيء.

الشيء الوحيد الموجود في الحجرة الجديدة هو حوض ضيق مستطيل الشكل من الواضح أنه صُمم لنا. وهو ذو جوانب معدنية لامعة ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار. وكان هناك سلم معدني عند كل طرف من طرفيه يرتفع من الأرضية ويصل إلى حافته. ويحيط ممشًى قوي بالمحيط الخارجي للحوض أسفل حافته بسنتيمترات قليلة.

وبداخل البناء المستطيل أربعة أسِرَّة شبكية مثبتة في الجدران. وكل واحد من تلك الأسرة المبتكرة الرائعة صنع خصوصًا لفرد محدد من أفراد أسرتنا. فسريرا مايكل وريتشارد يقعان عند طرفَي الحوض، أما سيمون وأنا فلنا سريران في المنتصف، وسريرها الصغير يقع بجوار سريري مباشرةً.

بالطبع، حرص ريتشارد على فحص البناء بأكمله فحصًا تفصيليًّا. واستنتج أن الحوض سيغلق وسيملأ على الأغلب بسائل، وذلك لأن له غطاء ولأن الأسِرَّة ثبتت في تجويف الحوض على بعد يتراوح ما بين متر ونصف متر من الجزء العلوي. ولكن ما سبب بنائه؟ هل سنخضع لمجموعة ما من التجارب؟ ريتشارد متأكد من أننا سنخضع للتجارب بطريقة أو بأخرى، ولكن مايكل يقول إن استخدامنا كفئران تجارب «لا يتوافق مع شخصية سكان راما» كما عرفناها حتى الآن. فوجدت نفسي أضحك على تعليقه. ها هو ذا مايكل يمد حدود تفاؤله الديني الذي لا يُرجى له الخلاص منه لتستوعب سكان راما أيضًا. إنه دائمًا ما يعتقد — مثل شخصية دكتور بانجلوس التي رسمها فولتير — أننا نحيا في أفضل كون على الإطلاق.

انتظر كبير العمال على الممشى الملحق بالحوض وشاهدنا وكلُّ واحد منا نحن الأربعة يرقد على سريره. أشار ريتشارد إلى أنه مع أن الأسِرة مثبَتة على أعماق متباينة على طول الجدران، فإننا «سنغوص» جميعًا لنفس المستوى تقريبًا عندما ننام في هذه الأسِرة الشبكيَّة. والنسيج الشبكي الذي تتكون منه الأسرة مطاطي بعض الشيء، وهو يذكرني بالنسيج الشبكي الذي رأيناه من قبل في راما. وعندما كنت «أجرب» سريري بعد الظهيرة، ذكرني ارتداده بالرهبة والابتهاج اللذين شعرت بهما أثناء الرحلة الرائعة التي قمت بها عبر البحر الأسطواني وأنا مثبتة داخل شبكة. عندما أغمضت عينيَّ كان من السهل أن أرى نفسي مرة أخرى فوق الماء مباشرةً، معلقةً أسفل ثلاثة من المخلوقات الطائرة الهائلة التي كانت تحملني إلى الحرية.

هناك مجموعة من الأنابيب السميكة معلقة على طول حائط الملجأ خلف الحوض من جهة المنطقة التي نعيش فيها، وهي تتصل بالحوض مباشرة. نشك في أن الهدف منها هو حمل سائل من نوعٍ ما يُملأ الحوض به. أعتقد أننا سنكتشف هذا قريبًا جدًّا.

إذن ما العمل الآن؟ نتفق جميعًا على أن علينا الانتظار وحسب. لا شك في أنهم يتوقعون منا أن نمضي بعض الوقت في هذا الحوض في نهاية الأمر. ولكن لا يبقى أمامنا سوى افتراض أنهم سيخطروننا بهذا عندما يحين الوقت المناسب.

١٠ يونيو ٢٢٠١

كان ريتشارد محقًّا. كان على يقين من أن الصفير المتقطع منخفض التردد الذي سمعناه في وقت مبكر أمس يعلن عن حدوث تحول آخر في مراحل المهمة. بل إنه اقترح علينا أن نتوجه إلى الحوض الجديد وأن نستعد لاحتلال أماكننا كلٌّ في سريره الخاص. تجادلنا أنا ومايكل معه، وأصررنا على أنه لا يوجد «ما يكفي من معلومات» تبرر استباق هذا الاستنتاج.

كان علينا أن نستمع إلى نصيحة ريتشارد. لقد تجاهلنا الصفير تقريبًا ومضينا في حياتنا العادية (إذا كان يمكن استخدام هذا المصطلح لوصف وجودنا داخل سفينة الفضاء غير الأرضية هذه). بعد حوالي ثلاث ساعات، ظهر كبير العمال فجأة في مدخل حجرتنا الرئيسية ففزعت فزعًا شديدًا. أشار بأصابعه الغريبة على امتداد الممر ففهمنا منه أنه يريدنا أن نتحرك في الاتجاه الذي أشار إليه بشيء من السرعة.

كانت سيمون لا تزال نائمة وانزعجت بشدة عندما أيقظتها. كما أنها كانت جائعة، ولكن فرس النبي الآلي لم يتح لي الفرصة لإطعامها. وأخذت سيمون تبكي بكاءً متقطعًا ونحن نُساق كالقطيع من ملجئنا إلى الحوض.

كان هناك مخلوق آخر من المخلوقات الشبيهة بفرس النبي ينتظر على الممشى الذي يطوق حافة الحوض. وكان يمسك بخوذاتنا الشفافة في أيديه الغريبة. لا بد أنه المفتش؛ لأنه لم يدعنا ننزل إلى أسرتنا إلا بعد أن تحقق من أن الخوذات موضوعة كما ينبغي على رءوسنا. المركب البلاستيكي أو الزجاجي الذي صنع منه الجزء الأمامي من خوذاتنا رائع؛ إذ يمكننا أن نرى من خلاله رؤيةً واضحةً. قاعدة الخوذات رائعة أيضًا؛ فهي مصنوعة من مركب لزج يشبه المطاط ويلتصق بالجلد بشدة مما يمكِّنه من إغلاق الخوذة إغلاقًا محكمًا يمنع تسرب أي شيء إليها.

لم يمضِ على رقودنا على أسِرَّتنا سوى ثلاثين ثانية حتى شعرنا بموجة قوية تضغطنا إلى أسفل نحو الأجزاء الشبكية، وقد بلغت قوتها حدًّا جعلنا نهبط حتى كدنا نصل إلى قاع الحوض الفارغ. بعد لحظات، التفَّت حول أجسادنا خيوط صغيرة (وكان يبدو أنها تخرج من المادة المصنوعة منها أسِرَّتنا)، تاركةً أذرعنا ورقابنا حرة. فالتفتُّ إلى سيمون لأرى ما إذا كانت تبكي؛ فرأيت ابتسامةً عريضة مرتسمة على وجهها.

كان الحوض قد بدأ يمتلئ بالفعل بسائل لونه أخضر فاتح. وفي أقل من دقيقة أحاط بنا السائل. كانت كثافته قريبة جدًّا من كثافتنا؛ فقد طفونا جزئيًّا على سطحه، وسرعان ما انغلق غطاء الحوض وملأ السائل الحوض بالكامل. ومع أنني استبعدت احتمال تعرُّضنا لأي خطر حقيقي من البداية، فقد اعتراني الخوف عندما انغلق غطاء السائل فوق رءوسنا. فقد كان كلٌّ منا يعاني من قدرٍ قليل من رُهاب الاحتجاز.

ظلت السرعة تشتد طوال كل هذا الوقت. ولحسن الحظ لم يكن الظلام دامسًا بداخل الحوض. فقد ظهرت أضواء خافتة مبعثرة حول غطائه. ورأيت سيمون بجواري، وجسدها يقفز كطوق النجاة، وأيضًا، رأيت ريتشارد عن بعد.

مكثنا في الحوض لما يزيد قليلًا عن ساعتين. عندما انتهينا، كان ريتشارد قد تملَّكه حماس شديد. وأخبرني أنا ومايكل أنه متأكد من أننا انتهينا لتوِّنا من «اختبار» يكشف عن مدى تحملنا للقوى «الزائدة».

وقال بحماس: «إن الزيادات التافهة في السرعة التي مررنا بها حتى الآن لا ترضي سكان راما. فهم يريدون زيادة السرعة زيادةً حقيقية. ولتحقيق هذا، لا بد أن تتعرض السفينة لزيادة كبيرة في سرعتها تستمر مدة طويلة. لقد صُمم هذا الحوض ليقوم بدور ممتص الصدمات حتى يتكيف تكويننا البيولوجي مع الظروف البيئية غير المعتادة.»

أمضى ريتشارد اليوم بأكمله في إجراء حسابات وأطلعنا منذ ساعات قليلة على تحليله الأولي ﻟ «حدث زيادة السرعة» الذي وقع أمس. وصاح وهو لا يكاد يتمالك نفسه: «انتبها إلى هذا! لقد قمنا بتغيير في السرعة مكافئ لمعدل «سبعين» كيلومترًا في الثانية خلال هذه المدة القصيرة التي بلغت ساعتين. وهذا هائل للغاية عندما يتعلق الأمر بسفينة فضاء بحجم راما! كانت سرعتنا تزيد بمعدل يصل إلى ٤٩م/ث٢ طوال الوقت.» ثم ابتسم لنا ابتسامة عريضة. وقال: «هذه السفينة تستطيع العمل بنمط السرعة القصوى بامتياز.»

عندما انتهينا من الاختبار، وضعتُ مجموعة جديدة من مجسات مراقبة الظواهر البيومترية على أجسادنا، بما فينا سيمون. لم أرَ أية استجابات غريبة، على الأقل لم أرَ شيئًا يدعو إلى الحذر، ولكن يجب أن أعترف أنني ما زلت قلقة قليلًا بشأن مدى تفاعل أجسادنا مع الضغط. وبَّخني ريتشارد منذ دقائق قليلة. وقال، مشيرًا إلى أن ما أقوم به غير ضروري: «لا بد أن سكان راما لا يغفلون عن ذلك.» وتابع: «أنا متأكد أنهم يحصلون على معلوماتهم عن طريق هذه الخيوط.»

٥

١٩ يونيو ٢٢٠١

لن تكفي حصيلتي اللغوية لوصف التجارب التي عشتها على مدى الأيام العديدة الماضية. فكلمة «مدهش»، على سبيل المثال، تعجز كثيرًا عن التعبير عن المعنى الحقيقي لمدى تفرُّد هذه الساعات الطويلة التي قضيتها في الحوض. التجربتان الوحيدتان في حياتي اللتان تشبهان من بعيد هذه التجربة كانتا وليدتَي تناول مواد كيميائية محفزة: الأولى، أثناء احتفال جمعية بورو السرية في ساحل العاج وأنا في السابعة من عمري، والثانية — حدثت في وقت أقرب — بعد شرب زجاجة أومه عندما كنت في قاع الحفرة في راما. ولكنَّ هاتين التجربتين المثيرتين أو الرؤيتين أو أيًّا كان اسمهما، كانتا حدثين منفصلين استغرقا وقتًا قصيرًا نسبيًّا. أما ما عايشته في الحوض فاستمر ساعات.

قبل أن أنهمك في وصف ما يموج به عقلي، ينبغي أولًا أن ألخص الأحداث «الفعلية» التي مررنا بها على مدار الأسبوع الماضي، وذلك حتى يمكن فهم الأحداث الشبيهة بالهلاوس في سياقها. أصبحت حياتنا اليومية الآن تمضي على نسق متكرر. وتواصل سفينة الفضاء القيام بالمناورات ولكن وفقًا لنمطين مختلفين: الأول: «منتظم» تهتز فيه الأرض ويتحرك كل شيء ولكن يمكن أن نحيا في ظله حياة شبه طبيعية، والثاني: «ذو سرعة قصوى» تزيد فيه راما من سرعتها بمعدل كبير جدًّا يُقدِّر ريتشارد أنه يزيد الآن عن ١٠٧٫٨م/ث٢.

عندما تكون السفينة في وضع السرعة القصوى، يصبح علينا نحن الأربعة أن ندخل الحوض. تستمر فترات السرعة القصوى لما يقل قليلًا عن ثماني ساعات في كل دورة من الدورات التي تستغرق سبعًا وعشرين ساعة وست دقائق في النمط المتكرر. من الواضح أنه من المفترض أن ننام خلال فترات السرعة القصوى. فالأضواء الخافتة فوق رءوسنا في الحوض المغلق تخبو بعد أول عشرين دقيقة من كل فترة، ونظل راقدين في ظلام دامس حتى خمس دقائق قبل نهاية فترة الساعات الثماني.

يرى ريتشارد أن هذا التغير في السرعة القصوى يعجل بإفلاتنا من مدار الشمس. إذا ظلت المناورة الحالية ثابتة من حيث القوة والاتجاه واستمرت مدة شهر، فستصل السرعة التي نتحرك بها إلى نصف سرعة الضوء قياسًا بنظامنا الشمسي.

سأل مايكل أمس: «إلى أين نحن ذاهبون؟»

أجاب ريتشارد: «الوقت لا يزال مبكرًا جدًّا للإجابة عن هذا السؤال. فكل ما نعرفه هو أننا ننطلق بمعدل هائل.»

عُدلت حرارة وكثافة السائل داخل الحوض بدقة كل فترة، حتى أصبحتا مساويتين تمامًا لحرارة وكثافة أجسادنا. ولذلك، عندما أرقد هناك في الظلام لا أشعر بشيء سوى وجود قوة دفع لأسفل تكاد تكون غير محسوسة. دائمًا ما يدلني عقلي على أنني بداخل حوض مخصص لمواكبة زيادة السرعة، يحيطني سائل من نوع ما يقوم مقام ممتص الصدمات حتى يتحمل جسدي الدفع القوي الذي يتعرض له، ولكن انعدام الإحساس بما حولي يجعلني في النهاية أفقد إحساسي بجسدي كله. وهنا بدأ ينتابني الهذيان. يبدو وكأنه من الضروري أن يحصل عقلي على مدخلات حسيَّة طبيعية حتى يستمر جسدي في تأدية وظائفه على ما يرام. فإذا لم يصل إلى عقلي أي صوت أو منظر أو طعم أو رائحة أو إحساس بالألم، تطرأ الفوضى على نشاطه.

حاولت أن أناقش هذه الظاهرة مع ريتشارد منذ يومين ولكنه نظر إليَّ نظرةً تنم عن شكه في جنوني. إذ لم تنتَبْه أيُّ نوبات هذيان على الإطلاق. فهو يقضي وقته أثناء «حالة السبات» (وهو الاسم الذي يطلقه على المدة التي لا نتلقى فيها أي معلومات حسية قبل أن نستغرق في نوم عميق) في القيام بحسابات رياضية أو استحضار مجموعة كبيرة من خرائط الأرض أو حتى السباحة بخياله في أفضل لحظاته الجنسية. فهو بالتأكيد «يسيطر» على عقله حتى في غياب المدخلات الحسيَّة. لهذا نحن مختلفان اختلافًا كبيرًا. فعقلي يبحث عن اتجاه خاص به عندما لا أستخدمه في مهام مثل معالجة مليارات أجزاء البيانات الواردة من كل خلايا جسدي الأخرى.

عادةً ما يبدأ الهذيان بظهور بقعة ملونة حمراء أو خضراء في الظلام الدامس المحيط بي. وحين تتسع البقعة تظهر ألوان أخرى، هي غالبًا: الأصفر والأزرق والأرجواني. وبسرعة يتخذ كل لون من الألوان صورة شكل غير منتظم ويمتد أمام مجال رؤيتي. وأجد أمامي ما يشبه مشكالًا من الألوان الزاهية. تزداد سرعة الحركة في مجال رؤيتي حتى تندمج مئات الخيوط والبقع في انفجار هائل.

وسط زحام الألوان هذا، دائمًا ما تتكون صورة متناسقة. في البداية لا أتمكن من تحديد ماهية تلك الصورة بالتحديد لأن الشكل أو الأشكال التي تظهر تكون متناهية الصغر، كما لو أن الصورة بعيدة، بعيدة للغاية. وأثناء اقتراب الصورة، تتغير ألوانها عدة مرات مما يزيد من الطابع السريالي لما أراه ومن الرعب الداخلي الذي أشعر به. وغالبًا ما كنت أجد الصورة تظهر فيها أمي أو حيوان كالفهد أو اللبؤة أدرك تلقائيًّا أنه أمي، متخفيةً. ما دمت أراقب وحسب، دون أن أقوم بأي محاولة إرادية للتفاعل مع أمي، فإنها تظل عنصرًا من عناصر الصورة المتغيرة. ولكن لو حاولت أن أتواصل معها بأي طريقة تختفي على الفور، هي أو الحيوان الذي يمثلها، وتتركني لإحساس جارف بأنها قد تخلت عني.

أثناء إحدى نوبات الهذيان التي انتابتني في الآونة الأخيرة، تحولت الموجات اللونية إلى أشكال هندسية تحولت بدورها إلى صور ظلِّيَّة لبشر يمشون في طابور واحد أمام مجال رؤيتي. كان أومه في مقدمة الموكب مرتديًا ثوبًا لونه أخضر زاهٍ. الشخصيتان الظاهرتان في آخر المجموعة كانتا امرأتين، وهما بطلتا مراهقتي: جان دارك وإليانور الأكويتينية. عندما سمعت صوتهما لأول مرة، انفضَّ الموكب وتغير المشهد على الفور. فجأة وجدت نفسي في زورق صغير وسط ضباب الصباح الباكر الذي يغلف بركة البط الصغيرة قرب فيلتنا في بوفوا. فارتعدت خوفًا وبدأت أبكي بكاءً عجزت عن التحكم فيه. ظهرت جان وإليانور وسط الضباب والسديم ليطمئناني على أن والدي لن يتزوج هيلينا، الدوقة الإنجليزية التي سافر معها لقضاء إجازة في تركيا.

في ليلة أخرى تبع افتتاحيةَ الألوان عرضٌ مسرحي غريب في مكان ما في اليابان. كانت المسرحية القائمة على الهذيان تقتصر على شخصيتين فقط ترتديان قناعين مبهرين معبرين. ألقى الرجل الذي يرتدي بذلة ورابطة عنق على النسق الغربي أبياتًا من الشِّعر وكانت له عينان صافيتان صريحتان إلى حد كبير، تطلان من قناعه الذي يحمل تعبيرًا ودودًا. بدا الرجل الآخر أشبه بمحارب ساموراي من القرن السابع عشر. وكان قناعه يحمل تعبيرًا عابسًا ثابتًا. بدأ يهددني أنا وزميله الذي ينتمي إلى عصر أحدث من عصره. صرخت في آخر هذا المشهد لأن الرجلين تقابلا في وسط المسرح واندمجا في شخصية واحدة.

بعض أزهى الصور النابعة من الهذيان لم تستمر سوى ثوانٍ قليلة. في الليلة الثانية أو الثالثة، ظهر الأمير هنري عاريًا، وشهوته مشتعلة، وجسده يلمع بلون أرجواني زاهٍ، وذلك مدة ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ في وسط مشهد آخر كنت فيه ممتطيةً أوكتوسبايدر أخضر عملاقًا.

أثناء المدة التي نِمتها أمس لم تظهر أي ألوان مدة ساعات. ثم عندما أدركت أن الجوع يمزق أحشائي، ظهرت بطيخة مَنٍّ وردية عملاقة في الظلام. عندما حاولت أن آكل البطيخة التي تراءت لي، ظهرت لها أرجلٌ وفرَّت بعيدًا، وتلاشت بعد أن تحولت إلى ألوان مبهمة.

هل لأيٍّ من هذا مدلول معين؟ هل يمكن أن أعرف شيئًا عن نفسي أو عن حياتي عن طريق هذه الدفقات التي تبدو عشوائية والتي يأتي بها عقلي غير الخاضع للتوجيه؟

ظل الخلاف حول دلالة الأحلام محتدمًا نحو ثلاثة قرون حتى الآن ولم يُفصل فيه بعد. ويبدو لي أن هذا الهذيان الذي ينتابني أكثر بعدًا عن الواقع من الأحلام العادية. إذ إنه يحمل شيئًا من الشبه البعيد للتجربتين اللتين مررت بهما في وقت مبكر من حياتي بعد تناول مواد مخدرة، وأي محاولة لتفسيرها تفسيرًا منطقيًّا ستكون سخيفة. ومع هذا، ولسبب ما، لا أزال أعتقد أن شطحات عقلي الجامحة التي تبدو مفككة تنطوي على شيء من الحقيقة. وربما يرجع هذا إلى عدم تقبلي فكرة أن العقل البشري يمكن أن يعمل على نحو عشوائيٍّ بحت.

٢٢ يوليو ٢٢٠١

أمس، توقفت الأرض عن الاهتزاز أخيرًا. كان ريتشارد قد تنبأ بهذا. عندما لم نعد إلى الحوض منذ يومين في الوقت المعتاد توقع ريتشارد أن المناورة قد انتهت تقريبًا، وكان مصيبًا في توقعه.

وبهذا نبدأ مرحلة جديدة من مراحل رحلتنا المدهشة. أخبرنا زوجي أننا ننتقل الآن بسرعة تزيد عن نصف سرعة الضوء. وهذا يعني أننا نقطع مسافة تساوي المسافة ما بين الأرض والقمر كل «ثانيتين» تقريبًا. نحن نسير، تقريبًا، باتجاه الشِّعرى اليَمانية، أسطع نجم حقيقي يظهر ليلًا في سماء كوكبنا الأصلي. إذا لم تحدث مناورات أخرى فسنصل إلى جوار الشعرى اليمانية في غضون اثني عشر عامًا.

أشعر بالارتياح لأن حياتنا الآن يمكن أن يعود إليها شيء من التوازن الداخلي. يبدو أن سيمون اجتازت المدد الطويلة التي قضيناها في الحوض دون صعوبات تذكر، ولكنني أعتقد أن أي طفلة رضيعة لن تخرج من هذه التجربة دون أن تصاب بأذى. ولا بد أنها الآن في حاجة إلى أن نعود إلى نظام حياتنا اليومية المعتاد.

عندما أكون بمفردي، كثيرًا ما أفكر في نوبات الهذيان القوية هذه التي انتابتني في أول عشرة أيام من المدة التي قضيناها في الحوض. يجب أن أعترف أنني سعدت عندما مررت في النهاية ﺑ «حالات سبات» عدة انقطعت فيها صلتي تمامًا بحواسي دون أن يغمر ذهني سيل من الأشكال الملونة والصور التي لا يمت بعضها بصلة إلى بعض. في ذلك الوقت كان القلق قد بدأ يساورني على سلامة عقلي، وبصراحة تملكتني هذه الفكرة، بل إنني تجاوزت هذه المرحلة بكثير. ومع أن نوبات الهذيان توقفت فجأة، كنت أتذكر قوة تلك الرؤى، مما كان يثير توجسي كلما خبت الأضواء المثبتة عند حافة الحوض على مدار الأسابيع العديدة الماضية.

بعد الأيام العشرة الأولى هذه، لم أرَ سوى رؤية واحدة أخرى، وربما كانت مجرد حلم شديد الوضوح رأيته أثناء نومي العادي. ومع أن هذه الصورة بالذات لم تكن في نفس وضوح الصور السابقة، فإنني تذكرت كل تفاصيلها لأنها تشبه ما رأيته في إحدى نوبات الهذيان التي انتابتني وأنا في قاع الحفرة العام الماضي.

في الحلم أو الرؤية الأخيرة كنت جالسة مع والدي في حفلة موسيقية مقامة في الهواء الطلق في مكان مجهول. وكان هناك رجل شرقي كهل ذو لحية بيضاء طويلة بمفرده على خشبة المسرح يعزف على آلة وترية غريبة. ولكن، على عكس ما رأيته وأنا في قاع الحفرة، لم أتحول أنا ووالدي إلى طائرين صغيرين ولم نحلق بعيدًا إلى شينون في فرنسا. وإنما اختفى جسد والدي تمامًا ولم يبقَ منه سوى عينيه. وفي غضون ثوانٍ قليلة، ظهرت خمسة أزواج أخرى من العيون واتخذت شكلًا سداسيًّا في الهواء فوقي. تعرفتُ على عينَي أومه على الفور وعلى عينَي أمي، أما أزواج الأعين الثلاثة الأخرى فلم أتعرف عليها. حدقت فيَّ العيونُ التي تحتل رأس الشكل السداسي دون أن تطرف، وكأنها تحاول أن تخبرني بشيء ما. وقبل أن يتوقف عزف الموسيقى مباشرةً سمعت صوتًا واحدًا محددًا. سمعت عدة أصوات في نفس الوقت تنطق كلمة «خطر».

ما سبب نوبات الهذيان التي تنتابني، ولماذا يحدث هذا لي وحدي دونًا عن الرجلين الآخرين؟ مر ريتشارد ومايكل أيضًا بفترة انقطاع عن الحواس وأقر كلٌّ منهما بأنه رأى «أشكالًا ملونة غريبة»، ولكن الصور التي رأياها لم تكن مترابطة على الإطلاق. إذا كان تخميننا صحيحًا وكان سكان راما قد حقنونا بواحدة أو اثنتين من المواد الكيميائية مستخدمين الخيوط الصغيرة التي كانت تلتف حول أجسادنا ليساعدونا على النوم في تلك البيئة غير المعتادة، فلماذا كنت أنا الوحيدة التي رأت رؤى في منتهى الغرابة؟

يعتقد ريتشارد ومايكل أن الإجابة بسيطة وهي أنني «شخص تجعله الأدوية في حالة غير مستقرة يتمتع فيها بخيال جامح.» وهذا هو التفسير الوافي في رأيهما. ولم يتابعا الموضوع أكثر من هذا، ومع أنهما يتصرفان بأسلوب مهذب عندما أطرح كل ما يتعلق ﺑ «التجارب التي مررت بها»، يبدو عليهما عدم الاهتمام. كنت أتوقع رد الفعل هذا من ريتشارد، ولكن بالتأكيد لم أكن أتوقعه من مايكل.

حتى الجنرال أوتول الممل لم يعد يتصرف كما ألفناه منذ أن بدأنا جلساتنا في الحوض. فمن الواضح أنه كان منشغلًا بأمور أخرى. لم أطلع على شيء مما يشغله سوى هذا الصباح.

بعد أن أخذت أحاصر مايكل بأسئلة ودودة لعدة دقائق، أخيرًا تحدث ببطء قائلًا: «كنت دائمًا ما أعيد تشكيل تصوري لله وأعيد التفكير في حدود قدراته مع كل إنجاز جديد يشهده العلم، ولكن دون أن أعترف بهذا على مستوى الوعي. ونجحت في تقبل تصور عن سكان راما في إطار إيماني الكاثوليكي، ولكن هذا أدى إلى التوسع في تصوري المحدود عن الله. الآن، حين أجد نفسي على متن سفينة آلية تجوب الفضاء بسرعات نسبية، أرى أنني يجب أن أحرر فكرتي عن الله من كل القيود تمامًا. حينها فقط، يصبح الله، من وجهة نظري، هو القوة العليا التي تُسَيِّر جميع جسيمات الكون والعمليات التي تتم فيه.»

التحدي الذي سأواجهه في المستقبل القريب يكمن في الاتجاه المعاكس لهذا. إذ ينصبُّ تفكير ريتشارد ومايكل على أفكار عميقة: فريتشارد يركز على عالم العلوم والهندسة، ومايكل على عالم الروح. ومع أنني أستمتع للغاية بالأفكار المثيرة التي تخطر لكل منهما أثناء رحلة بحثه المنفرد عن الحقيقة، ينبغي أن يهتم أحدنا بمهام المعيشة اليومية. وفي النهاية، تبقى على ثلاثتنا مسئولية إعداد الفرد الوحيد الذي ينتمي للجيل الجديد لحياة البالغين. يبدو وكأن مهمة الإرشاد الأبوي ستقع دائمًا على عاتقي.

إنها مسئولية أتقبلها بسرور. فعندما تبتسم سيمون في وجهي ابتسامةً متألقةً وهي تأخذ فترة راحة من الرضاعة، لا أفكر في نوبات الهذيان التي تنتابني، ولا تعنيني كثيرًا فكرة وجود الله، ولا أرى أهمية كبيرة في أن سكان راما طوروا طريقةً لاستخدام المياه كوقود نووي. في تلك اللحظة، يصبح الشيء الوحيد المهم هو أنني أم سيمون.

٣١ يوليو ٢٢٠١

حلَّ الربيع على راما بلا ريب. وبدأ الثلج يذوب فور انتهاء المناورة. ففي ذلك الوقت، كانت الحرارة في الخارج قد وصلت إلى درجة قارسة البرودة هي خمس وعشرون تحت الصفر، وبدأ القلق يساورنا بشأن الحد الذي يحتمل أن يصل إليه انخفاض درجة الحرارة في الخارج ومدى نجاح النظام الذي ينظم البيئة الحرارية في ملجئنا في العمل بطاقته القصوى لمواجهة ذلك الانخفاض. كانت الحرارة ترتفع ارتفاعًا ثابتًا بمعدل درجة يوميًّا تقريبًا منذ ذلك الوقت، وبذلك المعدل، كنا سنتجاوز حد التجمد خلال أسبوعين آخرين.

نحن الآن خارج النظام الشمسي في الفراغ شبه التام الذي يملأ الفراغات الهائلة بين النجوم المجاورة. شمسنا لا تزال الجرم المهيمن في السماء ولكن لا يمكننا رؤية أيٍّ من الكواكب. وريتشارد يبحث مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيًّا في البيانات التي يأتي بها من التلسكوب عن علامة تدل على وجود المذنبات في سحابة أورت ولكنه حتى الآن لم يرَ شيئًا.

من أين تأتي الحرارة التي تدفئ الجزء الداخلي من مركبتنا؟ كان لدى المهندس البارع ورائد الفضاء الوسيم، ريتشارد ويكفيلد، تفسير سريع عندما سأله مايكل هذا السؤال أمس. فقال: «إن النظام النووي نفسه الذي كان يوفر التغير الرهيب في السرعة هو الذي يقوم بتوليد الحرارة الآن على الأرجح. لا بد أن لراما نظامَي تشغيل مختلفين. عندما تكون في جوار مصدر حرارة، مثل نجم، توقف عمل كل الأنظمة الرئيسية الخاصة بها ومنها نظاما الدفع والتحكم الحراري.»

وجهت له أنا ومايكل تحية على هذا التفسير الذي يبدو معقولًا إلى حد بعيد. ثم سألته بعد يومين قائلةً: «ولكن، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة. «لماذا»، على سبيل المثال، تمتلك راما نظامين هندسيين مختلفين؟ ولماذا توقف عمل النظام الرئيسي من الأساس؟»

أجاب ريتشارد بابتسامته المعتادة: «هنا، لا يمكنني إلا أن أخمن. ربما تحتاج النظم الرئيسية إلى إصلاحات دورية لا يمكن القيام بها إلا إذا كان هناك مصدر حرارة وطاقة خارجي. لقد رأيتِ كيف تقوم الكائنات الآلية المختلفة بصيانة سطح راما. ربما كانت هناك مجموعة أخرى من الكائنات الآلية تقوم بصيانة النظم الرئيسية.»

قال مايكل ببطء: «لديَّ فكرة أخرى. هل تعتقد أنهم تعمدوا أن يأتوا بنا على متن سفينة الفضاء هذه؟»

سأل ريتشارد عاقدًا جبينه: «ماذا تعني؟»

«هل تعتقد أن وجودنا هنا جاء بمحض الصدفة؟ أم أن وجود بعض أفراد الجنس البشري في راما في هذه اللحظة حدث مرجح الحدوث نظرًا إلى كل الاحتمالات ولطبيعة نوعنا؟»

أعجبتني طريقة تفكير مايكل. فرغم أنه لم يكن يفهم هذا الأمر تمامًا، فكان يشير إلى أن سكان راما قد لا يكونون مجرد عباقرة في العلوم البحتة والهندسة فحسب. بل ربما يعرفون شيئًا عن السيكولوجية العامة للبشر أيضًا. لم يفهم ريتشارد حديث مايكل.

سألت: «هل تلمح إلى أن سكان راما تعمَّدوا تشغيل النظم الثانوية وهم في جوار الأرض، متوقعين أنهم بهذا سيستدرجوننا لمقابلتهم؟»

قال ريتشارد على الفور: «هذا هراء.»

رد مايكل: «لكن، يا ريتشارد، فكر في هذا. ما احتمال حدوث أي لقاء بيننا لو أن سكان راما قد اندفعوا إلى نظامنا بسرعة تقترب كثيرًا من سرعة الضوء وداروا حول الشمس ورحلوا في رحلتهم السعيدة؟ صفر بالطبع. وكما أشرت أنت، ربما يوجد على هذه السفينة «أغراب» غيرنا، إذا كان من الممكن أن نسمي أنفسنا أغرابًا. وأشك أن يكون هناك الكثير من الأنواع التي تستطيع …»

أثناء أحد التوقفات في الحوار، ذكَّرتُ الرجلين بأن البحر الأسطواني سرعان ما سيذوب من أسفل وبأن ذلك ستتبعه على الفور أعاصير وموجات مد. اتفقنا جميعًا بعد ذلك على أننا يجب أن نحضر المركب الاحتياطي من الموقع بيتا.

استغرق الرجلان ما يربو قليلًا على اثنتي عشرة ساعة ليشقا طريقهما عبر الثلج ذهابًا وإيابًا. كان الليل قد أرخى سدوله بالفعل حين عادا. عندما وصل ريتشارد ومايكل إلى ملجئنا مدت سيمون ذراعيها لمايكل؛ إذ أصبحت تعي ما حولها جيدًا.

قال مايكل مازحًا: «أرى أن هناك من سُر بعودتي.»

قال ريتشارد: «لا حرج، ما دام من تتحدث عنه هو سيمون فقط.» وبدا أن أسلوبه يغلب عليه البرود والتوتر على نحو غريب.

استمر مزاجه الغريب طوال الليلة الماضية. فسألته ونحن بمفردنا على فراشنا: «ما بك يا حبيبي؟» لم يُجب على الفور؛ لذا قبَّلته على خده وانتظرت.

قال ريتشارد أخيرًا: «إنه مايكل. لقد أدركت اليوم ونحن نحمل المركب عبر الثلج أنه يحبك. ليتك سمعته. إنه لا يتحدث إلا عنك. أنت الأم المثالية، والزوجة المثالية، والصديقة المثالية. وصل الأمر لدرجة أنه اعترف أنه يحسدني.»

لاطفتُ ريتشارد ثواني قليلة محاولةً أن أفكر كيف أجيب. قلت في النهاية: «أعتقد أنك تبالغ في رد فعلك على عبارات غير مقصودة يا حبيبي. إن مايكل كان يعبر ببساطة عن عاطفته الصادقة. أنا أيضًا مولعة بشدة به …»

قاطعني مايكل فجأة: «أعرف … وهذا ما يزعجني. إنه يعتني بسيمون معظم الوقت الذي تكونين فيه مشغولة، وتتحدثان معًا لساعات وأنا أعمل في مشاريعي …»

توقف وحدق فيَّ بنظرة غريبة حزينة. كانت نظرته مخيفة. ليس هذا ريتشارد ويكفيلد الذي عرفته عن قرب لأكثر من سنة. سرت قشعريرة في جسدي وبعد ذلك لانت نظراته ومال ليقبلني.

بعد أن تطارحنا الغرام ونام، تقلَّبت سيمون فقررت أن أرضعها. وأنا أرضعها فكرت في المدة التي مضت منذ أن وجدنا مايكل في الجزء الأدنى من التلفريك. لا يوجد شيء أذكره من الممكن أن يكون قد أثار أدنى قدرٍ من غيرة ريتشارد. حتى علاقتنا الجسدية الحميمة ظلت منتظمة ومشبعة، مع أنني أعترف أنها لم تعد متميزة منذ مولد سيمون.

ظلت النظرة المجنونة التي رأيتها في عينَي ريتشارد تطاردني حتى بعد أن انتهيت من إرضاع سيمون. أخذت على نفسي عهدًا بتخصيص المزيد من الوقت لأختلي بريتشارد خلال الأسابيع المقبلة.

٦

٢٠ يونيو ٢٢٠٢

تأكد لي اليوم أنني حامل مرة أخرى. فسُرَّ مايكل، أما ريتشارد فلم يبال. وهو ما أدهشني. عندما تحدثت مع ريتشارد بمفردنا اعترف بأنه تعتريه مشاعر متضاربة لأن سيمون وصلت أخيرًا إلى مرحلة لم تعد تحتاج فيها إلى «عناية دائمة». ذكرته بأننا عندما تحدثنا منذ شهرين حول إنجاب طفل آخر، أبدى موافقته متحمسًا. فأشار إلى أن شغفه بأن يصبح أبًا لطفل ثانٍ جاء نتيجةً ﻟ «حماسي الواضح» في ذلك الوقت.

سيأتي طفلنا الجديد إلى الوجود في منتصف مارس. بحلول هذا الوقت، سنكون قد انتهينا من إعداد غرفة نوم الأطفال، وسيكون قد صار لدينا مكان كافٍ لاستيعاب جميع أفراد الأسرة. يؤسفني أن ريتشارد ليس مسرورًا بأنه سيصبح أبًا ثانية، ولكنني سعيدة لأن سيمون ستحظى برفيق يلعب معها.

١٥ مارس ٢٢٠٣

ولدت كاثرين كولين ويكفيلد (التي نطلق عليها كيتي) في الساعة السادسة وست عشرة دقيقةً من صباح يوم الثالث عشر من شهر مارس في الصباح. كانت الولادة يسيرة؛ فلم تستغرق المدة ما بين أولى الانقباضات القوية والولادة سوى أربع ساعات. ولم أشعر بألم شديد قط. ولدتُ وأنا جالسة القرفصاء وكنت في حالة جيدة جدًّا، حتى إنني قطعت الحبل السري بنفسي.

إن كيتي تبكي كثيرًا. فجنيفياف وسيمون كانتا طفلتين لطيفتين رقيقتين، أما كيتي فمن الواضح أنها ستكون مصدر إزعاج. سُرَّ ريتشارد برغبتي في تسميتها على اسم والدته. وكنت آمل أن يصبح أكثر اهتمامًا بدوره كأب في هذه المرة، ولكنه في الوقت الحاضر مشغول للغاية ﺑ «قاعدة البيانات الرائعة» الخاصة به (التي ستفهرس معلوماتنا كلها وتجعل الوصول إليها سهلًا) مما كان يحول دون اهتمامه بكيتي.

بلغ وزن ابنتي الثالثة عند ميلادها أقل من أربعة كيلوجرامات بقليل وبلغ طولها خمسة وأربعين سنتيمترًا. لم يكن وزن سيمون بالتأكيد ثقيلًا هكذا حين وُلدت، ولكن لم يكن لدينا ميزان دقيق حينها لأعرف على وجه اليقين. ولون بشرة كيتي مائل إلى البياض، بل يكاد يكون أبيض في واقع الأمر، وشعرها أفتح كثيرًا من شعر أختها الفاحم السواد. وعيناها زرقاوان، وقد أدهشني هذا. أعرف أنه ليس من الغريب أن يولد الأطفال بعينين زرقاوين، وأن لون عيونهم يتحول إلى لون داكن على نحو ملحوظ في السنة الأولى. ولكنني لم أتوقع ولو للحظة أن يُولد لي طفل بعينين زرقاوين.

١٨ مايو ٢٢٠٣

من العسير عليَّ أن أصدق أن سن كيتي تجاوز شهرين بالفعل. ويا لها من طفلة متعِبة! في هذه السن كان من المفترض أن أنجح في أن أعلمها ألا تنهش حلمتَي ثدييَّ، ولكنني لا أستطيع أن أدربها على الكف عن هذه العادة. وهي تكون صعبة المراس أكثر ما تكون عند وجود أحد آخر وأنا أرضعها. وإن التفتُّ مجرد التفاتة لأكلم مايكل أو ريتشارد أو حاولت الإجابة عن أحد أسئلة سيمون، فإنها تشد حلمتي بعنف.

كان ريتشارد متقلب المزاج جدًّا في الفترة الأخيرة. في بعض الأحيان يكون ريتشارد الذي نعرفه، ريتشارد الذكي البارع الذي يُضحكنا أنا ومايكل بقفشاته التي تنم عن سعة معرفته، ولكن مزاجه قد ينقلب في لحظة. إذ إن أي ملاحظة أبديها أنا أو مايكل ظانين أنها بريئة كفيلة بإصابته بالاكتئاب أو حتى الغضب.

أظن أن المشكلة الحقيقية التي يواجهها ريتشارد هذه الأيام هي الملل. فقد أنهى مشروع قاعدة البيانات الخاص به ولم يبدأ بعدُ في عمل كبير آخر. كما أن الكمبيوتر الرائع الذي صنعه العام الماضي يحتوي على روتينات فرعية تجعل عملية تواصلنا مع الشاشة السوداء عملًا روتينيًّا. كان يمكن لريتشارد أن يضفي بعض التنويع على أيامه بأن ينهض بدور أكبر في تهذيب سيمون وتعليمها، ولكنني أعتقد أن هذا ليس من طبعه. وهو لا يبدو مأخوذًا مثلي ومثل مايكل بأنماط النمو المعقدة التي تظهر على سيمون.

عندما كنت حاملًا في كيتي، كنت قلقة جدًّا بسبب عدم اهتمام ريتشارد الواضح بالأطفال. وقررت أن أواجه المشكلة مباشرةً بأن أطلب منه أن يساعدني في بناء معمل صغير يمكِّنني من تحليل جزء من جينوم كيتي من عينة من السائل الأمنيوسي من رحمي. وكان المشروع يتضمن كيمياء معقدة، ومستوًى من التعاون مع راما أعمق من أي مستوى حاولنا الوصول إليه من قبل، وكذلك صناعة بعض الأدوات الطبية المعقدة ومعايرتها.

نالت هذه المهمة إعجاب ريتشارد. وأنا أيضًا أحببتها لأنها ذكَّرتني بفترة دراستي في كلية الطب. كنا نعمل معًا مدة اثنتي عشرة ساعةً يوميًّا وأحيانًا مدة أربع عشرة ساعة حتى أنهينا عملنا (وكنا نترك مايكل يعتني بسيمون؛ لا شك أن كلًّا منهما مولع بالآخر). وكثيرًا ما كنا نتحدث عن عملنا حتى وقت متأخر من الليل، بل حتى أثناء مطارحتنا الغرام.

ولكن عندما جاء اليوم الذي أنهينا فيه تحليل جينوم ابنتنا القادمة اكتشفت أمرًا أثار دهشتي، وهو مدى تحمس ريتشارد لمطابقة المعدات والتحاليل لجميع مواصفاتنا أكثر من تحمسه بخصوص صفات ثانية بناتنا. اندهشت لذلك. عندما أخبرته أنني حامل في أنثى، وأن جيناتها لا تحمل متلازمة داون ولا متلازمة ويتينجهام، وأن ما يظهر عليها مبدئيًّا من احتمالات الإصابة بالسرطان لا يتجاوز الحدود المقبولة؛ رد ردًّا باهتًا. ولكن عندما أثنيت على السرعة والدقة اللتين أتمَّ بهما النظامُ الاختبارَ، ابتسم ريتشارد ابتسامة تنم عن الفخر. ما أغرب زوجي! إنه يستمد سعادته من عالم الرياضيات والهندسة أكثر مما يستمدها من الآخرين.

لاحظ مايكل أيضًا القلق الذي ظهر على ريتشارد مؤخرًا. فشجعه على ابتكار مزيد من اللعب لسيمون على نمط الدمى الرائعة التي صنعها عندما كنتُ في الأشهر الأخيرة من حملي بكيتي. وتلك الدمى لا تزال لعب سيمون المفضلة. فهي تسير بمفردها وتستجيب حتى للكثير من الأوامر الشفهية. في إحدى الليالي، عندما كان ريتشارد في إحدى حالاته المزاجية التي تتسم بالحيوية النابضة، برمج شين بحيث يتواصل مع الدمى. انفجرت سيمون في ضحك متواصل عندما طارد الآليُّ ويليام شكسبير (يصر مايكل على تسمية الرجل الآلي الذي صنعه ريتشارد والذي يلقي أشعار شكسبير باسمه الكامل) الدمى الثلاث وحبسهن في ركن، ثم أخذ يلقي وصلةً من سونيتات الحب لشكسبير.

لم يستطع شين نفسه أن يدخل البهجة على نفس ريتشارد في هذين الأسبوعين. إنه لا ينام جيدًا — وهذا غريب عليه — ولا يظهر حماسًا لأي شيء. حتى علاقتنا الجنسية المنتظمة والمتنوعة توقفت؛ لذا لا بد أن ريتشارد يعاني من هموم تقضُّ مضجعه. قبل ثلاثة أيام، خرج في الصباح الباكر (كان الوقت في راما أيضًا لم يتجاوز الفجر بكثير؛ كل مدة يصبح لساعة الأرض في ملجئنا وساعة راما في الخارج نفس التوقيت) وظل في نيويورك أكثر من عشر ساعات. وعندما سألته عما كان يفعل أجاب بأنه جلس على السور وظل يحدق في البحر الأسطواني. ثم غيَّر الموضوع.

مايكل وريتشارد مقتنعان بأننا الآن بمفردنا على جزيرتنا. فقد دخل ريتشارد ملجأ المخلوقات الطائرة مرتين مؤخرًا، وفي كل مرة كان يجلس على جانب الممر الرأسي بعيدًا عن الحراس المخصصين لمراقبة الحوض. كما أنه نزل ذات مرة في الممر الأفقي الثاني، الذي كنت تخطيته قفزًا من قبل، ولكنه لم يرَ أي علامة تدل على وجود حياة. ملجأ الأوكتوسبايدر الآن يغطيه زوج من الشبكات المعقدة بين الغطاء والبسطة الأولى من الدَّرَج. طوال الأشهر الأربعة الماضية، كان ريتشارد يراقب المنطقة المحيطة بملجأ الأوكتوسبايدر إلكترونيًّا، ومع أنه أقر بأن بعض الغموض يشوب البيانات التي جمعها أثناء مراقبته، فإنه يصر على أنه متأكد من أن الشبكات لم تفتح منذ وقت طويل، استنادًا إلى المعاينة البصرية فقط.

جمَّع الرجلان المركب الشراعي منذ شهرين، ثم قضيا ساعتين يختبرانه في البحر الأسطواني. لوحت لهما أنا وسيمون من على الشاطئ. وبعد هذا، فككا المركب ثانية وأدخلوه إلى ملجئنا لحمايته خوفًا من أن تصنفه السرطانات الآلية على أنه «مهملات» (كما فعلت فيما يبدو مع المركب الشراعي الآخر؛ فنحن لم نعرف قط ما الذي حل به، فبعد هروبنا من قاذفات فالنكس النووية بيومين عدنا إلى حيث تركناه ولكننا لم نجده).

أعرب ريتشارد عدة مرات عن رغبته في ركوب البحر إلى الجنوب ومحاولة البحث عن مكان يمكن أن يتسلق فيه المنحدر الصخري الذي يبلغ ارتفاعه خمسمائة مترٍ. فمعلوماتنا عن نصف الأسطوانة الجنوبية من راما محدودة للغاية. وباستثناء الأيام القليلة التي قضيناها في مطاردة الآليين مع طاقم رواد فضاء نيوتن الأصلي، فإن معرفتنا بالمنطقة تظل قاصرة على الصور البسيطة التي جمعناها من الصور الأولية التي التقطتها الوحدات التي من دون ربان التابعة لسفينة نيوتن. لا شك أن استكشاف الجنوب سيكون أمرًا مبهرًا، وربما يمكِّننا ذلك من اكتشاف المكان الذي ذهبت إليه كل كائنات الأوكتوسبايدر تلك. ولكننا لا نستطيع تحمُّل مغبة المخاطرة في هذه المرحلة. فأسرتنا تعتمد على كلٍّ من الثلاثة البالغين اعتمادًا حيويًّا بحيث إن فقد أي واحد منا سيكون ضربة قاضية.

أومن بأن مايكل أوتول راضٍ بالحياة التي صنعناها لأنفسنا على راما، ولا سيما أن حصولنا على الكمبيوتر الكبير الذي صنعه ريتشارد أتاح لنا الاطلاع على المزيد من المعلومات بلا صعوبة تذكر. فنحن الآن نصل إلى كل البيانات الموسوعية التي كانت مخزنة على متن مركبة نيوتن العسكرية. ومايكل منشغل حاليًّا ﺑ «وحدة دراسية» — كما يطلق على وسيلة تسليته المنظمة — هي تاريخ الفن. فعلى مدى الشهر الماضي، كان حديثه يسيطر عليه آل ميديتشي، والباباوات الكاثوليكيون في عصر النهضة، ومايكل أنجلو، ورفائيل، وغيرهم من الرسامين العظماء الذين عاشوا في تلك المدة. وهو الآن يبحر في القرن التاسع عشر، وهذه المدة من تاريخ الفن — في رأيي — شائقة أكثر. ودارت بيننا مؤخرًا حوارات كثيرة حول «الثورة» الانطباعية، ولكن مايكل لم يقتنع بما قلته بأن المدرسة الانطباعية كانت مجرد نتيجة طبيعية لظهور الكاميرا.

يقضي مايكل ساعات طويلة مع سيمون. وهو صبور وحنون ويهتم بها. وهو يراقب نموها باهتمام، ويسجل المحطات الرئيسية التي تمر بها في الكمبيوتر المحمول الإلكتروني الخاص به. في الوقت الحالي تعرف سيمون واحدًا وعشرين حرفًا من حروف الأبجدية الإنجليزية الستة والعشرين بالنظر (ولكنها لا تميز بين السي والإس وكذلك الواي والفي، ولا تستطيع أن تتعلم حرف الكيه لسبب ما)، وتستطيع أن تعد حتى عشرين حين يكون مزاجها صافيًا. كما تنجح في التعرف على رسومات المخلوقات الطائرة وكائنات الأوكتوسبايدر والكائنات الآلية الأربعة الأوسع انتشارًا. كما أنها تعرف أسماء الحواريين الاثني عشر، وهذا لم يسعد ريتشارد. لقد عقدنا من قبل «اجتماع قمة» حول التربية الدينية لبناتنا، ولم يسفر إلا عن اختلاف مهذب في الرأي.

بهذا لا يبقى سوى الحديث عني. فأنا أشعر بالسعادة في أغلب الأوقات، مع أنني أمر بأيام تجتمع فيها عليَّ عدة عوامل مثل: قلق ريتشارد، وبكاء كيتي، وسخافة حياتنا الغريبة على سفينة الفضاء هذه التي بنتها كائنات من خارج الأرض؛ فتفت من عضدي. أنا دائمًا مشغولة. فأنا أخطط لمعظم نشاطات الأسرة وأقرر ماذا نأكل ومتى، وأنظم البرامج اليومية للأطفال بما فيها أوقات نومهم. ولا أكف أبدًا عن طرح السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ ولكن عدم معرفتي الإجابة لم يعد يصيبني بالإحباط.

لو كان خياري بيدي، لما كان نشاطي الفكري الشخصي محدودًا هكذا، ولكنني أعود وأقول لنفسي إن اليوم به ساعات قليلة. ومشكلتي لا تكمن في أنني أفتقر إلى الحافز؛ فأنا وريتشارد ومايكل كثيرًا ما ندخل في حوارات مثيرة. ولكن كلًّا منهما لا يهتم كثيرًا بالمجالات الفكرية التي طالما ظلت جزءًا من حياتي. فعلى سبيل المثال، ظللت أعتز كل الاعتزاز بالمهارات التي أتمتع بها في اللغات واللغويات منذ بواكير أيام دراستي. وحلمت منذ عدة أسابيع حلمًا مخيفًا بأنني نسيت الكتابة أو التحدث بأي لغة غير الإنجليزية. فظللت بعدها أمضي ساعتين بمفردي يوميًّا مدة أسبوعين في مراجعة اللغة الفرنسية المحببة إليَّ، وفي استذكار الإيطالية واليابانية أيضًا.

بعد ظهر أحد أيام الشهر الماضي عرض ريتشارد على الشاشة السوداء صورًا جاء بها تلسكوبٌ راميٌّ خارجي، تظهر فيها شمسنا وآلاف النجوم الأخرى على مرمى البصر. كانت الشمس هي أكثر الأجرام السماوية لمعانًا، وإن كان ذلك على نحو طفيف. ذكرني ريتشارد أنا ومايكل بأننا نبعد عن كوكبنا الأزرق الأصلي أكثر من اثني عشر ألف مليار كيلومترٍ، والذي يتحرك في مدار حول ذلك النجم البعيد الصغير.

بعد ذلك، في مساء نفس اليوم شاهدنا فيلم «الملكة إليانور»، وهو أحد الأفلام الثلاثين — أو نحوها — الموجودة على متن نيوتن من البداية لتسلية طاقم رواد الفضاء. كان الفيلم مقتبسًا — في خطوطه العريضة — من الروايات الناجحة التي كتبها والدي عن إليانور الأكويتينية وصُوِّر في كثير من المواقع التي زرتها مع والدي وأنا في مرحلة المراهقة. تدور أحداث المشاهد الأخيرة من الفيلم في دير فونفرو، وهي تتناول السنوات السابقة لوفاة إليانور. أذكر نفسي وأنا في الرابعة عشرة من عمري واقفةً في الدير بجوار والدي أمام التمثال المنحوت لإليانور ويداي ترتعشان من فرط الانفعال وأنا أتشبث بيديه. قلتُ ذات مرة لروح الملكة التي هيمنت على تاريخ القرن الثاني عشر في فرنسا وإنجلترا: «كنتِ امرأة عظيمة، وأنتِ قدوة لي. لذا لن أخذلك.»

في تلك الليلة، بعد أن نام ريتشارد، وبينما كانت كيتي هادئة مؤقتًا، فكرت في ذلك اليوم ثانية فملأني حزن عميق، إحساس بالضياع لا أستطيع أن أصفه. عندما ظهر في مخيلتي مشهد الشمس وهي تغرب بجوار صورتي وأنا مراهقة أقطع الوعود الشجاعة للملكة التي كان قد مضى على وفاتها نحو ألف عام، تذكرتُ أن كل شيء عرفته قبل راما ذهب بلا رجعة. ابنتاي الأخيرتان لن تريا أبدًا أيًّا من الأماكن التي أعتز بها بشدة أنا وجنيفياف. لن تعرفا أبدًا رائحة الحشائش بعد جزها مباشرةً في الربيع، أو جمالَ الزهورِ البهيَّ، أو تغريد العصافير، أو تألُّق البدر وهو يرتفع فوق المحيط. لن تعرفا كوكب الأرض على الإطلاق، ولا أيًّا من ساكنيه فيما عدا هذا الطاقم الصغير المؤلف من أفراد مختلفين، سيكونون في مرتبة عائلتهما، وهو تمثيل غير وافٍ للحياة الزاخرة على كوكبنا السعيد.

في تلك الليلة بكيتُ بهدوء عدة دقائق، وكنت على علم وأنا أبكي بأنني سأرتدي قناع التفاؤل ثانيةً في الصباح. فرغم كل ذلك، كان من الممكن أن يئُول الوضع إلى أسوأ مما هو عليه. فنحن نتمتع بضروريات الحياة من غذاء وماء ومأوى وملبس، وصحة جيدة وصحبة، وبالطبع الحب. فالحب هو أهم عناصر سعادة البشر، سواء على الأرض أو على راما. لو لم تتعلم سيمون وكيتي من العالم الذي تركناه خلفنا سوى الحب، فإن هذا يكفي.

٧

١ أبريل ٢٢٠٤

كان اليوم غير عادي بكل ما فيه. بدايةً، ما إن استيقظ الجميع حتى أعلنت أننا سنخصص هذا اليوم لإحياء ذكرى إليانور الأكويتينية التي ماتت في مثل هذا اليوم من ألف عام مضت بالضبط، هذا إذا كان المؤرخون على صواب وإذا كنا اتبعنا التقويم بدقة. وكان من دواعي سروري أن الأسرة كلها أيدت الفكرة وتطوع ريتشارد ومايكل على الفور للمساعدة في إعداد مظاهر الاحتفال. اقترح مايكل؛ إذ استبدل بوحدة تاريخ الفن التي كان يطالعها أخرى عن الطهي، أن يعد وجبة سريعة خاصة على طريقة العصور الوسطى على شرف الملكة. أما ريتشارد، فخرج مسرعًا ومعه شين هامسًا لي أن الروبوت الصغير سيعود في صورة الملك هنري الثاني.

أعددت درس تاريخ قصيرًا لسيمون لأعرفها بالملكة إليانور وبأحوال عالم القرن الثاني عشر. وكانت منتبهة انتباهًا شديدًا. حتى كيتي التي لا تجلس أبدًا في هدوء لأكثر من خمس دقائق كانت متعاونة ولم تقاطعنا. وقضت معظم الصباح في لعب هادئ بعرائسها الصغيرة. سألتني سيمون في نهاية الدرس عن سبب موت الملكة إليانور. وعندما أجبت بأنها ماتت بسبب تقدم العمر، سألتني ابنتي ذات السنوات الثلاث عما إذا كانت الملكة إليانور قد «دخلت الجنة».

سألتُ سيمون: «من أين أتيتِ بهذه الفكرة؟»

أجابت: «من العم مايكل. قال لي إن الطيبين يدخلون الجنة عندما يموتون، وإن الأشرار يدخلون النار.»

قلت لها بعد هنيهة من التأمل: «بعض الناس يعتقدون أن هناك جنة. والبعض الآخر يعتقدون في فكرة تسمى التناسخ، بمعنى أن الناس تعود وتحيا أرواحهم مرة أخرى في صورة شخص آخر أو حتى في صورة حيوان آخر. وهناك آخرون يعتقدون أن كل مخلوق هو معجزة فريدة، يصحو منذ الحمل حتى الولادة ثم ينام للأبد عندما يموت.» ثم ابتسمتُ وبعثرت شعرها.

سألتني ابنتي بعد هذا: «وأنت يا أمي، ما الذي تؤمنين به؟»

شعرت بشعور يشبه الذعر يتملكني. حاولت أن أكسب وقتًا أرتب فيه ما أقوله فراوغتها ببعض التعليقات. تردد في عقلي وقتها تعبير من قصيدتي المفضلة للشاعر تي إس إليوت نصه: «ليؤدي بك إلى سؤال مربك.» لحسن الحظ وصلت النجدة.

«وداعًا يا صغيرتي.» دلف الروبوت الصغير شين إلى الحجرة مرتديًا زيًّا يفترض أنه يشبه ملابس ركوب الخيل في القرون الوسطى، وأخبر سيمون بأنه هنري الثاني ملك إنجلترا وزوج الملكة إليانور. تألقت ابتسامة سيمون. ونظرت كيتي إلى أعلى واتسعت ابتسامتها.

قال الروبوت وهو يحرك ذراعيه الصغيرتين حركة توحي بالعظمة: «لقد بنيت أنا والملكة مملكة عظيمة ضمَّت في النهاية إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا وويلز بالكامل ونصف ما يسمى الآن بفرنسا.» ومضى يلقي محاضرة مُعدة سلفًا بحيوية، وأخذ يسلي سيمون وكيتي بغمزاته وحركات يديه، ثم أدخل يده في جيبه وأخرج سكينًا وشوكة صغيرتين مدعيًا أنه هو من عَرَّف «الشعب الإنجليزي البربري» بمفهوم أدوات الطعام.

سألته سيمون بعد أن أنهى حديثه: «ولمَ سجنت الملكة إليانور؟» وابتسمت. لقد كانت منتبهة بالفعل في درس التاريخ. دارت رأس الروبوت ونظر باتجاه ريتشارد. فرفع ريتشارد إصبعه طالبًا الانتظار قليلًا، واندفع خارجًا إلى الممر هو وشين. وبعد ما لا يزيد على دقيقة عاد شين، المعروف أيضًا بهنري الثاني. ومشى إلى سيمون. وقال: «وقعت في حب امرأة أخرى فغضبت الملكة إليانور. ولتنتقم مني حرضت أبنائي ضدي …»

بعد هذا بقليل كنت منهمكة مع ريتشارد في جدال طفيف حول الأسباب الحقيقية التي من أجلها حبس هنري إليانور (كثيرًا ما كنا نكتشف أننا اطلعنا على روايات مختلفة عن التاريخ الأنجلو فرنسي) حين سمعنا صرخة تأتي من بعيد، وإن كانت واضحة. في لحظات صعدنا نحن الخمسة إلى أعلى. وانطلقت الصرخة مرة ثانية.

نظرنا إلى السماء من فوقنا. فرأينا أحد المخلوقات الطائرة يطير وحيدًا باسطًا جناحيه فوق ناطحات السحاب ببضع مئات من الأمتار. أسرعنا إلى الأسوار المجاورة للبحر الأسطواني حتى نحظى برؤية أفضل. وأخذ المخلوق الهائل يحلِّق حول محيط الجزيرة مرة ومرتين وثلاثة. وفي نهاية كل دورة كان يطلق صرخة واحدة طويلة. لوَّح ريتشارد بذراعيه وصرخ أثناء طيرانه ولكن لم تظهر أي إشارة بأن المخلوق قد لاحظ وجوده.

بعد حوالي ساعة، بدأ الاضطراب ينتاب الطفلتين. اتفقنا على أن يعود بهما مايكل إلى الملجأ وأن أبقى أنا وريتشارد ما دام هناك احتمال للتواصل. استمر الطائر في الطيران على نفس النمط. فسألت ريتشارد: «هل تعتقد أنه يبحث عن شيء ما؟»

أجاب قائلًا: «لا أعرف»، وعاد يصيح مرة أخرى ويلوح للطائر الذي وصل إلى النقطة التي أصبح فيها أقرب لنا. وفي هذه المرة غَيَّر الطائرُ مسارَه ورسم أقواسًا جميلة طويلة في الهواء وهو يهبط هبوطًا حلزونيًّا. وكلما زاد اقترابًا، صار بوسعي أنا وريتشارد أن نرى بطنه الرمادي الناعم والحلقتين الحمراوين الزاهيتين اللتين تحيطان برقبته.

همست لريتشارد: «إنه صديقنا»، فقد تذكرت الطائر القائد الذي وافق على نقلنا عبر البحر الأسطواني قبل أربع سنوات.

غير أن هذا الطائر لم يعد ذلك المخلوق القوي ذا الصحة الجيدة الذي كان يطير في وسط التشكيل عندما هربنا من نيويورك. وإنما صار نحيلًا هزيلًا متسخ الريش وأشعثه. قال ريتشارد والطائر يهبط على بعد حوالي عشرين مترًا منا: «إنه مريض.»

تمتم الطائر بشيء ما بهدوء وأدار رأسه بعنف كما لو كان ينتظر مجيء مزيد من الرفاق. أخذ ريتشارد خطوة باتجاهه فلوَّح الطائر بجناحيه ورفرف بهما مرة واحدة وتراجع عدة أمتار. قال ريتشارد بصوت منخفض: «ماذا لدينا من طعام يشبه بطيخ المنِّ في تركيبه الكيميائي؟»

هززت رأسي وأجبت: «ليس لدينا أي طعام على الإطلاق إلا دجاج الليلة الماضية.» ثم أضفت فجأة: «انتظر، لدينا الشراب الأخضر الذي يحبه الأطفال. إنه يشبه السائل الذي يكون في وسط بطيخ المنِّ.»

رحل ريتشارد قبل أن أنهي الجملة. وطوال الدقائق العشر التي مضت قبل عودته ظللت أنا والمخلوق الطائر يحدق كلٌّ منا في الآخر في صمت. حاولت أن أركز عقلي على أفكار ودودة على أمل أن تعكس له عيناي نواياي الحسنة بطريقة ما. شاهدت المخلوق الطائر يغير التعبير المرتسم على وجهه مرة ولكن بالطبع لم أعرف معنى أيٍّ من تعبيراته.

عاد ريتشارد حاملًا سلطانية سوداء ممتلئة بالشراب الأخضر. وضع السلطانية أمامنا وأشار إليها ونحن نرجع إلى الخلف ستة أو ثمانية أمتار. اقترب الطائر من السلطانية في خطوات صغيرة مترددة حتى وقف في النهاية أمامها مباشرة. وضع منقاره في السائل ورشف رشفةً صغيرةً ثم أرجع رأسه للخلف ليبتلعها. من الواضح أن الشراب كان لذيذًا إذ إن الطائر شربه كله في أقل من دقيقة. عندما انتهى الطائر رجع إلى الخلف خطوتين وبسط جناحيه على اتساعهما ودار دورة كاملة.

قلت وأنا أمد يدي لريتشارد: «الآن علينا أن نقول «عفوًا».» قمنا بحركة دائرية كالتي قمنا بها ونحن نقول له وداعًا وشكرًا قبل أربع سنوات، وانحنينا انحناءة خفيفة في اتجاه الطائر بعد أن انتهينا.

اعتقدتُ أنا وريتشارد أن المخلوق ابتسم، ولكن سرعان ما أقررنا بعد ذلك بأن هذا قد يكون من وحي خيالنا. بسط الطائر ذو الريش الرمادي جناحيه وارتفع عن الأرض وحلق فوقنا في الجو.

سألت ريتشارد: «إلى أين تعتقد أنه ذاهب؟»

أجاب بصوت خفيض: «إنه يموت. إنه يلقي نظرة أخيرة على العالم الذي عرفه.»

٦ يناير ٢٢٠٥

اليوم عيد ميلادي. أنا الآن في الحادية والأربعين من عمري. في الليلة الماضية، رأيت حلمًا آخر من أحلامي ذات التفاصيل الواضحة. في هذا الحلم، كنت عجوزًا. وكان شعري كله رماديًّا ووجهي تغطيه التجاعيد. كنت أعيش في قصر — في مكان ما بالقرب من نهر لوار، لا يبعد كثيرًا عن بوفوا — مع ابنتين كبيرتين (كلتاهما لا تشبهان، في الحلم، سيمون أو كيتي أو جنيفياف) وثلاثة أحفاد. كان الأولاد كلهم في مرحلة المراهقة، وكانوا أصحاء جسديًّا ولكن كان هناك خطْب ما في كلٍّ منهم. كانوا كلهم أغبياء، بل ربما متخلفين عقليًّا. أتذكر أنني حاولت في الحلم أن أشرح لهم كيف يحمل جزيء الهيموجلوبين الأكسجين من الجهاز التنفسي إلى الأنسجة. ولكن لم يستطع أيٌّ منهم فهم ما كنت أقوله.

استيقظت من الحلم وقد أصابتني حالة من الاكتئاب. كنا في منتصف الليل وجميع أفراد الأسرة نائمون. وكعادتي دائمًا، سرت في الممر إلى حجرة الأطفال لأتأكد من أن الفتاتين لا تزالان مغطاتين ببطانيتيهما الخفيفتين. نادرًا ما تتقلب سيمون ليلًا أما كيتي، كالعادة، فقد أطاحت بالبطانية وهي تتقلب. أعدت الغطاء على كيتي وجلست على أحد الكراسي.

وأخذت أسأل نفسي: ما الذي يزعجني؟ لماذا أرى الكثير من الأحلام عن الأبناء والأحفاد؟ في أحد أيام الأسبوع الماضي أشرت مازحة إلى احتمال إنجاب طفل ثالث فكاد ريتشارد يفقد صوابه؛ إذ إنه يمر الآن بنوبة أخرى من نوبات الاكتئاب المطولة التي تنتابه. أعتقد أنه لا يزال نادمًا على أنني أقنعته بإنجاب كيتي. أنهيت الموضوع على الفور حتى لا يلقي خطبة أخرى من خطبه المشحونة بفلسفة العدم.

هل أريد حقًّا إنجاب طفل آخر في هذه الظروف؟ بالنظر إلى الموقف الذي نحن فيه، هل تصبح هذه الفكرة معقولة؟ حتى وإن نحينا مؤقتًا الأسباب الشخصية التي تدفعني إلى إنجاب طفل ثالث، فإننا سنجد حجة بيولوجية قوية تؤيد استمرار الإنجاب. إن أفضل ما يمكننا أن نفترضه بشأن مصيرنا هو أننا لن نحظى بأي فرصة للتواصل مع فرد آخر من أفراد الجنس البشري. وإذا كنا آخر أفراد سلالتنا، فمن الحكمة أن ننتبه إلى أحد مبادئ التطور الأساسية، ألا وهو أنه كلما زاد التنوع الجيني، ارتفع احتمال البقاء في البيئات المتقلبة.

في الليلة الماضية، بعد أن أفقت تمامًا من حلمي، استرسل عقلي في هذا السيناريو. قلت لنفسي: فلنفترض أن راما ليست ذاهبة إلى مكان محدد، على الأقل على المدى القريب، وأننا سنمضي ما تبقى من حياتنا في مثل الظروف الراهنة. إذن فمن المحتمل بقاء سيمون وكيتي على قيد الحياة ووفاتنا نحن الثلاثة؟ ماذا سيحدث بعد هذا؟ إن لم نحتفظ بطريقة ما ببعض مَني مايكل أو ريتشارد (وهذا سيؤدي إلى مشاكل بيولوجية ونفسية جسيمة) لن تتمكن ابنتاي من الإنجاب. ربما تصلان إلى الجنة أو نرفانا أو أي عالم آخر، ولكنهما في النهاية ستموتان وستموت معهما الجينات التي تحملانها.

واصلت التفكير: ولكن لنفترض أنني أنجبت ذكرًا. في هذه الحالة سيكون للفتاتين رفيقٌ ذكر في مثل سنهما وستقل كثيرًا مشكلة الأجيال التالية.

عند هذه المرحلة من التفكير قفزت إلى عقلي فكرة مجنونة جدًّا. كان علم الوراثة، وخاصة ما يتعلق بالعيوب الوراثية، من مجالات تخصصي الرئيسية أثناء التدريب الطبي الذي حصلت عليه. تذكرت دراسات الحالة التي أجريتها على الأسر الملكية في أوروبا فيما بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر وما ظهر على بعض أفرادها من تدهور نتيجة للإفراط في الزواج بين الأقارب. إذا أنجبت أنا وريتشارد ولدًا فستكون له نفس المكونات الجينية الموجودة في سيمون وكيتي. وستتضخم بشدة مخاطر أن يأتي أبناء هذا الولد من إحدى بناتي — وهم من سيكونون أحفادنا — مصابين بالعيوب. من ناحية أخرى، إذا أنجبت أنا ومايكل ابنًا لن يشترك مع الفتاتين إلا في نصف الجينات، وستقل مخاطر تعرض ذريته من سيمون أو كيتي للإصابة بالعيوب إلى حدٍّ كبير، على حد ما أذكر.

استبعدتُ هذه الفكرة الشائنة على الفور. ولكنها لم تبارح ذهني. في وقت متأخر من الليل، كان ينبغي أن أكون نائمة فيه، عاد ذهني إلى نفس الموضوع. ماذا لو حملت من ريتشارد مرة أخرى وأنجبت فتاة ثالثة؟ عندها سيكون لزامًا علينا أن نعيد العملية كلها. وأنا الآن في الحادية والأربعين. فكم عامًا أمامي قبل أن يبدأ سن انقطاع الطمث، حتى وإن أخرته كيميائيًّا؟ استنادًا إلى نقطتَي البيانات المتوافرتين لا يوجد دليل على أن ريتشارد يستطيع أن ينجب ولدًا. يمكننا أن نبني معملًا يمكِّننا من اختيار الحيوانات المنوية الذكرية من سائله المنوي، ولكن هذا سيتطلب جهدًا ضخمًا من جانبنا وشهورًا من التفاعل المفصل مع سكان راما. وستبقى أمامنا بعد هذا مشاكل حفظ الحيوانات المنوية ونقلها إلى المبايض.

أخذت أفكر في التقنيات المُثبتة المختلفة التي تؤثر في عملية الاختيار الطبيعي للجنس (مثل غذاء الرجل، ونوع الجماع وعدد مراته، والتوقيت قياسًا بالتبويض … إلخ) وانتهيت إلى أنني وريتشارد ستكون أمامنا فرصة جيدة لإنجاب ولد بطريقة طبيعية إذا توخينا الحرص الشديد. ولكن في قرارة نفسي ظلَّتْ تُلح عليَّ فكرة أن الفائدة ستكون أكبر كثيرًا إذا كان مايكل هو الأب. فقد أنجب مايكل ولدين (من بين ثلاثة أطفال) دون تخطيط. فمهما استطعت تحسين احتمالات إنجاب ولد من ريتشارد باستخدام تقنيات معينة، فإن اتباع نفس هذه التقنيات مع مايكل سيجعل الاحتمالات مضمونة تمامًا.

قبل أن أعود للنوم مرة أخرى، فكرت قليلًا في مدى تعذر تنفيذ الفكرة بأكملها. إذ سيكون علينا أن نبتكر طريقة مضمونة للإخصاب الصناعي (وسيكون عليَّ أن أشرف عليها مع أنني سأكون خاضعة لها في نفس الوقت). هل سيمكننا أن نقوم بهذا في وضعنا الحالي مع ضمان جنس الجنين وسلامة صحته؟ فحتى في المستشفيات التي على الأرض بكل الموارد المتاحة لها، لا تكلل المحاولات بالنجاح دائمًا، فما بالك هنا؟ البديل الآخر هو أن أضاجع مايكل. مع أنني لم أستهجن الفكرة، بدت العواقب الاجتماعية وخيمة للغاية حتى إنني استبعدت الفكرة برمتها.

•••

(بعد ست ساعات.) فاجأني الرجلان الليلة بعشاء مميز. فقدرات مايكل كطاهٍ محترف تتقدم. كان طعم الطعام يشبه طعم فطيرة اللحم البقري، كما أخبراني، مع أنه كان يبدو أشبه بالسبانخ بالكريمة. كما قدم ريتشارد ومايكل سائلًا أحمر اللون أطلقا عليه خمرًا. لم يكن شنيعًا؛ لذا شربته، واكتشفت أنه يحتوي بعض الكحول، وهو ما أدهشني، وشعرت أنني ثملت.

كنا نحن البالغين نترنح قليلًا في نهاية العشاء. وأثار سلوكنا حيرة الفتاتين، ولا سيما سيمون. أثناء تناولنا الحلوى المكونة من فطيرة جوز الهند أخبرني مايكل أن ٤١ «عدد مميز للغاية». ثم أوضح لي أنه أكبر عدد أولي يبدأ متتالية تربيعية من الأعداد الأولية الأخرى. وعندما سألته عن ماهية المتتالية التربيعية ضحك وقال لي إنه لا يعرف. ولكنه كتب المتتالية التي تتكون من أربعين عنصرًا التي كان يتحدث عنها: ٤١، ٤٣، ٤٧، ٥٣، ٦١، ٧١، ٨٣، ٩٧، ١١٣ … وانتهى بالرقم ١٦٠١. وأكد لي أن كلًّا من الأربعين عددًا في المتتالية هو عدد أولي، وقال وهو يغمز: «لذا لا بد أن ٤١ عدد سحري».

بينما كنت أضحك، نظر رفيقنا العبقري ريتشارد إلى الأعداد وبعد ما لا يزيد عن دقيقة من العمل على الكمبيوتر شرح لي ولمايكل السبب في تسمية المتتالية «تربيعية». فقال موضحًا بمثال: «الاختلافات الثانية ثابتة. ولهذا يمكن تكوين المتتالية كلها من مقدار تربيعي بسيط. لنأخذ مثلًا ، بحيث ترمز إلى أي عدد صحيح من صفر حتى ٤٠. إن هذه الدالة ستنتج المتتالية بأكملها.»
ثم قال وهو يضحك: «وما سأذكره الآن أروع مما سبق: انظرا إلى المتتالية التالية حيث ترمز إلى أي عدد صحيح من ١ إلى ٨٠. هذه الصيغة التربيعية تبدأ من نهاية سلسلة الأرقام، ، وتستمر أولًا في متتالية ذات ترتيب متناقص. ثم تعكس نفسها بعد هذا عندما تصل إلى ثم تبدأ في تكوين مجموعة الأرقام الكاملة من جديد في ترتيب متصاعد.»

ابتسم ريتشارد، وأخذت أتطلع إليه أنا ومايكل في رهبة.

٣١ مارس ٢٢٠٥

كان عيد ميلاد كيتي الثاني اليوم، والجميع في حالة مزاجية جيدة، وخاصة ريتشارد. إنه يحب ابنته الصغيرة حبًّا جمًّا، مع أنها تعامله بعنف. واحتفالًا بعيد ميلادها، أخذها إلى غطاء ملجأ الأوكتوسبايدر وخلخلا الشبكة معًا. أعربت أنا ومايكل عن استهجاننا، ولكن ريتشارد ضحك وغمز لكيتي.

أثناء الغداء، عزفت سيمون مقطوعة قصيرة على البيانو كان مايكل يعلِّمها إياها، وقدم ريتشارد خمرًا مميزًا — أطلق عليها الخمر الأبيض الرامي — مع السلمون المسلوق الذي اعتدنا عليه. في راما يبدو السلمون المسلوق مثل البيض المقلي المخفوق على الأرض، وهذا محير بعض الشيء، ولكننا نلتزم بالعرف الذي نتبعه في تصنيف الطعام تبعًا لمحتواه الغذائي.

أشعر بسعادة غامرة مع أنني يجب أن أعترف أنني متوترة بعض الشيء بسبب النقاش القادم الذي سأجريه مع ريتشارد. إنه مبتهج جدًّا حاليًّا، والسبب الأساسي في هذا هو أنه منشغل بالعمل لا في مشروع واحد فقط وإنما في مشروعين. فهو لا يقوم فقط بإعداد مشروب ينافس بطعمه ومحتواه الكحولي أجود الخمور على كوكب الأرض، وإنما يقوم أيضًا بتصنيع مجموعة جديدة من الآليين الذين يبلغ طول الواحد منهم عشرين سنتيمترًا، استوحاهم من شخصيات مسرحيات الكاتب المسرحي صامويل بيكيت الحاصل على جائزة نوبل في القرن العشرين. ظللت أنا ومايكل سنواتٍ نحث ريتشارد على إعادة تجسيد أفراد فرقة شكسبير المسرحية ولكن ذكرى أصدقائه الذين فقدهم كانت دائمًا ما تمنعه. أما تناول شخصيات كاتب مسرحي جديد، فهذا أمر مختلف. لقد انتهى الآن من إعداد شخصياتِ مسرحيةِ «نهاية اللعبة» الأربع. ضحك الأطفال الليلة بمرح عندما ظهرت الشخصيتان العجوزتان «ناج» و«نل» من سلتي المهملات الصغيرتين صائحين: «عصيدتي. أعطني عصيدتي.»

بالتأكيد سأعرض على ريتشارد فكرتي عن إنجاب طفل من مايكل. فأنا متأكدة من أنه سيقدر المنطق والمنطلق العلمي اللذين يقوم عليهما الاقتراح، مع أنني لا أعتقد أنه سيتحمس كثيرًا لهذا الاقتراح. بالطبع لم أحدث مايكل بعدُ عن الفكرة على الإطلاق. ولكنه يدرك بالتأكيد أن ثمة أمرًا خطيرًا يدور في ذهني لأنني طلبت منه أن يعتني بالفتاتين هذا المساء بينما أذهب أنا وريتشارد لتناول الطعام في الهواء الطلق في الأعلى ونتحدث.

لعل الخوف الذي يعتريني من هذا الموضوع لا مبرر له. إنه بالتأكيد نابع من تعريف البشر للسلوك الملائم الذي لا ينطبق على وضعنا الحالي. ريتشارد على ما يرام هذه الأيام. سخريته أصبحت لاذعة جدًّا في الآونة الأخيرة. وربما يلقي عليَّ بعض الملاحظات التهكمية الحادة خلال نقاشنا، ولكنني متأكدة من أنه سيؤيد الفكرة في النهاية.

٨

٧ مايو ٢٢٠٥

كان هذا سبب شجارنا. أوه، يا إلهي، يا لغبائنا نحن البشر! ريتشارد، ريتشارد، أرجوك عُد.

من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ هل أجرؤ على أن أغامر؟ في الدقيقة الواحدة تنكشف أمامي حقائق كانت غائبة، وأعيد قراءة الموقف حتى تصير الدقيقة … يقطع مايكل وسيمون الحجرة المجاورة جيئةً وذهابًا وهما يتحدثان عن مايكل أنجلو.

كان والدي دائمًا ما يقول لي إن كل ابن آدم خطاء. ولكن لماذا جاء خطئي فادحًا إلى هذا الحد؟ بدت لي الفكرة منطقية. قال الجزء الأيسر من عقلي إنها منطقية. ولكن في أعماق النفس البشرية، لا تكون الغلبة دائمًا للعقل. فالمشاعر لا يحكمها منطق. والغيرة ليست من مخرجات برنامج من برامج الكمبيوتر.

كان هناك الكثير من المؤشرات التي تنبئ برد فعل ريتشارد. ففي المساء الأول الذي صارحته فيه بفكرتي عندما كنا نتناول الطعام في الهواء الطلق بجوار البحر الأسطواني، كنت أستطيع أن أقرأ في عينَي ريتشارد أن ثمة مشكلة ما. قلت لنفسي: آه، تراجعي يا نيكول.

ولكنه بدا منطقيًّا جدًّا فيما بعد. فقد قال في نفس ذلك المساء: «بالطبع ما تقترحينه هو الصواب من الناحية الجينية. سأذهب معك لأخبر مايكل. ودعينا ننتهي من هذا بأقصى سرعة ممكنة، ولنأمل ألا يتطلب الأمر أكثر من لقاء واحد.»

شعرت بالابتهاج في هذا الوقت. لم أتخيل أبدًا أن مايكل قد يعارض فكرتي. ولكنه قال في المساء — والطفلتان نائمتان — بعد أن فهم ما نقترحه بثوانٍ: «هذا إثم.»

بادره ريتشارد بالهجوم قائلًا إن مفهوم الإثم بأكمله مفهوم لا وجود له حتى على الأرض، وإن مايكل يتصرف بسخافة. في نهاية الحوار سأل مايكل ريتشارد مباشرةً: «هل تريدني حقًّا أن أفعل هذا؟»

أجاب ريتشارد بعد قليل من التردد: «لا، ولكن من الواضح أن هذا في مصلحة أبنائنا.» كان ينبغي عليَّ أن أولي كلمة «لا» مزيدًا من الاهتمام.

لم أتخيل أبدًا أن خطتي قد تبوء بالفشل. تابعت دورة التبويض بعناية. وعندما جاءت الليلة المحددة أخبرت ريتشارد فدلف خارجًا من الملجأ في واحدة من نزهاته الطويلة في راما. كان مايكل عصبيًّا وكان يصارع شعوره بالذنب، ولكن حتى في أسوأ كوابيسي لم أتخيل أنه سيعجز عن مضاجعتي.

عندما خلعنا ملابسنا (في الظلام، حتى لا ينزعج مايكل) ورقد كلٌّ منا بجوار الآخر على الفراش، اكتشفت أن جسده كان صلبًا ومشدودًا. قبلته على جبهته ووجنتيه. ثم حاولت أن أخفف من توتره بتدليك ظهره ورقبته. بعد حوالي ثلاثين دقيقة من الملامسة (لم يحدث فيها شيء يمكن أن نطلق عليه مداعبة جنسية)، دنوت بجسدي من جسده على نحو مثير. ولكن كان من الواضح أن هناك مشكلة ما. فلم تظهر عليه أي استجابة.

لم أعرف كيف أتصرف. أول فكرة راودتني هي أن مايكل لا يعتبرني جذابة، وهذه بالطبع فكرة غير منطقية على الإطلاق. انتابني شعور بغيض وكأن شخصًا ما صفعني. وانفجرت بداخلي كل مشاعر النقص المكبوتة وشعرت بغضب عارم إلى حد أدهشني. لحسن الحظ لم أنبس ببنت شفة (لم يتحدث أيٌّ منا طوال هذه المدة بأكملها) ولم يرَ مايكل وجهي في الظلام. ولكن لا بد أن لغة جسدي أخبرته بخيبة أملي.

قال بصوت خفيض: «آسف.»

أجبت وأنا أحاول تصنُّع اللامبالاة: «لا عليك.»

استندت على مرفقي ولمست جبهته بيدي الأخرى. وأخذت أدلكه بخفة وأنا أمرر أصابعي برفق على وجهه وعنقه وكتفه. وظل مايكل سلبيًّا تمامًا. إذ كان يستلقي على ظهره دون حراك، وعيناه مغمضتان معظم الوقت. ومع أني كنت واثقة أنه كان يستمتع بالتدليك، لم يقل شيئًا أو تصدر عنه أي همسات تنم عن المتعة. وفي ذلك الوقت، بدأت أصاب بالقلق الشديد. ووجدت نفسي أرغب في أن يداعبني مايكل، وأن يؤكد لي أنني على ما يرام.

ففي آخر الأمر، انحنيت عليه حتى لمس جزء من جسدي جسده. أرخيت صدري على جسده وأخذت أداعب الشعر الذي يغطي صدره بيدي اليمنى. وانحنيت لأقبله على شفتيه، وأنا أنوي إثارته بيدي اليسرى، لكنه ابتعد عني بسرعة واعتدل جالسًا.

قال مايكل وهو يهز رأسه: «لا يمكنني أن أفعل هذا.»

سألت بهدوء، وجسدي الآن بحالة سيئة بجواره: «لمَ لا؟»

أجاب بوقار شديد: «لأنه خطأ.»

حاولت عدة مرات في الدقائق القليلة التالية أن أبدأ حوارًا ولكن مايكل كان غير راغب عن الحديث. وفي النهاية ارتديت ملابسي في صمت في الظلام لأنه لم يكن أمامي شيء آخر لأفعله. وحين غادرت المكان، قال لي مايكل بصوت واهن لا يكاد يسمع: «تصبحين على خير.»

لم أعد مباشرةً إلى حجرتي. فعندما خرجت إلى الممر أدركت أنني لست على استعداد بعد لمواجهة ريتشارد. اتكأت على الحائط وصارعت المشاعر القوية التي غمرتني. لماذا افترضت أن كل شيء سيكون بسيطًا للغاية؟ وماذا سأقول لريتشارد الآن؟

عندما دخلت حجرتنا، عرفت من صوت أنفاس ريتشارد أنه لم يكن نائمًا. لو كنت أتحلى بشجاعة أكبر لكنت أخبرته في التو بما حدث مع مايكل. ولكن كان من الأسهل أن أتجاهل هذا مؤقتًا. وكان هذا خطأً فادحًا.

كان اليومان التاليان مشحونَين بالتوتر. فلم يذكر أحد منا ما وصفه ريتشارد ذات مرة ﺑ «واقعة الإخصاب». حاول الرجلان أن يتصرفا وكأن كل شيء طبيعي. وبعد العشاء في الليلة الثانية أقنعت ريتشارد بأن يتمشى معي بينما يضع مايكل الفتاتين في فراشيهما.

كان ريتشارد يشرح التركيب الكيميائي لعملية التخمير الجديدة التي يقوم بها لصنع الخمور ونحن واقفان على السور الذي يطل على البحر الأسطواني. فقاطعته وأمسكت بيده. قلت وعيناي تبحثان عن الحب والطمأنينة في عينيه: «ريتشارد، هذا صعب جدًّا …» ثم تهدَّج صوتي.

سأل وهو يتكلف الابتسام: «ما الأمر يا نيكي؟»

أجبت: «حسنًا، إنه مايكل.» ثم تكلمت دون أن أفكر: «لم يحدث بيننا شيء … لم يستطع …»

حدق ريتشارد فيَّ لوقت طويل. ثم سأل: «هل تقصدين أنه عاجز؟»

أومأت برأسي موافقةً في البداية ثم هززت رأسي نافيةً هذا مما أثار حيرته. ثم تمتمت: «ليس بالضبط في الغالب، ولكنه كان كذلك في تلك الليلة التي قضاها معي. أعتقد أنه متوتر جدًّا أو أنه يشعر بالذنب، أو أنه قد مر وقت طويل منذ أن …» توقفت عندما أدركت أنني أفشي أكثر من اللازم.

أخذ ريتشارد يحدق في البحر برهة بدت لي دهرًا. ثم قال أخيرًا في صوت خال من أي تعبير: «هل تريدين أن تجربي مرة أخرى؟» لم يلتفت لينظر إليَّ.

أجبت: «أنا … لا أدري.» ضغطت على يده. وهممت بأن أقول شيئًا آخر، هممت أن أسأله إن كان يستطيع أن يتعامل مع الموقف إذا جربت مرة أخرى، ولكنه ابتعد عني فجأة. وقال باقتضاب: «أخبريني عندما تقررين.»

طوال أسبوع أو أسبوعين كنت متأكدة من أنني سأتخلى عن الفكرة برمتها. وبدأ شيء من البهجة يعود إلى أسرتنا الصغيرة ببطء، ببطء شديد. في الليلة التي تلت انقضاء الطمث، تطارحنا الغرام أنا وريتشارد لأول مرة منذ عام. وكان سعيدًا للغاية وتحدث كثيرًا ونحن نتعانق.

قال: «يجب أن أقول إنني كنت قلقًا جدًّا لبعض الوقت. ففكرة مضاجعتك لمايكل كانت تدفعني إلى الجنون، وإن كان هذا لأسباب من المفترض أنها منطقية. كنت خائفًا جدًّا من أن يعجبك هذا مع أني أعرف أن هذا ليس منطقيًّا — هل تفهمين ما أعنيه؟ — وكنت خائفًا من أن تتأثر علاقتنا على نحو ما.»

من الواضح أن ريتشارد كان يفترض أنني لن أحاول مرة أخرى أن أحمل من مايكل. لم أناقشه في هذه الليلة لأنني كنت سعيدة أنا الأخرى وقتها. ولكن بعد أيام قليلة، عندما بدأت أقرأ عن العجز الجنسي في كتب الطب، أدركت أنني لا أزال مصرةً على المضي قدمًا في خطتي.

في الأسبوع الذي سبق التبويض، كان ريتشارد مشغولًا بتخمير خمره (وربما بتذوقها أكثر من اللازم، فقد سكر قليلًا أكثر من مرة قبل الغداء)، وبصناعة آليين صغار الحجم استوحاهم من شخصيات صامويل بيكيت. أما أنا فكان كل انتباهي منصبًّا على العجز الجنسي. واكتشفت أن المنهج الذي درسته في كلية الطب قد تجاهل هذا الموضوع تمامًا. ولما كانت خبرتي الجنسية محدودة نسبيًّا، لم أتعرض لهذا الموقف بصفة شخصية من قبل. اندهشت عندما عرفت أن العجز الجنسي علة منتشرة جدًّا، وأنه له أسباب نفسية في الأساس، ولكن يصاحبه عادةً عامل عضوي يزيده تفاقمًا، وأن هناك الكثير من أساليب العلاج المحددة، وجميعها يركز على الحد من قلق الرجل أثناء العلاقة.

شاهدني ريتشارد وأنا أعد بولي لاختبار التبويض في صباح أحد الأيام. لم يقل شيئًا ولكنني قرأت في وجهه أنه يشعر بالانزعاج وخيبة الأمل. أردت أن أطمئنه ولكن البنتين كانتا في الحجرة وكنت خائفة من انفجار غضبه أمامهما.

لم أخبر مايكل أننا سنقوم بمحاولة ثانية. فقد اعتقدت أن قلقه سيقل إذا لم يتح له الوقت ليفكر. كادت خطتي أن تنجح. ذهبت مع مايكل إلى حجرته بعد أن وضعنا الطفلتين في الفراش وشرحت له ما يحدث ونحن نخلع ملابسنا. بدأ يستجيب جنسيًّا، وقد تحركت بسرعة لدعم تلك الاستجابة مع أنه أبدى بعض الاعتراضات الطفيفة. كنت متأكدة من أننا سننجح هذه المرة لولا أن كيتي قد بدأت تصرخ: «أمي، أمي.»

طبعًا تركت مايكل وقطعت الممر جريًا إلى حجرة نوم الطفلتين. كان ريتشارد هناك بالفعل. وكان يحمل كيتي بين ذراعيه. وكانت سيمون جالسةً على فراشها تدلك عينيها. أخذ الثلاثة يحدقون في جسدي العاري وأنا في المدخل. قالت كيتي وهي تتشبث بريتشارد بقوة: «رأيت حلمًا مخيفًا. أوكتوسبايدر كان يأكلني.»

دخلتُ الحجرة. وسألتُ كيتي وأنا أمد ذراعيَّ لآخذها: «هل تشعرين بتحسن الآن؟» ظل ريتشارد ممسكًا بها ولم تقم هي بأي محاولة لتأتي إليَّ. وبعد دقيقة مؤلمة ذهبت إلى سيمون ولففت ذراعي حول رقبتها.

سألتني ابنتي ذات الأعوام الأربعة: «أين رداء نومك يا أمي؟» في أغلب الأوقات أنام أنا وريتشارد ونحن نرتدي رداء النوم الذي صنعه سكان راما. الفتاتان معتادتان على رؤيتي عاريةً — فنحن الثلاثة نستحم معًا يوميًّا تقريبًا — ولكن في الليل، عندما أذهب إلى حجرة نومهما، دائمًا ما أرتدي رداء نومي.

كنت سأجيب على سيمون إجابةً مرحة عندما لاحظتُ أن ريتشارد كان يحدق فيَّ هو الآخر. كانت عيناه تفيضان بتعبير ينم عن العدوانية. وقال بلهجة قاسية: «أستطيع أن أتولى الأمور هنا. لماذا لا تذهبين وتنهين ما تفعلينه؟»

رجعت إلى مايكل لأحاول مرة أخرى. كان قرارًا سيئًا. قمت بمحاولات فاشلة لإثارة مايكل لدقيقتين، ثم دفع يدي. وقال: «لا فائدة. أنا في الثالثة والستين تقريبًا، ولم أضاجع أحدًا منذ خمس سنوات. ولا أمارس الاستمناء أبدًا، وأتعمد تجنب التفكير في الجنس. والاستجابة التي حدثت منذ قليل كانت مجرد ضربة حظ.» صمت نحو دقيقة. ثم أضاف: «آسف يا نيكول ولكن هذا لن ينجح.»

ظل كلٌّ منا راقدًا إلى جوار الآخر في صمتٍ دقائق. كنت أرتدي ملابسي وأستعد لمغادرة الغرفة عندما لاحظت أن أنفاس مايكل بدأت تتخذ إيقاعًا منتظمًا على النحو الذي يسبق النوم. تذكرت فجأة من قراءاتي أن الرجال الذين يعانون من العجز الجنسي لأسباب نفسية قد تنجح مضاجعتهم أثناء النوم، فقفزت في ذهني فكرة مجنونة أخرى. رقدت بجوار مايكل مستيقظة وقتًا طويلًا منتظرةً حتى أتيقن من أنه يغط في نوم عميق.

أخذت أمرر يدي عليه برفق في البداية. وسرني أنه استجاب بسرعة شديدة. وبعد برهة، زدت من قوة التدليك الذي كنت أقوم به، ولكنني حرصت بشدة على ألا أوقظه. وعندما أصبح مستعدًّا، تحركت لبدء العلاقة. ولكني، قبل لحظات من بدء العلاقة، دفعته دون قصد بخشونة فاستيقظ. حاولتُ الاستمرار، لكن لا بد أنني بسبب تسرعي قد آلمته، لأنه أطلق صيحة وتطلَّع إليَّ في ارتياع. كدت أنجح لولا أنني أيقظته ففشلت المحاولة.

انقلبت على ظهري وتنهدت تنهيدة عميقة. كنت محبطة بشدة. أخذ مايكل يطرح عليَّ الأسئلة ولكني كنت مضطربة إلى درجة جعلتني عاجزة عن الإجابة. فاغرورقت عيناي بالدموع. ارتديت ملابسي بسرعة، وقبلت مايكل برفق على جبينه، وخرجت بخطوات مضطربة إلى الممر. وظللت واقفة هناك خمس دقائق أخرى قبل أن أقوى على العودة إلى ريتشارد.

كان زوجي لا يزال يعمل. كان جاثيًا بجوار «بوزو» الآلي الذي استوحاه من شخصية بوزو في مسرحية «في انتظار جودو». كان الآلي الصغير منهمكًا في أحد أحاديثه الطويلة غير المنظمة التي تدور حول عقم كل ما في الحياة. تجاهلني ريتشارد في البداية. ثم التفت بعد أن أسكت بوزو. وسألني بتهكم: «هل تعتقدين أنك استغرقت وقتًا طويلًا؟»

أجبت باكتئاب: «لم ننجح. أعتقد أن …»

صرخ ريتشارد فجأة في غضب: «لا تجيبيني بهذا الهراء. لست بهذا الغباء. هل تتوقعين مني أن أُصدق أنك أمضيت معه ساعتين وأنت عارية دون أن يحدث بينكما شيء؟ أعرفكن يا معشر النساء. تعتقدين أن …»

لا أذكر بقية ما قاله. ولكنني أذكر جيدًا الرعب الذي شعرت به وهو يتقدم نحوي، وعيناه تفيضان بالغضب. اعتقدت أنه سيضربني فاستعددت لذلك. انفجرت الدموع في عيني وانهمرت على وجنتيَّ. سبني ريتشارد بسباب فظيع وأهانني إهانة ذات طابع عنصري. وكان يتصرف بطريقة جنونية. عندما رفع ذراعه في عنف اندفعت خارجةً من الحجرة، وركضت في الممر باتجاه السلالم إلى نيويورك. كدت أن أصطدم بكيتي الصغيرة التي أيقظها صراخنا وكانت واقفة على باب حجرتها مصعوقةً.

كان الوقت نهارًا في راما. تمشيت وأنا أبكي بكاءً متقطعًا ما يقرب من ساعة. كنت ساخطةً على ريتشارد، ولكنني كنت مستاءة جدًّا من نفسي أيضًا. قال ريتشارد في سَورة غضبه إنني كنت «مهووسةً» بفكرتي، وإنها مجرد «مبرر ذكي» لمضاجعة مايكل لكي أصبح «ملكة النحل في الخلية». لم أجب على أيٍّ من العبارات التي ظل يصرخ بها في وجهي. تُرى هل تحمل اتهاماته شيئًا من الحقيقة؟ هل كان جزءًا من حماسي للمشروع يكمن في رغبتي في مضاجعة مايكل؟

أقنعت نفسي بأن دوافعي كانت كلها سليمة مهما كان المقصود بذلك، ولكنني كنت غبية بدرجة لا تصدق بشأن هذا الأمر بأسره من البداية. كان ينبغي أن أعرف — من بين الجميع — أن ما أقترحه مستحيل. بالتأكيد، كان ينبغي أن أترك على الفور هذه الفكرة بعد أن رأيت أول رد فعل لريتشارد (ولمايكل أيضًا، في هذا الصدد). ربما كان ريتشارد محقًّا في بعض ما قاله. ربما أكون عنيدة أو حتى مهووسة بفكرة ضمان أقصى درجة من التنوع الجيني لذريتنا. ولكنني متيقنة من أنني لم أدبر هذا الأمر برمته لمجرد أن أتمكن من مضاجعة مايكل.

عندما عدت، كانت حجرتنا مظلمة. ارتديت رداء النوم وارتميت على فراشي وأنا مجهدة. بعد ثوانٍ قليلة، تقلب ريتشارد واحتضنني بقوة وقال: «نيكول، حبيبتي، أنا آسف جدًّا. أرجوك سامحيني.»

لم أسمع صوته منذ ذلك الوقت. فاليوم يكون قد مر ستة أيام على رحيله. نمت نومًا عميقًا ذلك اليوم، دون أن أدري بأن ريتشارد كان يحزم متاعه ويكتب لي رسالة. في الساعة السابعة صباحًا رن المنبه. كانت هناك رسالة على الشاشة السوداء. جاء فيها: «إلى نيكول دي جاردان فقط، اضغطي الزر «كيه» عندما تريدين الاطلاع عليها.» لم تكن الطفلتان قد استيقظتا بعد؛ لذا ضغطت الزر «كيه» في لوحة المفاتيح.

«نيكول، يا أعز الناس، هذا أصعب خطاب أكتبه في حياتي. سأرحل عنك وعن الأسرة مؤقتًا. أعرف أن هذا سيسبب متاعب كبيرة لك ولمايكل وللبنتين، ولكن صدقيني، هذا هو الحل الوحيد. بعد ما حدث ليلة أمس، من الواضح أنه لا يوجد حل آخر.

عزيزتي، أحبك من كل قلبي، وأدرك — عندما يكون عقلي متحكمًا في مشاعري — أن ما تحاولين فعله في مصلحة الأسرة. وينتابني شعور فظيع بسبب الاتهامات التي قذفتك بها ليلة أمس. وما يسيئني أكثر هو سبابي لك، وخاصة الإهانة العنصرية واستخدامي المتكرر لكلمة «داعرة». آمل أن تسامحيني، وإن كنت غير متأكد من أنني سأستطيع أن أسامح نفسي، وأن تتذكري حبي لك بدلًا من غضبي المجنون الجامح.

الغيرة شعور رهيب. عندما نقول إنها «تأكل صاحبها» فإننا لا نعبر عنها التعبير الأمثل. الغيرة تستنزف كل طاقات المرء وتفتقر إلى أيِّ منطق، وهي مضنية حقًّا. يتحول أروع الناس في العالم إلى حيوانات هائجة حين يقعون في براثن الغيرة.

نيكول يا حبيبتي، في العام الماضي لم أخبرك الحقيقة كاملة بشأن نهاية زواجي من سارة. لقد شككت شهورًا في أنها على علاقة برجال آخرين في الليالي التي تقضيها في لندن. كان هناك الكثير من العلامات الكاشفة — عدم انتظام اهتمامها بالجنس، والملابس الجديدة التي لم ترتدها لي أبدًا، المكالمات التي لا يجيب الطرف الآخر حين أرد عليها، وغير ذلك — ولكنني كنت أحبها بجنون، وكنت متأكدًا تمامًا من أن زواجنا سينتهي إذا واجهتها، فلم أتخذ أي رد فعل إلا عندما أفقدتني الغيرة صوابي.

في الواقع، عندما كنت أرقد على سريري في كامبريدج وأتخيل سارة مع رجل آخر، كانت الغيرة تستبد بي إلى درجة تجعلني لا أنام إلا بعد أن أتخيل سارة وقد لقيت مصرعها. عندما اتصلت بي السيدة سينكلير في تلك الليلة وأدركت أنني لم أعد أستطيع أن أتظاهر بأن سارة مخلصة، ذهبت إلى لندن بنيَّة صريحة في قتل كلٍّ من زوجتي وعشيقها.

لحسن الحظ لم يكن بحوزتي مسدس، ومن فرط غضبي الذي انفجر حين رأيتهما معًا، نسيت السكين الذي وضعته في جيب معطفي. ولكنني كنت بالتأكيد سأقتلهما إذا لم يكن صوت الشجار قد أيقظ الجيران الذين كبحوا جماحي.

ربما تتساءلين عن علاقة كل هذا بك. تعلمين يا حبيبتي أن كلًّا منا يكوِّن أنماط سلوك مميزة في حياته. لقد نشأ نمط غيرتي العمياء بالفعل قبل أن أقابلك. ولم أستطع منع ذكريات سارة من العودة أثناء المرتين اللتين توجهتِ فيهما إلى مايكل لمضاجعته. أعرف أنك لست سارة، وأنك لا تخونينني، ولكن مشاعر الغيرة تعود وتثور بنفس الجنون. بطريقة غريبة جدًّا، لأنه يصعب عليَّ حقًّا تخيل خيانتك لي، فإنك عندما تكونين مع مايكل تنتابني مشاعر أسوأ من المشاعر التي كانت تنتابني وسارة مع هيو سينكلير أو مع أيٍّ من أصدقائها من الممثلين، وأشعر بخوف أكبر من الخوف الذي كنت أشعر به حينها.

آمل أن تقدِّري ما قلت. إني راحل لأنني لا أستطيع أن أتحكم في غيرتي، مع أنني أعترف أنها طائشة. لا أريد أن أصبح مثل والدي، أسكر لأتغلب على تعاستي وأحطم حياة كلِّ مَن حولي. أشعر بأنك ستحملين من مايكل بطريقة أو بأخرى، وأفضِّل أن أجنبك سوء تصرفاتي أثناء ذلك.

أتوقع أن أعود قريبًا، إلا لو قابلت مخاطر غير متوقعة أثناء رحلاتي الاستكشافية، ولكن لا أعرف متى بالتحديد. أحتاج فترة تداوٍ حتى أستطيع أن أصبح عنصرًا من العناصر الفعالة في أسرتنا. أخبري الفتاتين أنني مسافر. وارفقي بكيتي على وجه الخصوص؛ لأنها ستكون أشد من سيفتقدني منكم.

أحبك يا نيكول. أعرف أنه سيصعب عليك فهم سبب رحيلي، ولكن حاولي من فضلك.»

ريتشارد

١٣ مايو ٢٢٠٥

قضيت اليوم خمس ساعات على سطح نيويورك في البحث عن ريتشارد. ذهبت إلى الحفر وإلى النافذتين وإلى الساحات العامة الثلاث. ومسحت محيط الجزيرة بمحاذاة السور. هززت شبكة ملجأ الأوكتوسبايدر ونزلت برهة في أرض المخلوقات الطائرة. ناديت عليه في كل مكان. أتذكر أن ريتشارد عثر عليَّ منذ خمس سنوات بفضل المرشد الملاحي اللاسلكي الذي وضعه على الأمير هال، الإنسان الآلي الشكسبيري الذي صنعه. ولو كان معي المرشد اللاسلكي اليوم لاستخدمته.

لا يوجد أثر لريتشارد في أي مكان. أعتقد أنه غادر الجزيرة. فهو سباح ماهر، وبسهولة يمكنه العبور إلى نصف الأسطوانة الشمالي، ولكن ماذا عن المخلوقات الغريبة التي تسكن البحر الأسطواني؟ هل ستتركه يعبر بسلام؟

عد يا ريتشارد. إني أفتقدك. إني أحبك.

من الواضح أنه كان يفكر في الرحيل على مدى عدة أيام. فقد حدَّث ورتب الفهرس الذي نستخدمه في التعامل مع سكان راما ليجعل هذا أسهل ما يمكن عليَّ أنا ومايكل. أخذ أكبر حقائبنا وصديقه المفضل «شين»، ولكنه ترك الآليين الذين صنعهم على نمط شخصيات بيكيت المسرحية.

أصبحت أوقات الوجبات أوقاتًا رهيبة منذ رحيل ريتشارد. كيتي غاضبة في معظم الأوقات. تريد أن تعرف متى سيعود والدها وسبب سفره كل هذه المدة. مايكل وسيمون يتحملان حزنهما في صمت. وتزداد الرابطة التي تربط بينهما، ويبدو أن كلًّا منهما قادر على مواساة الآخر. أما أنا فقد حاولت أن أزيد من اهتمامي بكيتي، ولكنني لم أنجح في أن أكون بديلًا عن والدها الحبيب.

الليالي رهيبة. لا أستطيع أن أنام. أظل أستحضر كل تعاملاتي مع ريتشارد خلال الشهرين الماضيين وأتذكر ما ارتكبته من أخطاء. لقد استفاض في البوح في الخطاب الذي تركه قبل الرحيل. لم أكن لأفكر أبدًا في أن المشاكل التي واجهها مع سارة ستكون لها أدنى أثر على زواجنا، ولكنني فهمت الآن ما كان يقوله عن أنماط السلوك.

هناك أنماط في حياتي العاطفية أنا الأخرى. تعرفتُ على معنى الرعب الذي ينطوي عليه فقد الأحبة عند وفاة أمي وأنا في العاشرة من عمري. وساهم خوفي من فقدان أي علاقة قوية أدخل فيها في إضعاف إحساسي بالثقة مع الناس وعرقلة دخولي في علاقة حميمة معهم. بعد وفاة أمي، فقدت جنيفياف ووالدي والآن فقدت ريتشارد ولو مؤقتًا. في كل مرة يحدث فيها هذا تستيقظ كل أشباح الماضي. عندما ظللت أبكي حتى غلبني النعاس منذ ليلتين، أدركت أنني لم أكن أفتقد ريتشارد فحسب وإنما أيضًا أفتقد والدتي وجنيفياف ووالدي الرائع. شعرت أنني أفقد كلًّا منهم من جديد. لذا أستطيع أن أفهم الآن كيف أثارت صحبتي لمايكل ذكريات ريتشارد المؤلمة مع سارة.

«يموت المعلم دون أن يتعلم». أنا في الحادية والأربعين من عمري واكتشفت لتوِّي وجهًا جديدًا من أوجه الحقائق المتعلقة بالعلاقات الإنسانية. فمن الواضح أنني جرحت ريتشارد جرحًا لا يندمل. لا يهم أنه ليس هناك أسس منطقية لخوف ريتشارد من أن تؤدي علاقتي بمايكل إلى النَّيل من حبي له. فالمنطق لا ينطبق على هذا الموقف. الإدراك الحسي والشعور هما العنصران المهمان.

كنت قد نسيت كم أن الوحدة قاتلة. وقد مر على بداية علاقتي بريتشارد خمس سنوات. قد لا يحمل ريتشارد كل صفات فارس أحلامي، ولكنه كان رفيقًا رائعًا، وهو بلا شك أذكى إنسان التقيته في حياتي. وسيصيبني كرب عظيم إن كان من المقدر له ألا يعود. ينتابني الحزن عندما أفكر، ولو للحظة، أن تلك كانت آخر مرة أراه فيها.

في الليل عندما يحتدم شعوري بالوحدة، غالبًا ما أقرأ الشعر. كان بودلير وإليوت من الشعراء المفضلين لدي منذ فترة دراستي الجامعية، ولكن على مدى الليالي الأخيرة، وجدت سلواي في قصائد بنيتا جارسيا. عندما كانت طالبة في أكاديمية الفضاء في كولورادو، تسبب لها حبها الشديد للحياة في قدر هائل من الألم. رمت نفسها في أحضان دراسة الفضاء وفي أحضان الرجال بالقدر نفسه من الحماس. وعندما استُدعيت للمثول أمام لجنة تأديب الطلاب لا لجرم إلا نشاطها الجنسي الجامح، أدركت كم أن معايير الرجال في الحكم على الجنس مزدوجة.

معظم النقاد الأدبيين يعجبهم ديوانها الشعري الأول الذي جاء بعنوان «أحلام فتاة مكسيكية» الذي صنع شهرتها وهي لا تزال مراهقة، ويفضلونه عن الديوان الذي يضم قصائدها الأكثر حكمةً والأقل عاطفةً الذي نشرته في السنة الأخيرة لها في الأكاديمية. وفي ظل رحيل ريتشارد وانشغال عقلي بمحاولة فهم ما حدث بالفعل طوال الأشهر الأخيرة، فإنني أجد في نفسي صدى قصائد بنيتا التي تعبر عن حالات الكآبة والشك التي ميزت عهد مراهقتها. كان طريقها إلى النضج وعرًا للغاية. ومع أن كتابات بنيتا ظلت مفعمة بالصور، فإنها لم تعد تلك التي تغلب عليها روح التفاؤل حتى وهي تتجول بين الأطلال في أوشمال. الليلة قرأت عدة مرات إحدى القصائد التي أفضلها والتي كتبتها أثناء دراستها الجامعية.

فساتيني تضفي البهجة على غرفتي،
كورود في صحراء روتها السماء.
ستأتي الليلة، يا آخر أحبتي،
لكن بأي وجه تود رؤيتي؟
ثيابي ذات الألوان الشاحبة تناسب أمسية للحديث عن الكتب.
الثياب الزرقاء والخضراء تجعل المساء
يليق بلقاء صديقة أو حتى من تنوي الزواج بها.
أما إن كنت تفكر في الشهوة،
فالثياب الحمراء أو السوداء والعيون القاتمة
تناسب العاهرة التي سأتحول إليها.

•••

لم تكن أحلام طفولتي هكذا،
ففيها جاء أميري من أجل قبلة فحسب،
وحملني بعيدًا عن الأحزان،
ألن أراه ثانية؟
الوجوه الزائفة تجرحني، يا زميل الدراسة،
فأرتدي فستاني دون أي ابتهاج.
وحتى أمسك يدك في يدي
أحقر نفسي كما تبتغي.

٩

١٤ ديسمبر ٢٢٠٥

أعتقد أنني يجب أن أحتفل بهذه المناسبة، ولكنني أشعر أن ثمن هذا النصر كان باهظًا جدًّا. أنا حامل أخيرًا بطفل مايكل. ولكن يا للثمن الذي دفعته! لم نسمع أي أخبار حتى الآن عن ريتشارد، وأخشى أن أكون قد تسببت في شعور مايكل بالاغتراب أيضًا.

اعترفت أنا ومايكل على نحو منفصل بمسئوليتنا الكاملة عن رحيل ريتشارد. واجهت إحساسي بالذنب على أفضل نحو ممكن؛ إذ أدركت أنني يجب أن أتناساه حتى أصبح أمًّا جيدة لابنتيَّ. أما مايكل فكان رد فعله على رحيل ريتشارد وإحساسه بالذنب هو الاستغراق في العبادة. فهو لا يزال يقرأ الإنجيل مرتين يوميًّا على الأقل. ويصلي قبل كل وجبة وبعدها، وعادة ما يختار ألا يشارك في نشاطات الأسرة حتى يستطيع أن «يتواصل» مع الله. وأصبح لكلمة «الكفارة» مكانة كبيرة جدًّا في الحصيلة اللغوية التي يستخدمها مايكل.

لقد جرف سيمون في موجة حماسه المسيحي. ويضرب باعتراضاتي الخفيفة على هذا عرض الحائط. تحب سيمون قصة المسيح، مع أنها ليس لديها أدنى فكرة عن فحواها. وتسحرها المعجزات بصفة خاصة. فهي — مثلها مثل معظم الأطفال — لا تجد صعوبة في تصديق كل ما تسمعه. فعقلها لا يسأل أبدًا «كيف» عندما تسمع أن المسيح يمشي على الماء أو يحول الماء إلى خمر.

نيتي في قول هذه التعليقات ليست خالصة. فأنا على الأرجح، أشعر بالغيرة من الرابطة التي تجمع بين مايكل وسيمون. بصفتي أمها كان ينبغي أن أكون سعيدة لأنهما منسجمان إلى هذا الحد. على الأقل كلٌّ منهما لديه الآخر. أما أنا وكيتي المسكينة، فمهما حاولنا، فإننا نعجز عن تكوين مثل هذه العلاقة العميقة.

جزء من المشكلة يكمن في أن كلتينا عنيدة جدًّا. مع أن كيتي لم تتجاوز الثانية والنصف من عمرها، فإنها تريد أن تتحكم في حياتها بنفسها. لننظر إلى أمر بسيط مثل مجموعة الأنشطة اليومية التي نخطط لها، على سبيل المثال لا الحصر. منذ بداية وجودنا في راما وأنا أضع الجداول لكل أفراد الأسرة. ولم يتجادل معي أحد جدالًا شديدًا حول هذا، ولا حتى ريتشارد. مايكل وسيمون دائمًا ما يقبلان ما أنصح به، ما دمت أمنحهما وقتًا يكفي لكل نشاط ولا أقيدهما بالقيام بالأنشطة في أوقات محددة.

أما كيتي فحكايتها مختلفة. إذا وضعتُ التمشية أعلى نيويورك قبل درس الأبجدية، تسعى إلى تغيير الترتيب. إذا خططت لتناول الدجاج على الغداء، تريد هي لحم الخنزير أو اللحم البقري. إننا نبدأ كل أيامنا تقريبًا بالشجار حول الأنشطة التي سنقوم بها. عندما لا تعجبها قراراتي، تعبس أو تمد شفتيها في سخط أو تنادي: «أبي». إنني أتألم حقًّا حين أسمعها تنادي على ريتشارد.

يقول مايكل إنني ينبغي أن أذعن لرغباتها. ويؤكد أن هذه مجرد مرحلة من مراحل النمو. لكن عندما أشير إلى أن جنيفياف وسيمون لم تكونا أبدًا مثل كيتي، يبتسم ويهز كتفيه.

لا نتفق أنا ومايكل دائمًا على أساليب التربية. دارت بيننا عدة نقاشات شيقة حول الحياة الأسرية في ظروفنا الغريبة. قرب نهاية أحد الحوارات، كنت متكدرة قليلًا من تأكيد مايكل على «صرامتي الزائدة عن الحد» مع الفتاتين؛ لذا قررت أن أطرح موضوع التدين. وسألت مايكل عن سبب اهتمامه الشديد بتعريف سيمون بتفاصيل حياة المسيح.

قال بغموض: «ينبغي أن يلم أحد منا بالتعاليم.»

«إذن فأنت تعتقد أنه سيبقى لنا تعاليم ينبغي الإلمام بها وأننا لن ننجرف في الفضاء إلى الأبد ونموت واحدًا تلو الآخر في وحدة قاتلة.»

أجابني: «أومن أن الله يدبر أمور جميع البشر.»

سألت: «وما تدبيره لنا؟»

أجاب مايكل: «لا أعرف تدبيره لنا. مثلما لا يعرف مليارات البشر الذين لا يزالون على الأرض تدبيره لهم. فالحياة ما هي إلا بحث عن ماهية تدبيره.»

هززت رأسي وتابع مايكل. فقال: «تعرفين يا نيكول، يجب أن يكون التدين أسهل كثيرًا علينا. فلا يوجد حولنا الكثير من الأشياء التي قد تشتتنا. لا يوجد مبرر لبعدنا عن الله. لذا يصعب جدًّا عليَّ أن أسامح نفسي على انشغالي السابق بالطعام وتاريخ الفن. في راما، يصبح على البشر أن يبذلوا مجهودًا جبارًا حتى يتمكنوا من أن يشغلوا وقتهم بشيء غير الصلاة والعبادة.»

أقر بأن يقينه يزعجني في بعض الأوقات. في ظروفنا الراهنة، يبدو أن حياة المسيح لا تحمل لنا أي أهمية تمامًا، مثل حياة أتيلا الهوني أو أي إنسان آخر عاش على الكوكب الذي يبعد عنا سنتين ضوئيتين. فنحن لم نعد جزءًا من الجنس البشري. فنحن إما هالكون، وإما أننا سنمثل بداية ما سيكون نوعًا جديدًا. هل مات المسيح من أجل آثامنا نحن أيضًا، نحن الذين لن نرى الأرض ثانية أبدًا؟

لم أكن لأستطيع أن أقنع مايكل بإنجاب طفل أبدًا إن لم يكن كاثوليكيًّا ونشأ منذ نعومة أظفاره على الإيمان بأهمية الإنجاب. لم أكن لأقنعه أبدًا بإنجاب طفل. إذ كانت لديه مئات الأسباب التي تثبت أن ذلك أمرٌ يجانبه الصواب. ولكنه في النهاية وافق، ربما لأنني كنت أفسد عبادته الليلية بمحاولاتي الملحة لإقناعه. ولكنه حذرني من أنه من المحتمل جدًّا «ألا ينجح هذا أبدًا»، وأنه «لن يتحمل مسئولية» الإحباط الذي سيصيبني.

استغرقنا ثلاثة أشهر حتى أحمل. أثناء دورتَي التبويض الأوليَين، عجزت عن إثارته. وجربت استخدام عدة وسائل مثل الضحك والتدليك والموسيقى والطعام؛ جربت كل شيء ورد في المقالات التي تتحدث عن العجز الجنسي. ولكن شعوره بالذنب وتوتره كانا دائمًا أقوى من رغبتي. وأخيرًا جاء الخيال ليكون الحل. فحين اقترحت على مايكل ذات ليلة أن يتخيلني زوجته كاثلين طوال العلاقة، نجحت المحاولة أخيرًا. لا شك أن العقل مخلوق بديع حقًّا.

وحتى في ظل اللجوء إلى الخيال، لم تكن مضاجعة مايكل مهمة سهلة. ففي المقام الأول — ولعله من غير اللائق أن أقول ذلك — كانت الخطوات اللازمة لتحضيره وحدها كفيلة بإصابة أي امرأة بالضيق. وكان مايكل دائمًا ما يدعو الله، قبيل خلع ملابسه. ترى ما الذي كان يدعو به؟ ليتني أعرف الإجابة.

كان زوج إليانور الأكويتينية الأول، لويس السابع ملك فرنسا، قد نشأ ليكون راهبًا، ولم يصبح ملكًا إلا بسبب مصادفة تاريخية. وفي الرواية التي كتبها أبي عن إليانور، يأتي حوار داخلي طويل تشكو فيه من أن العلاقة الجسدية الحميمة كانت «تحفُّها أجواء من الوقار والتقوى وروح الزهد». وكانت تتوق إلى وجود المرح والضحك في علاقتها الزوجية، وتتوق للكلام البذيء والرغبة الجامحة. إنني أتفهَّم سبب طلاقها من لويس وزواجها من هنري الثاني.

وهكذا أنا حامل الآن بابن مايكل (الذي آمل أن يكون ولدًا) الذي سيمنح نسلنا التنوع الجيني. لقد كان الأمر في غاية الصعوبة، ولم يكن يستحق الثمن الذي بذلته فيه بالتأكيد. فبسبب رغبتي في أن أحمل بابن مايكل رحل ريتشارد، ولم يعد مايكل — على الأقل مؤقتًا — صديقي الحميم ورفيقي المقرب كما كان طوال سنواتنا الأولى في راما. دفعت ثمن نجاحي. الآن آمل أن تكون لهذه السفينة وجهة محددة تتجه إليها حقًّا.

١ مارس ٢٢٠٦

أعدت اختبار الجينوم الجزئي هذا الصباح لأتأكد من النتائج الأولية. لا يوجد شك بشأنها. ولدنا الذي لم يأتِ إلى الدنيا بعدُ مصاب بالتأكيد بمتلازمة ويتينجهام. ولحسن الحظ، لا توجد عيوب ملحوظة أخرى، لكن هذا المرض وحده كان سيئًا في حد ذاته.

أطلعت مايكل على البيانات عندما تسنَّى لنا الجلوس بمفردنا لدقائق بعد الإفطار. في البداية لم يفهم ما أخبرته به، ولكن عندما استخدمت كلمة «متأخر عقليًّا» ظهر رد فعله على الفور. وفهمت من رد الفعل هذا أنه تخيل أن طفلنا سيعجز تمامًا عن الاعتناء بنفسه. هدأت مخاوفه بعض الشيء عندما شرحت أن متلازمة ويتينجهام ما هي إلا شكل من أشكال العجز عن التعلم، وهو ناتج عن قصور بسيط في العمليات الكهروكيميائية للمخ يمنعه من العمل كما ينبغي.

عندما أجريت أول اختبار للجينوم الجزئي الأسبوع الماضي، شككت في إصابته بمتلازمة ويتينجهام ولكن لم أخبر مايكل لاحتمال وجود التباس في النتائج. أردت أن أراجع ما هو معروف عن هذه الحالة قبل أن آخذ عينة ثانية من السائل الأمنيوسي. ولسوء الحظ لم ترد معلومات كافية في الموسوعة الطبية المختصرة التي كانت معي.

بعد الظهر، بينما كانت كيتي تغفو، طلبت أنا ومايكل من سيمون أن تقرأ كتابًا في حجرة نومها لحوالي ساعة. ووافق ملاكنا الرائع بسرور. وأصبح مايكل الآن في حالة أهدأ من التي كان عليها في الصباح. أقرَّ بأن ما سمعه بشأن بينجي (يريد مايكل أن يسمي الطفل بينجامين ريان أوتول، على اسم جده) أصابه بالاكتئاب في البداية، لكن من الواضح أن قراءة سفر أيوب ساعدته بشدة على استعادة اتزانه.

شرحت لمايكل أن نمو بينجي العقلي سيكون بطيئًا ومملًّا. ولكنه شعر بالعزاء عندما أخبرته أن الكثيرين ممن يعانون من متلازمة ويتينجهام حققوا في النهاية نموًّا عقليًّا يوازي نمو من هم في الثانية عشرة من عمرهم بعد عشرين عامًا من التعليم. أكدت لمايكل أنه لن تظهر علامات جسدية لهذا المرض، كما هو الحال في متلازمة داون، وأن احتمال تأثر ذريته فيما بعد بهذا المرض قبل الجيل الثالث على الأقل ضئيل لأن متلازمة ويتينجهام هي صفة متنحية نافرة.

عندما اقتربنا من نهاية حديثنا، سألني مايكل: «هل هناك سبيل إلى معرفة من منا يحمل هذه المتلازمة في جيناته؟»

أجبت: «لا. من العسير جدًّا عزل هذا الاعتلال لأنه ينشأ فيما يبدو عن عدد من جينات مختلفة بها عيوب. ولا يكون التشخيص واضحًا إلا عندما تكون المتلازمة نشيطة. كما أن محاولات تحديد من يحملون المرض فشلت حتى على الأرض.»

بدأت أخبره أنه منذ تشخيص المرض لأول مرة عام ٢٠٦٨، لم تظهر تقريبًا أي حالات منه في أفريقيا وآسيا. فهو اعتلال يصيب المنحدرين من العرق القوقازي أساسًا، وجاءت أعلى نسبة للإصابة به في أيرلندا. أيقنت أن مايكل سرعان ما سيعرف هذه المعلومة (فهي واردة في المقال الرئيسي في الموسوعة الطبية التي يقرؤها الآن)، ولم أرد أن ينتابه شعور سيء.

سألني بعد هذا: «ألا يوجد علاج؟»

أجبت وأنا أهز رأسي: «ليس في حالتنا. ظهرت دلائل في العقد الأخير تدل على أن الإجراءات الجينية المضادة قد تكون فعالة إذا استخدمت في المدة من الشهر الرابع إلى الشهر السادس من الحمل، غير أن هذا الإجراء معقد حتى على الأرض، وقد يؤدي إلى فقدان الجنين نهائيًّا.»

كان هذا هو الوقت المناسب في النقاش ليذكر مايكل كلمة «إجهاض». لكنه لم يفعل. فمجموعة معتقداته ثابتة جدًّا ولا تتزعزع، ثباتًا يجعلني متأكدة من أنه لم يفكر في هذا مجرد التفكير. هو يعتقد أن الإجهاض إثم عظيم، سواء في راما أو على الأرض. وجدت نفسي أتساءل عن احتمال وجود أي ظروف قد تجعل مايكل يفكر في الإجهاض. ماذا يكون قراره لو كان الطفل يعاني من متلازمة داون وكان أيضًا أعمى؟ أو لو كان يعاني من مشاكل خلقية متعددة ترجح أنه سيموت في سن مبكرة؟

لو كان ريتشارد هنا، كنا سنتناقش مناقشة منطقية حول مزايا وعيوب الإجهاض. كنا سنفتح إحدى صفحات برنامج بينجامين فرانكلين الذي صممه، ونسجل الحجج المؤيدة على أحد جانبَي الشاشة الكبيرة والحجج المعارضة على الجانب الآخر. كنت سأضيف قائمة طويلة من الأسباب العاطفية المعارضة للإجهاض (التي كان ريتشارد سيحذفها من قائمته الأساسية)، وفي النهاية كنا سنتفق جميعًا على الأرجح على إتاحة الفرصة أمام بينجي للمجيء إلى راما. كان القرار سيكون قرارًا مشتركًا يقوم على التفكير المنطقي.

أريد هذا الطفل. ولكنني أريد من مايكل أن يعيد تأكيد التزامه بالواجبات التي تمليها عليه أبوَّته لبينجي. كان يمكنني دفع مايكل إلى تجديد هذا الالتزام عن طريق الدخول في مناقشة حول احتمال الإجهاض. أحيانًا قد يؤدي التقبل الأعمى لأحكام الله أو الكنيسة أو العقائد الراسخة إلى دفع المرء لكتم تأييده لقرار محدد. آمل ألا يكون مايكل من هذا النوع من الأشخاص.

١٠

٣٠ أغسطس ٢٢٠٦

ولد بينجي مبكرًا. بدا الارتياح على مايكل عندما ولد الطفل منذ ثلاثة أيام بلا أي عيوب جسدية، مع أنني كنت قد أكدت له مرارًا وتكرارًا أن الطفل سيبدو بأتم صحة. كانت هذه الولادة سهلة كالسابقة. وكانت سيمون متعاونة لدرجة مدهشة طوال مرحلتَي المخاض والولادة. إنها شديدة النضج قياسًا بسنها التي لم تبلغ السادسة بعد.

بينجي أيضًا له عينان زرقاوان، ولكن زرقتهما ليست ذات درجة فاتحة كزرقة عينَي كيتي، ولا أظن أنهما ستبقيان زرقاوين. بشرته بنية فاتحة؛ أغمق قليلًا من بشرة كيتي وأفتح من بشرتي أو بشرة سيمون. كان وزنه عند ولادته ثلاثة كيلوات ونصفًا، وبلغ طوله اثنين وخمسين سنتيمترًا.

لم يطرأ أي تغيير على عالمنا. لقد يئسنا جميعًا — فيما عدا كيتي — من احتمال عودة ريتشارد، مع أننا لا نتحدث عن ذلك كثيرًا. نحن مقبلون على الشتاء الراميِّ مرة أخرى، بلياليه الطويلة وأيامه القصيرة. أذهب أنا أو مايكل إلى أعلى على فترات منتظمة للبحث عن علامة ترشدنا إلى ريتشارد ولكن هذا مجرد طقس روتيني. فنحن لا نتوقع حقًّا أن نجد شيئًا. واليوم يكون قد مر على رحيله ستة عشر شهرًا.

أتناوب مع مايكل حساب مسارنا باستخدام برنامج تحديد المسار الذي صممه ريتشارد. في البداية استغرق الأمر منا عدة أسابيع لنفهم كيفية استخدامه مع أن ريتشارد ترك التعليمات المفصلة معنا. نتحقق مرة كل أسبوع من أننا لا نزال نسير باتجاه الشعرى اليمانية، دون أن يأتي في طريقنا نظام شمسي آخر.

رغم وجود بينجي، بدأ الوقت الذي أخصصه لنفسي يزداد أكثر من ذي قبل. أقرأ بنهم، وعدت لاهتمامي بالبطلتين اللتين هيمنتا على عقلي وخيالي في مرحلة المراهقة مرة أخرى. لماذا كانتا جان دارك وإليانور الأكويتينية دائمًا ما تجذبانني كثيرًا؟ لأنهما أظهرتا قوةً داخلية واكتفاء ذاتيًّا كما أن كلًّا منهما نجحت في مجتمع يهيمن عليه الرجال عن طريق الاعتماد على قدراتها اعتمادًا تامًّا.

كنت أعاني من وحدة رهيبة في مرحلة المراهقة. البيئة الطبيعية المحيطة بي في بوفوا كانت خلابة وكان والدي يغمرني بحبه، ولكنني في الواقع أمضيت فترة المراهقة كلها في حالة من الوحدة. ففي قرارة نفسي، لطالما كنت أشعر بالرعب من أن يأخذ الموت أو الزواج والدي الغالي مني. وأردت أن أكون أكثر استقلالًا لأتجنب الألم الذي سأشعر به إذا ما انفصل والدي عني. جان وإليانور كانتا قدوتين رائعتين لي. حتى اليوم، أجد الطمأنينة في القراءة عن حياتيهما. لم تسمح أيٌّ من المرأتين للعالم من حولها أن يحدد ما هو مهم فعلًا في حياتها.

لا تزال صحتنا جميعًا بخير. في الربيع الماضي قمت بتركيب مجموعة مما تبقى من مجسات المراقبة البيومترية على جسد كلٍّ منا، وراقبت البيانات لأسابيع قليلة، لا لشيء إلا لأشغل نفسي. ذكَّرتني عملية المراقبة بأيام بعثة نيوتن؛ هل من الممكن حقًّا ألا يكون قد مر على رحيلنا نحن — الاثني عشر — عن الأرض لنقابل راما سوى ست سنوات؟

على أي حال، انبهرت كيتي بهذه العملية. فكانت تجلس بجواري وأنا أفحص سيمون أو مايكل وتسأل عشرات الأسئلة عن البيانات التي تظهر. وسرعان ما فهمت كيفية عمل النظام وماهية كل ملفات التحذير. وعلق مايكل على هذا قائلًا إنها فائقة الذكاء. إنها تشبه والدها. لا تزال كيتي تشتاق إلى ريتشارد بشدة.

مع أن مايكل يقول إنه يشعر أنه يتقدم في السن، فإن هيئته رائعة قياسًا برجل في الرابعة والستين من عمره. إنه مهتم للغاية بالحفاظ على لياقته البدنية اهتمامًا يكفي لتمكينه من القيام بواجباته تجاه الأطفال، وبدأ ممارسة الجري الوئيد مرتين أسبوعيًّا منذ بداية حملي. مرتين أسبوعيًّا! هذا مضحك. لقد ظللنا نتمسك بتقويمنا الأرضي بمنتهى الوفاء، مع أنه لا معنى له على الإطلاق هنا على راما. في إحدى الليالي سألت سيمون عن الأيام والشهور والسنين. وبينما كان مايكل يشرح دوران الأرض وفصول السنة ومدار الأرض حول الشمس، تراءى لي فجأةً مشهد الغروب الرائع في ولاية يوتا الذي شهدناه أنا وجنيفياف في رحلتنا إلى الغرب الأمريكي. فأردت أن أخبر سيمون عنه. ولكن كيف يمكنك أن تشرح معنى الغروب لمن لم يرَ الشمس؟

يذكِّرنا التقويم بماضينا. إذا وصلنا يومًا إلى كوكب جديد، بنهار وليل حقيقيين بدلًا من نهار راما وليلها الزائفين، سنترك التقويم الأرضي بالتأكيد. ولكن في الوقت الحالي، تذكِّرنا العطلات ومرور الشهور وأعياد الميلاد — خاصةً — بجذورنا على ذلك الكوكب الجميل الذي لم يعد يمكننا حتى العثور عليه وإن استخدمنا أفضل تليسكوبات راما.

بينجي الآن مستعد للرضاعة. قدراته العقلية قد لا تكون هي الأفضل، ولكنه بالتأكيد لا يواجه مشكلة في أن يخبرني بأنه جوعان. أنا ومايكل لم نخبر سيمون وكيتي عن حالة أخيهما، وقد اتفقنا على هذا سلفًا. إذ سيكون من الصعب عليهما تقبُّل حقيقة أنه سيستولي على الاهتمام الذي كان منصبًّا عليهما وهو رضيع. فكيف لنا أن نتوقع منهما، وهما في هذه السن الصغيرة، أن يتفهما أن حاجته للاهتمام ستستمر، بل ستكبر، حين يصل إلى مرحلة تعلُّم المشي، وعندما يصبح صبيًّا؟

١٣ مارس ٢٢٠٧

كيتي تبلغ الرابعة من عمرها اليوم. وعندما سألتها منذ أسبوعين عن الأمنية التي تريدها في عيد ميلادها، لم تتردد ثانية. وقالت: «أريد أن يعود والدي.»

إنها فتاة صغيرة منطوية وتميل إلى الوحدة. كما أنها سريعة التعلم، وهي أشد أبنائي تأثرًا بتقلب الحالة المزاجية. كان مزاج ريتشارد سريع التقلب كذلك. كان أحيانًا يشعر بابتهاج شديد وحماسة جارفة لدرجة يعجز معها عن تمالك نفسه، وغالبًا ما يحدث هذا عقب مروره مباشرةً بتجربة تثير حماسه للمرة الأولى. ولكن نوبات الاكتئاب التي كان يمر بها مخيفة. ففي بعض الأحيان كان يمر عليه أسبوع أو أكثر دون أن يضحك، بل دون أن يبتسم.

ورثت كيتي موهبته في الرياضيات. بإمكانها القيام بعمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة في هذه السن الصغيرة، على الأقل مع الأعداد الصغيرة. يبدو أن سيمون، الموهوبة بالتأكيد أيضًا، لديها نطاق أكثر توازنًا من القدرات. وهي عمومًا أكثر اهتمامًا بمجموعة أكبر من المواد الدراسية. ولكن كيتي بالتأكيد تفُوقها في الرياضيات.

طوال المدة التي مرت منذ رحيل ريتشارد، والتي تبلغ نحو عامين، وأنا أحاول بلا جدوى أن أحتل مكانه في قلب كيتي. الحقيقة هي أنني أصطدم معها. فشخصيتانا لا تنسجمان مثلما تنسجم شخصية الأم مع شخصية ابنتها. إن التفرد والجموح اللذين أحببتهما في ريتشارد أجدهما مخيفين في كيتي. ورغم حسن نواياي، دائمًا ما ينتهي بنا الأمر إلى الخصام.

بالطبع، لم نتمكن من أن نشق الأرض ونحضر ريتشارد من أجل احتفال كيتي بعيد ميلادها. ولكنني حاولت أنا ومايكل بكل جد أن نقدم هديةً تنال اهتمامها. ومع أننا لا نتمتع بمهارة كبيرة في الإلكترونيات، فقد نجحنا في ابتكار لعبة فيديو صغيرة أسميناها «تائه في راما» (اضطررنا للتواصل مع أهل راما عدة مرات لإحضار المكونات المناسبة، واستغرق الأمر منا قضاء عدة ليالٍ من التعاون معًا لصناعة شيء كان يمكن أن ينتهي منه ريتشارد غالبًا في يوم). راعينا في تصميمنا للعبة أن تكون بسيطة للغاية؛ لأن كيتي لم تتجاوز الرابعة من العمر. وبعد اللعب بها ساعتين كانت قد استنفدت كل الخيارات وعرفت كيف تعود إلى البيت، إلى ملجئنا، من أي نقطة انطلاق في راما.

جاءت المفاجأة الكبرى الليلة، عندما سألناها عما تحب أن تفعله في ليلة عيد ميلادها (وهذا السؤال أصبح تقليدًا نتبعه في راما). قالت وعيناها تتألقان: «أريد الدخول إلى ملجأ الكائنات الطائرة.»

حاولنا أن نثنيها عن ذلك بأن أوضحنا لها أن المسافة بين درجات السلالم أكبر من ارتفاعها. ردًّا على ذلك، ذهبت كيتي إلى السلَّم المصنوع من الحبال المكون من الشرائح الخشبية الذي يتدلى على جانب حجرة نومها وأرتنا أنها تستطيع أن تتسلقه. ابتسم مايكل. وقال: «لقد ورثت شيئًا من أمها.»

قالت كيتي بصوتها الخافت الذي ينم عن نضج مبكر: «أرجوك يا أمي! كل الأشياء الأخرى مملة جدًّا. أريد أن أرى الحارس بنفسي من قرب.»

مع أنني انتابتني بعض المخاوف، مشيت مع كيتي إلى ملجأ الكائنات الطائرة، وطلبت منها أن تنتظرني بأعلى حتى أضع السلم المصنوع من الحبال في مكانه. وقفت لحظة على بسطة السلم الأولى المواجهة للحارس، ونظرت عبر الفجوة إلى الآلة التي لا تكف عن الحركة والتي تحمي مدخل النفق الأفقي. وتساءلت بيني وبين نفسي: تُرى أظللت في مكانك ذاك دائمًا؟ ألم يستبدلوك أو يصلحوك طوال هذه المدة؟

سمعتُ ابنتي تناديني من أعلى قائلة: «هل أنت مستعدة يا أمي؟» قبل أن أتسلق بسرعة لأقابل كيتي، وجدتها تنزل على السلم. وبَّختها حين لحقت بها عند السور الثاني، ولكنها لم تلقِ بالًا. وكان يتملكها حماس شديد. قالت: «أرأيت يا أمي؟ لقد نزلت بمفردي.»

هنأتها مع أن عقلي كان لا يزال مضطربًا من مجرد تصور كيتي تزل وتقع من على السلم وتصطدم بأحد الأسوار ثم تنقلب في الأعماق السحيقة للممر الرأسي. واصلنا نزول السلم وأنا أساعدها من أسفل حتى وصلنا إلى البسطة الأولى والنفقين الأفقيين. على الجانب الآخر من الفجوة، كان الحارس يواصل حركته المتكررة. وكانت كيتي في نشوة بالغة.

انهمرت أسئلتها: «ما الذي يقع وراء هذا الشيء؟ من صنعه؟ ماذا يفعل هناك؟ هل قفزت حقًّا عبر هذه الفتحة؟ …»

إجابةً على أحد أسئلتها، استدرت وخطوت عدة خطوات في النفق الذي يقع خلفنا، متبعةً شعاع النور الصادر من مصباحي اليدوي وأنا أفترض أن كيتي تتبعني. بعد لحظات، تجمدت من الخوف عندما اكتشفت أنها كانت لا تزال واقفة على حافة الفجوة. شاهدتها تخرج شيئًا صغيرًا من جيب فستانها وتلقي به عبر الفجوة على الحارس.

صرخت في كيتي، ولكن بعد فوات الأوان. إذ اصطدم الشيء بمقدمة الحوض. على الفور صدر دوي كدويِّ الرصاص واصطدمت قذيفتان معدنيتان بحائط الملجأ فوق رأسها بما لا يزيد عن متر.

صرخت كيتي: «هيييييييه»، وأنا أدفعها بعيدًا عن الحفرة. كنت أستشيط غضبًا. بدأت ابنتي تبكي. وصارت الضوضاء في الملجأ صاخبة.

بعد مرور ثوانٍ توقفت عن البكاء فجأة. وسألتني: «أسمعتِ؟»

سألتها وقلبي لا يزال يخفق بشدة: «ماذا؟»

ردت قائلة: «هناك.» وأشارت عبر الممر الرأسي إلى الظلام الذي يغلف المنطقة الواقعة خلف الحارس. سلطتُ ضوء المصباح اليدوي على الخواء ولكننا لم نرَ شيئًا.

وقفنا في مكاننا دون حراك وشبكنا أيدينا. كان هناك صوت قادم من النفق خلف الحارس. ولكنني عجزت عن تمييزه بسبب بُعده، ولهذا لم أستطع التعرف عليه.

قالت كيتي بلهجة تنم عن يقين: «إنه مخلوق طائر. بإمكاني سماع رفرفة جناحيه.» وصرخت ثانيةً بأعلى صوت: «هيييييييه.»

توقف الصوت. ومع أننا انتظرنا خمس عشرة دقيقة قبل أن نتسلق الملجأ خارجين منه، لم نسمع أي صوت آخر. أخبرت كيتي مايكلَ وسيمون أننا سمعنا مخلوقًا طائرًا. لم أستطع أن أؤكد صحة قصتها ولكنني آثرت ألا أجادلها. كانت سعيدة. وهكذا كان عيد ميلادها زاخرًا بالأحداث.

٨ مارس ٢٢٠٨

ولد باتريك إيرين أوتول بعد ظهر أمس في الساعة الثانية والربع، وهو طفل سليم تمامًا من كل النواحي. ووالده يحمله في هذه اللحظة في فخر ويبتسم في حين تتحرك أصابعي على لوحة مفاتيح الكمبيوتر المحمول الخاص بي.

نحن في وقت متأخر من الليل الآن. وضعت سيمون بينجي في فراشه كما تفعل كل ليلة في الساعة التاسعة، ثم خلدت إلى النوم. كانت متعبة جدًّا. اعتنت ببينجي من دون مساعدة من أحد أثناء مدة المخاض التي جاءت طويلة على غير المتوقع. كلما كنت أصرخ، كان بينجي يبكي، وكانت سيمون تحاول أن تهدئه.

اعتبرت كيتي باتريك أخاها الصغير. إنها تفكر تفكيرًا منطقيًّا للغاية. إذا كان بينجي من نصيب سيمون، فإن باتريك يجب أن يكون من نصيبها. على الأقل، هي تُظهر اهتمامًا بفرد آخر من أفراد الأسرة.

لم أخطط أنا ومايكل لإنجاب باتريك ولكننا سررنا بمجيئه وانضمامه لأسرتنا. حملت به في وقت ما في آخر الربيع الماضي، على الأرجح في أول شهر يمر بعد أن بدأت أنا ومايكل في المبيت في غرفة نومه ليلًا. فكرة النوم معًا فكرتي، ولكنني متأكدة من أن مايكل فكر في هذا هو الآخر.

في الليلة التي كان قد مضى على رحيل ريتشارد فيها عامان، جافاني النوم تمامًا. وكان ينتابني الشعور بالوحدة كالمعتاد. حاولت أن أتخيل أنني أستطيع النوم ما تبقى من الليالي بمفردي فأصبت باكتئاب شديد. بعد منتصف الليل مباشرةً، قطعت الممر واتجهت إلى حجرة مايكل.

منذ البداية هذه المرة خلت علاقتنا أنا ومايكل من أي توتر أو تكلف. أظن أن كلينا كان مستعدًّا لهذا. بعد مولد بينجي انشغل مايكل انشغالًا كبيرًا بمساعدتي في رعاية الأطفال. وفي هذه الأثناء، خفف مايكل قليلًا من نشاطاته الدينية وزاد اهتمامه بالتعامل معنا، وخصوصًا أنا. وفي النهاية، عاد توافقنا الطبيعي يؤكد نفسه. ولم يبقَ أمامنا سوى التسليم بأن ريتشارد لن يعود أبدًا.

مريحة. هذه أفضل كلمة تصف علاقتي بمايكل. مع هنري، كانت السمة المميزة لعلاقتنا هي النشوة. ومع ريتشارد كانت العاطفة المتقدة والإثارة هي السمة المميزة؛ إذ كانت علاقتي به أشبه بركوب لعبة القطار الأفعواني. مايكل يريحني، ننام ويدي في يديه، هذا أفضل رمز لعلاقتنا. نادرًا ما نقيم علاقة حميمة، ولكن هذا يكفي.

قدمت بعض التنازلات. حتى إنني أصلي، من وقت إلى آخر، لأن هذا يسعد مايكل. أما هو، فقد أصبح أكثر تساهلًا بشأن تعريف الأطفال بالأفكار ومنظومات القيم التي تقع خارج إطار مذهبه الكاثوليكي. اتفقنا على أن ما نهدف إليه هو تحقيق التوافق والثبات في أسلوب تربيتنا المشترك.

بلغ عددنا الآن ستة، نحن أسرة من البشر في مكان ما في الكون أقرب إلى العديد من النجوم الغريبة منه إلى كوكب الأرض وإلى الشمس. ما زلنا لا نعرف ما إذا كان الهيكل الأسطواني العملاق الذي يندفع في الفضاء ذاهبًا إلى وجهة محددة أم لا. وفي بعض الأحيان لا يبدو هذا مهمًّا. فقد صنعنا عالمًا خاصًّا بنا هنا في راما، ومع أن هذا العالم محدود، فإنني أعتقد أننا سعداء.

١١

٣٠ يناير ٢٢٠٩

كنت قد نسيت الشعور الذي ينتاب المرء عندما يسري الأدرينالين في الجسم. في الثلاثين ساعة الأخيرة نُسِفت حياتنا الهادئة الساكنة في راما نسفًا.

بدأ كل هذا بحلمين. ففي صباح أمس، قبل أن أستيقظ مباشرةً، حلمت بريتشارد، وكان الحلم واضحًا وضوحًا غريبًا. لم يظهر ريتشارد في حلمي بمعنى الكلمة؛ أعني أنه لم يظهر مع مايكل وسيمون وكيتي ومعي. ولكن وجهه ظل في الركن الأيسر العلوي لما يشبه شاشة الحلم، بينما كنا نحن الأربعة منهمكين في أحد الأنشطة اليومية العادية. وظل يناديني مرارًا وتكرارًا. وكان يناديني بصوتٍ عالٍ جدًّا حتى إنني ظللت أسمعه بعد أن استيقظت.

وما إن بدأت أخبر مايكل عن الحلم حتى ظهرت كيتي في المدخل في رداء نومها. وكانت ترتعد خوفًا. فسألتها وأنا أدعوها بذراعيَّ المفتوحتين لتقترب: «ما الأمر يا حبيبتي؟»

اتجهت إليَّ وألقت بنفسها بقوة في حضني. ثم قالت: «إنه والدي. لقد كان يناديني أمس في أحلامي.»

سرت قشعريرة في جسدي واعتدل مايكل جالسًا على الفراش. طمأنت كيتي ببضع كلمات، ولكن تلك الصدفة أربكتني. ترى هل سمعت حديثي مع مايكل؟ مستحيل. فقد رأيناها في اللحظة التي وصلت فيها إلى حجرتنا.

بعد أن عادت كيتي لتبدل ملابسها في حجرة نومها، أخبرت مايكل بأنني لا أستطيع تجاهل ما رأيته أنا وكيتي في منامنا. كثيرًا ما كنا نتحدث عن قدراتي النفسية الخارقة التي تظهر من حين لآخر. ومع أن مايكل عادةً ما يُسقط من حساباته فكرة تمتعي بالإدراك الفائق، فإنه دائمًا ما يقر بأنه من المستحيل الجزم بأن أحلامي ورؤاي لا تتنبأ بالمستقبل.

قلت له بعد الإفطار: «يجب أن أصعد إلى أعلى وأبحث عن ريتشارد.» كان مايكل يتوقع أن أقوم بهذه المحاولة فاستعد للاعتناء بالأطفال. لكن الظلام كان يخيم على راما. فاتفقنا على أنه من الأفضل أن ننتظر حتى يحل مساؤنا ويظهر الضوء مرة أخرى في عالم سفينة الفضاء فوق ملجئنا.

أخذتُ سِنة طويلة من النوم حتى أستجمع ما يكفي من الطاقة للقيام ببحث شامل. غير أن نومي كان متقطعًا وظللت أحلم بأنني في خطر. وقبل أن أرحل، تحققت من أن جهاز الكمبيوتر المحمول به رسم لريتشارد يتسم بقدرٍ كافٍ من الدقة. إذ كنت أنوي إطلاع أيٍّ من المخلوقات الطائرة الذين قد أقابلهم على من أبحث عنه.

قبَّلتُ الأطفال وألقيت عليهم تحية قبل النوم، ثم توجهت مباشرة إلى ملجأ المخلوقات الطائرة. لم أندهش كثيرًا عندما وجدت أن الحارس رحل. فمنذ سنوات، عندما دعتني إحدى المخلوقات الطائرة لزيارة الملجأ، لم يكن الحارس موجودًا أيضًا. فهل من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى أنني أتلقى دعوة لزيارتها مرة أخرى؟ وما علاقة كل هذا بحلمي؟ أخذ قلبي يخفق بعنف وأنا أمر أمام الغرفة التي تحتوي على خزان المياه وأتوغل في النفق الذي يحرسه عادةً الحارس الغائب.

لم أسمع أي صوت. وقطعتُ نحو كيلومتر حتى وصلت إلى مدخل مرتفع إلى اليمين. فأدرت نظري بحذر عند المنعطف. كانت الغرفة مظلمة، مثلها في ذلك مثل باقي أنحاء الملجأ باستثناء الممر الرأسي. أضأت المصباح اليدوي. فرأيت أن الغرفة ليست سحيقة العمق؛ إذ لا يتجاوز عمقها خمسة عشر مترًا على الأكثر، ولكنها كانت شاهقة الارتفاع. ورأيت عدة صفوف من صناديق التخزين البيضاوية مستندةً إلى الحائط المقابل للباب. وكشف شعاع النور الصادر من مصباحي عن أن الصفوف تمتد حتى السقف المرتفع الذي يقع على الأرجح أسفل أحد ميادين نيويورك مباشرةً.

لم أستغرق وقتًا طويلًا لأفهم الغرض من هذه الغرفة. إذ إنني وجدت أن كل صناديق التخزين تشبه بطيخ المنِّ من حيث الحجم والشكل. قلت في نفسي إن هذا واضح. لا بد أن يكون هذا هو المكان الذي يحتفظون فيه بالأغذية. ولا عجب إذن من أنهم يمنعون الدخول إلى هنا.

بعد أن تأكدت من أن كل الصناديق خاوية بالفعل، بدأت أسير عائدة إلى الممر الرأسي. ثم غيرت اتجاهي فجأة وتجاوزت غرفة التخزين وأخذت أسير في النفق. وهذا لأنني استنتجت أنه يؤدي حتمًا إلى مكان ما وإلا كان الملجأ انتهى عند غرفة البطيخ.

بعد نصف كيلومتر أخذ النفق يتسع تدريجيًّا حتى أفضى إلى غرفة دائرية كبيرة. وفي وسط الغرفة ذات السقف المرتفع، كان يوجد بناء كبير له قبة. وكانت الجدران بها نحو عشرين فجوةً محفورة على مسافات منتظمة. ولا يضيئها سوى الضوء الصادر من مصباحي، ولذا استغرق الأمر مني عدة دقائق حتى أكوِّن فكرة عامة عن الغرفة إضافةً إلى البناء ذي القبة الموجود في وسطها.

مشيت بمحاذاة الحائط وفحصت الفجوات واحدة تلو الأخرى. فوجدت أن معظمها فارغ. لكنني وجدت في واحدة منها ثلاثة حراس متطابقين مصطفِّين بنظام أمام الجدار الخلفي. أول إحساس انتابني هو ضرورة توخي الحذر منهم، لكن لم يكن ذلك ضروريًّا. إذ إنهم جميعًا كانوا في وضع الخمول.

غير أن الفجوة التي أثارت اهتمامي دون غيرها هي الفجوة الواقعة في منتصف الغرفة، وتحديدًا على بعد زاوية قدرها مائة وثمانون درجة بالضبط من مدخل النفق. إذ إن هذه الفجوة الخاصة كانت مرتبة بعناية وكان بها أرفف سميكة محفورة في حوائطها. وكان عدد الأرفف يبلغ خمسة عشر: خمسة أرفف على كل جانب وخمسة على الحائط المواجه لمدخل الفجوة. وكان يوجد على الأرفف التي تحتل الجانبين أشياء مرتبة (كان كل شيء مرتبًا للغاية)، أما الأرفف التي تغطي الحائط البعيد فكان في كلٍّ منها خمس حفر مستديرة.

وكانت محتويات كل حفرة من هذه الحفر، المقسمة إلى أقسام أخرى أصغر، بحيث بدت أشبه بقطع من فطيرة، ساحرة. إذ كان أحد أقسام كل حفرة يحتوي على مادة ناعمة جدًّا كالرماد. ويحتوي قسم ثانٍ على حلقة أو اثنتين أو ثلاث ذات لون أحمر زاهٍ أو ذهبي، وقد تعرفت عليها على الفور لأنها تشبه الحلقات التي رأيناها حول رقبة صديقنا الطائر ذي الريش الرمادي. أما باقي الأشياء التي في الحفر فلم تكن تتسم بنمط محدد؛ في الواقع، كانت بعض الحفر خالية إلا من الرماد والحلقات.

في النهاية، استدرت واقتربت من البناء ذي القبة. وكان بابه الأمامي مواجهًا للفجوة المميزة. فتفحصت الباب على ضوء مصباحي. ورأيت تصميمًا معقدًا محفورًا على سطحه المستطيلي. وكان التصميم ينقسم إلى أربعة ألواح أو قطاعات منفصلة. رُسِم في القطاع الأيسر العلوي مخلوق طائر، والقطاع الملاصق الأيمن كان يحمل صورة ثمرة بطيخ المَن. أما القطاعان السفليان، فكانا يحتويان على صورٍ غير مألوفة. فعلى الجانب الأيسر رأيت نقشًا لمخلوق مخطط ذي مفاصل يجري على ست أرجل. ويظهر في القطاع السفلي الأخير الموجود إلى اليمين صندوقٌ كبير مملوء بشبكة أو نسيج شبكي رقيق للغاية.

بعد شيء من التردد دفعت الباب فانفتح. وكدت أموت فزعًا عندما شق السكونَ صوتُ إنذار مرتفع كصوت بوق السيارة. فتسمرت بالداخل وظل صوت الإنذار يدوي طوال دقيقة. وعندما توقف، لم أتحرك. وإنما حاولت أن أصغي لأعرف ما إذا كان ثمة استجابة من شخص (أو شيء) ما للإنذار أم لا.

لم يبدد الصمتَ أيُّ صوت آخر. فبدأت بعد دقائق قليلة أستكشف الجزء الداخلي من المبنى. ووجدت أن الغرفة الوحيدة في المكان يحتل وسطها مكعبٌ شفاف يبلغ كل بعد من أبعاده نحو مترين ونصف. وكانت حوائطه ملطخة ببقع مما شوش على رؤيتي بعض الشيء، ولكنني لاحظت أن القاع الذي تبلغ مساحته عشرة سنتيمترات كانت تغطيه مادة ناعمة داكنة. كما كانت حوائط وأرضيات وسقف الغرفة التي بها المكعب تزينها أشكال هندسية. وكان لأحد أوجه المكعب مدخل ضيق يسمح بالدخول إليه.

دخلت. واكتشفت أن المادة السوداء الخفيفة كانت فيما يبدو عبارة عن رماد، ولكن قوامها كان مختلفًا قليلًا عن قوام المادة المماثلة التي وجدتها في الحفر داخل الفجوات. تابعت عيناي الشعاع الصادر من مصباحي وهو يتفقد أنحاء المكعب بنظام. ووجدت قرب الوسط شيئًا مدفونًا جزئيًّا في الرماد. فاتجهت نحوه والتقطته ونفضت عنه الرماد، فكاد أن يغمى عليَّ. إذ إنني وجدت أن هذا الشيء هو شين، ذلك الآلي الذي صنعه ريتشارد.

تغير شين تغيرًا كبيرًا. فقد اسود الجزء الخارجي منه، وذابت لوحة التحكم الضئيلة الخاصة به، ولم يعد يعمل. ولكنه هو بالتأكيد. قربت الآلي الصغير من شفتيَّ وقبلته. وتخيلته وهو يلقي إحدى السونيتات التي كتبها شكسبير وريتشارد يستمتع بالاستماع إليه في نشوة.

من الواضح أن شين قد تعرض لحريق. ترى هل تعرض ريتشارد هو الآخر لحريق ما داخل المكعب؟ فتشتُ في الرماد تفتيشًا دقيقًا ولكنني لم أجد أي عظام. فتساءلت: ما الذي احترق وخلَّف كل هذا الرماد؟ وماذا كان شين يفعل بداخل المكعب أصلًا؟

كنت مقتنعة بأن ريتشارد كان في مكان ما داخل ملجأ المخلوقات الطائرة؛ لذا أمضيت ثماني ساعات أخرى وأنا أصعد وأهبط السلالم وأستكشف الأنفاق. وزرت كل الأماكن التي مررت بها من قبل أثناء إقامتي القصيرة السابقة، ووجدت عدة قاعات جديدة لم أعرف الغرض منها. غير أنني لم أجد أية علامة على وجود ريتشارد. بل لم أجد أي علامة على وجود حياة من أي نوع. وأدركت أن النهار الراميَّ القصير كاد أن ينقضي وأن الأطفال الأربعة سرعان ما سيستيقظون، فعدت إلى بيتي وأنا متعبة ومكتئبة.

وعندما وصلت، كان غطاء ملجئنا والشبكة التي تغطيه مفتوحين. ومع أنه كان بداخلي شيء من اليقين من أنني أغلقتهما قبل الرحيل، فإنني لم أستطع تذكر ما قمت به بالضبط لدى مغادرة البيت. وفي النهاية قلت لنفسي إنني ربما كنت منفعلة أكثر مما ينبغي وقتها مما منعني من غلق كل المداخل. وما إن بدأت أهبط السلم، حتى سمعت مايكل ينادي من خلفي: «نيكول».

التفتُّ. كان مايكل يأتي من الممر الشرقي. كان يسير مسرعًا على غير عادته ويحمل باتريك الرضيع بين ذراعيه. قال وهو يلهث بينما أنا أتجه نحوه: «ها أنتِ ذي. كنت قد بدأت أقلق …»

توقف فجأة وحدق فيَّ للحظة ثم تلفت حوله بسرعة. وسأل بقلق: «لكن أين كيتي؟»

سألته وقد أفزعتني نظرته: «ماذا تعني بسؤالك؟»

سأل: «أليست معكِ؟»

هززت رأسي نفيًا وقلت إنني لم أرها، فانفجر مايكل باكيًا فجأة. فأسرعت لأهدئ باتريك الصغير إذ أرعبه بكاء مايكل فانفجر هو الآخر في البكاء.

قال مايكل: «أوه يا نيكول. أنا آسف، آسف جدًّا. كان باتريك يعاني من الأرق لذا أحضرته إلى غرفتي. وبعدها شعر بينجي بألم في المعدة واضطررت أنا وسيمون إلى أن نمرضه طيلة ساعتين. ثم نمنا جميعًا بينما كانت كيتي بمفردها في حجرة الأطفال. وعندما استيقظنا جميعًا منذ حوالي ساعتين اكتشفنا اختفاءها.»

لم أرَ مايكل في هذه الحالة من الاضطراب من قبل. فحاولت أن أهدئه وأن أقول له إن كيتي على الأغلب تلعب في مكان قريب (وأكملت في عقلي: وإنني سأوبخها توبيخًا لن تنساه أبدًا عندما نجدها) ولكن مايكل خالفني الرأي.

قال: «لا، لا، إنها ليست في مكان قريب. لقد بحثت عنها أنا وباتريك لأكثر من ساعة.»

نزلت أنا ومايكل وباتريك لنطمئن على سيمون وبينجي. فأخبرتنا سيمون أن كيتي استاءت جدًّا عندما قررت أن أبحث عن ريتشارد بمفردي. وقالت بهدوء: «كانت تأمل أن تأخذيها معك.»

سألت ابنتي ذات السنوات الثماني: «لمَ لم تخبريني بهذا الليلة الماضية؟»

أجابت: «لم يبدُ هذا مهمًّا حينها. كما أنني لم أتخيل أبدًا أن كيتي ستحاول أن تبحث عن والدي بنفسها.»

كنت أنا ومايكل مرهقين، ولكن كان على أحدنا أن يبحث عن كيتي. ورأيت أن الاختيار السليم هو أن أذهب أنا. فغسلت وجهي وطلبت إفطارًا للجميع من سكان راما وقصصت عليهم سريعًا رحلة نزولي ملجأ المخلوقات الطائرة. وأخذ مايكل وسيمون يقلبان شين المسود ببطء في أيديهما. وكان من الواضح أنهما كانا يتساءلان مثلي عما حل بريتشارد.

وقبل أن أرحل مباشرةً قالت سيمون: «قالت كيتي إن والدي ذهب ليقابل الأوكتوسبايدر. وقالت إن عالمهم شيق أكثر.»

اجتاحني الرعب وأنا أمشي بصعوبة إلى الساحة القريبة من ملجأ الأوكتوسبايدر. وبينما كنت أمشي انتهى النهار وعاد الليل يخيم على راما. فغمغمت لنفسي قائلةً: «رائع. لا يوجد ما هو أفضل من البحث عن طفلة تائهة في الظلام.»

كان غطاء ملجأ لأوكتوسبايدر مفتوحًا، وكذا شبكتَا الحماية. لم أرَ الشبكتين مفتوحتين من قبل. فخفق قلبي ذعرًا. ودلتني غريزتي على أن كيتي نزلت إلى الملجأ وعلى أنني سأتبعها بالرغم من خوفي. في البداية جثوت على ركبتَيَّ وناديت عليها مرتين باتجاه الظلمة التي تبدو أسفل قدمَي. فسمعت صدى اسمها يتردد في الأنفاق. وأصغيت لعل أذني تلتقط استجابة، ولكن لم أسمع أي صوت على الإطلاق. فقلت لنفسي: على الأقل لم أسمع صوت احتكاك فُرش على الأرض يصحبه طنين ذو تردد عالٍ.

نزلت المنحدر ووصلت إلى الكهف الكبير الذي به الأنفاق الأربعة التي أطلقنا عليها أنا وريتشارد أسماء «إيني وميني ومايني ومو». كان الأمر صعبًا، ولكنني أجبرت نفسي على دخول النفق الذي مشيت فيه أنا وريتشارد من قبل. ولكن بعد خطوات قليلة توقفت، ثم تراجعت ودخلت النفق المجاور. وكان هذا الممر الثاني يفضي أيضًا إلى الممر المنحدر ذي الشكل البرميلي الذي تغطي جدرانه النتوءات الشائكة، ولكنه كان يتخطى الغرفة التي أسميتها أنا وريتشارد متحف الأوكتوسبايدر. وتذكرت جيدًا الرعب الذي شعرت به منذ تسع سنوات عندما وجدت د. تاكاجيشي معلقًا في ذلك المتحف وهو محنط مثل تذكار الصيد.

أردت زيارة متحف الأوكتوسبايدر لسبب لا يتعلق بالضرورة ببحثي عن كيتي. وهو أن الأوكتوسبايدر إذا كانوا قد قتلوا ريتشارد (كما قتلوا تاكاجيشي، حسب افتراضنا، مع أنني حتى الآن لست مقتنعة بأنه لم يصب بأزمة قلبية) أو إذا كانوا قد وجدوا جثته في مكان آخر في راما، فإنه ربما يكون في هذه الغرفة. إذا قلت إنني لم أكن متخوفة من أن أرى زوجي محنطًا على طريقة التحنيط المتبعة لدى سكان الكواكب الأخرى فإنني بهذا أخالف الحقيقة، ولكن أكثر ما كان يهمني هو أن أعرف ما الذي حل بريتشارد. خاصة بعد الحلم الذي رأيته.

أخذت نفسًا عميقًا عندما وصلت إلى مدخل المتحف. ودخلت متجهةً إلى اليسار ببطء. أُضيئت الأنوار فور أن عبرت العتبة، ولكن لحسن الحظ لم يكن د. تاكاجيشي يحدق في وجهي مباشرة. فقد نُقِل إلى الجانب الآخر من الغرفة. في الواقع لقد أعادوا ترتيب المتحف كله على مدى السنوات الماضية. فقد أزيلت كل الكائنات الآلية التي كانت تشغل معظم مساحة الغرفة عندما زرتها أنا وريتشارد من قبل لفترة وجيزة. وصارت «المعروضات» — إذا كان من الممكن أن نطلق عليهما هذه التسمية — تتألف من نوعين هما المخلوقات الطائرة والبشر.

كانت المعروضات من المخلوقات الطائرة أقرب إلى الباب. وكانت تضم ثلاثة مخلوقات طائرة معلقة في السقف وأجنحتها منبسطة. ومن بينها المخلوق الطائر ذو الريش الرمادي والعنق المزدان بحلقتين حمراوين الذي رأيته أنا وريتشارد قبيل موته. وكانت توجد في قسم المخلوقات الطائرة أشياء أخرى ساحرة بل وصور، ولكنني وجدت عينيَّ تنجذبان إلى الجانب الآخر من الغرفة حيث المعروضات المحيطة بدكتور تاكاجيشي.

تنفست الصعداء عندما أدركت أن ريتشارد ليس في الغرفة. غير أن مركبنا الشراعي الذي عبرت فيه البحر الأسطواني مع ريتشارد ومايكل كان هناك. كان على الأرض بجوار دكتور تاكاجيشي مباشرة. كما كانت هناك تشكيلة من حاجياتنا التي حصلوا عليها بعدما خلفناها أثناء نزهاتنا في نيويورك وغيرها من الأنشطة التي قمنا بها هناك. أما وسط المعرض فيضم مجموعة صور ذات إطارات معلقة على الحوائط الخلفية والجانبية.

من موقعي عبر الغرفة، لم أستطع تمييز الكثير عن محتويات الصور. ولكنني شهقت عندما اقتربت منها. كانت الصور كلها صورًا فوتوغرافيةً موضوعةً في أطر مستطيلة، يصور الكثير منها الحياة «داخل» ملجئنا. رأيت صورًا لنا جميعًا وفيها الأطفال. وهي تصورنا ونحن نأكل وننام بل ونحن في الحمام. شعرت بالخدَر يسري في جسدي وأنا أتأمل المعروضات. وقلت في نفسي: «إنهم يراقبوننا حتى داخل بيتنا.» وسرت قشعريرة رهيبة في جسدي.

كانت هناك مجموعة خاصة من الصور معلقة على الحائط الجانبي أفزعتني وأخجلتني. ولو كنا على كوكب الأرض، لرُشِّحت هذه الصور للعرض في متحف للصور والمعروضات ذات الطابع الإباحي. فهي تصورني وأنا أضاجع ريتشارد. وتوجد صورة واحدة لي مع مايكل، ولكنها أقل وضوحًا لأن حجرتنا كانت مظلمة في تلك الليلة.

أما صف الصور المُعلَّقة أسفل المشاهد الجنسية فيصور كله ولادات الأطفال. وكانت كل ولادة ظاهرة في الصور، بما فيها ولادة باتريك، مما يؤكد أن عملية التجسس لم تتوقف. ويكشف وضعُ الصور الجنسية بجانب صور الولادة عن أن الأوكتوسبايدر (أو سكان راما) فهموا بالتأكيد عملية التكاثر عندنا.

استغرقت الصور انتباهي تمامًا ربما طوال خمس عشرة دقيقة. ثم انقطع تركيزي أخيرًا عندما سمعت صوتًا عاليًا جدًّا لفُرش تحتكُّ بمعدن، وكان الصوت يأتي من اتجاه باب المتحف. اجتاحني رعب شديد وتسمرت في مكاني وتلفتُّ حولي في ارتياع. لا يوجد مخرج آخر للحجرة.

بعد ثوانٍ دخلت كيتي من الباب وهي تقفز. وصاحت عندما رأتني: «أمي!» واندفعت تجري عبر المتحف حتى كادت تُسقِط دكتور تاكاجيشي وألقت بنفسها في أحضاني.

قالت وهي تحتضنني وتقبلني بقوة: «أمي، كنت أعرف أنك ستأتين.»

أغمضتُ عينيَّ وأمسكت بابنتي التائهة بكل قوتي. وانهمرت الدموع على وجنتيَّ. وأخذت أهدهد كيتي وحاولت أن أطمئنها وأنا أقول: «لا بأس يا حبيبتي، لا بأس.»

عندما كفكفت دموعي وفتحت عينيَّ، وجدت أوكتوسبايدر واقفًا عند مدخل المتحف. وظل ساكنًا لوهلة وكأنه يتأمل حدث لَمِّ شمل الأم وابنتها. فشُلَّت حركتي واجتاحتني موجة من المشاعر يمتزج فيها الفرح بالرعب الشديد.

أحست كيتي بخوفي. فقالت وهي تستدير نحو الأوكتوسبايدر: «لا تقلقي يا أمي. لن يؤذيك. إنه يريد أن يشاهد وحسب. لقد اقترب مني مرارًا.»

وصل مستوى الأدرينالين في جسدي إلى الحد الأقصى. ظل الأوكتوسبايدر واقفًا (أو جالسًا، أو أيًّا ما كان الأوكتوسبايدر يفعله وهو ساكن) عند الباب. كان رأسه الأسود الكبير شبه مستدير، وجسده يفترش الأرض وتنبثق منه ثمانية مجسات مخططة بخطوط سوداء وذهبية، وكانت وسط رأسه فجوتان متوازيتان متماثلتان حول محور غير مرئي وتمتدان رأسيًّا. وبينهما، على ارتفاع نحو متر من الأرض، يوجد شكل مربع مدهش أشبه بعدسة يبلغ عرضه عشرة سنتيمترات، وكانت مزيجًا معقدًا من خطوط على شكل شبكة ومادة سائلة تتألف من اللونين الأبيض والأسود. وبينما كان الأوكتوسبايدر يحدق فينا، كانت العدسة تموج بالنشاط.

كان هناك أعضاء أخرى في جسده بين الفجوتين، فوق العدسة وأسفلها، ولكن لم يتح لي الوقت الكافي لإمعان النظر فيها. اتجه الأوكتوسبايدر نحونا في الغرفة، وعاد الخوف يداهمني بكل قوته رغم ما قالته كيتي لتطمئنني. واكتشفت أن صوت الفرشاة يصدر من الأعضاء الشبيهة بالأهداب الملحقة بالجانب السفلي من المجسات عندما تتحرك على الأرض. وأدركت أن الطنين ذا التردد العالي يصدر من فتحة صغيرة تقع في الجانب السفلي الأيمن من رأسه.

جمَّد الخوف قدرتي على التفكير عدة ثوانٍ. وبينما كان هذا الكائن يقترب، سيطرت عليَّ رغبة تلقائية في الهرب. ولكن للأسف لم يُجدِ ذلك نفعًا في هذا الموقف. إذ لم يكن هناك مهرب.

لم يتوقف الأوكتوسبايدر إلى أن صار لا يفصله عنا إلا خمسة أمتار. فأوقفت كيتي أمام الحائط ووقفت بينها وبين الأوكتوسبايدر. ثم رفعت يدي. مرة أخرى سرَت موجة من النشاط في عدسته الغريبة. وفجأة أتتني فكرة. دسست يدي في جيب بذلة الطيران التي أرتديها وأخرجت جهاز الكمبيوتر الخاص بي منها. وبأصابع مرتعشة، (هنا رفع الأوكتوسبايدر اثنين من المجسات أمام عدسته، والآن أجد نفسي أتساءل ما إذا كان يظن أنني سأُخرج سلاحًا) كتبت أمرًا يستدعي صورة ريتشارد على الشاشة ثم حركت الشاشة باتجاه الأوكتوسبايدر.

عندما لم تصدر مني أي حركة أخرى أعاد المخلوق المجسَّين الوقائيين إلى الأرض ببطء. وحدق في الشاشة تقريبًا دقيقة كاملة، ثم رأيت ما أدهشني بشدة؛ إذ اكتسى رأسه بالكامل بلون أرجواني زاهٍ ابتداءً من حافة الفجوة. وبعد ذلك بثوانٍ قليلة تلون رأسه بطيف من الألوان منها الأحمر والأزرق والأخضر — وكان كل شريط لوني له سمك مختلف — وانبثقت كلها من نفس الفجوة، وبعد أن طوق طيف الألوان رأسه، تراجع إلى الفجوة الموازية التي تبعد حوالي ثلاثمائة وستين درجة تقريبًا.

أخذت أنا وكيتي نحدق في انبهار. رفع الأوكتوسبايدر أحد مجساته وأشار إلى الشاشة وكرر إصدار الموجة الأرجوانية الواسعة. وبعد لحظات ظهر طيف الألوان نفسه كما حدث من قبل.

قالت كيتي بصوت منخفض: «إنه يكلمنا يا أمي.»

رددت عليها قائلةً: «أعتقد أنك محقة. ولكنني لا أفهم شيئًا مما يقول.»

بعد مدة انتظار بدت لنا طويلة كدهر، بدأ الأوكتوسبايدر يرجع إلى الخلف باتجاه المدخل وإحدى مجساته الممدودة تشير لنا بأن نتبعه. واختفت الأشرطة اللونية. فأمسكت بيد كيتي وتبعناه بحذر. وبدأت كيتي تنظر حولها، ولاحظت الصور المعلقة على الحائط لأول مرة. فقالت: «انظري يا أمي، عندهم صور لأسرتنا.»

طلبت منها أن تصمت وتنتبه إلى الأوكتوسبايدر. رجع الأوكتوسبايدر إلى النفق، وتوجه إلى حيث الأنفاق والممر الرأسي الذي تغطي جدرانه النتوءات. كانت تلك هي الفتحة التي نريدها. فحملتُ كيتي وأمرتها أن تتشبث بي بقوة، وجريت في النفق بأقصى سرعة. فلم أكد أمس الأرض بقدمَي حتى صعدت المنحدر وعدت إلى نيويورك.

كاد مايكل أن يطير فرحًا عندما رأى كيتي على ما يرام، ولكنه شعر بقلق شديد (وأنا أيضًا) بسبب وجود كاميرات مخبأة في حوائط وأسقف مخبئنا، أما أنا فقد عجزت عن توبيخ كيتي على الوجه الصحيح لخروجها بمفردها؛ إذ كنت أشعر بارتياح شديد للعثور عليها. قالت كيتي لسيمون إنها خاضت «مغامرة رائعة» وإن الأوكتوسبايدر كان «لطيفًا». هذا هو عالم الأطفال.

٤ فبراير ٢٢٠٩

أوه، يا لفرحتنا! وجدنا ريتشارد! إنه لا يزال حيًّا! أو بالكاد حيًّا، فهو في غيبوبة عميقة ويعاني من حمى شديدة، ولكنه حي.

وجدَته كيتي وسيمون هذا الصباح ممددًا على الأرض على بعد أقل من خمسين مترًا من فتحة ملجئنا. كنا قد خططنا نحن الثلاثة للعب كرة القدم في الساحة العامة وكنا نستعد لمغادرة الملجأ حين طلب مني مايكل العودة لسبب ما. فطلبت من الفتاتين أن تنتظراني في المنطقة القريبة من مدخل الملجأ. وبعد دقائق قليلة أخذتا تصرخان، فظننت أن مكروهًا قد وقع. فأسرعت أصعد السلم، فكان أول ما وقعت عليه عيناي عن بعد هو جسد ريتشارد الفاقد الوعي.

في البداية سيطر عليَّ خوف من أن يكون ريتشارد ميتًا. لكن سرعان ما بدأت الملكة الطبية داخلي تعمل فأخذت أفحص المؤشرات الحيوية.

تعلقت الفتاتان بي وأنا أفحصه. وخاصة كيتي. إذ ظلت تقول مرارًا وتكرارًا: «هل أبي حي؟ أوه، يا أمي، ساعدي أبي على الشفاء.»

ما إن أكَّدتُ لهم أن ريتشارد في غيبوبة حتى ساعدني مايكل وسيمون في حمله والنزول به. وعندها ركبت مجموعة من مجسات المراقبة البيومترية على جسده وظللت أراقب النتائج منذ تلك اللحظة.

خلعت عنه ملابسه وفحصته من قمة رأسه إلى أخمص قدمه. فوجدت به بعض الجروح الطفيفة والكدمات التي لم أرها من قبل، وهذا متوقع بعد مرور كل هذا الوقت. ووجدت أن عدد خلايا دمه قريب من المعدل الطبيعي، وهذا غريب؛ فقد توقعت وجود اختلال في خلايا الدم البيضاء بعد أن بلغت حرارته أربعين درجة تقريبًا.

اكتشفنا مفاجأة كبيرة أخرى عندما فحصنا ملابس ريتشارد بالتفصيل. إذ وجدت في جيب سترته الآليين الشكسبيريين: الأمير هال وفولستاف اللذين اختفيا منذ تسع سنوات في العالم الغريب الموجود أسفل الممر الذي تغطي جدرانه النتوءات، والذي ظننا أنه ملجأ الأوكتوسبايدر. لا بد أن ريتشارد قد أقنع الأوكتوسبايدر بطريقة ما بأن يعيدوا رفيقَي لهوه إليه.

مرت سبع ساعات حتى الآن وأنا جالسة بجوار ريتشارد. طوال معظم ساعات هذا الصباح كان يصحبني أيضًا بعض من أفراد الأسرة، ولكنني ظللت معه بمفردي على مدى الساعة الأخيرة. فأخذت أتفرس في وجهه لدقائق متواصلة، وأخذت ألمس بيديَّ رقبته وكتفه وظهره. فأثارَ لمسي له فيضًا من الذكريات واغرورقت عيناي بالدموع مِرارًا. لم أظن أبدًا أنني سأتمكن من رؤيته أو لمسه مرة أخرى. آه يا ريتشارد مرحبًا بعودتك إلينا. مرحبًا بعودتك إلى زوجتك وأسرتك.

١٢

١٣ أبريل ٢٢٠٩

كان يومنا غير عادي. فبعد الغداء مباشرة كنت أجلس بجوار ريتشارد أفحص المؤشرات البيومترية كالعادة عندما سألتني كيتي عما إذا كان من الممكن أن تلعب مع الأمير هال وفولستاف. فأجبتها دون أن أفكر: «بالطبع.» كنت متأكدة من أن الآليَّين الصغيرَين لا يعملان ولكنني، في الحقيقة، كنت أريد أن أخرجها من الحجرة حتى يتسنى لي أن أجرب طريقة أخرى لإنقاذ ريتشارد من الغيبوبة.

لم يسبق لي مواجهة غيبوبة تحمل أي وجه شبه بغيبوبة ريتشارد. فأغلب الوقت عيناه مفتوحتان، وأحيانا يخيل إليَّ أنهما تتبعان شيئًا ما في مجال رؤيته. ولكن لا تظهر عليه أي علامة أخرى تدل على الحياة أو الوعي. فلم تتحرك أيٌّ من عضلاته مطلقًا. وقد استخدمت عدة محفزات مختلفة، بعضها ميكانيكي، وأغلبها كيميائي لإفاقته من حالة الغيبوبة. ولكن أيًّا من هذه الوسائل لم تفلح. ولذا لم أكن لدي أي استعداد لما حدث اليوم.

بعد خروج كيتي بعشر دقائق تقريبًا، سمعت خليطًا غريبًا جدًّا من الأصوات يأتي من حجرة الأطفال. فتركت ريتشارد وتوجهت إلى الممر. لكن قبل أن أصل إلى الحجرة تحولت الضوضاء الغريبة إلى كلام موجز إيقاعه غريب جدًّا. إذ كان صوتًا بدا وكأنه صادر من قاع بئر يقول: «مرحبًا. نحن مسالمون. ها هو رجلكم.»

كان الصوت يصدر من الأمير هال الذي كان واقفًا وسط الحجرة عندما دخلت إليها. وكان الأطفال على الأرض يحيطون بالآلي في شيء من التردد، فيما عدا كيتي. إذ كان يبدو عليها الحماس.

وعندما رمقت كيتي بنظرة متسائلة قالت لي موضحةً ما حدث: «كنت ألعب بالأزرار فبدأ يتحدث فجأة.»

لم ألاحظ أن الأمير هال قد أتى بأي حركة وهو يتكلم. فاندهشت لذلك؛ لأنني أتذكر أن ريتشارد كان يتباهى بأن الآليين الذين يصنعهم دائمًا ما تأتي حركاتهم مواكبة لحديثهم. وسمعت صوتًا بداخلي يقول لي إن ريتشارد ليس هو من برمج الأمير هال. ولكنني صرفت الفكرة عن ذهني مبدئيًّا، وجلست على الأرض بجوار الأطفال.

قال الأمير هال ثانية بعد عدة ثوانٍ: «مرحبًا. نحن مسالمون. ها هو رجلكم.» في هذه المرة اجتاحني شعور مخيف. أما الفتاتان فكانتا تضحكان، ولكن سرعان ما كفَّتا عن الضحك عندما لاحظتا التعبير الغريب المرتسم على وجهي. وأخذ بينجي يحبو حتى صار بجانبي وأمسك يدي.

كنا جالسين على الأرض وظهورنا إلى الباب. وإذ بي أشعر بأن هناك من يقف خلفي. فالتفت ورأيت ريتشارد واقفًا عند المدخل. شهقت وأنا أهبُّ واقفةً، وفي نفس هذه اللحظة وقع فاقدًا الوعي.

صرخ الأطفال وأخذوا يبكون. فحاولت أن أهدئهم بعد أن فحصت ريتشارد بسرعة. ثم اضطررت إلى الاعتناء به وهو مُلقًى على الأرض خارج حجرة الأطفال طيلة ما يربو على ساعة؛ لأن مايكل كان على سطح نيويورك يقوم بتمشية العصر التي اعتاد عليها. وفي غضون ذلك راقبته عن كثب شديد. فوجدت أنه في نفس الحالة التي كان عليها عندما تركته في حجرة النوم من قبل. إذ لم تظهر أي علامات واضحة تشير إلى أنه أفاق ثلاثين أو أربعين ثانية.

عندما عاد مايكل، ساعدني في حمل ريتشارد إلى حجرة النوم. ثم ظللنا نتحدث أكثر من ساعة عن سبب إفاقة ريتشارد المفاجئة. وبعد هذا قرأت أكثر من مرة كل المقالات الواردة في الكتب الطبية عن الغيبوبة. أنا مقتنعة بأن سبب غيبوبة ريتشارد يعود إلى مزيج من المشكلات الجسدية والنفسية. وأرى أن هذا الصوت الغريب سبَّب له صدمة تغلبت مدةً مؤقتة على العوامل المتسببة في الغيبوبة.

ولكن لماذا انتكس بهذه السرعة بعد هذا؟ هذا هو السؤال الأصعب. قد يرجع هذا إلى أنه استنفد مخزون طاقته الضئيل في المشي في الردهة. ولا سبيل إلى معرفة السبب في ذلك على وجه اليقين. بل إننا في الواقع لا نستطيع أن نجيب عن أغلب الأسئلة المتعلقة بما حدث اليوم، بما فيها ذلك السؤال الذي تظل كيتي تطرحه: ««من» هم هؤلاء المسالمون؟»

١ مايو ٢٢٠٩

شهد هذا اليوم نجاح ريتشارد كولين ويكفيلد في التعرف على أسرته ونطق بأولى كلماته. ظل ريتشارد يستعد لهذه اللحظة طوال أسبوع تقريبًا، ففي البداية بدأ يعطي إشارات بوجهه وعينيه تدل على أنه يدرك ما يجري حوله ثم بدأ يحرك شفتيه وكأنه ينطق بكلمات. وابتسم في وجهي صباح اليوم وكاد أن ينطق باسمي، ولكن أول كلمة نطق بها بالفعل هي «كيتي»، وقد قالها عصر اليوم بعد أن عانقته ابنته المحببة بقوة.

أشعر بأن هناك جوًّا من الابتهاج يغمر الأسرة، ولا سيما البنتين. وهما الآن تحتفلان بعودة والدهما. أخبرتهما مرارًا وتكرارًا أن عملية إعادة تأهيل ريتشارد غالبًا ما ستكون طويلة ومتعبة، ولكن أعتقد أنهما أصغر من أن تتمكنا من فهم معنى ما قلته.

أنا سعيدة جدًّا. كان من المستحيل أن أحبس دموعي عندما همس ريتشارد باسمي في أذني بوضوح قبل العشاء مباشرة. ومع أنني أدرك أن زوجي لم يعد إلى حالته الطبيعية بعد، فإنني متأكدة الآن من أنه سيشفى في النهاية، وهذا يملأ قلبي فرحًا.

١٨ أغسطس ٢٢٠٩

استمر ريتشارد في التحسن ببطء ولكن بثبات. فهو لا ينام إلا اثنتي عشرة ساعة يوميًّا الآن، ويستطيع أن يمشي ما يقرب من ميل دون أن يشعر بالتعب، كما أنه يستطيع أحيانًا أن يركز في المسائل الرياضية إذا كانت شديدة التشويق. وهو لم يعد بعد إلى التواصل مع سكان راما عن طريق لوحة المفاتيح والشاشة. ولكنه فكك الأمير هال وحاول أن يحدد سبب الصوت الغريب الذي سمعناه في حجرة الأطفال، غير أن المحاولة باءت بالفشل.

ريتشارد هو أول من أقر بأنه لم يعد كسابق عهده. وعندما يكون بوسعه التحدث عن الأمر يقول إنه يشعر بأن الضباب يلفه وكأنه في حلم غير واضح. مر أكثر من ثلاثة أشهر على استعادته وعيه ولكنه لا يزال عاجزًا عن تذكُّر الكثير مما حدث له بعد أن تركنا. وهو يعتقد أنه في غيبوبة منذ حوالي عام. ويبني استنتاجه هذا على أحاسيس غامضة أكثر مما يبنيه على حقائق دقيقة.

يؤكد ريتشارد أنه عاش في ملجأ المخلوقات الطائرة عدة أشهر وأنه حضر مراسم مذهلة لإحراق الموتى. ولكنه لم يستطع أن يضيف أي تفاصيل أخرى. كما أكد مرتين أنه استكشف نصف الأسطوانة الجنوبية وأنه وجد مدينة الأوكتوسبايدر الرئيسية قرب التجويف الجنوبي، ولكن من الصعب أن نصدق أيًّا من ذكرياته لأنها تتغير من يوم إلى آخر.

بدَّلتُ مجموعة أجهزة المراقبة البيومترية مرتين، ولديَّ تقارير طويلة جدًّا عن كل العوامل المتغيرة الحرجة. وجميع الرسوم البيانية الخاصة به طبيعية إلا فيما يتعلق بنشاطه الذهني ودرجة حرارته. فالموجات الكهربائية التي يصدرها مُخُّه يوميًّا تفوق أي وصف. ولا يوجد في الموسوعة الطبية ما يمكِّنني من تفسير أي رسم بياني من هذه الرسوم، فما بالك بالمجموعة كاملة؟ أحيانًا يرتفع مستوى النشاط الذهني ارتفاعًا فلكيًّا، وأحيانًا يبدو وكأنه توقف تمامًا. كما أن القياسات الكهروكيميائية غريبة هي الأخرى. فقرن آمون الخاص به في سبات عميق، وهو ما يفسر سبب معاناة ريتشارد صعوبةً في التذكر.

ودرجة حرارته أيضًا غريبة. إذ ظلت ثابتة على ٣٧٫٨ درجة مئوية طوال شهرين حتى الآن، أي أعلى من الدرجة الطبيعية للبشر العاديين بثمانٍ من عشر درجات مئوية. راجعت كل الفحوصات التي أُجريت عليه قبل الطيران ووجدت أن درجة حرارته الطبيعية على الأرض كانت ثابتة على ٣٦٫٩. ولا أستطيع أن أفسر استمرار ارتفاع درجة حرارته. إذ يبدو الأمر وكأن جسده في حالة توازن تام مع عامل ممرض ما دون أن يستطيع أحدهما أن يقهر الآخر. ولكن أي عامل ممرض هذا الذي عجزت عن الكشف عنه رغم كثرة المحاولات؟

أصيب الأطفال جميعًا بإحباط شديد بسبب تصرفات ريتشارد التي تفتقر إلى الحيوية. وقد زاد من هذا أننا حولناه إلى شخصية أسطورية بعض الشيء أثناء غيابه، ولكن اعترافي بهذه المبالغة لا ينفي أنه كان رجلًا مفعمًا بالطاقة من قبل. أما ريتشارد الجديد هذا فهو ليس إلا طيفًا لريتشارد السابق. تحلف كيتي أنها تتذكر أنها كانت تلعب وتتصارع بقوة مع والدها عندما كانت في الثانية من عمرها (بالتأكيد زادت قوة هذه الذكريات بفعل القصص التي رويتها لها أنا ومايكل وسيمون أثناء غياب ريتشارد)، وكثيرًا ما تشعر بالغضب لأنه لا يمضي الوقت معها الآن إلا نادرًا. من جانبي، أحاول أن أوضح لها أن «والدها لا يزال مريضًا» ولكنني أعتقد أن هذا لا يفلح في تهدئتها.

أعاد مايكل كل حاجياتي إلى هذه الغرفة بعد عودة ريتشارد بأربع وعشرين ساعة. يا له من رجل طيب! وبعد هذا، دخل في حالة تديُّن قوية أخرى عدةَ أسابيع (أعتقد أنه يشعر أنه بحاجة إلى المغفرة لوقوعه في خطايا تثقل عليه)، ولكنه خفف من هذا نظرًا إلى الأعباء التي تقع على كاهلي. وظل يعامل الأطفال معاملة رائعة.

تضطلع سيمون بدور الأم المساعدة. وبينجي يحبها حبًّا جمًّا، وهي تتعامل معه بصبر لا ينفد. أخبرتها أنا ومايكل عن متلازمة ويتينجهام التي يعاني منها لأنها قالت أكثر من مرة إنه «بطيء الفهم قليلًا». لكننا لم نخبر كيتي بعد. فهي الآن تمر بوقت عصيب. حتى إن باتريك نفسه، الذي يلازمها كظلها، يعجز عن التخفيف عنها.

نعرف جميعًا، وفينا الأطفال، أننا تحت المراقبة. فتشنا حوائط غرفة الأطفال تفتيشًا دقيقًا — وكأننا في مباراة للبحث عن أدوات المراقبة — ووجدنا عدة أشياء صغيرة غريبة في زخارف السقف اعتقدنا أنها الكاميرات. فحطمناها بأدواتنا، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأننا وجدنا أدوات المراقبة بالفعل. فلربما تكون صغيرة جدًّا بحيث نعجز عن رؤيتها من دون مجهر. لكن على الأقل، تذكر ريتشارد مقولته الأثيرة عن أن التكنولوجيا الفضائية المتقدمة تشبه السحر.

كانت كيتي هي أشدنا انزعاجًا بسبب كاميرات الأوكتوسبايدر المتطفلة. وأخذت تتحدث بصراحة وامتعاض عن اقتحامهم ﻟ «حياتها الخاصة». لا بد أن لها أسرارًا أكثر من أي منا. وعندما قالت سيمون لأختها الصغرى إن هذا لا يهم لأن «الله في النهاية يراقبنا على الدوام»، اندلع أول شجار حول الدين بين الأختين. إذ ردت كيتي قائلة: «هراء»، وهي كلمة من غير اللائق أن تتفوه بها فتاة في السادسة من عمرها. ونبهتني الكلمة التي استخدمتها إلى أنه من الضروري أن أتوخى الحذر أكثر في اختيار ألفاظي.

وفي أحد أيام الشهر الماضي صحبتُ ريتشارد إلى ملجأ المخلوقات الطائرة لأرى هل وجوده هناك سينجح في تنشيط ذاكرته. فوجدت أنه أصيب بخوف شديد فور دخولنا النفق على مشارف الممر الرأسي. وسمعته يتمتم قائلًا: «الظلام. لا أرى في الظلام. أما هم فيستطيعون الرؤية في الظلام.» ثم تسمر في مكانه بعد أن تخطينا المياه والحوض، فلم أجد أمامي خيارًا سوى إعادته إلى ملجئنا.

يعرف ريتشارد أن بينجي وباتريك ابنا مايكل، وربما شك في أنني ومايكل عشنا زوجًا وزوجةً خلال جانب من مدة غيابه، ولكنه لم يعلق على هذا أبدًا. كنت أنا ومايكل على استعداد لطلب العفو من ريتشارد وللتأكيد له على أننا لم تنشأ بيننا علاقة جسدية حميمة (فيما عدا المرحلة التي حملت فيها ببينجي) إلا بعد مرور سنتين على رحيله. لكن في الوقت الحالي يبدو أن ريتشارد لا يعبأ بالأمر كثيرًا.

نمت أنا وريتشارد في فراشنا المشترك القديم منذ أن أفاق من غيبوبته. وتلامسنا كثيرًا وتعاملنا بود شديد، غير أننا لم نتطارح الغرام إلا منذ أسبوعين. في الحقيقة، كنت بدأت أعتقد أن الجنس من بين الأمور التي انمحت من ذاكرته؛ وذلك لعدم استجابته لقبلاتي المغرية التي كنت أمنحه إياها من آنٍ إلى آخر.

ثم جاءت ليلة عاد فيها ريتشارد إلى طبيعته القديمة في الفراش. ولاحظت أن هذا الأمر يتكرر في جوانب أخرى؛ فمن آنٍ إلى آخر كانت تعود إليه طباعه القديمة من خفة ظل وحيوية وذكاءٍ مدةً قصيرة. على أية حال، كان ريتشارد القديم متوقد المشاعر وخفيف الظل ومبتكرًا. فشعرت وكأنني في الجنة. وتذكرت مستويات من المتعة كنت قد تناسيتها منذ وقت طويل.

استمر ولعه الجنسي ثلاث ليال متتابعة. ثم خبا فجأة مثلما اشتعل فجأة. في البداية أصابني الإحباط (أليست هذه الطبيعة البشرية؟ معظم الوقت نطمح إلى أن تتحسن الأمور، وعندما تصل الأمور إلى أفضل ما يمكن نطمح إلى أن يدوم الحال)، ولكنني الآن أصبحت أتقبل أن هذا الجانب من جوانب شخصيته يجب أن يخضع للعلاج هو الآخر.

في الليلة الماضية، حسبَ ريتشارد مسارنا لأول مرة منذ عودته. فسررت أنا ومايكل بهذا. وأعلن بفخر: «لا زلنا في نفس الاتجاه. نحن الآن نبعد عن الشعرى اليمانية بأقل من ثلاث سنوات ضوئية.»

٦ يناير ٢٢١٠

بلغتُ السادسة والأربعين. وخطَ الشيب في أغلب شعري من المقدمة والجانبين. لو كنت على الأرض لظللت أفكر أأصبغه أم لا. أما هنا في راما فالأمر لا يهم.

لقد كبرت على الحمل. يجب أن أخبر الفتاة الصغيرة التي تنمو في رحمي بهذا. في الواقع، اندهشت عندما أدركت أنني حامل مرة أخرى. فقد داهمني سن انقطاع الطمث بأعراضه الغريبة من سخونة الجزء العلوي من الجسم وتقلب المزاج وعدم انتظام الطمث. ولكني حملت من ريتشارد مرةً أخرى، ليزيد عدد أسرتنا الشريدة التائهة في الفضاء فردًا آخر.

إذا لم نقابل أي إنسان آخر (وأصبحت إليانور جان ويكفيلد طفلة سليمة، وهو ما يبدو مُرجحًا في الوقت الحالي) فسيصبح لدينا ستة أزواج من المحتمل أن يكونوا آباء لأحفادنا. غالبًا لن تحدث كل التباديل التي أفترضها، ولكنه أمر شيق أن نتخيل حدوثها. كنت أتصور أن سيمون ستتزوج بينجي وأن كيتي ستتزوج باتريك ولكن أين سيكون مكان إيلي في هذه المعادلة؟

هذا عاشر عيد ميلاد لي على متن راما. لا أستطيع أن أصدق أنني لم أقضِ سوى عشرين بالمائة فقط من حياتي في هذه الأسطوانة العملاقة. أحقًّا كانت لي حياة أخرى من قبل على الكوكب الأزرق الذي يبعد عنا تريليونات الكيلومترات؟ أحقًّا تعرفت براشدين بخلاف ريتشارد ويكفيلد ومايكل أوتول؟ أحقًّا كان والدي هو بيير دي جاردان كاتب الروايات التاريخية الشهير؟ أكانت لي علاقة سرية رائعة مع هنري أمير ويلز، أنجبت بعدها ابنتي الأولى الرائعة جنيفياف؟

لا يبدو أيٌّ من هذا ممكنًا. على الأقل ليس اليوم، ليس في عيد ميلادي السادس والأربعين. سألني كلٌّ من ريتشارد ومايكل مرة واحدة عن والد جنيفياف. لكنني لم أخبر أي شخص قط. أليس هذا سخيفًا؟ هل سيمثل الأمر فرقًا ونحن هنا على راما؟ كلا. لكن على الأرض، ظل هذا الأمر سرًّا (لم يشاركني فيه سوى والدي) منذ أن حملت بجنيفياف. فهي ابنتي أنا. أنا جئت بها إلى هذا العالم وربيتها. لطالما كنت أقول لنفسي إن والدها لم يفعل شيئًا سوى أنه أنجبها؛ لذا لا أهمية له.

هذا هراء بالطبع. هه! ها هي هذه الكلمة مرة أخرى. كان دكتور ديفيد براون كثيرًا ما يستخدمها. أوه! لم أفكر في رواد فضاء بعثة نيوتن الآخرين منذ سنواتٍ. ترى هل نجحت فرانشيسكا وأصدقاؤها في ربح الملايين من رحلة نيوتن؟ آمل أن يكون جانو قد حصل على نصيبه. السيد تابوري العزيز، كم كان رجلًا لطيفًا! ممممم! ترى كيف فسروا لسكان الأرض هروبَ راما من قاذفات فالنكس؟ آه، نعم، يا نيكول، هذا عيد ميلاد نمطي جدًّا. رحلة طويلة غير منظمة في سراديب الذاكرة.

كانت فرانشيسكا جميلة جدًّا. وكنت دائمًا ما أشعر بالغيرة من حسن تعاملها مع الناس. هل خدرت بورزوف وويلسون؟ محتمل. لم أظن للحظة أنها تعمدت قتل فاليري. ولكنها منحرفة الأخلاق حقًّا. شأنها في ذلك شأن معظم الطموحين.

أبتسم الآن عندما أتذكر حياتي الماضية وأرى كم كنت أمًّا مهووسة وأنا في العشرينيات. كان عليَّ أن أنجح في كل شيء. كان طموحي مختلفًا تمامًا عن طموح فرانشيسكا. فأنا كنت أريد أن أثبت للعالم أنني أستطيع تحقيق الفوز مع التزامي بكل القواعد، مثلما فعلت في رياضة الوثب الثلاثي في الأولمبياد. وهل يمكن أن يوجد شيء أكثر روعةً لأم غير متزوجة من اختيارها لتكون رائدةً للفضاء؟ لقد كنت بالتأكيد شديدة الغرور في تلك السنوات. ومن حسن حظي وحظ جنيفياف أن والدي كان معنا.

كلما نظرت إلى جنيفياف، عرفت بالطبع أن بصمة هنري واضحة. فوجهها يشبه وجهه تمامًا من المنطقة التي تعلو شفتيها وحتى أسفل الذقن. ولم أكن أريد أن أنكر نسبها إليه. وإنما كان كل ما يهمني أن أنجح في الاعتماد على نفسي، وأن أثبت لنفسي على الأقل أنني أم وامرأة رائعة، حتى إن كنت غير أهل لأن أكون الملكة.

حالت بشرتي السمراء دون أن أصبح ملكة إنجلترا، أو حتى أن ألعب دور جان دارك في أحد المهرجانات الفرنسية السنوية. ترى كم عامًا سيمر حتى يصبح لون البشرة لا يمثل مشكلةً للبشر على الأرض؟ خمسمائة عام؟ ألف؟ ما الذي قاله الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر … لقد قال ما معناه إن سامبو لن يتحرر إلا عندما يستيقظ كل جيرانه صباحًا ويقولون لأنفسهم ولأصدقائهم إن سامبو حرٌّ. أعتقد أنه محقٌّ. فقد رأينا أنه لا يمكن القضاء على العنصرية عن طريق سن التشريعات. أو حتى عن طريق التعليم. وإنما يجب أن يمر كل إنسان في رحلته في الحياة بلحظة كشف، لحظة من الوعي الحقيقي، يدرك فيها إدراكًا تامًّا أن سامبو، وكل شخص آخر في العالم مختلف عنه بأي شكل من الأشكال، يجب أن يكون حرًّا إذا أردنا البقاء في الكون.

عندما كنت في قاع تلك الحفرة منذ عشر سنوات وكنت على يقين من أنني سأموت سألت نفسي عن اللحظات التي سأختار أن أعيشها مرة أخرى إذا ما أتيحت لي الفرصة. فتسللت إلى عقلي ذكرى تلك الساعات التي قضيتها مع هنري مع أنني تعذبت بهجره فيما بعد. وأجد نفسي إلى اليوم مستعدة بكل سرور للعودة إليه. إن العيش في ظل السعادة القصوى — ولو دقائقَ أو ساعات قليلة — هو الحياة الحقة. وعندما تواجه الموت، لن يهمك ما إذا كان شريكك في تلك اللحظة الرائعة خذلك أو خانك بعدها. فكل ما سيهمك حقًّا هو الإحساس بهذه السعادة الخاطفة التي تشعر من فرط قوتها أنك تجاوزت كوكب الأرض بما عليه.

انتابني شيء من الخجل، وأنا في الحفرة، عندما أدركت أن ذكرياتي مع هنري تحتل نفس مكانة ذكرياتي مع والديَّ وابنتي. ثم أدركت أن تعلقي بذكريات تلك الساعات التي قضيتها مع هنري لا يجعلني حالة استثنائية. فلكل شخص لحظاته الخاصة أو أحداثه المميزة التي تحتل مكانة خاصة لديه ويعتز بها كل الاعتزاز.

أمضت جابرييل مورو، التي كانت صديقتي الحميمة الوحيدة في الجامعة، ليلةً معي أنا وجنيفياف في بوفوا العام السابق لإطلاق بعثة نيوتن. ولم نكن قد تلاقينا منذ سبع سنوات، فقضينا معظم الليل في حديث غلب عليه تناول الأحداث العاطفية الكبيرة في حياتنا. كانت جابرييل سعيدة جدًّا. فلديها زوج وسيم ورقيق وناجح، وثلاثة أطفال أصحاء وفائقو الجمال، وبيت تحيط به عزبة جميلة قرب شينون. ومع هذا فقد أسرَّت إليَّ بعد منتصف الليل وهي تبتسم ابتسامة فتاة صغيرة بأن أسعد لحظات حياتها عاشتها قبل أن تقابل زوجها. ففي صباها المبكر، وقعت في غرام ممثل شهير ثم اكتشفت أنه في موقع تصوير في تور. ونجحت بطريقة ما في مقابلته في غرفته بالفندق والتحدث إليه على انفراد حوالي ساعة. ثم طبعت على شفتيه قبلة واحدة قبل أن تنصرف. وكانت تلك الذكرى أغلى ذكرياتها.

أوه، يا أميري، بالأمس مرت عشر سنوات على آخر لقاء لنا. فهل أنت سعيد؟ هل أصبحت ملكًا صالحًا؟ هل تفكر في بطلة الأولمبياد السوداء التي أسلمت نفسها إليك بكل تهور، لتكون أول رجل في حياتها؟

لقد سألتَني سؤالًا غير مباشر ذلك اليوم على جبل التزلج عن والد ابنتي. فلم أُجبك، ولم أدرك أن امتناعي عن الإجابة يعني أنني لم أسامحك تمامًا بعد. إذا أتيح لك أن تسألني اليوم، يا أميري، فسأجيبك بكل سرور. نعم أيها الملك هنري، يا ملك إنجلترا، أنت والد جنيفياف دي جاردان. اذهب إليها، وتعرَّف عليها، واغمر أبناءها بحبك. فلن أستطيع أنا فعل هذا. إذ تفصلني عنها مسافة تزيد عن خمسين تريليون كيلومتر.

١٣

٣٠ يونيو ٢٢١٣

عجز الجميع عن النوم ليلة أمس من فرط الانفعال. إلا بينجي، بارك الله فيه؛ إذ لم يستطع أن يعي ما كنا نرويه له. أوضحت له سيمون أكثر من مرة أن بيتنا يقع داخل سفينة فضائية أسطوانية عملاقة — بل إنها أطلعته على المشاهد المختلفة لراما التي التقطتها المستشعرات الخارجية كما تظهر على الشاشة السوداء — ولكنه يعجز عن استيعاب الأمر.

عندما سمعنا الصفير أمس أخذنا أنا وريتشارد ومايكل يحدق بعضنا في بعض عدة ثوانٍ. إذ لم نسمع صفيرًا منذ وقت طويل جدًّا. ثم بدأنا نتحدث في نفس الوقت. وأخذ الأطفال، وفيهم إيلي الصغيرة، يمطروننا بوابل من الأسئلة، ولم يخفَ عليهم الانفعال الذي نشعر به. صعدنا نحن الثمانية إلى أعلى على الفور. فجرى ريتشارد وكيتي نحو البحر دون انتظار باقي أفراد الأسرة. وسارت سيمون مع بينجي، وسار مايكل مع باتريك. أما أنا فحملت إيلي لأن ساقيها الصغيرتين عجزتا عن مواكبة سرعتنا.

كانت كيتي تفيض بالحماس وهي تسرع نحونا لاستقبالنا. وقالت وهي تشدُّ يد سيمون: «تعالي، تعالي. يجب أن تشاهدي هذا. إنه مذهل. الألوان رائعة.»

وكانت كيتي على حق. إذ كانت أقواس الضوء الملونة بألوان قوس قزح تضيء فوق الأبراج مضفيةً على ليل راما مظهرًا خلابًا. حدق بينجي صوب الجنوب فاغرًا فاه. وبعد عدة ثوانٍ ابتسم والتفت إلى سيمون. وقال ببطء: «إنه ﺟ… ﺟ… جميل»، وهو يشعر بالفخر لقدرته على استخدام الكلمة.

أجابت سيمون: «أجل إنه كذلك، يا بينجي. جميل جدًّا.»

كرر بينجي ما قالته سيمون: «ﺟ… ﺟ… جميل ﺟ… ﺟ… جدًّا»، وهو يلتفت مرة أخرى لينظر إلى الأضواء.

لم يتكلم أيٌّ منا كثيرًا أثناء العرض. ولكن بعدما رجعنا إلى الملجأ لم ينقطع الحديث لساعات. بالطبع كان يجب أن يشرح أحدنا كل شيء للأطفال. إذ لم يكن أيٌّ منهم قد وُلد وقت المناورة الأخيرة إلا سيمون، وكانت لا تزال رضيعة. أخذ ريتشارد على عاتقه جُل مهمة شرح ما يحدث. لقد أعاد الصفير والأضواءُ الحيويةَ إليه، فعاد كسابق عهده في الليلة الماضية أكثر من أي وقت آخر، وكان أداؤه يجمع بين التسلية وغزارة المعلومات وهو يحكي كل ما نعرفه عن الصفارات والعروض الضوئية ومناورات راما.

سألت كيتي بلهجة تنم عن الترقب: «أتعتقد أن الأوكتوسبايدر ستعود إلى نيويورك؟»

أجاب ريتشارد: «لا أعرف. ولكن هذا الاحتمال وارد بالتأكيد.»

وعلى مدى الدقائق الخمس عشرة التالية، أخذت كيتي تحكي للجميع للمرة الألف لقاءنا مع الأوكتوسبايدر منذ أربع سنوات. وكالعادة أخذت تزيد بعض التفاصيل وتبالغ فيها خاصة في الجزء الذي يتناول المدة التي قضتها بمفردها قبل أن تراني في المتحف.

يحب باتريك هذه القصة. ويود لو ظلت كيتي تحكيها له طوال الوقت. وفي الليلة الماضية حكت كيتي القصة قائلةً: «كنت أرقد على بطني، وأنا أختلس النظر من وراء حافة أسطوانة دائرية عملاقة تمتد في الظلام. كانت جوانب الأسطوانة مكسوة بنتوءات فضية بارزة، ورأيتها وهي تلمع في الضوء الخافت. صحت: «مرحبًا، هل من أحد هناك؟»

ثم أضافت: «ثم سمعت صوتًا كصوت فُرش معدنية تحتكُّ بالأرض مصحوبًا بصوت طنين. وبدأت الأضواء تسطع من أسفل. فرأيت في قاع الأسطوانة شيئًا أسود له رأس مستدير وثمانية مجسات مخططة باللونين الأسود والذهبي، بدأ يتسلق النتوءات. كانت المجسات تلتف حول النتوءات وهو يصعد بسرعة باتجاهي …»

هنا، قال بينجي: «أوﻛ…ـتو…سباﻳ…ـدر.»

عندما أنهت كيتي قصتها، أخبر ريتشارد الأطفال أنه في غضون أربعة أيام ستبدأ الأرض على الأرجح في الاهتزاز. وشدد على ضرورة تثبيت كل شيء إلى الأرض وأن كلًّا منا يجب أن يستعد لمجموعة أخرى من الجلسات في الحوض المصمم لمواكبة انخفاض السرعة. كما أشار مايكل إلى أننا نحتاج على الأقل إلى صندوق جديد للعب الأطفال وعدة صناديق قوية لأمتعتنا. فقد تراكم لدينا الكثير من «الكراكيب» على مدار السنوات حتى إن مهمة تثبيتها في الأيام القليلة القادمة ستكون شاقة.

عندما كنت أرقد بجوار ريتشارد بمفردنا على فراشنا، تحدثنا أكثر من ساعة ويدانا متشابكتان. في مرحلة ما من الحديث أخبرته أنني آمل أن تبشر المناورة القادمة بنهاية رحلتنا في راما.

أجاب: «تظل جذوة الأمل مشتعلة في النفس البشرية. إنها تسعى لنيل السعادة المفقودة، دون أن تحصل عليها.» وجلس دقيقة ثم نظر إليَّ وعيناه تلمعان في الظلام شبه الحالك. وقال: «إنه ألكسندر بوب.» ثم ضحك. وقال: «أراهن أنه لم يتخيل أبدًا أن أحدًا سيستشهد بأشعاره على بعد ستين تريليون كيلومترٍ من الأرض.»

قلت له وأنا أمر بيدي على ذراعه: «تبدو في حال أفضل يا حبيبي.»

فعقد حاجبيه. وقال: «حاليًّا يبدو كل شيء واضحًا. ولكنني لا أعلم متى سيعود الضباب. يمكن أن يحدث هذا في أي لحظة. وما زلت لا أستطيع تذكُّر مما حدث طوال السنوات الثلاث الماضية التي غبت فيها إلا أقل القليل.»

استلقى مرة أخرى. فسألته: «في رأيك، ما الذي سيحدث؟»

أجاب: «أظن أن هناك مناورة أخرى ستحدث. وآمل أن تكون مناورة كبيرة. فنحن نقترب من الشعرى اليمانية بسرعة كبيرة وسنضطر لتخفيض سرعتنا بشدة إن كانت وجهتنا تقع في أي مكان داخل مجموعة الشعرى اليمانية.» ثم مد يده وأمسك بيدي. وقال: «آمل ألا يكون هذا إنذارًا كاذبًا، لأجلك، ولأجل الأولاد خصوصًا.»

٨ يوليو ٢٢١٣

بدأت المناورة منذ أربعة أيام، في الموعد المحدد لها بالضبط، حالما انتهى العرض الضوئي الثالث والأخير. ولم نر أو نسمع أيًّا من المخلوقات الطائرة أو الأوكتوسبايدر، وهو ما نحن عليه منذ أربع سنوات. هذا أصاب كيتي بالإحباط الشديد. إذ كانت تتوق إلى عودة جميع مخلوقات الأوكتوسبايدر إلى نيويورك.

أمس، جاء اثنان من الكائنات الآلية الشبيهة بفرس النبي إلى ملجئنا وتوجها مباشرةً إلى حوض انخفاض السرعة. كانا يحملان وعاءً ضخمًا به خمسة أسرَّة شبكية جديدة (بالطبع تحتاج سيمون إلى سرير ذي حجم مختلف الآن) وجميع الخوذات اللازمة. راقبناهما من على بعد وهما يركبان الأسرَّة ويتحققان من سلامة أجهزة الحوض. ذهل الأطفال بمشاهدة ذلك. أكدت زيارة الآليَّين القصيرة هذه أنه سرعان ما سيحدث تغير جذري في السرعة.

من الواضح أن ريتشارد كان محقًّا في افتراضه بشأن العلاقة بين نظام الدفع الرئيسي والتحكم الشامل في حرارة راما. فقد بدأت الحرارة في الأعلى تنخفض بالفعل. فانشغلنا بطلب ملابس ثقيلة لجميع الأطفال باستخدام لوحة المفاتيح تحسبًا لحدوث مناورة طويلة.

عاد الاهتزاز المستمر يزعجنا. في البداية أعجب به الأطفال ولكنهم بدءوا يتذمرون منه بالفعل. أما عن نفسي فآمل أن نكون قد اقتربنا من وجهتنا النهائية. ومع أن مايكل كان يصلي لتتحقق مشيئة الله، فإن صلواتي القليلة كانت تنصبُّ على أمور ذات طابع أناني ومحدد أكثر.

١ سبتمبر ٢٢١٣

لا شك أن هناك شيئًا جديدًا يحدث. فعلى مدار الأيام العشرة الماضية، ومنذ أن خرجنا من الحوض وانتهت المناورة، ونحن نقترب من مصدر ضوء منعزل يبعد عن نجم الشعرى اليمانية بحوالي ثلاثين وحدة فلكية. كيَّف ريتشارد ببراعة قائمة المستشعرات والشاشة السوداء بحيث يصبح مصدر الضوء في مركز جهاز المراقبة دائمًا بصرف النظر عن نوع التلسكوب الراميِّ الذي يراقبه.

منذ ليلتين بدأت بعض ملامح هذا الجسم تتضح لنا. افترضنا أنه قد يكون كوكبًا مأهولًا، وأسرع ريتشارد وأخذ يحسب مقدار الحرارة المنبعثة من الشعرى اليمانية إلى كوكب يبعد عنه مسافة مساوية تقريبًا لبُعد نبتون عن شمسنا. فوجد أن جنتنا — إذا كان هذا الجسم هو بالفعل وجهتنا — ستكون باردة جدًّا مع أن الشعرى اليمانية أكبر من الشمس وأشد منها سطوعًا وحرارةً.

ليلة أمس، رأينا هدفنا رؤيةً أكثر وضوحًا. فوجدنا أنه عبارة عن بنية ممدودة الشكل (لذا يقول ريتشارد إنه لا يمكن أن يكون كوكبًا؛ فأي شيء ﺑ «هذا الحجم» وليس مستديرًا «لا بد أن يكون صناعيًّا») على هيئة سيجار، يميزه صفان من الأضواء من أعلى ومن أسفل. ونحن لا نعرف حجمه بالتحديد لأننا لا نعرف كم يبعد عنا بالضبط. ولكن ريتشارد كان يقوم ببعض «التخمينات» بناء على السرعة التي نقترب بها منه، ويعتقد أن طول السيجار يبلغ حوالي مائة وخمسين كيلومترًا وأن ارتفاعه يبلغ خمسين كيلومترًا.

كان كل أفراد الأسرة جالسين في الحجرة الرئيسية وهم يحدقون في الشاشة. هذا الصباح قابلتنا مفاجأة أخرى. فقد أرتنا كيتي أن هناك مركبتين أخريين بجوار هدفنا. كان ريتشارد قد علَّمها الأسبوع الماضي كيف تغير المستشعرات الراميَّة التي تمد الشاشة السوداء بالمعلومات، وبينما كنا جميعًا نتجاذب أطراف الحديث، استخدمت المستشعر الراداري البعيد الذي استخدمناه لأول مرة منذ ثلاثة عشر عامًا لتحديد موقع الصواريخ النووية التي أطلقتها الأرض. فظهر الجسم الذي على هيئة السيجار على طرف مجال رؤية الرادار. وظهر أمامه مباشرةً على شاشة الرادار جسمان آخران يكاد يكون من الصعب تمييزهما في هذا المجال الواسع. إذا كان السيجار العملاق هو وجهتنا، فمن المحتمل أن نكون على وشك لقاء آخرين غيرنا.

٨ سبتمبر ٢٢١٣

مهما حاولت، فلن يسعني أن أصف الأحداث المذهلة التي وقعت على مدار الأيام الخمسة الماضية وصفًا وافيًا. فاللغة تعجز عن توفير صيغ التفضيل المناسبة التي تستطيع أن تعبر عما رأيناه وعشناه. حتى إن مايكل نفسه علق بأن صورة الجنة قد تتضاءل مقارنة بالعجائب التي رأيناها.

في هذه اللحظة، تستقل أسرتنا مركبة فضائية صغيرة بلا قائد لا يزيد حجمها عن حجم الحافلات البسيطة على كوكب الأرض، انطلقت بنا من محطة الترانزيت متوجهةً إلى وجهة لا نعرفها. كنا نستطيع رؤية محطة الترانزيت التي على هيئة سيجار — وإن كان بصعوبة — من النافذة التي على هيئة قبة والتي تقع في مؤخرة المركبة. وعن يسارنا، رأينا السفينة الأسطوانية التي نسميها راما، والتي ظلت وطنًا لنا طوال ثلاثة عشر عامًا، وهي تسير في اتجاه مختلف قليلًا عن اتجاهنا. وقد غادرت محطة الترانزيت بعد أن غادرناها بساعات قليلة، وهي مضاءة من الخارج كشجرة عيد الميلاد، وهي يفصلها عنا الآن نحو مائتي كيلومترٍ.

منذ أربعة أيام وإحدى عشرة ساعة وصلت سفينتنا الراميَّة إلى محطة ملحقة بمحطة الترانزيت. كانت مركبتنا هي المركبة الثالثة في صف مذهل من السفن. فكانت أمامنا مركبة دوارة على شكل نجمة البحر يبلغ حجمها عُشر حجم راما، ومركبة أخرى أشبه بعجلة عملاقة لها محور وأسلاك دخلت إلى محطة الترانزيت بعد أن توقفنا بساعات.

أما محطة الترانزيت نفسها فقد اتضح أنها مجوفة. وعندما انتقلت العجلة العملاقة إلى وسطها اندفعت منها الرافعات المتنقلة وبعض العناصر القابلة للانتشار لتلتحم بالعجلة وتثبتها بإحكام. ثم تحركت من محطة الترانزيت مجموعة مركبات خاصة لها ثلاثة أشكال غريبة (إحداها تشبه البالون والأخرى تشبه المنطاد والثالثة تشبه كرة الأعماق المستخدمة على كوكب الأرض) ودخلت في العجلة. ومع أننا لم نستطع رؤية ما الذي يحدث بداخل العجلة فقد رأينا تلك المركبات الخاصة تخرج واحدة تلو الأخرى على فترات غير منتظمة على مدار اليومين التاليين. ثم التحمت كل مركبةٍ بمكوك كالذي نستقله الآن ولكن يكبره في الحجم. وكانت هذه المكوكات واقفة في الظلام على الجانب الأيمن من محطة الترانزيت ثم جرى تركيبها بإحكام قبل أن تلتحم بمركبتنا بثلاثين دقيقة أو نحو ذلك.

كانت المكوكات دائمًا ما تنطلق في اتجاه معاكس للصف الذي نحن فيه فور تحميلها. وبعد نحو ساعة من خروج المركبة الأخيرة من العجلة ومغادرة المكوك الأخير، تراجعت أجزاء المعدات الميكانيكية التي كانت ملحقة بالعجلة وخرجت المركبة المستديرة الهائلة نفسها من محطة الترانزيت.

كانت نجمة البحر التي أمامنا قد دخلت بالفعل إلى محطة الترانزيت وبدأت مجموعة أخرى من الرافعات والأدوات الملحقة تتعامل معها عندما انطلق صوت صافرة مدوية لاستدعائنا للصعود إلى أعلى راما. وتبع الصفارة عرض ضوئي في التجويف الجنوبي. غير أن هذا العرض كان مختلفًا تمامًا عن العروض التي رأيناها من قبل. إذ كان البرج الكبير هو نجم العرض الجديد. فقد تكونت حلقات لونية دائرية قرب قمته ثم اتجهت ببطء نحو الشمال وتمركزت حول محور دوران راما. كانت الحلقات ضخمة إذ قدر ريتشارد أن قطرها يبلغ كيلومترًا على الأقل وأن سمكها يبلغ أربعين مترًا.

كانت ثمانٍ من تلك الحلقات تضيء ليل راما المظلم. وظل ترتيب الحلقات ثابتًا طوال ثلاث دورات: أحمر فبرتقالي فأصفر فأخضر فأزرق فبني فوردي فأرجواني. وكلما تبددت حلقة واختفت قرب محطة الترحيل الرئيسية في التجويف الشمالي لراما، تكونت حلقة جديدة من نفس اللون قرب قمة البرج الكبير.

تسمَّرنا في أماكننا وقد فغرنا أفواهنا ونحن نتأمل المشهد. وما إن تلاشت الحلقة الأخيرة من المجموعة الثالثة، حتى وقع حدث مدهش آخر. إذ أضاءت راما من الداخل بالكامل. هذا مع أن الليل كان قد حلَّ عليها منذ ثلاث ساعات فقط، ومبعث دهشتنا هو أن تتابع الليل والنهار ظل منتظمًا انتظامًا تامًّا طوال ثلاث عشرة سنة. والآن تغير كل هذا فجأة. ولم يقتصر الأمر على الأضواء وحسب. فقد سمعنا صوت موسيقى أيضًا، أو على الأقل هذا هو المسمى الذي أظن أنه يمكننا إطلاقه على ما سمعناه. فقد كان الصوت يشبه صوت رنين ملايين الأجراس الصغيرة وبدا أنه يصدر من كل الجهات.

لم يُحرِّك أيٌّ منا ساكنًا مدة ثوانٍ عديدة. ثم لمح ريتشارد — الذي كانت معه أفضل نظارة مكبرة — شيئًا يطير باتجاهنا. وصاح وهو يقفز مشيرًا إلى السماء قائلًا: «إنها المخلوقات الطائرة. تذكرت شيئًا لتوِّي. لقد زرتها في موطنها الجديد في الشمال أثناء رحلتي.»

ألقى كلٌّ منا نظرةً مستخدمًا نظارة ريتشارد المكبرة. في البداية لم نكن متأكدين من أن ريتشارد نجح في تحديد هوية تلك المخلوقات، ولكن حين اقتربت منا بدأت البقع الخمسون أو الستون تتحول إلى مخلوقات ضخمة شبيهة بالطيور المعروفة لدينا باسم المخلوقات الطائرة. وتوجهت مباشرةً إلى نيويورك. حلَّق نصف المخلوقات الطائرة في السماء فوق ملجئها ربما بثلاثمائة مترٍ، بينما هبط النصف الآخر على السطح.

هتفت كيتي: «هيا يا أبي. لنذهب.»

قبل أن أهم بالاعتراض، كان الأب وابنته قد انطلقا في لمح البصر. فراقبت كيتي وهي تركض. كانت سريعة جدًّا بالفعل. وبعينَي الخيال رأيت خطوة أمي الرشيقة على الحشائش في الحديقة في شيلي-مازارن؛ بالتأكيد ورثت كيتي بعض صفات عائلة والدتها مع أنها ابنة والدها في المقام الأول.

كان بينجي وسيمون قد بدآ بالفعل يتوجهان صوب ملجئنا. أما باتريك فكان متخوفًا من المخلوقات الطائرة. وتساءل: «هل ستؤذي العم ريتشارد وكيتي؟»

ابتسمت في وجه ولدي الوسيم ذي السنوات الخمس. وأجبته: «لا يا حبيبي، ما داموا حذرين.» ثم رجعت أنا ومايكل وباتريك وإيلي إلى ملجئنا لنشاهد العملية التي يخضع لها نجمة البحر في محطة الترانزيت.

لم نستطع أن نرى الكثير لأن كل منافذ دخول نجمة البحر كانت على الجانب الآخر الذي يبعد عن كاميرات راما. ولكننا خمَّنا أنه يجري تفريغ حمولة المركبة؛ لأن خمسة مكوكات رحلت في نهاية الأمر إلى وجهة جديدة. انتهت عملية تفريغ الحمولة من المركبة بسرعة بالغة. وكانت قد غادرت محطة الترانزيت بالفعل قبل أن يعود ريتشارد وكيتي.

وما إن وصل ريتشارد، حتى قال لاهثًا: «ابدءوا حزم أمتعتكم. سنرحل. جميعنا سنرحل.»

قالت كيتي لسيمون في نفس الوقت تقريبًا: «كان يجب أن تريها. إنها ضخمة. وقبيحة أيضًا. لقد نزلت في ملجئها …»

قاطعها ريتشارد قائلًا: «عادت المخلوقات الطائرة لتحضر أشياء تهمها من ملجئها. ربما تود إحضار تذكارات من نوع ما. على أي حال، الصورة تتكامل. إننا راحلون من هنا.»

كنت ألملم حاجياتنا الأساسية في بعض الصناديق القوية، ووبخت نفسي لأنني لم أفهم كل شيء بسرعة. لقد رأينا العجلة ونجمة البحر يفرغان حمولتهما في محطة الترانزيت. ولكننا لم نفهم أننا قد نكون نحن الحمولة التي ستفرغها راما.

كان من العسير جدًّا اختيار الأمتعة التي علينا أن نحزمها. فقد ظللنا نعيش في هذه الحجرات الست (وفيها الحجرتان اللتان استخدمناهما للتخزين) طوال ثلاثة عشر عامًا. وكنا نطلب خمسةَ أشياء في المتوسط يوميًّا باستخدام لوحة المفاتيح. صحيح أن معظم هذه الحاجيات تخلصنا منها منذ وقت طويل ولكن … إننا لم نعرف إلى أين نحن ذاهبون. فكيف لنا أن نعرف ماذا نأخذ معنا؟

سألت ريتشارد: «هل لديك أية فكرة عما سيحل بنا؟»

كان زوجي في حالة انفعال شديدة وهو يحاول التوصل لطريقة تتيح له اصطحاب جهاز الكمبيوتر الضخم الخاص به. وقال وهو يشير إلى الكمبيوتر في قلق: «تاريخنا وعلومنا وكل ما تبقى من معارفنا في هذا الكمبيوتر. ماذا لو فقدناه نهائيًّا؟»

كان وزن الكمبيوتر يبلغ ثمانية كيلوجرامات فقط. لذا أخبرته أننا يمكن أن نساعده في حمله بعد أن نحزم ملابسنا وحاجياتنا الخاصة وبعض الطعام والماء.

ثم سألت ريتشارد مرة أخرى: «هل لديك أية فكرة عن المكان الذي سنذهب إليه؟»

هز ريتشارد كتفيه. وأجاب: «ولا أدنى فكرة. ولكن أيًّا كان المكان الذي سنذهب إليه، أراهن أنه سيكون مذهلًا.»

جاءت كيتي إلى حجرتنا. وكانت ممسكة بحقيبة صغيرة وعيناها تلمعان من فرط الانفعال. وقالت: «لقد حزمت أمتعتي وأنا مستعدة. هل يمكنني أن أنتظركم في الأعلى؟»

لم يكد والدها يؤمئ برأسه موافقًا حتى انطلقت خارجةً من الباب. فهززت رأسي ونظرت إلى ريتشارد نظرة اعتراض، وذهبت إلى الردهة لأساعد سيمون في تولي أمور باقي الأطفال. تسببت عملية حزم حاجيات الولدين في معاناتنا. إذ كان بينجي قلقًا ومرتبكًا. بل إن باتريك نفسه كان نزقًا، وعندما عاد ريتشارد وكيتي من أعلى، كنت قد انتهيت أنا وسيمون لتوِّنا (فقد ظل إنجاز هذه المهمة مستحيلًا إلى أن أجبرنا الولدين على النوم).

قال ريتشارد بهدوء كابحًا انفعاله: «وصلت مركبتنا.»

أضافت كيتي وهي تخلع سترتها الثقيلة وفردتَي قفازها: «هي متوقفة على الجليد.»

سأل مايكل: «ومن أدراك أنها مركبتنا؟» وكان قد دخل الحجرة بعد ريتشارد وكيتي بدقائق قليلة.

أجابت ابنتي ذات الأعوام العشرة: «بها ثمانية مقاعد ومساحة لحقائبنا. فلما غيرنا ستكون إذن؟»

فقلت تلقائيًّا: «من»، محاولةً أن أستوعب هذه المعلومة الأخيرة الجديدة. فقد شعرت وكأنني كنت أدور كالثور في ساقية طوال الأيام الأربعة السابقة.

سأل باتريك: «هل رأيتما أيًّا من مخلوقات الأوكتوسبايدر؟»

فكرر بينجي بعناية: «أوﻛ…ـتو…سبايـ…ـدر.»

أجابت كيتي: «لا، ولكننا رأينا أربع طائرات ضخمة، جانبها السفلي مسطح ولها أجنحة عريضة. وقد طارت من فوقنا وهي قادمة من الجنوب. ونعتقد أنها تحمل كائنات الأوكتوسبايدر، أليس كذلك يا أبي؟»

أومأ ريتشارد برأسه موافقًا.

تنفست نفسًا عميقًا. وقلت: «حسنٌ، إذن. هيا تجمعوا. ولنذهب. احملوا الحقائب أولًا. وبعد هذا سأعود أنا وريتشارد ومايكل لنأخذ الكمبيوتر.»

بعد ساعة كنا جميعًا بداخل المركبة. وكنا قد صعدنا سلم ملجئنا لآخر مرة. ضغط ريتشارد على زر أحمر مضيء فارتفعت المروحية الراميَّة عن الأرض (أسمي المركبة مروحية لأنها ارتفعت بنا لأعلى في خط عمودي، لا لأن لها ريَشًا دوارة).

في الدقائق الخمس الأولى، كانت رحلتنا بطيئةً وتتخذ طريقًا رأسيًّا. لكن ما إن اقتربنا من محور دوران راما حيث تنعدم الجاذبية وتقل كثافة الغلاف الجوي، حتى حلَّقت المركبة بثباتٍ دقيقتين أو ثلاث دقائق وهي تغير شكلها الخارجي.

كانت آخر صورة رأيناها لراما رائعة. فتحت مركبتنا بعدة كيلومترات بدت الجزيرة التي كانت موطننا مجرد بقعة صغيرة ذات لون بني ضارب إلى الرمادي، واقعةً في منتصف بحر مجمد يطوق الأسطوانة العملاقة. ورأيت الأبراج في الجنوب رؤيةً أوضح من ذي قبل. فوجدت أن هذه الأوتاد الشاهقة المدهشة تدعمها دعامات طائرة يفوق حجمها حجم المدن الصغيرة على الأرض، وهي تشير جميعها إلى الشمال مباشرةً.

جاشت مشاعري على نحو غريب عندما بدأت مركبتنا تتحرك مرة أخرى. فبالرغم من كل شيء، ظلت راما موطنًا لي طوال ثلاثة عشر عامًا. وفيها أنجبت أبنائي الخمسة. وأتذكر أيضًا أنني حدثت نفسي قائلةً إنني قد وصلت إلى النضج هنا، وربما أتحول إلى الشخصية التي طالما تمنيت أن أكون عليها هنا.»

لم يكن أمامي الكثير من الوقت لأطيل تأمل ما حصل. ففور الانتهاء من تغيير الشكل الخارجي، اندفعت مركبتنا عبر محور الدوران متوجهةً إلى المحور الشمالي في دقائق قليلة. وبعد هذا بأقل من ساعة كنا جميعًا في أمان على متن هذا المكوك. لقد رحلنا من راما. وكنت واثقة أننا لن نعود إليها أبدًا. فكفكفت دموعي والمكوك يخرج من محطة الترانزيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤