مقابلة في المريخ

١

«سيدة ويكفيلد.»

بدا الصوت بعيدًا، بعيدًا جدًّا. وتسلل إلى وعيها برفق دون أن يوقظها تمامًا من نومها.

«سيدة ويكفيلد.»

هذه المرة كان الصوت أكثر ارتفاعًا. حاولت نيكول أن تتذكر أين هي قبل أن تفتح عينيها. وحركت جسدها فتحرك الفوم الذي يحيط بها ليوفر لها أقصى راحة ممكنة. وبدأت ذاكرتها ترسل ببطء بعض الإشارات إلى بقية مخها. فتذكرت ما يلي: عدن الجديدة. بداخل راما. العودة إلى النظام الشمسي. أكان كل هذا مجرد حلم؟

فتحت عينيها أخيرًا. لكنها عجزت عن التركيز عدة ثوانٍ. وبدأت معالم الشخص المنحني فوقها تتضح شيئًا فشيئًا. حتى اكتشفت أنه أمها ترتدي زي ممرضة!

قال الصوت: «سيدة ويكفيلد. حان وقت الاستيقاظ والتأهب للمقابلة.»

ظلت نيكول لحظةً في حالة صدمة. أين هي؟ ما الذي تفعله أمها هنا؟ ثم تذكرت قائلةً في نفسها: الآليون. أمي هي أحد الأنواع الخمسة من الآليين البشرين. وهذه من نوع أناوي تياسو وهي اختصاصية صحة ولياقة.

ساعدت ذراعُ الآلية نيكول على الاعتدال وهي تجلس في مضجعها. لم تتغير الغرفة أثناء هذا الوقت الطويل الذي قضته في النوم. وسألت وهي تستعد للخروج من المضجع: «أين نحن؟»

أجابت أناوي تياسو ذات البشرة السمراء الداكنة قائلة: «لقد أنهينا منحنى الإبطاء الرئيسي ودخلنا في نظامكم الشمسي. سندخل مدار المريخ في غضون ستة أشهر.»

لم تبدُ عضلات نيكول على غير طبيعتها على الإطلاق. ويرجع هذا، كما قال لها الرجل النسر قبل أن تغادر النود، إلى أن كل مقصورة من مقصورات النوم تحتوي على مكونات إلكترونية خاصة لا تقوم فقط بتدريب العضلات والأنظمة البيولوجية الأخرى بانتظام لتمنع ضمورها وإنما أيضًا تراقب صحة كل الأعضاء الحيوية. نزلت نيكول السلم. وتمطت عندما وصلت إلى نهايته.

سألتها الآلية: «كيف حالك؟» الآلية التي طرحت السؤال كانت أناوي تياسو رقم ٠١٧. ويظهر رقمها بوضوح على الكتف الأيمن من زيها.

أجابت نيكول: «ليس سيئًا.» ثم قالت وهي تتفحص الآلية ببصرها: «ليس سيئًا، يا ٠١٧» كانت حقًّا تشبه أمها إلى حد غير عادي. لقد رأت هي وريتشارد نماذج الآليين كلها قبل أن يغادرا النود، ولكن كانت بنيتا جارسيا هي الوحيدة الصالحة للعمل في الأسبوعين اللذين سبقا نومهم. أما باقي الآليين في عدن الجديدة فصُنعوا وخضعوا للاختبار أثناء الرحلة الطويلة. قالت نيكول لنفسها وهي تتأمل بإعجاب ما صنعه فنانو راما المجهولون: إنها تشبه أمي تمامًا. فقد أجرَوا كل التغييرات التي طلبتها على النموذج.

سمعت نيكول وقْع أقدام قادمة نحوهما من بعيد. فاستدارت. ورأت آلية أناوي تياسو ثانية تقترب منهما مرتدية أيضًا زي ممرضة أبيض. قالت الآلية الواقفة بجوارها: «كُلفت رقم ٠٠٩ بالمساعدة في إتمام الإجراءات التمهيدية أيضًا.»

سألتها نيكول وهي تحاول جاهدةً أن تتذكر ما دار بينها وبين الرجل النسر حول خطوة الاستيقاظ: «من كلفها بهذه المهمة؟»

أجابت رقم ٠١٧: «خطة المهمة السابقة البرمجة. ولكن فور أن تستيقظوا جميعًا أنتم البشر وتعودوا إلى وعيكم، سنتلقى كل التعليمات منكم.»

استيقظ ريتشارد بسرعة أكبر ولكنه نزل السلم القصير بصعوبة بعض الشيء. حتى إن اثنتين من الآليات اضطرتا إلى مساعدته لكيلا يسقط. بدا السرور على وجه ريتشارد بوضوح حين رأى زوجته. وبعد عناق طويل وقبلة، أخذ يتطلع إليها عدة ثوانٍ. وقال مازحًا: «لم تنل منك السنون. لقد انتشر اللون الرمادي في شعرك ولكن لا تزال هناك خصلات سوداء متفرقة.»

ابتسمت نيكول. إذ شعرت بالسعادة للتحدث مع ريتشارد من جديد.

سأل بعد ثانية: «بالمناسبة، كم قضينا من الوقت في هذه التوابيت السخيفة؟»

هزت نيكول كتفيها. وأجابت: «لست أدري. لم أسأل بعد. أول ما فعلتُ هو إيقاظك.»

التفت ريتشارد إلى الآليتين. وسأل: «أتعرفان أيتها الجميلتين كم مضى من الوقت منذ أن غادرنا النود؟»

أجابت تياسو رقم ٠٠٩: «لقد نمتم تسعة عشر عامًا وفقًا لتوقيت المسافرين.»

سألت نيكول: «ماذا تعني بتوقيت المسافرين؟»

ابتسم ريتشارد. وقال: «هذا تعبير نسبي يا حبيبتي. فالوقت لا يعني شيئًا إلا في ظل وجود إطار مرجعي. فقد مرت تسعة عشر عامًا في راما، ولكن هذه السنوات لا تتعلق إلا ﺑ…»

قاطعته نيكول قائلةً: «لا تتعب نفسك. فأنا لم أنم كل هذا الوقت لكي أستيقظ على سماع درس في النسبية. يمكنك أن تشرح لي هذا لاحقًا، على العشاء. أما الآن فأمامنا أمر أكثر أهمية. ما الترتيب الذي سنوقظ الأطفال وفقًا له؟»

أجاب ريتشارد بعد لحظة من التردد: «لدي اقتراح آخر. أعرف أنك تتوقين إلى رؤية الأطفال. وأنا كذلك. ولكن ما رأيك أن نتركهم ينامون عدة ساعات أخرى؟ إن هذا لن يضيرهم بالتأكيد … فأمامنا أنا وأنتِ الكثير من الأمور التي نحتاج إلى مناقشتها. يمكننا أن نبدأ التحضير للمقابلة، ونخطط لما سنفعله بشأن تعليم الأطفال، بل وربما نمضي بعض الوقت في التعارف من جديد …»

كانت نيكول تتحرق شوقًا إلى محادثة الأطفال، ولكنها أحست أن اقتراح ريتشارد منطقي. فالخطة التي وضعتها الأسرة لتنظيم أمورها بعد الاستيقاظ كانت خطة أولية لأن الرجل النسر أكد أن المهمة تنطوي على الكثير من الأمور المجهولة مما يحول دون تحديد الظروف التي سيعيشون فيها بدقة. وسيكون من الأسهل كثيرًا أن يقوما بوضع بعض الخطوات اللازمة للتخطيط قبل أن يستيقظ الأطفال …

في النهاية قالت نيكول: «حسنًا سأنزل على اقتراحك شريطة أن أطمئن إلى أن الجميع بخير.» ونظرت إلى تياسو الأولى.

قالت الآلية: «تشير كل بيانات الرصد إلى أن الأطفال جميعًا مرت عليهم مدة النوم دون أن تظهر عليهم أي اضطرابات خطيرة.»

التفتت نيكول إلى ريتشارد وأنعمت النظر في وجهه. فلاحظت أن علامات تقدم السن قد ظهرت عليه قليلًا، ولكن ليس إلى الدرجة التي كانت تتوقعها.

سألته فجأة بعد أن أدركت أنه حليق الذقن تمامًا على غير المتوقع: «أين لحيتك؟»

أجابت تياسو رقم ٠٠٩: «لقد حلقنا للرجال أمس وهم نائمون. وحلقنا أيضًا شعر الجميع وحممناهم وفقًا لخطة المهمة السابقة البرمجة.»

قالت نيكول بينها وبين نفسها: الرجال؟! ولثوانٍ ظلت حائرة. ثم أدركت الموقف وقالت لنفسها: بالطبع. أصبح بينجي وباتريك رجلين الآن!

أمسكت بيد ريتشارد وهرعا إلى مضجع باتريك. واندهشت لمرأى الوجه الذي بدا لها عبر النافذة. لم يعد صغيرها باتريك طفلًا. فقد استطالت ملامحه كثيرًا واختفت استدارات وجهه. وظلت نيكول تحدق في ابنها أكثر من دقيقة في صمت.

أجابت تياسو رقم ٠١٧ على نظرة نيكول المتسائلة قائلةً: «إنه في السادسة عشرة أو السابعة عشرة. والسيد بينجامين أوتول أكبر منه بعام ونصف. بالطبع هذه أعمار تقريبية لا أكثر. وكما أوضح الرجل النسر قبل رحيلكم من النود، لقد استطعنا تأخير إنزيمات النمو الرئيسية في كلٍّ منكم بعض الشيء، ولكن ليس بالمعدل نفسه. ونحن عندما نقول إن السيد باتريك أوتول في السادسة عشرة أو السابعة عشرة الآن، فإننا لا نشير إلا إلى ساعته البيولوجية الداخلية. فالسن المذكور يعتبر المتوسط الناتج عن عمليات نموه ونضجه وتقدمه في السن.»

وقفت نيكول وريتشارد أمام كل مضجع من المضاجع الأخرى وحدقا عدة دقائق عبر النوافذ في أبنائهما النائمين. وأخذت نيكول تهز رأسها مرارًا وتكرارًا في ذهول. وبعد أن رأت أنه حتى إيلي الصغيرة وصلت إلى مرحلة المراهقة أثناء هذه الرحلة الطويلة، قالت: «أين أطفالي؟»

علق ريتشارد بلا انفعال ودون أن يحاول مساعدة الجانب الأمومي من نيكول في التغلب على إحساسها بالخسارة قائلًا: «كنا نعرف أن هذا سيحدث.»

قالت نيكول: «معرفة هذا شيء. ورؤيته ومعايشته شيء آخر. فأنا لست أمًّا عاديةً عرفت فجأة أن أبناءها وبناتها كبروا. فما حدث لأبنائنا مذهل حقًّا. لقد توقف نموهم العقلي والاجتماعي طوال ما يوازي من عشرة أعوام إلى اثني عشر عامًا. نحن الآن لدينا أطفال صغار في أجساد راشدين. كيف يمكننا أن نهيئهم لمقابلة غيرهم من البشر في ستة أشهر فقط؟»

اعتصر الحزن قلب نيكول. هل سبب هذا أن جزءًا منها عجز عن تصديق الرجل النسر عندما وصف ما الذي سيحدث لأسرتها؟ ربما. كان هذا الحدث مجرد حدث واحد من بين سلسلة أحداث شهدتها حياة لطالما ظلت عصية على الفهم. حدَّثت نيكول نفسها قائلةً: ولكن بصفتي أمهم، عليَّ أن أقوم بالكثير دون أن يكون أمامي وقت كافٍ. لماذا لَم أعدَّ العدة لهذا كله قبل أن نغادر النود؟

بينما كانت نيكول تصارع مشاعرها الجارفة التي فجرتها رؤية أطفالها وقد كبروا فجأة، كان ريتشارد يتبادل أطراف الحديث مع الآليتين تياسو. وكانتا تجيبان عن كل أسئلته بعفوية. وانبهر بقدراتهما الجسدية والعقلية انبهارًا شديدًا. سألهما ريتشارد أثناء الحوار: «أتتمتعون جميعًا بهذا المخزون الهائل من المعلومات في ذاكراتكم؟»

أجابت رقم ٠٠٩: «نحن فقط — من صنف تياسو — اللائي نلم بالتاريخ المفصل للبيانات الصحية الخاصة بأسرتكم. ولكن كل الآليين البشريين يستطيعون الوصول إلى مجموعة هائلة جدًّا من الحقائق الأساسية. ولكن سيُحذف بعض هذه المعلومات عند أول تواصل مع البشر الآخرين. فعندئذٍ سيختفي جانب من محتويات أجهزة الذاكرة لدى جميع أنواع الآليين. ولن يبقى في قاعدة البيانات الخاصة بنا أي حدث أو أي معلومة تتعلق بالرجل النسر أو النود أو أي مواقف حدثت قبل أن تستيقظوا. ولن يكون متاحًا إلا المعلومات المتعلقة بصحتكم الشخصية منذ تلك الفترة السابقة، وهذه البيانات ستكون متاحة في آليات التياسو.»

كانت نيكول تفكر بالفعل في النود قبل سماع هذا الجزء الأخير من الحوار. وسألت فجأة: «هل ما زلتم تتواصلون مع الرجل النسر؟»

هذه المرة أجابت تياسو رقم ٠١٧. فقالت: «كلا. يمكنكم أن تفترضوا أن الرجل النسر، أو على الأقل مندوب عن الذكاء النودي، يتابع مهمتنا بانتظام، ولكن لا يوجد أي تواصل مع راما بمجرد أن غادرت حظيرة المركبات. سنظل — أنتم ونحن وراما — دون مساعدة إلى أن تتحقق أهداف المهمة.»

•••

وقفت كيتي أمام المرآة الطويلة وأخذت تتطلع إلى جسدها العاري. كان جسدها لا يزال غريبًا عليها، مع أنها أدركت حالها هذا منذ شهر. كانت تحب أن تلمس جسدها. كانت تحب خصوصًا تمرير أصابعها عبر صدرها ومشاهدة حلمتيها تبرزان نتيجة للإثارة. وكانت تحب ذلك أكثر ليلًا، وهي بمفردها تحت الغطاء. حينها، كانت تحك بيدها كل مكان في جسدها حتى تسري الإثارة عبره وترغب في الصراخ من فرط اللذة.

شرحت لها أمها هذه الظاهرة، ولكن بدا عليها الانزعاج قليلًا عندما أرادت كيتي التحدث بشأنها مرارًا وتكرارًا. فقالت لها بصوت منخفض ذات ليلة قبل العشاء: «حبيبتي، ممارسة العادة السرية أمر شديد الخصوصية، وعادةً لا يتحدث الناس عنه إلا مع أقرب أصدقائهم، هذا إن تحدثوا عنه أصلًا.»

لم تستطع طلب المساعدة من إيلي. إذ لم ترَ كيتي أختها تتأمل جسدها قط، ولو لمرة واحدة. قالت كيتي لنفسها: الأرجح أنها لا تفعل هذا أبدًا. وهي بالتأكيد لا تود التحدث عنه.

سمعت كيتي إيلي تناديها من الغرفة المجاورة: «هل انتهيتِ من الاستحمام؟» لكل فتاة غرفة نومها الخاصة، ولكن الحمام مشترك بينهما.

صاحت كيتي: «نعم.»

دخلت إيلي الحمام وقد لفت منشفة حول جسدها، وألقت نظرة عابرة على أختها الواقفة أمام المرآة عاريةً تمامًا. همت الفتاة الصغيرة بالكلام ولكن يبدو أنها غيرت رأيها ثم خلعت المنشفة ودخلت ببطء تحت الدش.

أخذت كيتي تراقب إيلي عبر الباب الشفاف. أخذت تنظر إلى جسد إيلي ثم إلى المرآة التي تقف هي أمامها وأخذت تقارن بين أدق تفاصيل جسديهما. كانت كيتي تفضل وجهها ولون بشرتها — فبخلاف والدها، هي أفتح أفراد الأسرة بشرةً — ولكن جسد إيلي كان أفضل كثيرًا.

ذات مساء، بعد أن انتهت كيتي من تصفُّح مكعب معلومات فيه مجلات أزياء قديمة جدًّا، سألت نيكول: «لماذا يبدو قوامي رجوليًّا هكذا؟»

رفعت نيكول بصرها عما تقرؤه وأجابت: «لا يمكنني أن أشرح بالضبط. فعلم الجينات معقد للغاية، معقد أكثر مما تخيل جريجور مندل بكثير في البداية.»

ضحكت نيكول على نفسها فقد أدركت على الفور أن كيتي لم تفهم ما قالته لتوِّها. فتابعت حديثها في لهجة أقل تحذلقًا: «كيتي، كل طفل هو تركيبة فريدة من خصائص والديه. هذه الخصائص المميزة مختزنة في جزيئات تسمى جينات. هناك حرفيًّا مليارات الصور المختلفة التي من الممكن أن تظهر فيها جينات كل زوجين. لهذا فإن أبناء نفس الزوجين لا يكونون على الإطلاق نسخًا طبق الأصل بعضهم من بعض.»

عقدت كيتي جبينها. كانت تتوقع إجابة مختلفة. وفهمت نيكول هذا بسرعة. فأضافت في لهجة مشجعة: «كما أن قوامك في واقع الأمر ليس «رجوليًّا» على الإطلاق. إن وصف «رياضي» ملائم أكثر له.»

أجابت كيتي وهي تشير إلى أختها التي كانت تدرس بجد في ركن غرفة المعيشة: «على أي حال، أنا بالتأكيد لا أشبه إيلي. فجسدها جذاب للغاية؛ فهو أنثوي أكثر من جسدك أنتِ.»

ضحكت نيكول. وقالت: «إن قوام إيلي رائع بالفعل. ولكن قوامك لا يقل عنه، وكل ما في الأمر أنه مختلف.» عادت نيكول إلى القراءة وهي تظن أن الحوار انتهى.

بعد برهة من الصمت، تابعت كيتي الحديث قائلةً: «لا أجد في هذه المجلات القديمة الكثير من النساء اللاتي لهن نفس شكل قوامي.» وكانت ترفع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها لكن نيكول لم تعد تعيرها انتباهها. قالت ابنتها بعد هذا: «تعرفين يا أمي، أعتقد أن الرجل النسر ارتكب خطأً في أدوات التحكم التي كانت في مضجعي. أعتقد أنني حُقنت ببعض الهرمونات التي كانت من المفترض أن يحقن بها باتريك أو بينجي.»

أجابت نيكول بعد أن أدركت أخيرًا أن ابنتها مهووسةً بشكلها: «حبيبتي كيتي، لا شك في أنك أصبحت الإنسانة التي حددت جيناتك أوصافها منذ لحظة الحمل. إنك شابة جميلة ذكية. وستكونين أكثر سعادة إذا ما قضيت الوقت تفكرين في الصفات الرائعة الكثيرة التي تحملينها بدلًا من التفتيش عن عيوبك، وتمني أن تصبحي مختلفة عما أنتِ عليه.»

منذ أن استيقظا والكثير من حواراتهما تسير على نمط مشابه. كانت كيتي على ما يبدو تعتقد أن أمها لا تحاول أن تفهمها، وأنها دائمًا ما تكون جاهزة بمحاضرة أو حكمة ما أو كلتيهما معًا. وكان من بين ما تسمعه دائمًا منها «الحياة بها أشياء كثيرة أهم من شعور المرء بالرضا عن مظهره». وفي نفس الوقت كانت ترى أن أمها لا تكف عن مدح إيلي. «إيلي تلميذة متفوقة جدًّا، مع أنها بدأت الاستذكار في مرحلة متأخرة» أو «إيلي تساعدنا دائمًا دون أن نطلب منها هذا» أو «لماذا لا تتحلين بمزيد من الصبر مع بينجي مثل إيلي؟»

قالت كيتي لنفسها وهي راقدة عارية في سريرها في وقت متأخر من إحدى الليالي، بعد أن تشاجرت مع أختها وأنَّبتها أمها هي فقط: انتهينا من سيمون لنجد إيلي. لم أحظَ بفرصتي مع أمي قط. فنحن مختلفتان تمامًا. ربما كان من الأفضل أن أكف عن محاولة التقرب إليها.

وراحت تمر بأصابعها على جسدها، فتشتعل رغبتها، ثم تنهدت انتظارًا لما هو قادم. ثم قالت بينها وبين نفسها: «على الأقل هناك أشياء لا أحتاج إلى أمي فيها.»

•••

ذات مساء، بعدما لم يعد يفصلهم عن المريخ سوى ستة أسابيع، قالت نيكول وهي في فراشها: «ريتشارد.»

أجاب ببطء: «ممم؟» كان شبه نائم.

قالت: «أنا قلقة على كيتي. أنا سعيدة بالتقدم الذي يحرزه باقي الأطفال، وخاصة بينجي، حفظه الله. ولكنني قلقة جدًّا على كيتي.»

قال ريتشارد وهو يستند إلى مرفقه: «ما الذي يقلقك بالضبط؟»

«في المقام الأول توجهاتها. إنها نرجسية للغاية. كما أن طبعها حاد، وتفتقر إلى الصبر في التعامل مع باقي الأطفال، حتى مع باتريك الذي يهيم بها. كما أنها تتشاجر معي طوال الوقت، وإن كان موضوع الشجار تافهًا عادة. كما أنني أعتقد أنها تمضي وقتًا أطول مما ينبغي بمفردها في الغرفة.»

أجاب ريتشارد: «إنها تشعر بالملل. تذكري يا نيكول أنها جسديًّا شابة في أوائل العشرينيات. وأنها كان من المفترض أن تدخل في علاقة تثبت استقلالها. لكن لا يوجد هنا من هو في نفس سنها … ويجب أن تعترفي بأننا في بعض الأوقات نعاملها وكأنها في الثانية عشرة من عمرها.»

لم تقل نيكول شيئًا. فمال ريتشارد عليها ولمس ذراعها. وقال: «كنا نعرف من البداية أن كيتي هي أكثر أولادنا عصبيةً. إنها تشبهني كثيرًا للأسف.»

قالت نيكول: «ولكنك على الأقل توجه طاقتك لمشروعات مفيدة. أما كيتي فتميل إلى توجيه طاقتها في تصرفات هدامة … أتمنى فعلًا يا ريتشارد أن تتحدث معها. وإلا فأخشى أننا سنواجه مشاكل كبيرة عندما نقابل باقي البشر.»

رد عليها ريتشارد بعد صمت قصير: «ماذا تريدينني أن أقول لها؟ إن الحياة ليست سلسلة من الأحداث المشوقة؟ ولماذا أطلب منها ألا تتقوقع في عالم الأوهام في غرفتها؟ بالتأكيد عالمها هناك مشوق أكثر. للأسف ليس هناك شيء في الوقت الحالي في عدن الجديدة يمكن أن يثير بشدة اهتمام فتاة شابة.»

ردت نيكول وقد شعرت بشيء من الاستياء: «كنت أتمنى أن تكون متفهمًا أكثر من هذا. فأنا أحتاج إلى مساعدتك يا ريتشارد … كما أن كيتي تستجيب لك أفضل مما تستجيب لي.»

صمت ريتشارد مرةً أخرى. ثم قال بلهجة محبطة: «حسنًا.» وعاد يستلقي في السرير. وتابع قائلًا: «سآخذها معي لنركب الأمواج غدًا، فهي مولعة بهذه الرياضة، وعلى الأقل سأطلب منها الحرص على حسن معاملة باقي أفراد الأسرة.»

•••

قال ريتشارد بعد أن انتهى من قراءة ما في كمبيوتر باتريك المحمول: «جيد جدًّا. ممتاز.» ثم أطفأ الجهاز ونظر إلى ابنه الذي كان يبدو عليه شيء من التوتر وهو جالس في المقعد المقابل لريتشارد. واصل ريتشارد حديثه قائلًا: «لقد تعلمت الجبر بسرعة. أنت موهوب في الرياضيات بلا شك. وعندما يحضر باقي البشر إلى عدن الجديدة ستكون قد أصبحت مستعدًّا لتلقي التعليم الجامعي، على الأقل في الرياضيات والعلوم.»

رد عليه باتريك قائلًا: «ولكن أمي تقول إن مستواي في اللغة الإنجليزية ضعيف للغاية. وتقول إن موضوعات التعبير التي أكتبها أشبه بالموضوعات التي يكتبها الأطفال.»

سمعت نيكول الحوار فجاءت من المطبخ. وقالت: «باتريك يا حبيبي إن جارسيا رقم ٠٤١ تقول إنك لا تهتم بالكتابة كما ينبغي. أعلم أنك لا يمكن أن تتعلم كل شيء بين عشية وضحاها، ولكنني لا أريدك أن تكون في موقف محرج عندما نقابل البشر الآخرين.»

احتج باتريك قائلًا: «ولكنني أفضل الرياضيات والعلوم. ويقول الآلي أينشتاين الخاص بنا إنه يستطيع أن يعلمني حساب التفاضل والتكامل في مدة تتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع، هذا إن لم أكن مثقلًا بمواد أخرى.»

فجأة فُتح الباب الأمامي واندفعت كيتي وإيلي داخل المنزل. كان وجه كيتي مشرقًا ينبض بالحيوية. قالت: «آسفة لأننا تأخرنا، لكنه كان يومنا حافلًا.» ثم التفتت إلى باتريك. وقالت: «قدت المركب في بحيرة شكسبير بنفسي. فقد تركنا جارسيا على الشاطئ.»

لم يكن الحماس باديًا على إيلي مثلما يبدو على أختها. بل إنها في الواقع بدت شاحبة قليلًا. فسألت نيكول ابنتها الصغرى، بينما كانت كيتي تسلي الأسرة بحكايات مغامرتهما في البحيرة، قائلة بهدوء: «هل أنت بخير يا حبيبتي؟»

أومأت إيلي برأسها ولم تنبس ببنت شفة.

قالت كيتي بحماس: «ما كان مثيرًا حقًّا هو السير بسرعات عالية على الأمواج التي أحدثها مركبنا. أخذنا نقفز من موجة إلى أخرى، بام، بام، بام. في بعض الأوقات كنت أشعر وكأننا نطير.»

قالت نيكول بعد ثوانٍ: «تلك المراكب ليست للعب.» وأشارت للجميع بأن يحضروا إلى مائدة العشاء. كان بينجي آخر من جلس؛ إذ كان واقفًا في المطبخ يعبث في السلطة بأصابعه.

عندما جلس الجميع سألت نيكول كيتي: «ماذا كنت ستفعلين إن انقلب المركب؟»

ردت عليها باستخفاف: «كانت آليات الجارسيا ستنقذنا. فقد كان هناك ثلاث منها على الشاطئ تراقبنا … فهذه هي مهمتهم على أي حال. كما أننا كنا نرتدي سترات النجاة وأنا أجيد السباحة.»

ردت عليها نيكول بسرعة وقد بدت في صوتها رنة تأنيب: «لكن أختك لا تجيدها. وتعلمين أنها كانت ستفزع إن كانت قد وقعت في البحيرة.»

بدأت كيتي تجادلها، لكن ريتشارد تدخل وغيَّر الموضوع قبل أن يتصاعد الخلاف. في الواقع، كان جو القلق يسود الأسرة كلها. فقد دخلت راما في المدار الذي يدور حول المريخ منذ شهر وما زالوا لا يرون أي أثر للمجموعة القادمة من الأرض التي كان من المفترض أن يقابلوها. وكانت نيكول تتوقع أن يلتقوا بإخوانهم من البشر فور دخولهم مدار المريخ.

بعد تناول العشاء انتقلت الأسرة إلى حجرة الرصد الصغيرة الخاصة بريتشارد التي تقع في الفناء الخلفي؛ وذلك ليشاهدوا المريخ. تتصل حجرة الرصد بجميع المستشعرات الخارجية التي تقع على سطح راما (ولكنها لا تتصل بالمستشعرات الداخلية التي تقع خارج حدود عدن الجديدة، وقد كان الرجل النسر حاسمًا جدًّا في هذا الأمر أثناء مناقشة التصميم) والتي كانت تمدهم بصور مكبرة رائعة للكوكب الأحمر لمدة جزء من كل يوم من أيام المريخ.

كان بينجي خصوصًا مغرمًا بجلسات الرصد التي يشرف عليها ريتشارد. وكان يشير بفخر إلى مواقع البراكين في منطقة ثارسيس والوادي الكبير المسمى فاليس مارينيريس وسهل كرايسي الذي هبطت فيه أول مركبة فضاء من برنامج فايكنيج منذ ما يزيد على مائتي عام. كانت تتأهب عاصفة ترابية للهبوب جنوبي محطة ماتش، وهي محور المستعمرة المريخية الكبيرة التي هُجرت في فترة عدم الاستقرار التي صاحبت الفوضى الكبرى. رأى ريتشارد أن الغبار قد ينتشر في جميع أرجاء الكوكب؛ لأن هذا هو موسم هبوب هذه العواصف الكونية.

في لحظة هدوء تخللت جلسة رصد المريخ سألت كيتي: «ماذا سيحدث إن لم يظهر الأرضيون؟ وأرجوك يا أمي أعطنا إجابة صريحة هذه المرة. ففي النهاية، نحن لم نعد أطفالًا.»

تجاهلت نيكول نبرة تعليق كيتي المستفزة. وأجابت: «إذا لم تخني الذاكرة، أظن أن الخطة الرئيسية تتضمن أن نبقى هنا في مدار المريخ مدة ستة أشهر. وإذا لم تحدث مقابلة في هذه المدة فستتوجه راما إلى الأرض.» صمتت عدة ثوانٍ. ثم تابعت حديثها قائلةً: «لا يعرف أيٌّ منا أنا وأبوك الخطوات التي سنتخذها من تلك المرحلة فصاعدًا. فكل ما أخبرنا به الرجل النسر هو أنه سيخطرنا، في حالة الاضطرار للجوء إلى خطط الطوارئ، بما يجب علينا أن نعرفه.»

ساد الهدوء نحو دقيقة ظهرت خلالها صور بدرجات وضوح متنوعة للمريخ على الشاشة الضخمة المعلقة على الحائط. سأل بينجي حينها: «أين الأرض؟»

أجاب ريتشارد: «إنه الكوكب الذي يظهر بالقرب من المريخ، ذلك الكوكب الذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث البعد عن الشمس. تذكر أنني قد أطلعتك على صورة لترتيب الكواكب في المجموعة الشمسية على الكمبيوتر الخاص بي.»

رد عليه بينجي ببطء شديد: «ليس هذا ما أعنيه. أريد أن أرى الأرض.»

كان طلبه بسيطًا للغاية. ومع أن ريتشارد صحب الأسرة كثيرًا إلى حجرة الرصد من قبل، فإنه لم يخطر بباله قط أن ذلك الضوء الأزرق الشاحب الذي يظهر في سماء المريخ ليلًا قد يثير اهتمام الأطفال. قال ريتشارد وهو يتصفح قاعدة البيانات الخاصة به ليحصل على النتائج المناسبة من المستشعرات: «لا تبدو الأرض مبهرة من هذه المسافة. فهي في الواقع لا تختلف عن أي جرم لامع آخر، مثل الشعرى اليمانية على سبيل المثال.»

جانب ريتشارد الصواب. فما إن حدد الأرض في إطار سماوي معين ووضع ذلك الشكل المنعكس التافه ظاهريًّا في مركز الصورة حتى أخذ كل الأطفال يرمقون الأرض في انتباه شديد.

شعرت نيكول بالانبهار حيال التغير المفاجئ الذي عم أجواء الغرفة، وقالت لنفسها: هذا كوكبهم الأصلي. مع أنهم لم يعيشوا عليه قط. وأخذت صور من الأرض تتدفق على مخيلتها، وهي تحدق هي الأخرى في الضوء الضئيل الظاهر في مركز الصورة. واستيقظ بداخلها حنين شديد إليه، وشعرت بتوق للعودة إلى ذلك الكوكب الجميل الذي تغطيه المحيطات. واغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب من أبنائها وتحيطهم بذراعيها.

قالت بصوت هامس: «أيًّا كان المكان الذي سنذهب إليه في هذا الكون المذهل، سواء في الحاضر أو في المستقبل، فإن هذه البقعة الزرقاء ستظل دومًا موطننا.»

٢

استيقظت ناي بواتونج في ظلمة ما قبل الفجر. وارتدت ثوبًا قطنيًّا بلا أكمام، ثم وقفت دقائق أمام تمثال بوذا الخاص بها والموجود في «الهوانج برا» الخاص بالأسرة المجاور لغرفة المعيشة؛ تبجيلًا له، وبعدها فتحت باب المنزل دون أن تزعج أيًّا من أفراد أسرتها. كان هواء الصيف عليلًا. وكان النسيم محملًا برائحة الزهور مختلطةً برائحة التوابل التايلاندية؛ كان ثمة من يطهو الفطور في هذا الوقت في الحي.

لم يُصدر الصندل الذي كانت ترتديه صوتًا وهي تمشي في الزقاق الترابي الأملس. كانت ناي تمشي ببطء، وهي تستدير يمينًا ويسارًا وعيناها ترنو إلى الظلال المألوفة التي ستتحول قريبًا إلى مجرد ذكريات. قالت لنفسها: هذا آخر يوم لي. لقد جاء أخيرًا.

بعد دقائق قليلة، انعطفت يمينًا في الشارع المرصوف الذي يؤدي إلى منطقة لامبون التجارية الصغيرة. وباستثناء الدراجات التي كانت تمر بها من آنٍ لآخر، كان ذلك الصباح هادئًا عمومًا. فلم يكن أيٌّ من المتاجر قد فتحت أبوابها بعد.

عندما كانت ناي تقترب من أحد المعابد، مرت براهبين بوذيين، كلٌّ منهما يقف على أحد جانبَي الطريق. كان كلٌّ منهما يرتدي الرداء الزعفراني اللون المعتاد ويحمل وعاءً معدنيًّا كبيرًا. كانا ينتظران الحصول على إفطارهما، كعادتهما يوميًّا كل صباح في أنحاء تايلاند، معتمدين على كرم سكان لامبون. ظهرت امرأة في مدخل متجر أمام ناي مباشرةً، ووضعت بعض الطعام في وعاء الراهب. لم يتحدثا ولم تتغير تعبيرات وجه الراهب تعبيرًا عن شكره للهبة.

حدثت ناي نفسها قائلةً: إنهما لا يملكان شيئًا، ولا حتى ملابسهما. ولكنهما سعيدان. ثم تلت بسرعة القاعدة الأساسية التي تقوم عليها عقيدتها: «المعاناة وليدة الرغبة»، وذكرها هذا بالثروة الطائلة التي تملكها أسرة زوجها الجديد التي تسكن في مقاطعة هيجاشياما على أطراف مدينة كيوتو في اليابان. وقالت لنفسها: يقول كينجي إن والدته تملك كل شيء، إلا الطمأنينة. وهي محرومة منها لأنها لا تستطيع أن تشتريها بالمال.

للحظات ملأت الذكرى الحديثة لمنزل آل واتانابي الفاخر عقلها، وأزاحت منه صورة الشارع التايلاندي البسيط الذي كانت تسير فيه. لقد سحرتها فخامة قصرهم. ولكنها لم تشعر فيه بالترحاب. فقد كان من الواضح أن والدَي كينجي ينظران إليها على أنها متطفلة، مجرد أجنبية وضيعة تزوجت ابنهما دون موافقتهما. لم يعاملاها بقسوة، بل ببرود. وانهالا عليها بأسئلة عن أسرتها وتعليمها بأسلوب جاف ودقيق. وفيما بعد طمأن كينجي ناي وأخبرها بأنَّ أسرته لن تذهب معهما إلى المريخ.

وقفت في شارع في لامبون ونظرت إلى الناحية المقابلة حيث معبد الملكة كاماتيفي. هذا هو مكان ناي المفضل في البلدة، بل ربما يكون مكانها المفضل في تايلاند بأسرها. ويبلغ عمر بعض أجزاء هذا المعبد ألف وخمسمائة عام، وحراسه الحجريون الصامتون يقفون شاهدين على تاريخ يختلف عن الحاضر اختلافًا يجعلك تظن أن أحداثه وقعت على كوكب آخر.

عبرت ناي الشارع ووقفت في الفناء الذي تحيط به جدران المعبد. كان هذا الصباح صحوًا على نحو غير معتاد. وكان هناك نور وهاج يسطع في سماء الصباح الداكنة فوق أعلى قمة من قمم المعبد التايلاندي القديم. أدركت ناي أن هذا الضوء ما هو إلا كوكب المريخ، محطتها التالية. كان احتضان سماء هذه البلدة لصورة المريخ في هذه اللحظة معبرًا. فهذه البلدة ظلت موطنها طوال سنوات عمرها الست والعشرين (فيما عدا السنوات الأربع التي قضتها في جامعة تشيانج ماي). وفي غضون ستة أسابيع كانت ستستقل مركبة فضاء عملاقة تقلها إلى إحدى المستعمرات الفضائية التي تقع على الكوكب الأحمر حيث ستعيش طوال السنوات الخمس القادمة.

جلست ناي متخذة وضع اللوتس في زاوية الفناء، وأخذت تتأمل ذلك الضوء البادي في السماء. قالت لنفسها: كم تناسبني إطلالة كوكب المريخ عليَّ هذا الصباح. بدأت تتنفس بانتظام تمهيدًا للتأمل الصباحي الذي اعتادت عليه. ولكن بينما كانت تستعد للاستمتاع بمشاعر الطمأنينة والسكينة التي تهيؤها نفسيًّا لاستقبال اليوم الذي أمامها؛ إذ بها تدرك أن نفسها تجيش بطوفان من العواطف الجارفة والمتلاطمة.

فاتخذت قرارًا بالكف عن تأملها مؤقتًا. وقالت لنفسها: يجب عليَّ، في آخر الأيام التي أقضيها في وطني، أن أتصالح مع الأحداث التي غيرت مجرى حياتي تمامًا.

•••

قبل أحد عشر شهرًا، كانت ناي بواتونج تجلس في نفس المكان، ومكعبات دروس اللغة الفرنسية والإنجليزية الخاصة بها مرتبة بجوارها في حقيبة. كانت ناي تعد المادة التي ستستعين بها للتدريس في الفصل الدراسي القادم وقد عقدت العزم على استخدام أسلوب أكثر تشويقًا وحيوية في تدريس اللغات للمرحلة الثانوية.

قبل أن تبدأ العمل في وضع الخطوط العريضة لدروسها في ذلك اليوم الحاسم من العام السابق، كانت تقرأ صحيفة تشيانج ماي اليومية. فوضعت المكعب في جهاز القارئ الخاص بها ثم أخذت تتصفح الجريدة بسرعة دون أن تقرأ سوى العناوين الرئيسية. لكنها وجدت إعلانًا بالإنجليزية في الصفحة الأخيرة لفت انتباهها.

لكلِّ من يعمل في الطب والتمريض والتدريس والزراعة

هل أنت مغامر وتلم بعدة لغات وتتمتع بصحة جيدة؟

سترسل وكالة الفضاء العالمية بعثةً كبيرة لإعادة استعمار المريخ. ولهذا تسعى لضم الأشخاص المميزين الذين يتمتعون بالمهارات الحيوية المحددة أعلاه للعمل في المستعمرة مدة خمس سنوات. تجرى المقابلات الشخصية يوم الاثنين الموافق الثالث والعشرين من شهر أغسطس عام ٢٢٤٤ في مدينة تشيانج ماي. الرواتب والمزايا متميزة. تُطلب طلبات الالتحاق من البريد التايلاندي السريع رقم ٤٩٣٠-٦٢-٤٦٢.

عندما قدمت ناي الطلب إلى وكالة الفضاء العالمية لم تكن تعتقد أن فرصتها كبيرة جدًّا. بل كانت شبه متأكدة من أنها لن تنجح في مرحلة التصفية الأولى، ومن ثم لن تكون حتى مؤهلة لإجراء المقابلة الشخصية. لذا اندهشت في واقع الأمر عندما ورد إلى بريدها الإلكتروني إخطارًا بعد ستة أسابيع يبلغها أنها اختيرت مبدئيًّا لإجراء المقابلة الشخصية. وقال الإخطار أيضًا إن الإجراءات تقضي بأن تطرح ناي الأسئلة الشخصية التي تريد أن تعرف إجابتها عن طريق البريد أولًا قبل إجراء المقابلة. كما أكد أن وكالة الفضاء العالمية لا تريد إجراء مقابلات شخصية إلا مع المرشحين الذين لديهم نية قبول العمل في المستعمرة المريخية في حالة تكليفهم بمهمة هناك.

ردت ناي برسالة فيها سؤال واحد. وكان هو: هل يمكن تحويل جزء كبير مما تكسبه أثناء إقامتها على المريخ إلى بنك من بنوك الأرض؟ وأضافت أن هذا شرط مسبق جوهري للقبول.

بعد عشرة أيام وصلها إخطار آخر عبر البريد الإلكتروني. كان موجزًا جدًّا. إذ لم يرد فيه سوى أنه من الممكن تحويل جزء مما تكسبه إلى بنك من بنوك الأرض بانتظام. ولكن ينبغي التأكد تمامًا من طريقة تقسيم نقودها؛ لأنه لا يمكن للمستعمر أن يغير طريقة التقسيم التي حددها بعد أن يغادر الأرض.

نظرًا إلى انخفاض تكلفة المعيشة في لامبون، فإن الراتب الذي عرضته وكالة الفضاء العالمية على معلمي اللغات في مستعمرة المريخ كان تقريبًا ضعف ما تحتاجه ناي للوفاء بالتزامات أسرتها. كانت الفتاة مثقلة للغاية بالمسئولية. فهي المعيلة الوحيدة في أسرة من خمسة أفراد تتكون من والد مريض وأم وأختين أصغر منها.

كانت طفولتها صعبة لكن أسرتها تمكنت من العيش على الكفاف. غير أن كارثةً ألمت بالأسرة عندما كانت ناي في العام الأخير من الجامعة. ففي بادئ الأمر أصيب والدها بسكتة دماغية أقعدته. وحاولت أمها أن تدير بنفسها متجر الحرف اليدوية الصغير الذي يمتلكونه، متجاهلة نصائح الأهل والأصدقاء، على الرغم من أنها لم تكن تتمتع إطلاقًا بموهبة إدارة الأعمال. وفي غضون عام واحد، فقدت الأسرة كل شيء، واضطرت ناي إلى إنفاق مدخراتها الشخصية للوفاء باحتياجات أسرتها من طعام وملبس، فضلًا عن التخلي عن حلم ترجمة الأعمال الأدبية لإحدى دور النشر الكبرى في بانكوك.

كانت ناي تعمل معلمة طوال الأسبوع، وتعمل مرشدة سياحية في العطلة الأسبوعية. في يوم السبت السابق للمقابلة الشخصية التي أجرتها مع وكالة الفضاء العالمية، كانت ناي في جولة سياحية في تشيانج ماي التي تبعد ثلاثين كيلومترًا عن بيتها. كان في مجموعتها عدد من اليابانيين من بينهم شاب وسيم فصيح في مطلع الثلاثينيات يتحدث بلغة إنجليزية سليمة. كان اسمه كينجي واتانابي. وكان يبدي انتباهًا شديدًا لكل ما تقوله ناي، ودائمًا ما يطرح أسئلة ذكيةً، ويتصرف بأدب جم.

قرب نهاية جولتهم في الأماكن البوذية المقدسة التي تقع في منطقة تشيانج ماي، ركبوا التلفريك متجهين إلى جبل دوي سوتيب ليزوروا المعبد البوذي الشهير المبني على قمته. كان معظم السائحين متعبين من الأنشطة التي قاموا بها على مدار اليوم، إلا كينجي واتانابي. فقد أصر على صعود سلم التنين الطويل مثلما يفعل الحجاج البوذيون بدلًا من ركوب القطار المعلق الممتد من مخرج التلفريك وحتى القمة. ثم أخذ يطرح الأسئلة وناي تشرح القصة الرائعة الخاصة بتأسيس المعبد. وفي النهاية، عندما نزلوا وكانت ناي جالسةً وحدها تحتسي الشاي في المطعم الجميل عند سفح الجبل، ترك كينجي باقي السائحين في محلات الهدايا التذكارية وتوجه نحو منضدتها.

قال بتايلاندية ممتازة أدهشت ناي: «معذرة.» ثم أضاف: «أتسمحين لي بالجلوس؟ فأنا لدي بضعة أسئلة.»

سألته ناي بالتايلاندية وهي لا تزال تشعر بالذهول عما إذا كان يجيد التايلاندية.

فرد بالتايلاندية بأنه يفهم القليل منها. ثم سألها عما إذا كانت تعرف اليابانية.

فهزت ناي رأسها. وقالت بالتايلاندية إنها تجهلها. ثم ابتسمت. وأضافت بالإنجليزية قائلة: «لا أعرف إلا الإنجليزية والفرنسية والتايلاندية. مع أنني أستطيع أحيانًا فهم اليابانية البسيطة إذا سمعت من يتحدثها ببطء شديد.»

ثم تحدث كينجي بالإنجليزية بعد أن جلس أمام ناي قائلًا: «أبهرتني اللوحات الجدارية التي تصف تأسيس المعبد على قمة دوي سوتيب. إنها أسطورة رائعة؛ فهي مزيج من التاريخ والتصوف، ولكن بصفتي مؤرخًا يثير فضولي أمران. أولًا، أليس من المحتمل أن يكون هذا الراهب السريلانكي المبجل قد علم من بعض المصادر الدينية خارج مملكة لانا بوجود آثار مقدسة لبوذا في تلك الباغودة المهجورة المجاورة؟ يبدو لي أنه من المستبعد أن يكون الراهب قد غامر بسمعته. ثانيًا، فكرة صعود الفيل الأبيض لجبل دوي سوتيب من تلقاء نفسه وهو يحمل الآثار المقدسة، ثم موته بعد وصوله إلى القمة تبدو مثالية أكثر مما ينبغي. فهل هناك مصادر تاريخية غير بوذية من القرن الخامس عشر تدعم هذه القصة؟»

لعدة ثوانٍ، أخذت ناي ترمق السيد واتانابي المتحمس قبل أن ترد. ثم أجابت بابتسامة واهنة: «سيدي، طوال العامين اللذين قضيتهما في إرشاد السائحين في المواقع البوذية في هذه المنطقة لم أقابل قط من سألني أيًّا من هذين السؤالين. وأنا نفسي لا أعرف الإجابة، ولكن إن كنت مهتمًّا، أستطيع أن أعطيك اسم أستاذ في جامعة تشيانج ماي هو علَّامة في التاريخ البوذي لمملكة لانا. وهو خبير بهذه الحقبة كلها بدءًا من الملك مينجراي …»

قطع حوارهما إعلان عن أن التلفريك على استعداد الآن لنقل الركاب في رحلة العودة إلى المدينة. فقامت ناي من مقعدها واستأذنت للانصراف. أما كينجي فقد لحق بباقي المجموعة. وعندما كانت ناي تراقبه من بعيد، ظلت تتذكر قوة عينيه. وقالت لنفسها: عيناه مدهشتان. لم أرَ قط عيونًا بهذا الصفاء ويملؤها حب الاستطلاع إلى هذا الحد.

رأت هاتين العينين مرةً أخرى بعد ظهر يوم الاثنين التالي عندما ذهبت إلى فندق دويست تاني في تشيانج ماي لإجراء المقابلة الشخصية مع وكالة الفضاء العالمية. اندهشت عندما رأت كينجي جالسًا خلف مكتب وعلى قميصه الشعار الرسمي لوكالة الفضاء العالمية. وشعرت بالاضطراب في البداية. فقال كينجي معتذرًا: «إنني لم أطلع على أوراقك قبل يوم السبت. أقسم لك بهذا. لو كنت أعلم أنك إحدى المتقدمات لكنت ذهبت في جولة مختلفة.»

مضت المقابلة بسلاسة. وأثنى كينجي على سجلها الدراسي المتميز، وعلى عملها التطوعي في دور الأيتام في لامبون وتشيانج ماي. كانت ناي صادقة عندما قالت إنها لم تكن تشعر ﺑ «رغبة جامحة» في السفر في الفضاء، وأنها تقدمت لشغل هذه الوظيفة على المريخ لأنها كانت أساسًا «مغامرة بطبيعتها»، ولأن الوظيفة التي عرضتها وكالة الفضاء العالمية ستمكنها من الوفاء بالتزاماتها العائلية.

قرب نهاية المقابلة توقف الحوار. فسألت ناي بلطف وهي تقوم من مقعدها: «أهذا كل شيء؟»

قال كينجي واتانابي وقد بدا عليه الارتباك فجأة: «ربما يكون هناك شيء واحد. أتجيدين تفسير الأحلام؟»

ابتسمت ناي وجلست ثانيةً. قالت: «تفضل.»

أخذ كينجي نفسًا عميقًا. ثم قال: «حلمت ليلة السبت بأنني كنت في الغابة، في مكان ما قرب سفح جبل دوي سوتيب، عرفت أن هذا المكان هو دوي سوتيب لأنني رأيت القمة الذهبية التي تعلو المعبد البوذي في خلفية المشهد. كنت أسرع بين الأشجار محاولًا أن أجد طريقي، وعندئذٍ رأيت ثعبانًا كبيرًا ملتفًّا حول فرع عريض من أفرع الشجرة بجانب رأسي.

سألني الثعبان: «إلى أين أنت ذاهب؟»

أجبته: «إنني أبحث عن حبيبتي.»

قال الثعبان: «إنها أعلى الجبل.»

وخرجت من الغابة حتى وصلت إلى بقعة يغمرها ضوء الشمس، ونظرت إلى قمة الجبل. فوجدت من أحببتها منذ طفولتي، كيكو موروساوا، واقفةً تلوح لي. التفت ونظرت إلى الثعبان.

فقال لي: «انظر ثانيةً.»

عندما نظرت أعلى الجبل مرة أخرى كان وجه المرأة قد تغير. لم يعد وجه كيكو؛ كنت أنتِ من تلوح لي من أعلى دوي سوتيب.»

صمت كينجي عدة ثوانٍ. ثم قال: «لم أرَ قط حلمًا غريبًا أو واضحًا هكذا. ففكرت أنه ربما …»

سرت قشعريرة في ذراعَي ناي وهي تسمع كينجي يحكي قصته. كانت قد عرفت النهاية قبل أن ينهي قصته؛ عرفت أنها، هي ناي بواتونج، ستكون المرأة التي تلوح من قمة الجبل. مالت ناي إلى الأمام في كرسيها. وقالت ببطء: «يا سيد واتانابي آمل ألا يسبب لك ما سأقوله إساءةً من أي نوع …»

صمتت ناي عدة ثوانٍ. ثم قالت وعيناها تتحاشيان عينيه: «لدينا مثل تايلاندي شهير يقول إنه عندما يتحدث إليك ثعبان في الحلم فقد وجدت من ستتزوجه.»

•••

قالت ناي في نفسها متذكرة: تسلمت الإخطار بعد ستة أسابيع. كانت لا تزال جالسة في الفناء بجانب معبد الملكة كاماتيفي في لامبون. ثم أضافت في نفسها: وبعدها بثلاثة أيام وصل طرد من الأدوات والكتيبات من وكالة الفضاء العالمية. كما تلقيت باقة زهور من كينجي.

جاء كينجي إلى لامبون في عطلة نهاية الأسبوع التالية. واعتذر قائلًا: «آسف لأنني لم أتصل بك أو أتواصل معك، ولكن لم يكن هناك معنى لاستمرار علاقتنا إن لم تكوني أنت أيضًا ذاهبة إلى المريخ.»

طلب يدها بعد ظهر يوم الأحد فقبلت بسرعة. وتزوجا في كيوتو بعد ثلاثة أشهر. تكرم آل واتانابي ودفعا مصاريف سفر أختيها وثلاث من صديقاتها التايلانديات إلى اليابان لحضور حفل الزفاف. للأسف، لم تستطع أمها أن تحضر لأنها لم تجد من يعتني بزوجها بدلًا منها.

أخذت ناي نفسًا عميقًا. انتهى الآن استعراضها للتغيرات التي وقعت مؤخرًا في حياتها. وصارت على استعداد لبدء جلسة التأمل. بعد ثلاثين دقيقة شعرت بالسكينة والسعادة وأصبحت تترقب الحياة المجهولة التي تنتظرها. أشرقت الشمس وجاء آخرون إلى فناء المعبد. تجولت ببطء في المكان وهي تحاول الاستمتاع بلحظاتها الأخيرة في بلدتها.

داخل القاعة الرئيسية، قدمت ناي قربانًا وحرقت البخور عند المذبح، ثم أخذت تتأمل باهتمام كل تفاصيل الرسومات التي تزدان بها الجدران مع أنها لطالما رأتها من قبل. كانت الرسومات تحكي قصة حياة الملكة كاماتيفي والتي كانت بطلتها الوحيدة منذ الطفولة. في القرن السابع عشر كان للقبائل الكثيرة التي تسكن منطقة لامبون ثقافات مختلفة، وكثيرًا ما كانت تتحارب. وكان الشيء الوحيد المشترك بين تلك القبائل في تلك الحقبة هو أسطورة؛ أسطورة تقول إن ملكة شابة ستأتي من الجنوب «تحملها أفيال ضخمة»، وستوحد القبائل المتناحرة، وتؤسس مملكة هاريبونشاي.

لم تكن كاماتيفي قد تجاوزت الثالثة والعشرين من عمرها عندما أفضى عراف عجوز لرسل من الشمال بأنها ملكة هاريبونشاي المنتظرة. كانت أميرة شابة وجميلة من أميرات شعب المُن، والمُن هم شعب الخمير الذي بنى فيما بعد معبد أنجكور وات. كانت كاماتيفي آية في الذكاء، وامرأة فريدة في عصرها، وكان جميع من في البلاط الملكي يحبونها.

لذلك اندهش شعبها عندما أعلنت أنها ستترك حياة الرفاهية والراحة، وتتجه إلى الشمال في رحلة شاقة تستغرق ستة أشهر، تعبر فيها سبعمائة كيلومتر من الجبال والغابات والمستنقعات. وعندما وصلت كاماتيفي وحاشيتها «تحملهم أفيال ضخمة» إلى الوادي الأخضر الذي تقع فيه لامبون، نحى رعاياها المستقبليون صراعاتهم الداخلية جانبًا على الفور، وأجلسوا الملكة الجميلة الشابة على العرش. حكمت كاماتيفي خمسين عامًا من الحكمة والعدل، وتمكنت من النهوض بمملكتها من الظلام إلى عصر تميز بالتطور الاجتماعي والإنجازات الفنية.

عندما صارت في السبعين من عمرها تنازلت عن العرش، وقسمت مملكتها بالتساوي بين ابنيها التوءمين. ثم أعلنت أنها ستكرس ما بقي من حياتها لله. فدخلت ديرًا بوذيًّا وتنازلت عن كل ممتلكاتها. وعاشت حياة بسيطة تقية في الدير إلى أن ماتت في سن التاسعة والتسعين. وحينئذٍ انتهى عصر الهاريبونشاي الذهبي.

في اللوحة الجدارية الأخيرة تظهر صورة امرأة زاهدة مسنة تحملها مركبة رائعة إلى الفردوس. وتظهر صورة الملكة، وهي أصغر سنًّا وأروع جمالًا، وهي تجلس بجوار تمثال بوذا فوق المركبة التي تحلق في عنان السماء. جلست ناي بواتونج واتانابي التي اختيرت لتكون ضمن مستعمري المريخ على ركبتيها في المعبد في لامبون في تايلاند، ووصلت داخليًّا لروح بطلتها التي عاشت في الماضي البعيد.

قالت في نفسها: عزيزتي كاماتيفي. لقد قمت برعايتي سنوات عمري التي تبلغ ستة وعشرين سنة. والآن أنا على وشك الرحيل إلى مكان لا أعرفه، بالضبط مثلما فعلتِ عندما ذهبت إلى الشمال سعيًّا خلف هاريبونشاي. اهدني بحكمتك وبصيرتك وأنا على أعتاب هذا العالم الجديد الرائع.

٣

كانت يوكيكو ترتدي قميصًا حريريًّا أسود وبنطالًا أبيض وقبعة لونها أبيض وأسود. وتوجهت إلى الجانب الآخر من غرفة المعيشة لتُحدث أخاها. قالت: «وددت لو أتيت معي يا كينجي. فهذه المظاهرة ستكون أكبر مظاهرة من أجل السلام يشهدها العالم.»

ابتسم كينجي لأخته الصغرى. وأجاب: «كنت أتمنى هذا أيضًا يا يوكي. ولكن ليس أمامي سوى يومين على الرحيل، وأريد أن أقضي هذا الوقت مع أمي وأبي.»

دخلت والدتهما الغرفة من الجانب المقابل. وكانت تحمل حقيبة سفر كبيرة وتبدو على عجلة من أمرها كعادتها. قالت: «حزمت كل شيء على أتم وجه. ولكنني وددت لو غيرت رأيك. فهيروشيما ستكون مزدحمةً كالسوق. تقول جريدة «أساهي شيمبون» إنها ستستقبل «مليون» زائر، نصفهم تقريبًا من خارج البلاد.»

قالت يوكيكو وهي تمد يدها لأخذ الحقيبة: «شكرًا يا أمي. كما تعرفين سأنزل أنا وساتوكو في فندق هيروشيما برينس. والآن، لا داعي للقلق. سنتصل بكم كل صباح قبل بدء الأنشطة. وسأعود إلى البيت بعد ظهر يوم الاثنين.»

فتحت الشابة الحقيبة وأدخلت يدها في جيب خاص سحبت منه سوارًا ماسيًّا وخاتمًا يزينه فص من الياقوت الأزرق. وارتدتهما. قالت أمها بلهجة متبرمة: «ألا تعتقدين أنه يجب أن تتركي هذه الأشياء في المنزل؟ تذكَّري أن الكثير من الأجانب سيحضرون. وقد تغريهم مجوهراتك لسرقتها.»

أطلقت يوكيكو ضحكتها المدوية التي يعشقها كينجي. وقالت: «أمي، كم أنتِ قلوقة. فأنت لا تفكرين إلا في السلبيات التي من الممكن أن نواجهها … إننا ذاهبون إلى هيروشيما لحضور الاحتفالات التي تحيي الذكرى الثلاثمائة لإلقاء القنبلة الذرية. وسيحضر الاحتفالات رئيس الوزراء وثلاثة من أعضاء الجهاز الرئيسي بمجلس الحكومات. وسيعزف الكثير من أشهر موسيقيي العالم في هذه الأمسيات. ستكون هذه «تجربة مثرية» كما يقول والدي، بينما كل ما يمكنك التفكير فيه هو من قد يسرق مجوهراتي.»

«عندما كنتُ صغيرة لم يكن من المعتاد أن تسافر فتاتان لم يتما دراستيهما الجامعية في أنحاء اليابان دون رفيق يحميهما …»

قاطعتها يوكي: «أمي، لقد ناقشنا هذا من قبل. إنني في الثانية والعشرين تقريبًا. والعام القادم سأترك البيت، لأقيم بمفردي بعد التخرج من الجامعة، وربما أذهب إلى بلد آخر. لم أعد طفلة. هذا بالإضافة إلى إنني أنا وساتوكو يستطيع كلٌّ منا الاعتناء بالآخر على أكمل وجه.»

نظرت يوكيكو في ساعتها. وقالت: «يجب أن أرحل الآن. إنها غالبًا تنتظرني في محطة المترو.»

اتجهت بخطى رشيقة واسعة إلى والدتها وقبلتها قبلةً يعوزها الاهتمام. ثم عانقت أخاها يوكي عناقًا حارًّا.

همست في أذنيه: «في حفظ الله يا أخي الحبيب. اعتنِ بنفسك وبزوجتك الجميلة على المريخ. إننا جميعًا فخورون بشدة بكما.»

لم يتسنَ لكينجي التعرف على يوكيكو جيدًا قط. فقد كان يكبرها بنحو اثني عشر عامًا. كانت يوكي في الرابعة من عمرها عندما تولى السيد واتانابي منصب رئيس الفرع الأمريكي لشركة إنترناشونال روبوتيكس. فعبرت الأسرة المحيط الهادئ متوجهة إلى إحدى ضواحي سان فرانسيسكو. في تلك الأيام، لم يكن كينجي يهتم بأخته الصغرى كثيرًا. فقد كان أكثر اهتمامًا بحياته الجديدة في كاليفورنيا خاصة بعد أن بدأ الدراسة في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.

عاد الوالدان ويوكيكو إلى اليابان عام ٢٢٣٢ تاركَين كينجي يدرس التاريخ في السنة الثانية من الجامعة. ومنذ ذلك الحين وتواصله مع يوكي محدود للغاية. كان دائمًا ما ينوي أن يقضي بعض الساعات معها وحدها أثناء زياراته السنوية لبيته في كيوتو ولكن هذا لم يحدث قط. ويعود ذلك إما لاستغراقها الشديد في حياتها الخاصة، أو لتكليف والديه له بكثير من الواجبات الاجتماعية، أو لعدم توافر وقت كافٍ لديه.

شعر كينجي بحزن غريب وهو واقف على الباب ينظر إلى يوكيكو وهي تختفي في المدى. وقال لنفسه: سأغادر هذا الكوكب دون أن أحظى بوقتٍ كافٍ لأتعرف على أختي.

كانت والدته تتحدث خلفه حديثًا رتيبًا عن شعورها بأن حياتها ذهبت أدراج الرياح؛ لأن أبناءها لا يحترمونها ورحلوا جميعًا عنها. الآن يرحل ابنها الوحيد ليعيش على المريخ بعد أن شانهم بزواجه من تايلاندية، ولن تراه لما يزيد عن خمس سنوات. أما عن ابنتها الوسطى فعلى الأقل أنجبت لها هي وزوجها المصرفي حفيدتين، ولكنهما ثقيلتا الظل ومملتان كوالديهما …

قاطع كينجي والدته: «كيف حال فوميكو؟ هل سأتمكن من رؤيتها هي وابنتيها قبل الرحيل؟»

«سيأتون غدًا من كوبي قبل العشاء. وعلى الرغم من أنني ليس لدي أي فكرة عما سأطهوه لهم … أتعلم أن تاتسو وفوميكو لا يعلمان ابنتيهما الأكل بالعيدان؟ أتصدق هذا؟ طفل ياباني لا يعرف كيف يستخدم العيدان؟ ألم نعد نقدس شيئًا؟ لقد تخلينا عن هويتنا في سبيل الثراء. كنت أقول لوالدك …»

استأذن كينجي للانصراف وأنقذ نفسه من مونولوج والدته المتبرم لاجئًا إلى غرفة مكتب والده. كانت جدران الغرفة مزدانة بصور فوتوغرافية موضوعة في إطارات، وكأنها السجل الذي يحفر فيه الرجل الناجح ذكريات حياته الشخصية والمهنية. تحمل اثنتان من هذه الصور ذكريات خاصة لكينجي. في إحداها يمسك هو ووالده بجائزة ضخمة منحها نادي البلدة للفائزين بدورة الجولف السنوية للآباء والأبناء. وفي الصورة الأخرى كان السيد واتانابي يقدم ميدالية كبيرة لابنه والسعادة مرتسمة على وجهه وذلك بعد أن فاز كينجي بالجائزة الأولى على مستوى كيوتو في المسابقة الأكاديمية للمدارس الثانوية.

تذكر كينجي شيئًا كان قد نسيه إلى أن شاهد الصورتين مرةً أخرى، وهو أن توشيو ناكامورا، ابن أقرب أصدقاء والده وشريكه في العمل، كان ثاني الفائزين في المسابقتين. في كلتا الصورتين كان وجه ناكامورا، الذي يزيد طوله عن طول كينجي بقليل، متجهمًا من الغضب.

حدَّث كينجي نفسه قائلًا: كل هذا حدث قبل المشاكل التي وقع فيها توشيو بكثير. وتذكر العنوان الرئيسي الذي قرأه في الصحف وتناول إدانة توشيو ناكامورا منذ أربع سنوات «القبض على مسئول كبير في مدينة أوساكا». كان المقال الذي جاء تحت هذا العنوان يوضح أن السيد ناكامورا، الذي كان في هذا الوقت يشغل منصب نائب المدير في مجموعة فنادق توموزاوا، وُجهت إليه اتهامات خطيرة جدًّا تتراوح بين الرشوة والقوادة، وتنتهي بالاتجار في البشر. وفي خلال أربعة أشهر أدين ناكامورا وصدر ضده حكم بالسجن عدة سنوات. انتابت الدهشة كينجي. وظل يتساءل طوال السنوات الأربع تلك: ما الذي حدث لناكامورا؟

وفي خضم الذكريات التي خطرت على باله عن غريمه إبان صباه، انتابه إحساس بالأسف الشديد على كيكو موروساوا، زوجة ناكامورا، التي كان كينجي نفسه يكنُّ لها عاطفة خاصة وهو في السادسة عشرة من عمره عندما كان يعيش في كيوتو. في الواقع ظل كينجي وناكامورا يتنافسان للفوز بحب كيكو طوال عام تقريبًا. وعندما أفصحت كيكو في نهاية الأمر عن أنها تفضل كينجي على توشيو، غضب هذا الشاب غضبًا شديدًا. حتى إنه واجه كينجي ذات صباح بالقرب من معبد ريونجي وهدده باستخدام العنف.

قال كينجي لنفسه: ربما كانت كيكو قد صارت زوجتي أنا لو لم أرحل عن اليابان. نظر من النافذة إلى حديقة الطحالب. كان المطر ينهمر. وفجأة اجتاحته ذكرى مؤلمة أخرى ليوم ممطر عاشه في صباه.

•••

توجه كينجي إلى منزلها ما إن نقل إليه والده الخبر. فتناهى إلى سمعه لحنٌ من ألحان شوبان وهو ينعطف ليدخل الممر المؤدي إلى بيتها. فتحت السيدة موروساوا الباب وتحدثت إليه بصرامة. فقالت: «كيكو تتمرن الآن. ولن تنتهي إلا بعد ما يزيد عن ساعة.»

قال الفتى ذو الستة عشر عامًا: «أرجوك يا سيدتي، أريدها في أمر مهم جدًّا.»

كانت أمها على وشك أن تغلق الباب عندما لمحت كيكو كينجي من النافذة. فتوقفت عن العزف، وأسرعت إليه وعلى وجهها ابتسامة مشرقة غمرت الفتى بالسعادة. قالت: «مرحبًا يا كينجي. ما الأمر؟»

أجاب بغموض: «أمر مهم للغاية. أيمكنك أن تأتي معي لنتمشى؟»

فأعربت أمها عن اعتراضها متعللة بالحفل الموسيقي الذي من المقرر أن تعزف فيه كيكو، ولكن كيكو أقنعتها بأنه يمكنها التوقف عن التمرين مدة يوم واحد دون أن يؤثر ذلك على مستواها. أخذت مظلة ولحقت بكينجي الذي كان يقف أمام المنزل. وما إن ابتعدا عن المنزل حتى تأبطت ذراعه مثلما تفعل دائمًا عندما يمشيان معًا.

قالت كيكو وهما يسيران في طريقهما المعتاد المؤدي إلى التلال التي تقع خلف المنطقة التي يسكنان فيها من كيوتو: «والآن يا صديقي. ما هذا الأمر البالغ الأهمية؟»

أجاب كينجي: «لا أريد أن أطلعك عليه الآن. ليس هنا على أي حال. أريد أن أنتظر حتى نصل إلى المكان المناسب.»

أخذ كينجي وكيكو يضحكان ويثرثران وهما يتوجهان نحو «ممشى الفيلسوف»، وهو ممشى جميل يلتف حول سفح التلال الشرقية ويبلغ طوله عدة كيلومترات. اشتهر هذا الطريق بفضل فيلسوف القرن العشرين نيشيدا كيتارو الذي من المفترض أنه كان يمشي فيه كل صباح. ويمر الممشى بمجموعة من أشهر المناطق ذات المشاهد الطبيعية الخلابة في كيوتو، بما فيها جينكاكو-جي (المقصورة الفضية) والمكان المفضل لدى كينجي وهو المعبد البوذي القديم والمسمى هونين-إن.

خلف هونين-إن وبجواره تقع مقبرة صغيرة بها نحو سبعين أو ثمانين قبرًا وشاهد قبر. وبينما كان كينجي وكيكو يغامران بالتجول في المكان وحدهما في بداية ذلك العام اكتشفا أن المقبرة تضم رفات بضعة أشخاص من أشهر من سكن كيوتو في القرن العشرين، منهم الروائي الشهير جونيشيرو تانيزاكي، والشاعر الطبيب إيواو ماتسو. وبعد اكتشافهما، صارت المقبرة مكان لقائهما المعتاد. وذات مرة، بعد أن قرآ رائعة تانيزاكي، «الأخوات ماكيوكا» التي تدور عن الحياة في مدينة أوساكا في ثلاثينيات القرن العشرين، دخلا في نقاش مرح لما يزيد عن ساعة حول أيٍّ من الأخوات ماكيوكا هي الأقرب شبهًا بكيكو، كل ذلك وهما جالسان بجوار ضريح المؤلف.

في اليوم الذي أخبر فيه السيد واتانابي كينجي بأن الأسرة ستسافر إلى أمريكا، كان المطر قد بدأ ينهمر عند وصول كينجي وكيكو إلى هونين-إن. هناك، انعطف كينجي يمينًا إلى ممشى صغير واتجه إلى بوابة قديمة ذات سقف مبني من القش المنسوج. وكما توقعت كيكو، لم يدخلا إلى المعبد وإنما صعدا السلالم المؤدية إلى المقبرة. غير أن كينجي لم يتوقف عند قبر تانيزاكي. وإنما صعد إلى أعلى، إلى مجموعة مقابر أخرى.

قال كينجي وهو يخرج الكمبيوتر المحمول الإلكتروني الخاص به: «هنا دفن السيد إيواو ماتسو. سنقرأ بعض القصائد التي كتبها.»

جلست كيكو بجانب صديقها، واقترب كلٌّ منهما من الآخر تحت مظلتها التي تتساقط عليها قطرات المطر الخفيف وهو يقرأ ثلاث قصائد. وبعدها قال: «بقيت لدي قصيدة أخيرة؛ قصيدة مميزة صيغت في قالب «هايكو» كتبها أحد أصدقاء ماتسو، يقول فيها:

في أحد أيام شهر يونيو
بعد تناول الآيس كريم المنعش
ودع كلٌّ منا الآخر.

خيم الصمت عدة ثوانٍ بعد أن ألقى كينجي القصيدة غيبًا مرة أخرى. انزعجت كيكو، بل انتابها شيء من الخوف عندما لم يتغير التعبير المتجهم على وجه كينجي. وقالت بصوت خفيض: «تتحدث القصيدة عن الوداع. أتقصد أن تخبرني …»

قاطعها كينجي: «ليس الأمر بيدي يا كيكو.» تردد عدة ثوانٍ. ثم تابع حديثه بعد برهة قائلًا: «عُين والدي في فرع أمريكا. وسنرحل إلى هناك الشهر القادم.»

لم يرَ كينجي مثل تلك النظرة الحزينة على وجه كيكو الجميل من قبل. وحين رفعت إليه هاتين العينين الغارقتين في الحزن، شعر وكأن قلبه سيتمزق إربًا. فعانقها بقوة تحت المطر وهما يبكيان، وأقسم بأنه لن يحب سواها إلى الأبد.

٤

سحبت النادلة الأصغر سنًّا، التي ترتدي كيمونو أزرق فاتح وقد شدت خصرها بوشاح عريض، الباب ودخلت الحجرة. وكانت تحمل صينية عليها جعة ومشروب الساكي.

قال والد كينجي بلطف وهو يرفع الكأس إلى الفتاة كي تضع فيه الساكي: «صُبي لي ساكي من فضلك.»

أخذ كينجي رشفة من الجعة الباردة. وعادت النادلة الأكبر سنًّا في صمت بطبق صغير من المقبلات. وكان في وسطه محار من نوع ما تحيط به صلصة خفيفة القوام، ولكن كينجي لم يستطع التعرف على نوع المحار أو الصلصلة. فهو لم يتناول إلا القليل من هذه الوجبات اليابانية التقليدية منذ أن رحل عن كيوتو قبل سبعة عشر عامًا.

ضرب كينجي كأس الجعة التي يشربها بكأس الساكي التي يحتسيها والده. وقال: «في صحتك. أشكرك يا أبي. إنه لشرف لي أن أتناول العشاء معك هنا.»

كيشو كان هو أشهر مطعم في منطقة كانساي، بل ربما في اليابان كلها. وأسعاره فلكية لأنه يحافظ على عادات الأكل اليابانية بأكملها، فيعتمد على الخدمة الشخصية، ويوفر غرف طعام خاصة، ويقدم أطباقًا موسمية تطهى من أجود المكونات. وكل طبق من هذه الأطباق يتميز بجمال الشكل وروعة المذاق. ولذلك عندما أخبر السيد واتانابي ابنه كينجي أنهما سيتناولان الطعام وحدهما، هما الاثنان فقط، لم يتخيل قط أنهما سيأكلان في كيشو.

كانا يتحدثان عن الرحلة التي سيقوم بها كينجي إلى المريخ. وسأله السيد واتانابي: «كم يبلغ عدد اليابانيين من إجمالي عدد المستعمرين؟»

أجاب كينجي: «عددهم لا يستهان به. إذ يبلغ نحو ثلاثمائة على ما أذكر. فالكثير من ذوي الكفاءة العالية الذين تقدموا إلينا يابانيون. ولم تحظ أي دولة أخرى بعدد أكبر من الممثلين سوى أمريكا.»

فسأله واتانابي: «أتعرف أيًّا من هؤلاء اليابانيين معرفةً شخصيةً؟»

رد عليه كينجي قائلًا: «اثنان أو ثلاثة. من بينهم ياسوكو هوريكاوا التي كانت زميلتي مدة قصيرة في المدرسة الإعدادية بمدينة كيوتو. قد تتذكرها. إنها تلك الفتاة البالغة الذكاء. الفتاة ذات الأسنان الأمامية البارزة. والنظارة الطبية السميكة. إنها تعمل، أو بالأحرى كانت تعمل، كيميائية في شركة داي-نيبون.»

ابتسم السيد واتانابي. وقال: «أظن أنني أتذكرها. هل حضرت إلى المنزل في الليلة التي عزفت فيها كيكو على البيانو؟»

قال بعفوية: «نعم، أظن هذا.» ثم ضحك. وأضاف: «ولكن يصعب عليَّ تذكر أي شيء متعلق بهذه الليلة سوى كيكو.»

أنهى السيد واتانابي مشروب الساكي الخاص به. فجاءت النادلة الصغيرة إلى المنضدة لتملأ الكأس، وقد كانت جالسة على ركبتيها في زاوية الغرفة المفروشة بالحصير الياباني التقليدي دون تطفل منها عليهما. قال السيد واتانابي وهي تنصرف: «كينجي أنا مهتم بأمر المحكوم عليهم.»

قال كينجي: «عم تتحدث يا أبي؟»

رد عليه: «قرأت مقالًا طويلًا في مجلة جاء فيه أن وكالة الفضاء العالمية اختارت عدة مئات من المحكوم عليهم ليكونوا جزءًا من مستعمرة لوويل الخاصة بكم. وأكد المقال أن كل السجناء كانوا يتمتعون بحسن السير والسلوك أثناء مدد سجنهم، فضلًا عن تمتعهم بمهارات مميزة. ولكن لماذا اضطررتم لقبول أفراد محكوم عليهم من الأساس؟»

احتسى كينجي رشفة من الجعة. وأجاب: «في الحقيقة يا أبي، لقد واجهنا صعوبة في عملية الاختيار. أولًا، كان تقديرنا لعدد من سيتقدمون غير واقعي، مما جعلنا نضع معايير اختيار صعبة للغاية. ثانيًا، كان من الخطأ أن نضع شرطًا يقضي بأن يكون الحد الأدنى لمدة المهمة خمس سنوات. فبالنسبة إلى الشباب خاصة، يمثل قرار القيام بأي نشاط يستغرق كل هذه المدة التزامًا صارمًا للغاية. والأهم من كل هذا هو أن الإعلام قام بدور أدى إلى إضعاف عملية الاختيار. ففي الوقت الذي كنا فيه نسعى للحصول على طلبات تقديم، كنا نرى آلاف المقالات في المجلات و«الحلقات الخاصة» في التليفزيون تتناول زوال المستعمرات التي أقيمت على المريخ قبل مائة عام. فخاف الناس من أن قد يعيد التاريخ نفسه وأن تتقطع بهم السبل أيضًا على المريخ.»

صمت كينجي برهة ولكن السيد واتانابي لم يعلق. فتابع هو حديثه قائلًا: «بالإضافة إلى هذا، مر المشروع، كما تعلم، بأزمات مادية متكررة. ولم نبدأ في التفكير في اختيار المحكوم عليهم المهرة المثاليين إلا عندما اضطررنا إلى خفض الموازنة العام الماضي، على أمل أن ينقذنا ذلك من بعض المشكلات المتعلقة بالعاملين وبالميزانية. فهناك الكثير من الإغراءات التي ستدفع المحكوم عليهم إلى التقدم للالتحاق رغم أنهم سيحصلون على رواتب متواضعة. ومنها أن وقوع الاختيار عليهم يعني حصولهم على عفو شامل، ومن ثم فوزهم بالحرية عند عودتهم إلى الأرض بعد مرور السنوات الخمس. كما أن المحكوم عليهم السابقين سيتمتعون بالمواطنة الكاملة في مستعمرة لوويل مثل الجميع، ولن يضطروا لخضوع كل أنشطتهم للمراقبة …»

قطع كينجي حديثه عندما كانت النادلة تضع على المائدة طبقًا مفروشًا بأوراق خضراء متنوعة فوقها قطعتان صغيرتَان من السمك المشوي، وبدا الطبق جميلًا وشهيًّا. التقط السيد واتانابي قطعة سمك بعصتيه. وقال دون أن ينظر إلى ابنه: «لذيذ حقًّا.»

مد كينجي يده نحو قطعة السمك الأخرى. وبدا أن النقاش حول المحكوم عليهم في مستعمرة لوويل قد انتهى. نظر كينجي إلى ما وراء أبيه، حيث رأى الحديقة الجميلة التي كان المطعم يشتهر بها. ورأى جدولًا صغيرًا ينزل على درجات سلم مصقولة ويجري بجوار ست أشجار قزمة خلابة. لطالما كان المقعد المواجه للحديقة يضفي على من يجلس عليه مكانة رفيعة أثناء تناول وجبة يابانية تقليدية. وقد أصر السيد واتانابي على أن يتسنى لكينجي رؤية الحديقة من مقعده على المائدة أثناء عشائه الأخير.

سأل الأب بعد أن فرغ من تناول السمك: «ألم تستطع جذب أي مستعمرين صينيين؟»

هز كينجي رأسه نفيًا. وقال: «فقط عدد قليل من سنغافورة وماليزيا. أما حكومتا الصين والبرازيل فقد منعتا المواطنين من التقدم. قرار البرازيل متوقع بسبب دخول إمبراطورية أمريكا الجنوبية في حرب مع مجلس الحكومات، ولكننا كنا نأمل أن تتخذ الصين موقفًا أقل تشددًا. أعتقد أن مائة عام من العزلة لا يختفي أثرها بسهولة.»

علق السيد واتانابي قائلًا: «لا يمكنك أن تلومهم. فقد عانى بلدهم معاناةً أليمةً أثناء مدة الفوضى العظمى. إذ اختفى رأس المال الأجنبي كله بين عشية وضحاها، وانهار اقتصادهم على الفور.»

قال كينجي: «لقد نجحنا في اختيار القليل من الأفارقة السود، ربما يبلغ عددهم مجتمعين نحو مائة، وكذلك حفنة من العرب. ولكن معظم المستعمرين من البلاد التي تساهم مساهمة كبيرة في وكالة الفضاء العالمية. وهو أمر متوقع.»

فجأة شعر كينجي بالإحراج. وكان مبعث هذا أن الحوار الذي دار بينهما منذ أن دخلا المطعم لم يتناول سواه هو وأنشطته. فما كان من كينجي إلا أن طرح على والده أسئلة حول عمله في شركة إنترناشونال روبوتيكس أثناء تناول الأطباق القليلة التالية. كان السيد واتانابي يشغل الآن منصب مسئول التشغيل الرئيسي في المؤسسة، ودائمًا ما كان يتيه فخرًا وهو يتحدث عن «شركته». إنها أكبر جهة منتجة للآليين المخصصين للعمل في المصانع والمكاتب على مستوى العالم. وبفضل مبيعاتها السنوية أصبحت من بين أكبر خمسين جهة منتجة في هذا المجال على مستوى العالم.

قال السيد واتانابي وقد أصبح ثرثارًا على غير العادة بفعل كئوس الساكي الكثيرة التي احتساها: «سأبلغ الثانية والستين العام القادم، وقد فكرت في أن أتقاعد. ولكن ناكامورا يقول إن هذا سيكون قرارًا خاطئًا. ويقول إن الشركة لا تزال تحتاجني …»

قبل أن تصل الفاكهة عاد كينجي ووالده إلى الحديث حول رحلة المريخ القادمة. قال كينجي إن ناي ومعظم المستعمرين الآسيويين الآخرين الذين كانوا سيسافرون على بينتا أو نينيا وصلوا بالفعل إلى معسكر التدريب الياباني الذي يقع في جنوب جزيرة كيوشو. وإنه سيلحق بزوجته هناك فور أن يغادر كيوتو، وبعد عشرة أيام أخرى من التدريب سينتقلان مع باقي ركاب بينتا إلى محطة فضائية تقع في مدار قريب من الأرض حيث سيتدربون مدة أسبوع على التكيف مع انعدام الجاذبية. وآخر مرحلة من مراحل الرحلة القريبة من الأرض ستكون جولة على متن مركبة فضائية صغيرة مخصصة للمهام قصيرة المدى، تأخذهم من المدار القريب من الأرض إلى محطة فضائية تدور حول الأرض بنفس سرعة دوران الأرض وتقع في المدار المتزامن رقم ٤، حيث يجري حاليًّا تجميع السفينة بينتا وإجراء الاختبارات الأخيرة عليها وتجهيزها للقيام بالرحلة الطويلة إلى المريخ.

أحضرت لهما النادلة الصغيرة كأسي كونياك. قال السيد واتانابي وهو يحتسي رشفة صغيرة من المشروب: «زوجتك رائعة فعلًا. لطالما كنت أرى أن التايلانديات هن أجمل نساء العالم.»

أضاف كينجي بسرعة وقد أحس فجأة بأنه يفتقد عروسه: «إن مَخبرها أيضًا جميل كمظهرها. وهي كذلك ذكية جدًّا.»

قال السيد واتانابي: «إنها تجيد الإنجليزية. ولكن والدتك تقول إنها لا تتقن اليابانية.»

غضب كينجي. وقال: «حاولت ناي أن تتحدث اليابانية — مع أنها لم تدرسها قط — لأن أمي رفضت التحدث بالإنجليزية. لقد تعمدت هذا لتصيب ناي بالارتباك …»

تمالك كينجي نفسه. إذ أحس أن دفاعه عن ناي لا يليق بهذه المناسبة.

فقال لوالده: «معذرةً.»

رشف السيد واتانابي رشفة كبيرة من الكونياك. وقال: «حسنًا يا كينجي، هذه آخر مرة نجلس فيها معًا بمفردنا لخمس سنوات على الأقل. وقد استمتعت كثيرًا بعشائنا وحوارنا.» صمت قليلًا. ثم قال: «لكنَّ هناك موضوعًا آخر أريد مناقشته معك.»

غير كينجي جلسته (إذ لم يعد معتادًا على أن يجلس القرفصاء على الأرض مدة أربع ساعات متواصلة)، وجلس معتدلًا في محاولة لتصفية ذهنه. فقد نبأته نبرة والده بأن «الموضوع الآخر» سيكون خطيرًا.

بدأ السيد واتانابي حديثه قائلًا: «إن اهتمامي بالمحكوم عليهم في مستعمرة لوويل لا ينبع من مجرد فضول عقيم.» توقف ليستجمع أفكاره قبل أن يواصل حديثه. ثم قال: «جاء السيد ناكامورا إلى مكتبي في وقت متأخر من الأسبوع الماضي، في نهاية يوم العمل، وقال لي إن الطلب الثاني الذي تقدم به ابنه للذهاب إلى مستعمرة لوويل رُفِض أيضًا. وطلب مني أن أتحدث معك لتدرس الأمر.»

نزل الكلام على كينجي كالصاعقة. إذ إنه لم يعلم حتى بأن غريم طفولته تقدم بطلب للالتحاق بمستعمرة لوويل. والآن يأتي والده …

رد عليه كينجي ببطء: «لم أشارك في عملية اختيار المستعمرين من فئة المحكوم عليهم. فهذا قسم مختلف تمامًا من المشروع.»

لم ينبس السيد واتانابي ببنت شفة عدةَ ثوانٍ. ثم أكمل بعد أن انتهى من كأس الكونياك: «معارفنا أخبرونا أن الاعتراض القوي الوحيد على الطلب جاء من طبيب نفسي نيوزيلندي، اسمه د. ريدجمور، والذي يرى أن توشيو ابن ناكامورا، رغم حسن سيره وسلوكه أثناء مدة سجنه، لا يزال لم يعترف بأنه قد أخطأ … أعتقد أنك مسئول شخصيًّا عن ضم د. ريدجمور ضمن فريق مستعمرة لوويل.»

صعق كينجي. إذ إن والده لا يطلب منه طلبًا عابرًا. وإنما قام ببحث مفصل في جذور المسألة. فأخذ كينجي يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا؟ ما سر كل هذا الاهتمام؟

قال السيد واتانابي: «إن السيد ناكامورا مهندس عبقري. ويعود الفضل إليه هو شخصيًّا في الكثير من المنتجات التي حققت لنا الريادة في مجالنا. ولكن معين الابتكار في مختبره جف بعض الشيء في الفترة الأخيرة. فقد بدأت إنتاجيته تنخفض تقريبًا منذ أن أُلقي القبض على ابنه وأُدين.»

مال السيد واتانابي على كينجي وهو يستند بمرفقيه على الطاولة. وقال: «فقد السيد ناكامورا ثقته بنفسه. فهو مضطر لزيارة توشيو في معتقله مرة شهريًّا مع زوجته. وهو ما يذكره دومًا بالعار الذي لحق بأسرته. لكن إذا استطاع ابنه الذهاب إلى المريخ فربما …»

فهم كينجي جيدًا ما كان يطلبه منه والده. وأحس أن المشاعر التي ظل يكبحها طويلًا على وشك الانفجار. كان كينجي غاضبًا ومرتبكًا. وكان على وشك أن يخبر والده بأن ما يطلبه «لا يليق» عندما تحدث والده ثانيةً.

قال: «والأمر ظل صعبًا على كيكو وابنتها كذلك. فأيكو في نحو السابعة الآن. وفي عطلة نهاية كل أسبوع يستقلان القطار إلى مدينة آشيا …»

حاول كينجي جاهدًا أن يكبح الدموع في مقلتيه ولكنه لم يستطع. إذ كانت صورة كيكو وهي محطمةً مكتئبةً وتصطحب ابنتها إلى المنطقة المحظورة في زيارة نصف شهرية بصحبة أبيها تفوق قدرته على الاحتمال.

أضاف والده: «تحدثتُ إلى كيكو بنفسي الأسبوع الماضي بناءً على طلب السيد ناكامورا. ووجدتها مكتئبةً للغاية. ولكن بدا عليها السرور عندما أخبرتها أنني سأطلب منك أن تتوسط لزوجها.»

أخذ كينجي نفسًا عميقًا وحدق في وجه والده الذي لا ينم عن أي انفعالات. كان يعرف ما سيفعله. وكان يعرف حقًّا أن هذا «غير لائق»؛ لم يكن خطأ، بل هو غير لائق فحسب. ولكن كان من غير المنطقي أن يظل المرء يعذب نفسه بسبب قرار يعتبر تحصيل حاصل.

أنهى كينجي الكونياك. وقال: «أخبر السيد ناكامورا أنني سأتصل بدكتور ريدجمور غدًا.»

•••

قال كينجي في نفسه وهو ينصرف من التجمع الأسري — الذي انضمت إليه أخته فوميكو وابنتاها — ويهرع إلى الشارع: ماذا لو أخطأ إحساسي؟ سأكون قد أضعت ساعة، أو تسعين دقيقة في الأغلب. انعطف على الفور تجاه التلال. لم يبقَ على الغروب سوى نحو ساعة. قال لنفسه: ستكون هناك، هذه فرصتي الوحيدة لأودعها.

ذهب كينجي أولًا إلى معبد أناراكو-جي الصغير. ودخل إلى المحراب الرئيسي متوقعًا أن يجد كيكو في مكانها المفضل أمام المذبح الخشبي الجانبي، تحيي ذكرى الراهبتين البوذيتين اللتين كانتا من حريم البلاط في القرن الثاني عشر، وانتحرتا عندما أمرهما الإمبراطور توبا الثاني بإنكار تعاليم القديس هونين. لكنه لم يجد كيكو هناك. ولم يجدها كذلك في الخارج في المكان الذي دفنت فيه المرأتان على حافة غابة الخيزران. فبدأ يظن أنه قد جانبه الصواب. وحدث نفسه قائلًا: كيكو لم تأت. ربما تشعر بأن الأمر قد حط من كرامتها.

الأمل الوحيد المتبقي أمامه هو أن يجد كيكو في انتظاره في المقبرة بجانب معبد هونين-إن، وهو المكان الذي أخبرها فيه قبل سبعة عشر عامًا بأنه سيغادر اليابان. خفق قلب كينجي بشدة وهو يصعد الطريق المؤدي إلى المعبد. إذ رأى هيئة امرأة من بعيد جهة اليمين. كانت ترتدي هذه المرأة فستانًا أسود بسيطًا وتقف بجانب مقبرة جونيشيرو تانيزاكي.

مع أنها كانت تتجه إلى ناحية أخرى بجسدها، ومع أنه لم يستطع الرؤية بوضوح في ضوء الشفق الواهن، فقد كان متأكدًا من أن المرأة هي كيكو. فأسرع يصعد الدرجات وهرع إلى المقبرة، ثم توقف في النهاية على بعد نحو خمسة أمتار من المرأة المتشحة بالسواد.

قال وهو يلتقط أنفاسه: «كيكو. إنني سعيد جدًّا …»

قالت المرأة بلهجة رسمية وهي تلتفت مُطرِقة برأسها وتغض نظرها: «سيد واتانابي!» وانحنت انحناءة شديدة وكأنها خادمة. وقالت مرتين باليابانية: «شكرًا جزيلًا لك.» ثم اعتدلت أخيرًا ولكن دون أن ترفع عينيها إليه.

قال بصوت منخفض: «كيكو. أنا كينجي. إنني هنا بمفردي. من فضلك انظري إليَّ.»

أجابت بصوت هامس لم يكد يسمعه: «لا أستطيع. ولكنني أستطيع أن أشكرك على كل ما فعلته لأيكو ولي.» وانحنت ثانية وقالت باليابانية: «شكرًا جزيلًا.»

انحنى كينجي لاإراديًّا ووضع يده أسفل ذقن كيكو. ثم رفع رأسها برفق حتى استطاع أن يرى وجهها. كانت كيكو لا تزال جميلة. ولكنه صُدم عندما رأى الحزن محفورًا في ملامحها الرقيقة.

كانت دموعها تنهمر فشعر بأنها كالسكاكين الصغيرة تمزق قلبه، وتمتم قائلًا: «كيكو.»

قالت: «لا بد أن أرحل. أتمنى لك السعادة.» وأشاحت بوجهها عن يده وانحنت مرةً أخرى. ثم نهضت دون أن تنظر إليه ومشت ببطء في الممر في ظلال الشفق.

تابعها كينجي بعينيه حتى اختفت في المدى. وعندها فقط أدرك أنه كان ينحني على مقبرة تانيزاكي. ولم يستطع أن يرفع عينيه عدة دقائق عن الحرفين الكانجيين المحفورين على الشاهدين الرماديين. كان أحدهما يعني الخواء، والثاني يعني الوحدة.

٥

عندما بُثَّت الرسالة من راما إلى الأرض عبر نظام التتبع بالأقمار الصناعية عام ٢٢٤١ تسببت على الفور في حالة من الذعر. وبالطبع صُنف الفيديو الذي تظهر فيه نيكول على الفور ضمن فئة سري للغاية، في حين حاولت وكالة الاستخبارات العالمية — وهي الجناح الأمني لمجلس الحكومات — فهم الأمر. وسرعان ما نُقِل دزينة من أمهر العملاء إلى المنشأة الآمنة في مدينة نوفوسيبيرسك لتحليل الإشارة التي جاءت من غياهب الفضاء، ولوضع خطة رئيسية لرد الفعل الذي سيتخذه مجلس الحكومات.

وما إن تأكد لهم أنه لا يمكن أن يكون الصينيون أو البرازيليون قد تمكنوا من حل شفرة الإشارة (فإمكاناتهم التكنولوجية لم ترتقِ بعدُ إلى نفس مستوى إمكانات مجلس الحكومات) حتى أرسلوا إشعار الاستلام إلى راما، مما يحول دون إعادة بث فيديو نيكول. وبعدها، ركز العملاء على تفاصيل محتوى الرسالة نفسها.

بدءوا بالقيام ببعض البحث التاريخي. وكان من المعروف أن سفينة الفضاء راما ٢ دمرها وابل الصواريخ النووية الذي أطلق في أبريل من عام ٢٢٠٠ رغم وجود بعض الأدلة (المشكوك فيها) على غير هذا. وظن الجميع أن نيكول دي جاردان — وهي الإنسانة التي من المفترض أنها تظهر في الفيديو — ماتت قبل أن تغادر بعثة نيوتن العلمية راما. ومن المؤكد أنها قد قضت نحبها عندما وقع الدمار النووي. لذلك لا يمكن أن تكون هي التي تتحدث في الفيديو.

ولكن إذا كان الشخص أو الشيء المتحدث في المقطع التليفزيوني عبارة عن تقليد آلي لها أو صورة زائفة منها، يتضح أنه يتفوق على أي تصميمات للذكاء الصناعي على الأرض. ولذا كان الاستنتاج الأولي الذي توصلوا إليه هو أن الأرض تواجه مرة أخرى حضارةً متقدمةً ذات إمكانات مذهلة، إمكانات تتوافق مع المستويات التكنولوجية لسفينتي راما.

وكذلك أجمع العملاء على أن الرسالة تتضمن قطعًا تهديدًا ضمنيًّا. إذا كانت هناك مركبة رامية أخرى في طريقها إلى النظام الشمسي (مع أن محطتي إكسكاليبار لم ترصد أي مركبة بعد) فلا يمكن أن تتجاهل الأرض الرسالة بالتأكيد. وبالطبع هناك احتمال أن يكون الأمر كله مجرد خدعة معقدة دبرها علماء الفيزياء الصينيين العباقرة (هم بالتأكيد أول المشتبه فيهم)، ولكن إلى أن يصبح هذا الاحتمال حقيقة مؤكدة فإن مجلس الحكومات بحاجة إلى خطة حاسمة.

ومن حسن الحظ كان مشروع متعدد الجنسيات يهدف إلى إقامة مستعمرة صغيرة على المريخ بحلول منتصف أربعينيات القرن الثالث والعشرين قد لقي موافقة بالفعل. وعلى مدار العقدين السابقين أعادت بضع رحلات استكشافية إلى المريخ الحماسَ لفكرة تهيئة الكوكب الأحمر، على غرار كوكب الأرض، وجعله صالحًا لسكنى البشر. وكانت توجد مختبرات علمية لا يديرها بشر على المريخ تُجري التجاربَ شديدة الخطورة أو المثيرة للجدل إلى حد يحول دون إجرائها على الأرض. وعلى ضوء ما سبق تصبح أيسر طريقة لتحقيق هدف فيديو نيكول — دون إزعاج سكان الأرض — هي الإعلان عن تأسيس وتمويل مستعمرة أكبر على المريخ. وإذا ما اتضح فيما بعد أن الأمر كله مجرد خدعة يمكن تخفيض حجم المستعمرة إلى الحجم الأساسي المقترح.

وقام أحد العملاء — وهو هندي يدعى رافي سرينيفاسان — بإجراء بحث دقيق في أرشيفات وكالة الفضاء العالمية الهائلة المتعلقة بالأحداث التي وقعت منذ عام ٢٢٠٠ حتى تيقن أن السفينة راما ٢ لم يدمرها قاذفات الفالنكس النووية. قال السيد سرينيفاسان: «من المحتمل أن يكون هذا الفيديو حقيقيًّا، وأن تكون المتحدثة هي بالفعل السيدة نيكول الموقرة.»

رد عليه عميل آخر: «ولكنها كان يجب أن تكون في السابعة والسبعين اليوم.»

قال السيد سرينيفاسان: «لا يوجد في الفيديو ما يشير إلى تاريخ تصويره. وإذا ما قارنت صور السيدة نيكول التي التقطت أثناء البعثة بصور المرأة التي ظهرت في البث الذي وصلنا، فستلاحظ مدى اختلافهما الشديد. فوجهها أكبر، ربما بعشر سنوات. وهذا يشير إلى أنه إذا كانت المتحدثة في الفيديو خدعة أو صورة زائفة، فالأمر يدل على براعة مدهشة.»

ومع هذا كان السيد سرينيفاسان متفقًا معهم على أن الخطة التي وضعتها وكالة المخابرات العالمية هي الخطة المناسبة، وإن كان ما يظهر في الفيديو هو الحقيقة. لذا لم يكن مهمًّا أن يُقنع الجميع بصحة وجهة نظره. واتفق جميع العملاء على أنه ينبغي ألا يعلم بأمر الفيديو إلا أقل عدد ممكن من الناس.

شهدت الأربعون عامًا التي مرت منذ بدء القرن الثالث والعشرين تغيرات ملحوظة على كوكب الأرض. فبعد الفوضى العظمى، ظهر مجلس الحكومات بصفته منظمة هائلة متجانسة تتحكم في المناورات السياسية في الكوكب أو على الأقل تديرها. ولم يخرج عن نطاق نفوذ المجلس سوى الصين؛ إذ دخلت في عزلة بعد التجربة الأليمة التي مرت بها أثناء تلك الأزمة. لكن بعد عام ٢٢٠٠ بدأت تظهر دلائل على أن سلطة المجلس المطلقة بدأت تضعف.

وكان أول هذه الدلائل هو ما حدث في الانتخابات الكورية عام ٢٢٠٩؛ إذ صوت الشعب لمصلحة الدخول في اتحاد فيدرالي مع الصين، بدافع الاستياء من مجموعة من الأنظمة السياسية الفاسدة المتعاقبة التي ازداد أطرافها ثراءً على حساب الشعب. والصين هي البلد الوحيد من بين البلدان الكبرى في العالم التي تختلف حكومتها اختلافًا كبيرًا عن الرأسمالية المنظمة المعمول بها في الدول الغنية في أمريكا الشمالية وآسيا وأوروبا. فكانت الحكومة الصينية عبارة عن نظام ديمقراطي اشتراكي يقوم على المبادئ الإنسانية التي اتبعها القديس الإيطالي الكاثوليكي مايكل السيينيُّ الذي عاش في القرن الثاني والعشرين.

أذهلت نتائج الانتخابات الكورية الصادِمة مجلس الحكومات، بل العالم أجمع. فلجأت وكالة الاستخبارات العالمية إلى إشعال حرب أهلية، وعندما نجحت في هذا (٢٢١١-٢٢١٢) كانت الحكومة الكورية الجديدة وحلفاؤها الصينيون قد ملكوا عواطف وألباب الشعب. وقُمع التمرد بسهولة، وصارت كوريا جزءًا دائمًا من الاتحاد الصيني.

أعلن الصينيون صراحة أنه ليس لديهم أي نية في تصدير نمط الحكومة المتبع لديهم عن طريق القيام بعمل عسكري، ولكن بقية دول العالم لم تصدقهم. وضاعف مجلسُ الحكومات الميزانيةَ العسكرية وميزانيةَ الاستخبارات في المدة ما بين ٢٢١٠ و٢٢٢٠، مع عودة التوتر السياسي إلى الساحة العالمية.

وفي أثناء هذه المدة، وتحديدًا عام ٢٢١٨، انتخب ثلاثمائة وخمسون مليون برازيلي جنرالًا يتمتع بشخصية آسرة، يدعى جواو بيريرا، لرئاسة البلاد. كان بيريرا يرى أن مجلس الحكومات يظلم أمريكا الجنوبية ويبخسها قدرها (وكان محقًّا في هذا) وطالب بإجراء تغييرات في طبيعة المجلس من شأنها إصلاح المشكلات. وعندما رفض المجلس، أحيا بيريرا النزعة الإقليمية لأمريكا الجنوبية وذلك بإعلانه عدم الالتزام بميثاق المجلس. وانسحبت البرازيل فعليًّا من المجلس وحذت حذوها معظم حكومات باقي دول أمريكا الجنوبية على مدار العقد التالي، وشجعهم على هذا القوة العسكرية الهائلة التي تتمتع بها البرازيل، والتي مكنتها من النجاح في التصدي لقوات حفظ السلام التابعة للمجلس. نتج عن هذا ظهور لاعب ثالث على الساحة الجيوسياسية العالمية، ألا وهو ما يشبه إمبراطورية برازيلية يرأسها باقتدار الجنرال بيريرا.

في البداية هدد الحظر الاقتصادي الذي فرضه المجلس على البرازيل وباقي دول أمريكا الجنوبية، بأن يعيدهما إلى الفقر المدقع الذي عاث فسادًا في المنطقة في أعقاب الفوضى العظمى. ولكن بيريرا لم يستسلم. فما دامت الدول المتقدمة في أمريكا الشمالية وآسيا وأوروبا ترفض شراء السلع الشرعية التي تصدرها بلاده، فقد قرر هو وحلفاؤه أن يصدروا لهم المنتجات غير الشرعية. وبهذا أصبحت تجارة المخدرات هي التجارة الرئيسية للإمبراطورية البرازيلية. وحققت هذه السياسة نجاحًا كبيرًا. إذ تدفق سيل يضم شتى أشكال وألوان المخدرات من أمريكا الجنوبية إلى باقي العالم بحلول عام ٢٢٤٠.

في هذه الأجواء السياسية، تلقت الأرض فيديو نيكول. ومع أن سيطرة المجلس على الكوكب أصابها بعض الوهن، فإنه لا يزال يمثل نحو سبعين في المائة من السكان، وتسعين في المائة من ثروة الأرض. لذا كان من الطبيعي أن يتحمل المجلس ووكالة الفضاء العالمية التابعة له مسئولية الرد عليه. ومع الالتزام بالمعايير الأمنية التي حددتها وكالة الاستخبارات العالمية التزامًا دقيقًا، أُعلن عن مضاعفة عدد من سيسافرون إلى المريخ بهدف الانضمام إلى مستعمرة لوويل خمسة أضعاف في فبراير من عام ٢٢٤٢. وتقرر أن موعد المغادرة من الأرض سيكون في أواخر صيف عام ٢٢٤٥ أو في أوائل الخريف من العام نفسه.

•••

خرج الأربعة الآخرون الذين كانوا في الغرفة — وجميعهم لهم شعر أشقر وعيون زرقاء ومن الأسرة نفسها المنحدرة من مدينة مالمو بالسويد — تاركين كينجي واتانابي وزوجته ناي بمفردهما. وظلت ناي ترنو إلى كوكب الأرض الذي كان يقع أسفلها بخمسة وثلاثين ألف كيلومتر. فلحق بها كينجي عند نافذة الرصد الضخمة.

قالت ناي لزوجها: «لم أدرك تمامًا ما يعنيه أن يكون المرء في مدار تزامني بالنسبة إلى الأرض. إن الأرض لا تتحرك من هذه البقعة. وإنما تبدو وكأنها معلقة في الفضاء.»

ضحك كينجي. وقال: «في الواقع نحن والأرض نتحرك، وبسرعة كبيرة أيضًا. ولكنها دائمًا ما تبدو لنا بنفس الصورة لأن زمن دوراننا مساوٍ لزمن دوران الأرض.»

قالت ناي وهي تبتعد عن النافذة، في خفها المنزلي: «كان الأمر مختلفًا في المحطة الفضائية الأخرى. فالأرض من هناك تبدو مهيبة وديناميكية ومبهرة أكثر بكثير.»

رد عليها: «ولكننا لم نكن نبعد عن السطح سوى ثلاثمائة كيلومتر، وبالطبع …»

سمعا صوتًا يصيح قائلًا «اللعنة» من الجانب الآخر من قاعة الرصد. وعندما التفتا رأيا شابًّا قويًّا يرتدي قميصًا ذا نقوش مربعة وبنطال جينز أزرق، يتقلب في الهواء على بعد ما يزيد بقليل عن متر من الأرض، وكانت حركته الهوجاء تتسبب في سقوطه بزاوية جانبية. فاتجه كينجي إلى الجانب الآخر وساعد الوجه الجديد في الوقوف معتدلًا على قدميه.

قال الرجل: «أشكرك. نسيت أنني يجب أن أحتفظ بقدم على الأرض دائمًا. لا يمكن لفلاح مثلي أن يتكيف مع انعدام الجاذبية الغريب اللعين هذا.»

كانت لكنته جنوبية واضحة. استدرك قائلًا: «آه، آسف على التفوه بهذه الألفاظ يا سيدتي. لكن ما باليد حيلة؛ فقد عشت بين البقر والخنازير طويلًا.» ومد يده لكينجي مصافحًا. وأضاف: «أنا ماكس باكيت، من مقاطعة دي كوين بولاية آركنسو.»

عرَّفه كينجي بنفسه وبزوجته. كان ماكس يتمتع بوجه طلق بشوش. قال: «تعرفان، عندما سجلت اسمي للذهاب إلى المريخ لم أكن أعرف أننا سنعيش في حالة انعدام الجاذبية هذه طوال الرحلة اللعينة … ماذا سيحدث لدجاجاتي المسكينة؟ ربما لن تستطيع أن تضع بيضة واحدة.»

اتجه ماكس إلى النافذة. وقال: «إنه تقريبًا وقت الظهيرة في بلدي هناك على ذلك الكوكب السخيف. لعل أخي كلايد يفتح الآن زجاجة جعة وزوجته وينونا تعد له شطيرة.» وصمت عدة ثوانٍ، ثم التفت إلى الزوجين. وقال: «ماذا ستعملان على المريخ؟»

أجاب كينجي: «إنني مؤرخ المستعمرة. أو على الأقل واحد من مؤرخي المستعمرة. وزوجتي ناي معلمة، ستقوم بتدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية.»

قال ماكس باكيت: «تبًّا. كنت أتمنى أن تكونا من الفلاحين القادمين من فيتنام أو لاوس. إذ كنت أريد أن أتعلم شيئًا عن زراعة الأرز.»

سألت ناي بعد لحظات من الصمت: «سمعتك تتحدث عن الدجاج؟ هل سيكون معنا دجاج على بينتا؟»

أجاب ماكس باكيت: «سيدتي، معنا خمسة عشر ألفًا من أحسن دجاج باكيت في أقفاص في سفينة بضائع تقف في الطرف الآخر من هذه المحطة. لقد دفعت وكالة الفضاء العالمية مبلغًا ضخمًا مقابل هذا الدجاج، حتى إن كلايد ووينونا يمكنهما أن يستريحا عن العمل مدة عام إن أرادا … إذا لم يكن هذا الدجاج قادم معنا، فأود أن أعرف ما الذي سيفعلونه به.»

ذكَّر كينجي ناي قائلًا: «لا يشغل الركاب سوى عشرين في المائة من مساحة بينتا وسانتا ماريا. وباقي المساحة تحتلها الإمدادات وباقي البضائع. فمجموع ركاب بينتا لن يتعدى ثلاثمائة راكب، معظمهم من مسئولي وكالة الفضاء العالمية وباقي الشخصيات الرئيسية اللازمة لتدشين المستعمرة …»

قاطعه ماكس: «تدشين المستعمرة؟! اللعنة يا رجل، تتكلم مثل الآليين.» ثم ابتسم لناي. وتابع حديثه قائلًا: «بعد أن قضيت عامين في العمل مستعينًا بأحد المزارعين الآليين الناطقين، رميت ذلك الحقير، واستبدلت به نسخة أقدم من النوع الصامت.»

ضحك كينجي بعفوية. وقال: «أعتقد أنني فعلًا أكثر من استخدام مصطلحات وكالة الفضاء العالمية. فقد كنت من أول المدنيين الذي اختيروا للعمل في نيو لوويل وكنت أتولى عملية الاختيار في الشرق.»

وضع ماكس سيجارة في فمه ثم أخذ يقلب عينيه في أنحاء غرفة الرصد وقال: «لا أرى لافتة التدخين في أي مكان هنا. لذا أعتقد أنني إذا دخنت ستنطلق كل آلات الإنذار.» وضع السيجارة خلف أذنه. وقال: «لا تحب وينونا أن تراني أنا أو كلايد ندخن. تقول إنه لم يعد أحد يدخن إلا الفلاحون وفتيات الليل.»

ضحك ماكس ضحكةً مجلجلةً. وضحك كينجي وناي أيضًا. فقد كان خفيف الظل. وقال ماكس وعيناه تلمعان: «بمناسبة الحديث عن فتيات الليل، أين السجينات اللاتي رأيتهن على التليفزيون؟ آه، بعضهن فاتنات. على أي حال منظرهن أفضل بكثير من منظر الدجاج والخنازير.»

قال كينجي: «كل المستعمرين الذي كانوا سجناء على الأرض سيسافرون على متن سانتا ماريا. وسيصلون بعدنا بنحو شهرين.»

قال ماكس: «إنك تعرف الكثير جدًّا عن هذه البعثة. وأنت لا تتحدث بإنجليزية مشوهة مثل اليابانيين الذين قابلتهم في مدينتي ليتل روك وتيكساركانا. هل تحتل مكانة مميزة؟»

أجاب كينجي وقد عجز عن كتمان ضحكته: «كلا. كما أخبرتك، أنا المؤرخ الرئيسي في المستعمرة ليس إلا.»

كان كينجي على وشك أن يفضي إلى ماكس بأنه عاش في الولايات المتحدة مدة ست سنوات — وهو ما يفسر طلاقته في الإنجليزية — عندما فُتِح باب القاعة ودخل كهل جليل يرتدي بذلة رمادية ورابطة عنق سوداء. قال الرجل لماكس الذي كان قد أعاد السيجارة غير المشتعلة إلى فمه: «أستميحك عذرًا، هل دخلت حجرة التدخين خطأً؟»

أجاب ماكس: «لا يا بوبس. هذه الحجرة هي حجرة الرصد. إنها أجمل من أن يسمحوا لنا بالتدخين بها. لا يسمح بالتدخين إلا في حجرة صغيرة بلا نوافذ بجانب الحمامات. أخبرني الرجل الذي أجرى المقابلة الشخصية معي من وكالة الفضاء العالمية …»

أخذ الكهل يحدق في ماكس مثلما يحدق عالمُ الأحياء في فصيلة نادرة بغيضة. ثم قاطعه قائلًا: «اسمي ليس بوبس أيها الشاب، اسمي بيوتر. بيوتر ميشكين، إن شئت الدقة.»

قال ماكس وهو يمد يده مصافحًا: «تشرفنا يا بيتر. أنا ماكس. وهذان الزوجان وابانيابي. إنهما من اليابان.»

قال كينجي مصححًا: «أنا كينجي واتانابي. وهذه زوجتي ناي من تايلاند.»

قال بيوتر ميشكين بطريقة رسمية: «يا سيد ماكس اسمي بيوتر وليس بيتر. يكفيني أنني سأضطر إلى التحدث بالإنجليزية لخمس سنوات. أكثير عليَّ أن أطلب أن يحتفظ اسمي بنطقه الروسي الأصلي؟»

قال ماكس وهو يبتسم مرة أخرى: «حسنًا يا بيوتر. ماذا تعمل؟ لا، دعني أخمن … أنت حانوتي المستعمرة.»

لجزء من الثانية خاف كينجي أن ينفجر السيد ميشكين غاضبًا. ولكن، على عكس ما توقع، بدأت ابتسامة صغيرة جدًّا ترتسم على وجهه. وقال ببطء: «من الواضح يا سيد ماكس أنك تتمتع بروح الدعابة. أرى أن هذه ستكون ميزة في رحلة فضائية طويلة ومملة.» وصمت لحظة. ثم قال: «لعلمك، أنا لست حانوتيًّا. أنا متخصص في القانون. وكنت عضوًّا في المحكمة السوفيتية العليا منذ عامين، ولكنني تقاعدت بإرادتي سعيًّا خلف «مغامرة جديدة».»

صاح ماكس باكيت: «تبًّا! تذكرت الآن. لقد قرأت عنك في مجلة «تايم» … آه! يا سيادة القاضي، ميشكين، أنا آسف. لم أتعرف عليك …»

قاطعه القاضي وهو يبتسم ابتسامة عريضة: «لا عليك. سرني أن أكون مجهولًا لحظة، وأن يحسبني الناس حانوتيًّا. لعل تعبيرات وجه القاضي المحنك تشبه في صرامتها سحنة الحانوتي. بالمناسبة يا سيد …»

«باكيت يا سيدي.»

واصل القاضي حديثه قائلًا: «بالمناسبة يا سيد باكيت، أتحب أن تأتي معي لنحتسي مشروبًا في البار؟ سيكون مذاق الفودكا رائعًا جدًّا الآن.»

أجاب ماكس وهو يتجه نحو الباب مع القاضي: «وكذلك مشروب التيكيلا. لا أعتقد أنك تعرف ما يحدث عندما تسقي الخنازير التيكيلا، أليس كذلك؟ … كنت أعلم أنك لا تعرف … حسنًا، أنا وأخي كلايد …»

وخرجا من الباب تاركين كينجي وناي بمفردهما مرةً أخرى. نظر الزوجان أحدهما إلى الآخر وضحكا. قال كينجي: «لا تظنين أنهما سيصبحان صديقين، أليس كذلك؟»

أجابت مبتسمةً: «مستحيل. يا لهما من شخصيتين مختلفتين!»

قال كينجي «يعد ميشكين من أمهر قضاة هذا القرن. وآراؤه تُدرس في مناهج كليات القانون السوفيتية. أما باكيت فكان رئيس اتحاد مزارعي جنوب غرب آركنسو. وهو ضليع في تقنيات الزراعة، فضلًا عن حيوانات الحقل.»

سألته ناي: «أتعرف خلفية كلِّ مَن في نيو لوويل؟»

أجاب كينجي: «كلا. ولكنني درست ملفات كلِّ مَن على متن بينتا.»

لفت ناي ذراعيها حول زوجها. وقالت: «قل لي ما تعرفه عن ناي بواتونج واتانابي.»

«معلمة تايلاندية، تتقن الإنجليزية والفرنسية، شديدة الذكاء، وماهرة في عملها …»

قاطعته ناي بقبلة. وقالت: «نسيت أهم صفة لها.»

«ما هي؟»

قبَّلته ثانية. وقالت: «عروس كينجي واتانابي مؤرخ المستعمرة التي تعشقه.»

٦

كان معظم سكان العالم يشاهدون التليفزيون أثناء تدشين بينتا رسميًّا وذلك قبل ساعات من موعد مغادرتها إلى المريخ بركابها وبضائعها. كان النائب الثاني لرئيس مجلس الحكومات — وهو سويسري متخصص في مجال العقارات يدعى هينريك جينزر — حاضرًا في المدار التزامني رقم أربعة للمشاركة في مراسم التدشين. حيث ألقى خطابًا قصيرًا أشاد فيه بإتمام تجهيز ثلاث سفن فضائية ضخمة، وبدء «عهد جديد من استعمار المريخ». وعندما فرغ السيد جينزر من إلقاء خطابه قدم للجمهور السيدَ إيان ماكميلان، قائد سفينة بينتا الاسكتلندي، وألقى ماكميلان خطبة استغرقت ست دقائق، ذكَّر العالمَ فيها بالأهداف الأساسية للمشروع، وكان خطيبًا مملًّا ونموذجًا يجسد بيروقراطية وكالة الفضاء العالمية.

قال في بداية خطبته: «هذه المركبات الثلاث ستحمل نحو ألفي شخص في رحلة تقطع مائة مليون كيلومتر إلى كوكب آخر، هو المريخ، حيث نؤسس لوجود بشري دائم هناك هذه المرة. سيُنقل معظم مستعمري المريخ المستقبليين في السفينة الثانية المسماة نينيا، التي ستغادر من هنا بعد ثلاثة أسابيع من اليوم بحساب المدار التزامني رقم أربعة. أما سفينتنا بينتا والسفينة الأخيرة المسماة سانتا ماريا فستحمل كلٌّ منهما نحو ثلاثمائة راكب وآلاف الكيلوجرامات من الإمدادات والمعدات اللازمة لإمداد المستعمرة بأسباب الحياة.»

بعد ذلك حاول القائد ماكميلان إضفاء لمسة أدبية على خطابه، فأخذ يقارن بين الرحلة المرتقبة والرحلة التي قام بها كريستوفر كولومبس منذ سبعمائة وخمسين عامًا، متجنبًا بحذر أي ذكر لما حل بالمجموعة الأولى من القواعد التي أقيمت على المريخ في القرن الماضي. كان أسلوب الخطاب الذي كُتب له رائعًا، ولكن إلقاء ماكميلان الرتيب الممل حوَّل الخطاب إلى محاضرة تاريخية مملة وثقيلة، على الرغم من أنه كان سيكون خطابًا آسرًا إذا ما ألقاه خطيب بارع.

أنهى ماكميلان خطابه بإلقاء الضوء على سمات مجموعة المستعمرين، مستشهدًا بإحصاءات حول سنهم ووظائفهم والبلاد التي جاءوا منها. ثم لخص حديثه قائلًا: «هؤلاء الرجال والنساء إذن هم عينة تمثل الجنس البشري بكل جوانبه تقريبًا. أقول «تقريبًا» لأن هناك صفتين على الأقل مشتركتين في هذه المجموعة لا يمكن أن نجدهما في مجموعة عشوائية من البشر بهذا الحجم. أولًا، إن ساكني مستعمرة لوويل غاية في الذكاء، فمتوسط ذكائهم يزيد على ١٫٨٦. وثانيًا، إنهم شجعان، وهذا بديهي وإلا لما كانوا تقدموا للقيام بمهمة صعبة تستغرق وقتًا طويلًا في بيئة جديدة مجهولة وقبلوا القيام بهذا.»

عندما فرغ القائد ماكميلان، قدم له أحد الحاضرين زجاجة شامبانيا صغيرة، ففتحها فوق نموذج المركبة بينتا الذي يبلغ مقياس رسمه ١/١٠٠ والمعروض خلفه هو وأصحاب المقام الرفيع على المنصة. وبعد لحظات بدأ ماكميلان وجينزر المؤتمر الصحفي وفقًا للجدول الموضوع في الوقت الذي كان فيه المستعمرون يغادرون القاعة ويستعدون لركوب بينتا.

•••

«إنه أحمق.»

«بل هو بيروقراطي متواضع الكفاءة.»

«إنه أحمق لعين.»

كان ماكس باكيت والقاضي ميشكين يتحدثان عن القائد ماكميلان وهما يتناولان غداءهما.«إنه ليس ظريفًا على الإطلاق.»

«بل هو يعجز عن تقدير الأشياء غير المألوفة.»

كان ماكس يستشيط غضبًا. فقد وبخه طاقم قيادة بينتا في جلسة استماع غير رسمية عُقدت في ساعة مبكرة من ذلك الصباح. وكان وكيله فيها صديقه القاضي ميشكين الذي كان له الفضل في منع الموقف من التفاقم.

«ليس من حق أولئك الحمقى الحكم على تصرفاتي.»

رد عليه القاضي قائلًا: «من حيث المبدأ، معك كل الحق يا صديقي. ولكننا نعيش في ظل ظروف استثنائية على مركبة الفضاء هذه. فهم يمثلون السلطة هنا، على الأقل حتى نصل إلى مستعمرة لوويل ونقيم حكومتنا الخاصة … ومهما يكن، لا ينطوي الأمر على إساءة حقيقية لك. فوصف تصرفاتك بأنها «غير لائقة» ليس من شأنه أن يضايقك أبدًا. كما أن الأمر كان من الممكن أن يتفاقم أكثر.»

قبل ليلتين أقيم حفل بمناسبة أن مركبة بينتا قطعت نصف مسافة الرحلة من الأرض إلى المريخ. في الحفل، طوال ما يزيد على ساعة لم يكف ماكس عن مغازلة شابة جميلة تدعى أنجيلا ريندينو، وهي من بين طاقم مساعدي ماكميلان. عندئذٍ تحدث الرجل الاسكتلندي الممل مع ماكس على انفراد ونصحه بحزم بأن يترك أنجيلا وشأنها.

رد عليه ماكس بعقلانية قائلًا: «دعها تقل ذلك بنفسها.»

فقال له: «إنها شابة غريرة. وهي مهذبة إلى درجة تمنعها أن تعبر لك عن مدى نفورها من دعاباتك السمجة.»

كان ماكس يستمتع بوقته حتى تلك اللحظة. سأل ماكميلان بعد أن ملأ كأسًا آخر من المارجاريتا قائلًا: «وما شأنك أنت؟ أيها القائد؟ أهي ملكية خاصة بك أم ماذا؟»

احمر وجه إيان ماكميلان بشدة. وأجاب بعد ثوانٍ: «يا سيد باكيت، إذا لم تتحسن سلوكياتك، فسأضطر إلى حبسك في غرفتك.»

أفسدت المشادة التي اندلعت بينه وبين ماكميلان أمسيته. فقد أغضبه استخدام القائد لسلطته الرسمية في موقف شخصي بحت. عاد ماكس إلى الغرفة التي يقيم فيها مع أمريكي آخر يدعى ديف دينسون — وهو حارس غابات كئيب قادم من ولاية أوريجون — واحتسى بسرعة زجاجة كاملة من التيكيلا. وعندما ثمل، انتابه شعور بالإحباط وبالحنين إلى الوطن. وعندها قرر أن يذهب إلى مركز الاتصالات ليتصل بأخيه كلايد في ولاية آركنسو.

كان الوقت قد تأخر للغاية. وحتى يصل ماكس إلى مركز الاتصالات كان عليه أن يقطع المركبة بأكملها مارًا بالردهة العامة التي انتهى فيها الحفل لتوِّه، ثم بغرف القادة. وفي الجناح الرئيسي لمح ماكس أنجيلا ريندينو وهي تتأبط ذراع إيان ماكميلان في طريقهما إلى غرفته الخاصة.

قال ماكس في سره: «الوغد.»

أخذ ماكس السكران يقطع الرواق أمام غرفة ماكميلان جيئةً وذهابًا وموجة غضبه ترتفع شيئًا فشيئًا. وبعد خمس دقائق راودته فكرة أعجبته. إذ تذكر ماكس صيحة الخنزير التي كان يجيدها وهو في جامعة آركنسو وحاز بفضلها جائزة، فأطلق صيحة عالية شنيعة شقت سكون الليل.

صاح مقلدًا صوت الخنزير: «سوو-ييي.»

وأعاد الصرخة مرة أخرى، ثم اختفى في لمح البصر، وعندئذ انفتحت جميع الأبواب في جناح القادة (بما فيها باب ماكميلان) بحثًا عن مصدر هذا الإزعاج. وأصيب القائد ماكميلان بانزعاج شديد عندما رآه جميع أفراد طاقمه هو والآنسة أنجيلا وهما يخرجان من غرفته عاريَين.

•••

تحولت الرحلة إلى المريخ إلى شهر عسل ثانِ لكينجي وناي. إذ لم يكن أيٌّ منهما مكلفًا بالكثير من العمل. فالرحلة لم تكن زاخرة بالأحداث، على الأقل من وجه نظر مؤرخ، ولم تكن ناي مثقلة بواجبات تُذكر لأن معظم تلاميذ المرحلة الثانوية كانوا على متن السفينتين الأخريين.

قضى آل واتانابي عدة أمسيات في جلسات سمر مع القاضي وماكس باكيت. وكانوا كثيرًا ما يلعبون الورق (كان ماكس بارعًا في لعبة البوكر بقدر ما كان سيئًا في لعبة البريدج) ويتحدثون عن أحلامهم لمستعمرة لوويل وعن الحياة التي تركها كلٌّ منهم على الأرض.

عندما أصبحت بينتا على بعد ثلاثة أسابيع من المريخ، أعلن طاقمها أن الاتصالات ستنقطع مدة يومين وحث الجميع على الاتصال بأهلهم قبل أن تصبح أنظمة الإرسال والاستقبال خارج الخدمة مؤقتًا. ولما كان ذلك التوقيت يتزامن مع فترة عطلة عيد الميلاد على الأرض، فقد كان التوقيت المناسب لإجراء الاتصالات الهاتفية.

كان ماكس يمقت ما يرتبط بالاتصالات الهاتفية من تأخير زمني وحوارات طويلة من طرف واحد. وبعد أن استمع إلى حديث غير مترابط حول الخطط التي وضعها كلايد ووينونا لعيد الميلاد في آركنسو أخبرهما ماكس بأنه لن يتصل ثانيةً لأنه يكره «الانتظار خمس عشرة دقيقة حتى يتضح ما إذا كان من أحدثه قد ضحك على دعاباتي أم لا».

تساقطت الثلوج على كيوتو في وقت مبكر ذلك العام. فأعد والدا كينجي فيديو يظهر فيه معبد جينكاكو-جي ومعبد هونين-إن وهما مغطيان بطبقة رقيقة من الثلوج؛ لولا وجود ناي بجوار كينجي لشعر بحنين جارف إلى الوطن. وأجرت ناي مكالمة هاتفية قصيرة إلى تايلاند، هنأت فيها إحدى أخواتها بالحصول على منحة للدراسة بالجامعة.

أما بيوتر ميشكين فلم يتصل بأحد. إذ إن زوجة ذلك الروسي العجوز توفيت ولم يكن له أبناء. قال بيوتر لماكس: «لدي ذكريات رائعة، ولكن لم يبقَ لي على الأرض أي شيء أرتبط به ارتباطًا شخصيًّا.»

في أول أيام انقطاع الاتصالات المحدد سلفًا، أُعلن عن إذاعة برنامج مهم، وذلك في الساعة الثانية بعد الظهر، وأنه على الجميع مشاهدته. فدعا كينجي وناي ماكس والقاضي إلى مشاهدته في سكنهما الصغير.

قال ماكس: «تُرى أي محاضرة سخيفة هذه»، معربًا — كعادته — عن معارضته للبيانات الرسمية التي يعتبرها مضيعة للوقت.

وعند بدء عرض الفيديو، ظهر رئيس مجلس الحكومات ومدير وكالة الفضاء العالمية جالسَين معًا خلف مكتب ضخم. شدد رئيس مجلس الحكومات على أهمية الرسالة التي هم على وشك تلقيها من فيرنر كوخ، مدير وكالة الفضاء العالمية.

بدأ الدكتور كوخ حديثه قائلًا: «أيها السادة الركاب، قبل أربع سنوات حلت أنظمة التتبع بالأقمار الصناعية شفرة إشارة متناسقة بدا أنها قادمة من غياهب الفضاء بالاتجاه العام للنجم إبسيلون إريداني. وبعد تحليل الإشارة كما يجب، وجدنا بها فيديو مدهشًا ستشاهدونه كاملًا في غضون خمس دقائق.

كما ستسمعون، يعلن الفيديو عن عودة مركبة فضاء من مركبات راما إلى نظامنا الشمسي. في عامي ٢١٣٠ و٢٢٠٠ زارت نظامنا الشمسي أسطوانتان عملاقتان يبلغ طولهما خمسين كيلومترًا، وعرضهما عشرين كيلومترًا، وكانتا تتحركان في مدار حول الشمس، هاتان الأسطوانتان صنعهما ذكاء فضائي مجهول لغرض لم نعرفه بعد. هذا، وقد قام الدخيل الثاني — الذي عادةً ما يشار إليه بمركبة راما الثانية — بتعديل السرعة وهو في مدار كوكب الزهرة مما جعله يقع في دائرة تأثير مع الأرض. فأطلقنا وابلًا من الصواريخ النووية ليواجه الأسطوانة الفضائية ويدمرها قبل أن تقترب من كوكبنا بدرجة تمكنها من إلحاق أي ضرر به.

الفيديو التالي يدعي أن مركبة أخرى من تلك المركبات الراميَّة جاءت إلى المنطقة المجاورة لكوكبنا بهدف واحد، هو الحصول على عينة تمثل الجنس البشري قوامها ألفان من البشر بُغيَة «الملاحظة». ومهما بدا لنا هذا الإدعاء غريبًا يبقى من الجدير بالذكر أن الرادار الخاص بنا أكد بالفعل أن هناك مركبة من طراز راما دخلت مدار المريخ قبل أقل من شهر.

لسوء الحظ يجب أن نأخذ هذه الرسالة الغريبة القادمة من غياهب الفضاء على محمل الجد. لذا أوكلنا إليكم، أنتم المستعمرين الذين تستقلون بينتا، مهمةَ مقابلة الجسم الجديد في مدار المريخ. ندرك أن هذا النبأ سينزل كالصاعقة على معظمكم، ولكن لم يكن أمامنا الكثير من الخيارات المنطقية. وإذا كان هذا الأمر لا يعدو أن يكون خدعة كبيرة أعدها عبقري مخبول، وهذا ما نرجحه، فسيصبح عليكم مواصلة استعماركم للمريخ وفقًا للتصور الأساسي له بعد هذا الانحراف البسيط عن الخطة الرئيسية. ولكن إذا كان الفيديو الذي ستشاهدونه الآن صادقًا فعلًا، فسيكون عليكم أنتم وزملاؤكم على متن نينيا وسانتا ماريا أن تقوموا بدور الفريق الممثل للبشر الذي سيراقبه الذكاء القادم من راما.

أظن أنكم تستوعبون أن مهمتكم الآن تأتي على قائمة أولويات جميع أنشطة مجلس الحكومات. وأظن أيضًا أنه بوسعكم تفهم حاجتنا إلى السرية. فمن هذه اللحظة فصاعدًا، وحتى يتم الفصل في موضوع راما بطريقة أو بأخرى، سيخضع الاتصال بين مركبتكم والأرض لسيطرة دقيقة. وستراقب وكالة الاستخبارات العالمية كل الدوائر الكهربائية الصوتية. سنخبر أصدقاءكم وأسركم أنكم آمنون، وأنكم هبطتم على المريخ وسنبرر عدم تواصلكم معهم بتعطل أنظمة اتصال بينتا.

إننا نريكم هذا الفيديو الآن لنمنحكم ثلاثة أسابيع تستعدون فيها للمقابلة. لقد وضعت وكالةُ الاستخبارات العالمية وطاقمُ العمليات التابع لوكالة الفضاء العالمية الخطة الرئيسية للمقابلة والإجراءات المصاحبة لها بالتفصيل، وقد أرسلناها إلى القائد ماكميلان في حزمة بيانات عالية الجودة. أوكلنا إلى كلٍّ منكم مجموعة محددة من المهام. وسيتسلم كل منكم مجموعة خاصة من الوثائق تزودكم بالمعلومات اللازمة للقيام بواجباتكم.

بالطبع نتمنى لكم التوفيق. على الأرجح سيتضح أن مسالة راما هذه مجرد خدعة، وفي هذه الحالة لن يضيركم منها سوى أنه أخر تدشينكم لمستعمرة لوويل. ولكن إذا كان الفيديو صحيحًا، فسيصبح عليكم أن تعملوا بسرعة لوضع خطط محكمة تمهيدًا لوصول نينيا وسانتا ماريا؛ إذ لن يكون أيٌّ من المستعمرين في السفينتين الأخريين على علم بأي شيء عن راما أو عن تغير المهمة.»

مرت لحظات من الصمت في شقة واتانابي عندما انتهى الفيديو فجأةً، وحلت محله على الشاشة رسالةٌ نصية تقول: «الفيديو التالي سيعرض في غضون دقيقتين.» لم ينبس أحد ببنت شفة سوى ماكس باكيت، إذ لم يزد تعليقه عن: «تبًّا.»

٧

في الفيديو، كانت نيكول تجلس على كرسي بني عادي أمام حائط بلا ملامح تميزه. وكانت مرتدية إحدى بذلات طيران وكالة الفضاء العالمية، التي عادةً ما كانت ترتديها أثناء بعثة نيوتن. قرأت نيكول الرسالة من كمبيوتر محمول تحمله في يديها.

بدأت تقول: «إخواني معشر الأرضيين، أنا رائدة فضاء من بعثة نيوتن، نيكول دي جاردان، أتحدث إليكم من على بعد مليارات الكيلومترات. أنا على متن مركبة فضائية من طراز راما تشبه السفينتين الأسطوانيتين الهائلتين اللتين زارتا نظامنا الشمسي في القرنين الماضيين. تتوجه مركبة راما الثالثة هذه هي الأخرى نحو البقعة الضئيلة التي نحتلها من المجرة. ثم ستتوجه بعد نحو أربع سنوات من تلقيكم هذا الفيديو إلى مدار حول كوكب المريخ.

بعد أن رحلت من الأرض عرفت أن المركبات من نوع راما صنعها ذكاء فضائي متقدم؛ لتكون أحد عناصر نظام هائل يقوم بتجميع المعلومات، ويهدف أساسًا إلى جمع وتصنيف بيانات حول الحياة في الكون. وفي إطار هذا الهدف تعود مركبة راما الثالثة هذه إلى جوار كوكبنا الأصلي.

صُمم مسكن يشبه الأرض داخل مركبة راما الثالثة يستوعب ألفين من البشر، بالإضافة إلى عدد ضخم من الحيوانات والنباتات القادمة من كوكبنا الأصلي، وستجدون في الملحق الأول للفيديو معلومات دقيقة عن الكتلة الحيوية وغيرها من التفاصيل العامة المتعلقة بالحيوانات والنباتات؛ وإنني مع هذا، أشدد على أن النباتات، خاصة النباتات ذات الكفاءة العالية في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين، تعد من أهم عناصر التصميم الأساسي للمنطقة السكنية الشبيهة ببيئة الأرض على متن راما. فمن دون هذه النباتات ستتعرض حياة البشر داخل راما لتهديد خطير.

رد الفعل الذي ننتظره من كوكب الأرض بعد تلقي هذا البث هو إرسال مجموعة تمثله من سكانه، مصحوبةً بالإمدادات الإضافية المفصلة في الملحق الثاني لتتقابل مع مركبة راما الثالثة في مدار المريخ. وحينئذٍ، سيُؤخذ المسافرون إلى داخل راما ويخضعون لمراقبة دقيقة وهم يعيشون في المنطقة السكنية التي تطابق ظروفها البيئية الظروف البيئية للأرض.

ونظرًا إلى رد فعلكم العدائي تجاه مركبة راما الثانية الذي منعته الصدفة وحدها من أن يتسبب في خسائر فادحة للسفينة الفضائية، فإن الخطة التي تحدد ملامح مهمة مركبة راما تتضمن ألا تقترب المركبة من الأرض إلى ما بعد مدار المريخ. كما أن هذه الخطة تفترض، بالطبع، أن سلطات الأرض ستستجيب للطلبات المنصوص عليها في هذا البث. وأنا لا أعرف رد الفعل الذي برمجت السفينة على القيام به إذا لم ترسلوا البشر لمقابلة مركبة راما الثالثة في مدار المريخ. ولكنني أستطيع أن أقول — بناءً على مشاهداتي — إنه بوسع الذكاء الفضائي أن يحصل على معلومات المراقبة التي يريدها بطرق أخرى أقل لطفًا.

أما عما يخص البشر الذين سيُنقلون إلى المريخ، فمن البديهي أن من يقع عليهم الاختيار يجب أن يمثلوا شريحة عريضة جدًّا من المجتمع الإنساني، تشمل الجنسين وجميع الأعمار وأكبر عدد ممكن من الثقافات. المكتبة الضخمة التي تحتوي على معلومات عن الأرض والتي طلبناها في الملحق الثالث ستوفر معلومات إضافية مهمة يمكن ربطها بالملاحظات التي ستُؤخذ داخل راما.

أنا شخصيًّا لا أدري كم سيبقى البشر داخل راما، أو إلى أين ستأخذهم السفينة بالتحديد، بل لا أدري لماذا يجمع الذكاء الخارق الذي صنع مركبات راما معلومات عن الحياة في الكون. ولكن بوسعي القول إن العجائب التي شهدتها منذ أن غادرت نظامنا الشمسي غيرت تمامًا من نظرتي إلى مكانتنا في الكون.»

•••

استغرق الفيديو ما يربو على عشر دقائق، خُصص نصفها للملاحق المفصلة. ولم يتغير المشهد الأساسي طوال البث. كان إلقاء نيكول متأنيًا ورصينًا، وتخللته لحظات صمت قصيرة أثناء انتقال عينيها من الكاميرا إلى الكمبيوتر المحمول الذي في يديها. ومع أن طبقة صوتها كانت تتغير بعض الشيء فإن تعبيرات وجهها الجادة ظلت ثابتة تقريبًا، حتى أشارت إلى أن سكان راما قد يستخدمون «طرقًا أخرى أقل لطفًا» للحصول على المعلومات، فعندها، لمع انفعال قوي في عينيها السوداوين.

شاهد كينجي واتانابي النصف الأول من الفيديو بتركيز شديد. لكن أثناء عرض الملاحق، بدأ عقله يشرد، وبدأت الأسئلة تتلاحق في عقله. تساءل في نفسه: من هؤلاء الفضائيون؟ ومن أين أتوا؟ ولماذا يريدون أن يراقبونا؟ ولماذا اختاروا نيكول دي جاردان متحدثةً رسميةً لهم؟

ضحك كينجي في نفسه وقد أدرك أن سيلًا عارمًا من الأسئلة اللانهائية يدور في رأسه. فقرر أن يركز على قضايا أسهل.

قال كينجي بينه وبين نفسه: إذا كانت نيكول لا تزال حية اليوم فإنها ستكون في الحادية والثمانين من عمرها. صحيح أن المرأة التي ظهرت على شاشة التليفزيون كان شعرها به بعض الخصلات الرمادية، وأن التجاعيد التي تظهر في وجهها تزيد على التجاعيد التي كانت في وجه رائدة الفضاء عندما انطلقت بعثة نيوتن من الأرض، لكن سنها في الفيديو قطعًا يقل عن الثمانين بكثير. قال في نفسه: ربما تكون في الثانية والخمسين أو الثالثة والخمسين على أقصى تقدير.

تساءل: هل صورت الفيديو منذ ثلاثين عامًا؟ أم أن نموها قد تعرض للإبطاء بطريقة ما؟ لم يخطر ببال كينجي أن يتساءل ما إذا كانت المتحدثة هي نيكول بالفعل أم لا. فقد قضى وقتًا كافيًا بين سجلات نيوتن بما يتيح له التعرف على الفور على تعبيرات وجه نيكول وأسلوبها، قال كينجي لنفسه: من المفترض أنها صورت الفيديو منذ نحو أربع سنوات، ولكن إذا كان هذا صحيحًا … كان لا يزال يحاول فهم الموقف برمته عندما انتهى بث نيكول وظهر مدير وكالة الفضاء العالمية على الشاشة.

أوضح د. كوخ بسرعة أنهم سيعيدون بث الفيديو كاملًا على كل القنوات مرتين وبعدها سيكون متاحًا لكل الركاب وأفراد الطاقم وقتما يريدون.

ما إن ظهر وجه نيكول على الشاشة مرة أخرى حتى سأل ماكس باكيت: «ما الذي يجري هنا بالضبط؟» وقد وجه سؤاله لكينجي.

أجاب كينجي بعد أن شاهد الفيديو عدة ثوانٍ: «إذا كان ما فهمته صحيحًا، فإن وكالة الفضاء العالمية تعمدت خداعنا بشأن أحد الأهداف الرئيسية لمهمتنا. من الواضح أنهم تلقوا هذه الرسالة منذ أربع سنوات في الوقت الذي كان مصير تمويل مستعمرة لوويل يكتنفه الغموض، وتقرر أن يكون استكشاف مركبة راما الثالثة الهدف السري لمشروعنا، وذلك «بعد» أن فشلت كل محاولات إثبات أن الفيديو مجرد خدعة.»

قال ماكس باكيت وهو يهز رأسه بقوة: «تبًّا! لماذا لم يخبرونا بالحقيقة؟»

علق القاضي ميشكين بعد صمت قصير: «يعجز عقلي عن استيعاب فكرة إرسال بعض المخلوقات الخارقة لهذه التكنولوجيا المبهرة، لا لشيء إلا ليجمعوا معلومات عنا. ولكن، على صعيد آخر، الآن فقط أستطيع أن أفهم بعض الجوانب الغريبة المتعلقة بعملية اختيار الأفراد. لقد صعقت عندما ضموا تلك المجموعة من المراهقين الأمريكيين المشردين إلى المستعمرة منذ ثمانية أشهر. لكنني الآن أرى أن معايير الاختيار كانت تقوم على تلبية طلب السيدة دي جاردان بضم «شريحة عريضة جدًّا من المجتمع الإنساني»، ولا بد أن الاهتمام بمدى نجاح هذا الخليط من الأفراد والمهارات في إنتاج مستعمرة تتميز بالقابلية للاستمرار على المريخ من الناحية الاجتماعية ظل من الأمور الثانوية.»

قال ماكس: «أكره الكذب والكاذبين.» قبل هذا كان قد نهض من مقعده وأخذ يقطع الغرفة جيئةً وذهابًا. وتابع قائلًا: «كل هؤلاء السياسيين ومديري الحكومات سواء، فجميع هؤلاء الأوغاد يكذبون بلا رادع من ضميرهم.»

رد عليه القاضي: «ولكن ما الذي كان يمكنهم فعله يا ماكس؟ فهم غالبًا لم يأخذوا الفيديو على محمل الجد. على الأقل حتى ظهرت تلك المركبة الجديدة في مدار المريخ. ولو قالوا الحقيقة من البداية لساد الذعرُ أنحاء العالم.»

قال ماكس بنبرة محبطة: «اسمع أيها القاضي، لقد ظننت أنهم اختاروني لأعمل مزارعًا لعينًا في مستعمرة على المريخ. وأنا لا أعرف شيئًا عن الفضائيين، وبصراحة، لا أريد أن أعرف. فيكفيني ما ألاقيه من التعامل مع الدجاج والخنازير والبشر.»

قال القاضي بسرعة مبتسمًا لصديقه: «خاصةً البشر.» فضحك ماكس مقهقهًا رغمًا عنه.

بعد دقائق قليلة ألقى القاضي وماكس التحية على كينجي وناي وتركاهما وحدهما. وما إن انصرف الضيفان مباشرةً، حتى رن الهاتف المرئي في شقة كينجي وناي. وسمعا إيان ماكميلان يقول: «واتانابي؟»

أجاب كينجي: «نعم يا سيدي.»

قال القائد: «آسف على الإزعاج يا واتانابي. ولكنني أوكل إليك أول مهمة يقوم بها شخص من غير طاقمي. تتضمن التعليمات الصادرة لك تعريف جميع أفراد طاقم بينتا ببعثة نيوتن وسكان راما ورائدة الفضاء دي جاردان في الساعة السابعة من مساء اليوم. أظن أنك قد تود أن تبدأ الاستعداد الآن.»

•••

«… في عام ٢٢٠٠، أعلنت جميع وسائل الإعلام أن وابل القنابل النووية الذي انفجر بجوار مركبة راما الثانية دمرها بالكامل، بل فتتها تفتيتًا. وبالطبع اعتبرت رواد الفضاء المفقودين نيكول دي جاردان وأوتول وتاكاجيشي وويكفيلد في عداد الموتى. لكن في واقع الأمر، الوثائقُ الرسمية لبعثة نيوتن والكتبُ والمسلسلاتُ التليفزيونية التي أعدها هاجنست وشميت ولاقت نجاحًا كبيرًا زعمت أن نيكول دي جاردان ماتت في مكان ما في نيويورك، وهي المدينة التي تقع على جزيرة وسط البحر الأسطواني، قبل أن ترحل سفينة نيوتن العلمية عن راما وتعود إلى الأرض بأسابيع.»

سكت كينجي لينظر إلى الحاضرين. ومع أن القائد ماكميلان أوضح لركاب بينتا وللطاقم أنه سيوفر لهم على الفور شريط فيديو بالمادة التي قدمها كينجي فإن كثيرًا من المستمعين كانوا يدونون ملاحظات. كان كينجي مستمتعًا والأضواء مسلطة عليه. ونظر إلى ناي وابتسم ثم تابع حديثه.

قال: «افترضت رائدة الفضاء فرانشيسكا ساباتيني، وهي أشهر مَن نجا من أفراد بعثة نيوتن المشئومة، في مذكراتها أن الدكتورة نيكول قد تكون قابلت كائنًا آليًّا عدائيًّا أو وقعت في مكان ما في إحدى المناطق المعتمة في نيويورك. كانت السنيورة فرانشيسكا تعرف كمية الغذاء والماء التي تحملها رائدة الفضاء نيكول لأنهما كانتا معًا معظم اليوم، إذ كانتا تبحثان عن العالم الياباني شيجرو تاكاجيشي الذي اختفى في ظروف غامضة من الموقع بيتا في الليلة السابقة. وعلى هذا كتبت فرانشيسكا تقول: «رغم معرفة نيكول التامة بالجسم البشري لم تكن لتظل على قيد الحياة أكثر من أسبوع. وإذا أصاب عقلها اضطراب وحاولت الحصول على مياه من ثلج البحر الأسطواني المسموم فستموت في غضون أقل من أسبوع.»

من بين الرواد الستة الذين لم يعودوا إلى الأرض بعد مقابلة مركبة راما الثانية، كانت نيكول دي جاردان هي دائمًا محط الاهتمام. فسمعة نيكول كانت قد أصبحت أسطورية، حتى قبل أن يتوصل عالم الإحصاء العبقري روبيرتو لوبيز منذ سبع سنوات إلى أن الملك هنري الحادي عشر ملك إنجلترا الراحل هو والد جنيفياف ابنة نيكول، استنادًا إلى معلومات عن الجينوم الأوروبي وجدها في مدينة لاهاي. ومؤخرًا زاد عدد من يحضرون حفل إحياء ذكراها الذي يقام قرب فيلا أسرتها في بوفوا في فرنسا زيادةً كبيرةً خاصة بين الشابات. فالناس يحتشدون هناك للتعبير عن تقديرهم لرائدة الفضاء، ولمشاهدة الصور والفيديوهات الكثيرة التي تخلد ذكرى حياتها المميزة، وكذلك لرؤية التمثالين البرونزيين الرائعين اللذين نحتهما النحات اليوناني ثيو بابس. أحد هذين التمثالين يصور نيكول الشابة وهي ترتدي الملابس الرياضية والميدالية الأوليمبية الذهبية حول عنقها، والثاني يصورها وهي امرأة ناضجة ترتدي زي طيران وكالة الفضاء العالمية الشبيه بهذا الذي شاهدتموه في الفيديو.»

أشار كينجي إلى خلفية الغرفة في قاعة بينتا الصغيرة فأطفئت الأنوار. وبعد دقائق بدأ عرض شرائح على إحدى الشاشتين الواقعتين خلفه. قال: «أمامكم بضع صور لنيكول دي جاردان الواردة في ملفات بينتا المتاحة لنا. وتشير قاعدة البيانات المرجعية إلى أن هناك الكثير من الصور والأفلام التاريخية القصيرة المتاحة في المكتبة الاحتياطية الموجودة في مكان البضائع، غير أن تلك المعلومات لا يمكن الوصول إليها أثناء الرحلة نتيجةً لقصور في شبكة المعلومات. ولكننا لسنا في حاجة إلى البيانات الإضافية؛ إذ يتضح من هذه الصور أن من ظهرت في البث عصر اليوم هي إما نيكول دي جاردان «أو نسخة طبق الأصل منها».»

ظهرت صورة ثابتة مقرَّبة من الفيديو الذي أذيع عصرًا على الشاشة الموضوعة على اليسار، ووضع إلى جوارها صورة يظهر فيها وجه نيكول التُقِطَت لها في حفل عشية عيد الميلاد في فيلا أدرياني على مشارف روما. ولم يكن هناك مجال للشك في الأمر. كانت الصورتان بالتأكيد للمرأة نفسها. وعندما تخلل العرض الذي كان يقدمه كينجي لحظات صمت، تصاعدت همهمات تنم عن الاستحسان بين الجمهور.

تابع كينجي حديثه بنبرة هادئة بعض الشيء، قال: «ولدت نيكول دي جاردان في السادس من يناير عام ٢١٦٤. وعلى هذا، فإذا كان الفيديو الذي شاهدناه اليوم قد صُوِّر فعلًا منذ نحو أربع سنوات، فلا بد أنها كانت في السابعة والسبعين من عمرها وقت تصويره. ونحن جميعًا نعرف أن الحالة الجسدية للدكتورة نيكول ممتازة، وأنها كانت معتادة على أداء التمرينات الرياضية باستمرار، ولكن إذا كانت المرأة التي رأيناها في السابعة والسبعين فلا يسعنا سوى أن نقول إن الفضائيين الذين بنوا راما لا بد أنهم اكتشفوا ينبوع الشباب.»

•••

كان الوقت متأخرًا وكان كينجي مرهقًا جدًّا، ومع ذلك فقد جافاه النوم. فأحداث اليوم ظلت تفرض نفسها على عقله وتقلقه. كانت ناي بواتونج واتانابي ترقد بجواره، على السرير المزدوج الصغير، وهي تدرك جيدًا أن زوجها مستيقظ.

قالت ناي بصوت خفيض بعد أن تقلب كينجي للمرة الألف: «تبدو متيقنًا من أننا كنا نشاهد نيكول دي جاردان الحقيقية، أليس كذلك يا حبيبي؟»

قال كينجي: «بلى. ولكن ماكميلان لا يوافقني الرأي. لقد طلب مني أن أشير كما قلت إلى الاحتمال القائل بأن من رأيناها ما هي إلا صورة طبق الأصل من نيكول. فهو يعتقد أن كل ما في الفيديو زائف.»

قالت ناي بعد صمت قصير: «بعد المناقشة التي دارت بيننا عصر اليوم، تذكرت كل تلك الجلبة التي ثارت حول نيكول والملك هنري منذ سبع سنوات. كانت معظمها في مجلات المشاهير. ولكنني نسيت شيئًا. كيف أثبتوا يقينًا أن هنري هو والد جنيفياف؟ ألم يكن الملك قد مات قبل ذلك؟ أليست الأسرة المالكة في إنجلترا تحتفظ بمعلومات البنية الوراثية الخاصة بها في إطار من الخصوصية والسرية؟»

أجابها كينجي قائلًا: «حلل لوبيز البنية الوراثية لآباء وأمهات وأخوة كلِّ مَن تزوجوا من الأسرة المالكة. وباستخدام أسلوبٍ كان قد ابتكره بنفسه، يمكنه من الكشف عن العلاقة بين البيانات، أثبت أن احتمال أن يكون هنري، الذي كان أميرًا على ويلز أثناء أولمبياد عام ٢١٨٤، والد جنيفياف يفوق احتمال أن يكون أي شخص آخر كان حاضرًا في لوس أنجلوس في هذا الوقت؛ والدًا لها بما يزيد عن ثلاثة أضعاف. وبعد أن اعترف دارين هيجينز على فراش الموت بأن هنري ونيكول أمضيا ليلة معًا أثناء الأولمبياد، سمحت الأسرة المالكة لاختصاصي في الجينات بالدخول على قاعدة بيانات البنية الوراثية الخاصة بهم. وخلص الخبير إلى أن هنري والد جنيفياف بما لا يدع مجالًا للشك.»

قالت ناي: «يا لها من امرأة مذهلة!»

رد كينجي: «إنها مذهلة بالفعل. ولكن ما الذي جعلك تقولين هذا الآن؟»

قالت ناي: «بصفتي امرأة، يعجبني حفاظها على سرها وتربيتها للأميرة بنفسها بقدر ما تعجبني إنجازاتها الأخرى إن لم يكن أكثر.»

٨

وجدتْ إيبونين كيمبرلي في زاوية الغرفة المعبقة بالدخان فجلست بجوارها. عرضت عليها صديقتها سيجارة فأخذتها وأشعلتها ودخنتها بقوة.

قالت إيبونين بهدوء وهي تنفث الدخان في دوائر صغيرة وتشاهدها وهي تصعد ببطء تجاه أجهزة التهوية: «آه يا لها من متعة!»

قالت كيمبرلي هامسة وهي بجوارها: «ما دمت تحبين التبغ والنيكوتين فأستطيع أن أقول إنك بالتأكيد ستحبين سيجارة الكوكومو.» أخذت الفتاة الأمريكية نفسًا من سيجارتها ثم تابعت حديثها قائلة: «أعرف أنك لا تصدقينني يا إيبونين، ولكني أفضل تدخين الكوكومو على الجنس.»

ردت إيبونين بنبرة ودودة دافئة: «ليس بالنسبة إليَّ يا صديقتي، فأنا ابتليت بما يكفي من الرذائل. ولن أستطيع أبدًا أن أتحكم في نفسي إن جربت شيئًا يفوق الجنس متعةً.»

انفجرت كيمبرلي هيندرسون ضاحكةً على نحو جعل خصلات شعرها الأشقر تتطاير على كتفيها. كانت في الرابعة والعشرين؛ أي إنها تصغر زميلتها الفرنسية بعام. كانتا جالستين في استراحة التدخين الملحقة بحمام السيدات. وهذه الاستراحة هي غرفة مربعة صغيرة لا يزيد طولها عن أربعة أمتار، بها اثنتا عشرة امرأة يجلسن أو يقفن وهن يدخن السجائر.

قالت كيمبرلي: «هذه الغرفة تذكرني بالأوقات التي قضيناها في الغرفة الخلفية من حانة ويلي الكائنة في مدينة إيفرجرين التي تقع على حدود مدينة دينفر. ففي حين كان مائة أو يزيد من رعاة البقر والفلاحين يرقصون ويحتسون الشراب في البار الرئيسي، كان ثمانية أو عشرة منا ينسحبون ويدخلون «مكتب» ويلي المقدس، حسبما كان يُطلِق عليه، ويحشون أنوفهم بالكوكومو.»

حدقت إيبونين في كيمبرلي من خلال سُحب الدخان. وقالت: «على الأقل لن يزعجنا الرجال في هذه الغرفة. إنهم لا يطاقون، فهم أسوأ من الشبان المسجونين في سجن بورج. أنا على يقين من أن هؤلاء لا يفكرون طوال اليوم سوى في الجنس.»

ردت كيمبرلي بضحكة أخرى. وقالت: «هذا مفهوم. فقد رفعت عنهم المراقبة لأول مرة منذ سنوات. فعندما خرَّب رجال توشيو كل أدوات المراقبة المخفاة أصبح الجميع أحرارًا فجأة.» ثم نظرت إلى إيبونين. وقالت: «ولكن هناك جانب مظلم في هذا أيضًا. فقد وقع حادثا اغتصاب اليوم، أحدهما في منطقة الترفيه المشتركة.»

أنهت كيمبرلي سيجارة وأشعلت أخرى. ثم أردفت قائلةً: «تحتاجين إلى من يحميك، أعلم أن والتر سيرحب بهذه المهمة. لقد توقف معظم المجرمين عن محاولة مهاجمتي بفضل توشيو. من يقلقني الآن هم جنود وكالة الفضاء العالمية، فهم يظنون أنفسهم جذابين. أما أنا فلا يعجبني غير ذلك الفتى الإيطالي الرائع، الذي يدعى مارتشيللو. لقد وعدني بأنني سأمضي وقتًا ممتعًا معه إن ذهبت معه إلى غرفته. وقد أغراني هذا بشدة، لكنني رأيت أحد أعوان توشيو يراقب الحوار.»

أشعلت إيبونين سيجارة أخرى. كانت تعرف أنه من الحماقة أن تدخن سيجارة تلو الأخرى، ولكن ركاب سانتا ماريا لا يسمح لهم بالراحة سوى ثلاث مرات يوميًّا، مدة كل مرة منها نصف ساعة، والتدخين محظور في المناطق السكنية المكتظة. طرحت امرأةٌ قوية البنية في أوائل الأربعينيات سؤالًا على كيمبرلي، فانصرف انتباهها عن إيبونين مؤقتًا، فأخذت إيبونين تتذكر الأيام القليلة الأولى التي قضتها بعد مغادرة الأرض. وقالت في نفسها: في ثالث يوم، أرسل ناكامورا وسيطًا يبلغني أنه يريد مقابلتي. لا بد أنني كنت أول من اختارها.»

انحنى الرجل الياباني الضخم، الذي كان مصارع سومو قبل أن يعمل في تحصيل الفواتير لمصلحة نادي قمار سيئ السمعة؛ انحنى أمامها باحترام بعدما اقترب منها في الاستراحة المخصصة للجنسين. وقال بإنجليزية ذات لكنة يابانية واضحة: «آنسة إيبونين، طلب مني صديقي السيد ناكامورا أن أخبرك أنه معجب بك للغاية. ويعرض عليك الحماية التامة مقابل صحبتك ومضاجعته من حين لآخر.»

وتذكرت في نفسها قائلة: كان العرض مغريًّا من بعض النواحي، وهو لا يختلف عما قبلتْه معظم الجميلات في سانتا ماريا. كنت أعرف في هذا الوقت أن سلطة ناكامورا ستزيد. ولكنني كنت أكره بروده. وظننت — مخطئةً — أنني أستطيع أن أظل حرة.

كررت كيمبرلي قولها: «مستعدة؟» أفاقت إيبونين من أفكارها. وأطفأت سيجارتها واتجهت مع صديقتها إلى غرفة تبديل الملابس. عندما كانتا تخلعان ملابسهما وتستعدان للاستحمام، كانت عشرات العيون تلتهم جسديهما الرائعين.

سألت إيبونين وهما واقفتان معا تحت الدش: «ألا يزعجك التهام هؤلاء السحاقيات لك بأعينهن؟»

أجابت كيمبرلي: «لا. أستمتع بهذا إلى حدٍّ ما. فنظراتهن لي تشبع غروري. فليس هناك كثيرات تضاهيننا جمالًا. ويثيرني أن يحدقن في بهذه اللهفة.»

غسلت إيبونين رغوة الصابون التي تغطي صدرها الجميل ومالت على كيمبرلي. وسألتها: «إذن هل مارست السحاق مع امرأة؟»

أجابت كيمبرلي بضحكة مجلجلة أخرى. وقالت: «بالطبع. ألم تفعلي هذا؟»

دون أن تنتظر إجابة انطلقت الأمريكية تحكي إحدى قصصها. قالت: «كانت أول موزعة مخدرات أتعامل معها سحاقية. وكنت في ذلك الوقت في الثامنة عشرة ومكتملة الأنوثة. وما إن رأتني لوريتا لأول مرة وأنا عارية، حتى وقعت في غرامي. وكنت حينئذٍ قد التحقت لتوِّي بكلية التمريض، ولم أستطع تدبير تكاليف المخدرات. فعقدت صفقة معها. اتفقت مع لوريتا على مضاجعتها مقابل إمدادي بالكوكايين. واستمرت علاقتنا نحو ستة أشهر. وكنت بحلول ذلك الوقت قد بدأت أعتمد على نفسي، كما أنني قد وقعت في غرام الساحر.»

وأردفت وكلٌّ منهما تجفف ظهر الأخرى: «مسكينة لوريتا. لقد سحقها الأسى. وكانت قد قدمت لي كل شيء، بما في ذلك قائمة أسماء عملائها. وفي آخر الأمر، سئمت منها، فتخلصت منها، إذ طلبت من الساحر أن يطردها من دينفر.»

لمحت كيمبرلي نظرة استهجان عابرة على وجه إيبونين. فقالت: «يا إلهي، ستعودين وتلقين عليَّ مواعظك الأخلاقية. إنك أرق قاتلة لعينة قابلتها في حياتي. أحيانا تذكرينني بالطلاب المهذبين في الصف الأخير من المدرسة الثانوية.»

عندما كانا على وشك مغادرة الحمامات اقتربت من خلفهما فتاة سمراء ضئيلة ذات شعر مضفر. سألت: «أنت كيمبرلي هندرسون؟»

أومأت برأسها والتفتت: «نعم. ولكن لماذا …»

قاطعتها الفتاة: «هل خليلك هو الملك ناكامورا الياباني؟»

لم تجب كيمبرلي. تابعت الفتاة السمراء: «إن كان هذا صحيحًا فأنا بحاجة إلى مساعدتك.»

سألت كيمبرلي بلهجة لا مبالية: «ماذا تريدين؟»

انفجرت الفتاة فجأة في البكاء. وقالت: «خليلي روبن لم يقصد شيئًا. لقد سكر بسبب هذا الشيء اللعين الذي يبيعه الحراس. ولم يكن يعرف أنه يتحدث إلى الملك الياباني.»

انتظرت كيمبرلي حتى تكفكف الفتاة دموعها. ثم همست: «ماذا لديك؟»

أجابت الفتاة السمراء هامسة: «ثلاثة سكاكين وسيجارتي كوكومو قويتين.»

قالت كيمبرلي مبتسمةً: «أحضريها لي. وسأهيئ الوقت لروبن ليعتذر للسيد ناكامورا.»

•••

قالت إيبونين لوالتر براكين: «إنك تكره كيمبرلي، أليس كذلك؟» كان والتر زنجيًّا أمريكيًّا قوي البنية، يتسم بعينين رقيقتين وأصابع بارعة في العزف على آلة الكيبورد. كان يعزف مزيجًا من ألحان موسيقى الجاز وهو يحدق في رفيقته الجميلة، بينما كان نزلاء غرفته الثلاثة خارج الغرفة في المنطقة المشتركة، وذلك بناءً على طلبه.

أجابها ببطء: «نعم، لست أكرهها. كل ما في الأمر أنها ليست مثلنا. فقد تكون خفيفة الظل للغاية، لكنني أظن أن باطنها سيئ للغاية.»

«ماذا تعني؟»

بدأ يعزف لحن أغنية رومانسية هادئة، وواصل العزف دقيقة قبل أن يتحدث. قال: «إننا جميعًا سواء في عين القانون، فجميعنا قتلة. لكنني لا أتفق مع هذه النظرة. فأنا انتزعت حياة رجل اغتصب أخي الصغير. وأنت قتلت وغدًا مجنونًا كان يدمر حياتك.» صمت لحظة ثم أدار عينيه. وقال: «لكن صديقتك كيمبرلي وخليلها قتلا ثلاثة أشخاص لا يعرفانهم من أجل المخدرات والمال.»

«حين فعلت هذا كانت تحت تأثير المخدرات.»

«لا يهم. فجميعنا مسئولون عن سلوكياتنا في كل الأحوال. فأنا إن تناولت حثالة تجعلني مجنونًا، فهذا خطئي. وهذا لا يبرر التملص من مسئولية أفعالي.»

«كان سجلها في السجن رائعًا. وقد قال كل الأطباء الذين عملوا معها إنها ممرضة ممتازة.»

توقف والتر عن العزف وأخذ يرمق إيبونين عدة ثوانٍ. ثم قال: «دعينا نكف عن الحديث عن كيمبرلي، فالوقت المتاح لنمضيه معًا لا يتسع لهذا … هل فكرتِ في العرض الذي اقترحته عليكِ؟»

تنهدت إيبونين. وقالت: «نعم يا والتر. ومع أنني أحبك وأستمتع بمطارحتك الغرام، فإنني أحس أن الاتفاق الذي تطرحه ينطوي على التزام شديد ينفرني منه … كما أنني أظن أنه نابع من رغبتك في إرضاء غرورك أساسًا. وأظن أنك تفضل مالكولم …»

قاطعها والتر قائلًا: «لا شأن لمالكولم بنا. إنه صديقي المقرب منذ سنوات، منذ أن دخلت سجن جورجيا. فنحن نعزف الموسيقى معًا. ونمارس الجنس عندما نشعر بالوحدة. نحن صديقان حميمان …»

«أعرف، أعرف … مالكولم ليس هو الأمر المهم في الواقع. فما يزعجني حقًّا هو الفكرة التي يقوم عليها هذا الأمر. أنا معجبة بك يا والتر، وأنت تعرف هذا. ولكن …» ثم تهدج صوتها وهي تغالب مشاعرها المضطربة.

قال والتر: «نحن نبعد عن الأرض ثلاثة أسابيع، وأمامنا ستة أسابيع أخرى قبل أن نصل إلى المريخ. وأنا أقوى رجال سانتا ماريا. وإذا قلت إنك فتاتي فلن يجرؤ أحد على إزعاجك طوال هذه المدة.»

في هذه اللحظة تذكرت إيبونين مشهدًا مخيفًا حدث ذلك الصباح؛ إذ كان راكبان ألمانيان يتحدثان عن مدى سهولة اغتصاب فتاة في المنطقة التي يقطنها المحكوم عليهم. فعلا ذلك دون أن يحاولا خفض صوتيهما، مع أنهما كانا يعلمان أنها قريبة بما يكفي لتسمعهما.

فألقت نفسها بين ذراعَي والتر الضخمتين. وقالت بصوت خفيض: «حسنًا، لكن لا تتوقع الكثير … فأنا امرأة صعبة المراس.»

•••

همست إيبونين قائلةً: «أظن أن والتر يعاني من مشكلة ما في قلبه.» كان الوقت منتصف الليل ونزيلتا الغرفة الأخريان نائمتين. كانت كيمبرلي ترقد في سريرها الذي يقع أسفل سرير إيبونين، وكانت لا تزال تحت تأثير الكوكومو الذي دخنته قبل ساعتين. ولذا كان من المستحيل أن يداعب النوم عينيها إلا بعد عدة ساعات أخرى.

قالت كيمبرلي: «القواعد التي تحكم هذه السفينة سخيفة للغاية. يا إلهي، إن قوانين سجن بويبلو نفسه كانت أقل. لماذا لا يسمحون لنا بالبقاء في المناطق العامة اللعينة بعد منتصف الليل؟ ما الضرر الذي سنسببه؟»

«ينتابه ألم في الصدر من حين لآخر، وإذا حدث وتطارحنا الغرام بإفراط يشكو بعدها من ضيق في التنفس … ترى، أيمكنك أن تفحصيه؟»

«ماذا أصاب مارتشيللو هذا؟ هه! يا له من حمار غبي! يقول إنني سأسهر طوال الليل إذا ذهبت معه إلى غرفته. كل هذا وأنا جالسة مع توشيو. ماذا يظن أنه فاعل؟ أعني، الحراس أنفسهم لا يمكنهم مضايقة الملك الياباني … ماذا قلت يا إيبونين؟»

جلست إيبونين في سريرها مستندةً على مرفقها ومالت من على جانب السرير. قالت: «والتر براكين يا كيم. أحدثك عن والتر براكين. هل يمكنك أن تنحي اهتمامك بنفسك جانبًا قليلًا حتى تنتبهي لما أقول؟»

«حسنًا. حسنًا. ماذا عن صديقك والتر؟ ماذا يريد؟ كل شخص يريد شيئًا من الملك الياباني. أظن أن هذا يجعلني الملكة، على نحو ما على الأقل …»

كررت إيبونين ما قالته بصوت مرتفع وقد تملكها غضب شديد: «أظن أن قلب والتر مريض. وأود أن تفحصيه.»

ردت عليها كيمبرلي قائلةً: «شششششش. سيضربوننا كما فعلوا بالفتاة السويدية المجنونة … تبًّا يا إيب، أنا لست طبيبة. صحيح أنني أستطيع أن أعرف متى تكون ضربات القلب غير منتظمة، لكن هذا هو كل ما أستطيع فعله. عليك أن تصحبي والتر إلى ذلك الطبيب المتخصص في أمراض القلب الذي كان سجينًا، ما اسمه، ذلك الرجل شديد الهدوء الذي ينفرد بنفسه عندما لا يكون منشغلًا بفحص شخص ما …»

قاطعتها إيبونين قائلةً: «د. روبرت تيرنر.»

«آه، هو ذاك … إنه محترف للغاية، ومتحفظ، وانطوائي، ولا يتكلم إلا بالمصطلحات الطبية، يصعب عليَّ تصديق أنه أطلق النار على رأسي رجلين في المحكمة ببندقية، لا يبدو …»

سألتها إيبونين: «كيف عرفت هذا؟»

«أخبرني مارتشيللو. كنا نضحك معًا وكان يستفزني بقول أشياء مثل: «أتستمتعين مع الملك الياباني؟» و«ماذا عن طبيب القلب الهادئ؟»

قالت إيبونين في انزعاج: «تبًّا يا كيم، أتضاجعين مارتشيللو أيضًا؟»

ضحكت رفيقتها. وقالت: «مرتين فقط. إنه لا يجيد سوى الكلام. ويا له من مغرور! على الأقل الملك الياباني يقدرني.»

«أيعرف ناكامورا؟»

ردت عليها كيمبرلي: «أتظنين أنني جننت؟ لا أريد أن أموت. لكن وارد أنه يشك في الأمر … لن أفعل هذا مرة أخرى، أما هذا الطبيب تيرنر، فإنه يثيرني إلى أقصى حد، حتى إن لم يفعل شيئًا سوى أن يهمس في أذني …»

ظلت كيمبرلي تثرثر وتنتقل من موضوع إلى آخر. أما إيبونين فسرح فكرها قليلًا في د. روبرت تيرنر. كان الطبيب قد فحصها بعد انطلاق المركبة مباشرة عندما ظهرت عليها بعض البقع الغريبة. قالت لنفسها متذكرةً: لم ينظر إلى جسدي مطلقًا. كان فحصًا مهنيًّا بحتًا.

تجاهلت إيبونين كيمبرلي وركزت على صورة الطبيب الوسيم. واندهشت عندما اكتشفت أنها تشعر في أعماقها بلمحة اهتمام عاطفي به. كان هناك شيء غامض بالتأكيد يتسم به الطبيب، فلم يكن ثمة شيء في سلوكه أو شخصيته ينم على الإطلاق على أنه قتل مرتين. قالت لنفسها: لا بد أن خلف هذا الرجل قصة مثيرة.

•••

كانت إيبونين تحلم. كانت ترى نفس الكابوس التي رأته مئات المرات منذ حادث القتل. فرأت البروفسير مورو ممددًا على أرض شقته وعيناه مغمضتان والدماء تتفجر من صدره. مشت إلى الحوض، وغسلت السكين الكبير، وأعادته إلى مكانه على الرف. وبينما هي تمر من فوق الجسد، إذا بالعينين الكريهتين تنفتحان. رأت الجنون الجامح في عينيه. مد ذراعيه إليها …»

«أيتها الممرضة كيمبرلي. أيتها الممرضة كيمبرلي.» ارتفع الدق على الباب. استيقظت إيبونين من كابوسها وفركت عينيها. وصلت كيمبرلي وإحدى النزيلتين الأخريين إلى الباب في الوقت نفسه تقريبًا.

كان صديق والتر مالكولم بيبودي يقف عند الباب، وهو رجل أبيض واهن ضئيل الحجم في بداية الأربعينيات. كان مذعورًا. وقال: «أرسلني د. تيرنر لطلب الممرضة. تعالي بسرعة. فوالتر جاءته أزمة قلبية.»

وحين بدأت كيمبرلي ترتدي ملابسها نزلت إيبونين من سريرها مسرعة. وسألت وهي ترتدي روبها المنزلي: «كيف حاله يا مالكوم؟ هل مات؟»

ارتبك مالكولم لحظة. وقال برفق: «آه، مرحبًا يا إيبونين. نسيت أنك والممرضة هيندرسون … عندما تركته كان لا يزال يتنفس، لكن …»

أسرعت إيبونين خارجة من الباب وانطلقت سائرةً في الممر ثم في المنطقة العامة المركزية ومنها إلى سكن الرجال، دون أن تنسى أن تحتفظ بإحدى قدميها على الأرض كلما تحركت. وانطلقت أجهزة الإنذار في الوقت الذي كانت أجهزة المراقبة الرئيسية تتابع حركتها. عندما وصلت إلى مدخل جناح والتر توقفت لحظة حتى تلتقط أنفاسها.

وجدت حشدًا من الناس يقفون في الممر أمام غرفة والتر. وكان باب غرفته مفتوحًا على آخره، والثلث الأسفل من جسده ممددًا خارجه في المدخل. شقت إيبونين طريقها بين الحشد ودخلت الغرفة.

كان د. روبرت تيرنر جاثيًا بجوار المريض وهو يضع جهاز الصدمات الكهربائية على صدره العاري. كان جسد الرجل الضخم يرتد مع كل صدمة ثم يرتفع قليلًا عن الأرض، قبل أن يعيد الطبيب المحاولة من جديد.

رفع د. تيرنر عينيه عندما وصلت إيبونين. وسأل بفظاظة: «أنت الممرضة؟»

عجزت إيبونين عن النطق لحظات. إذ شعرت بالإحراج. فكل ما تستطيع أن تفكر فيه هو عينا دكتور تيرنر الزرقاوان الجذابتان، بينما صديقها يموت، أو مات فعلًا. وأخيرًا، ردت وهي مرتبكة تمامًا: «كلا.»

وأضافت: «أنا خليلته … الممرضة هيندرسون رفيقتي في الغرفة … ستصل إلى هنا فورًا.»

في هذه اللحظة وصلت كيمبرلي مع اثنين من جنود وكالة الفضاء العالمية. قال د. تيرنر لكيمبرلي: «توقف قلبه عن الخفقان نهائيًّا منذ خمس وأربعين ثانية. فات أوان نقله إلى غرفة الفحص. سأشق صدره وأحاول أن أستخدم المحفز الكوموري. هل أحضرت قفازك؟»

عندما كانت كيمبرلي ترتدي قفازها أمر الطبيب الحشد بالابتعاد عن المريض. لم تتحرك إيبونين. فجذبها الجنديان من ذراعيها، لكن الطبيب غمغم ببعض الكلمات فتركاها.

ناول الطبيب كيمبرلي أدواته الجراحية ثم شق فتحة عميقة في صدر والتر بسرعة ومهارة مذهلتين. وأزاح طبقات الجلد كاشفًا عن القلب والقفص الصدري. وسأل الممرضة: «هل شهدت عملية كهذه من قبل أيتها الممرضة هيندرسون؟»

أجابته: «كلا.»

قال: «المحفز الكوموري هو جهاز كهروكيميائي نلصقه بالقلب فيدفعه إلى أن ينبض وأن يستمر في ضخ الدم. وبهذا يستطيع الجهاز حل المشكلة إن كان المرض عابرًا كجلطة دموية أو تشنج في الصمام، ويعود القلب إلى العمل مرة أخرى.»

وضع الطبيب الجهاز الذي لا يزيد حجمه عن حجم طابع البريد خلف البطين الأيسر للقلب وزوده بالكهرباء عن طريق مولد كهربائي محمول كان بجواره على الأرض. بعد ثلاث أو أربع ثواني عاد قلب والتر يدق ببطء. فقال الطبيب لنفسه: «أمامنا نحو ثماني دقائق نجد فيها المشكلة.»

أنهى الطبيب فحص أجزاء القلب الأساسية في أقل من دقيقة. ثم غمغم قائلًا: «ليس مصابًا بجلطة والأوعية والصمامات سليمة … إذن لماذا توقف عن الخفقان؟»

وبمنتهى الحرص رفع الطبيب القلب الذي لا يزال يدق، وفحص العضلات تحته. فوجد أن أنسجة العضلات المحيطة بالأذين الأيمن لونها باهت وواهنة. وما كاد يلمسها بخفة شديدة بطرف إحدى أدواته الحادة حتى تمزق جزء من نسيجها.

قال: «يا إلهي، ما هذا؟!» وبينما كان الطبيب يرفع قلب والتر براكين إذ بالقلب ينقبض مرةً أخرى وإذ بإحدى الألياف الطويلة الموجودة في المنطقة الوسطى من النسيج العضلي الباهت تبدأ في التمزق. فأغمض عينيه وفتحهما مرتين ثم وضع يده على خده وقال: «ما …»

استجمع هدوءه وقال: «انظري إلى هذا أيتها الممرضة هيندرسون. هذا لا يصدق، فالعضلات أصابها ضمور شديد. لم أرَ شيئًا كهذا قط. لم يعد يمكننا أن نساعد ذلك الرجل.»

اغرورقت عينا إيبونين بالدموع والطبيب ينزع المحفز الكوموري وقلب والتر يتوقف عن الخفقان مرة أخرى. بدأت كيمبرلي تنزع المثبتات التي تمسك بالجلد والأنسجة المحيطة بالقلب فمنعها الطبيب. وقال: «ليس بعد. دعينا نأخذه إلى غرفة الفحص حتى يتسنى لي تشريحه. فأنا أريد أن أعرف أقصى قدر ممكن من المعلومات عن هذه الحالة.»

وضع الجنديان واثنان من رفاق والتر في الغرفة الرجلَ الضخم على سرير ذي عجلات، ونُقل الجسد خارج المنطقة السكنية. أخذ مالكوم بيبودي يبكي في صمت على سرير والتر. فتوجهت إيبونين إليه. وعانقته طويلًا دون أن ينبس أيٌّ منهما ببنت شفة، ثم جلسا معًا ويداهما متشابكتان طوال ما تبقى من الليل.

٩

قال القائد ماكميلان لنائبه الشاب المهندس الروسي الوسيم ديميتري أولانوف: «ستكون المسئول هنا طوال المدة التي أكون فيها في راما، ومهما تكن الظروف فإن مسئوليتك الأولى هي سلامة الركاب والطاقم. فإذا سمعتَ أو رأيت أيَّ شيء يوحي بالخطر أو حتى يُثير ريبتك فأشعل الرابط المُتفجر وانطلق ببينتا بعيدًا عن راما.»

أشرق الصبح على أول مهمةٍ استكشافية تنطلق من بينتا إلى داخل راما. واستعدادًا لهذا، رست السفينة التي انطلقت من الأرض اليومَ السابق في أحد الأطراف الدائرية للسفينة الأسطوانية الضخمة. وركنت بينتا بجانب الغطاء الخارجيِّ مباشرةً، وهو نفس الموقع العمومي الذي وقفت فيه البعثتان اللتان انطلقتا لاستكشاف راما عامَي ٢١٣٠ و٢٢٠٠.

وفي الليلة نفسها، أطلع كينجي واتانابي مجموعةَ الاستكشاف على جغرافيةِ مَركبتَي راما الأولى والثانية ضمن مجموعة الفعاليات التي أُقيمَت تمهيدًا لأول انطلاقةٍ لهم خارج سفينتهم بينتا. وعندما أنهى تعليقاته، اقترب منه صديقه ماكس باكيت.

سأل ماكس: «أتعتقد أن راما ستُشبِهُ هذه الصور الذي أطلعْتَنا عليها بالضبط؟»

أجاب كينجي: «ليس بالضبط. أتوقع بعض التغيُّرات. تذكر أنه جاء في الفيديو أنهم بنوا مسكنًا يشبه الأرض في مكان ما داخل راما. ومع هذا فأنا لا أتوقع أن يكون كلُّ ما بالداخل قد تغيَّر؛ لأن الهيئة الخارجية لهذه السفينة مُطابقة للسفينتَين الأوليين.»

بدا ماكس متحيرًا. وقال وهو يهز رأسه: «لا يُمكنني أن أفهم أيًّا من هذا.» وأضاف بعد ثوان: «بالمناسبة، هل أنت متأكد من أنك لستَ مسئولًا عن انضمامي لمجموعة الاستكشاف؟»

أجاب كينجي: «كما أخبرتُك عصرَ اليوم، لا علاقة لأي فرد يركب بينتا باختيار المجموعة. فوكالة الفضاء العالمية ووكالة الاستخبارات العالمية هما من اختار الستة عشر عضوًا من موقعيهما على الأرض.»

«لكن لماذا زُوِّدت بهذه الترسانة اللعينة؟ معي مدفع ليزر حديث، وقنابل موجهة ومجموعة من الألغام التي تتغيَّر قوة انفجارها تبعًا لحجم الجسم الذي تنفجِر فيه. إن قوة الأسلحة التي معي الآن تفوق ما كان معي أثناء غزو بيليز لحفظ السلام بها.»

ابتسم كينجي. وقال: «لا يزال القائد ماكميلان والكثير من أعضاء الهيئة الحربية في مقر مجلس الحكومات يؤمِنون بأن هذا الأمر كلَّه فخ من نوعٍ ما. وأنت تشغل منصب «جندي» في هذه العملية الاستكشافية. أنا شخصيًّا أعتقد أن اصطحاب الأسلحة غير ضروري.»

كان ماكس لا يزال يتذمَّر في صباح اليوم التالي عندما ترك ماكميلان لديميتري أولانوف مسئولية بينتا، وقاد مجموعة الاستكشاف إلى راما بنفسه. ورغم انعدام الجاذبية، فإن المعدات العسكرية التي كان يحملها ماكس خارج زيِّ الفضاء، كانت ثقيلة وأعاقت حرية حركته بشدة. وتمتم لنفسه: «هذا سخف. أنا فلاح، ولست فدائيًّا لعينًا.»

جاءت المفاجأة الأولى بعد دقائق من تحرُّك مستكشفي بينتا داخل الغطاء الخارجي. سار المستكشفون قليلًا في ممرٍّ واسع حتى وصلوا إلى حجرةٍ دائرية تتفرَّع منها ثلاثة أنفاق تؤدي إلى مكانٍ أعمق داخل السفينة الفضائية. كان اثنان من الأنفاق مغلقَين بالكثير من البوابات المعدنية. فاستدعى القائد ماكميلان كينجي ليستشيره.

قال كينجي ردًّا على سؤال القائد: «هذا التصميم مختلف تمامًا. لن يضيرنا شيءٌ إن رمَينا الخرائط.»

سأل ماكميلان: «إذن أظن أن علينا أن نمضيَ في النفق غير المُغلق؟»

رد كينجي: «الرأي رأيك، ولكن لا أرى أمامنا خيارًا سوى العودة لبينتا.»

مشى الستة عشر رجلًا ببطءٍ في النفق المفتوح مُرتَدِين الزيَّ الفضائي. وكانوا لا يدَعون دقائق كثيرة تمرُّ دون أن يُطلقوا شعاعًا في الظلام الذي يُغلفهم حتى يتمكنوا من رؤية المكان الذي تطؤه أقدامهم. بعدما قطعوا نحو خمسمائة مترٍ في داخل راما، ظهر شخصان ضئيلان فجأة في نهاية النفق. فأخرج الجنود الأربعة والقائد ماكميلان نظاراتهم المكبِّرة بسرعة.

قال أحد الجنود في حماس: «إنهما قادمان نحونا.»

قال ماكس باكيت وقد سرَت قشعريرة في جسده: «ليلعننِّي الله إن لم يكن هذا إبراهام لينكولن!»

قال آخر: «وامرأة ترتدي زيًّا ما.»

صاح إيان ماكميلان: «استعِدُّوا لإطلاق النيران.»

أسرع الجنود الأربعة وتقدَّموا المجموعة وجَثَوا مُوجِّهين مدافعهم نحو نهاية النفق. صاح ماكميلان والشخصان الغريبان يمشيان على مسافة مائتي متر من مجموعة الاستكشاف، قائلًا: «مكانكما.»

توقَّف إبراهام لينكولن وبنيتا جارسيا. وسمِعا القائد يصيح: «حدِّدا هدفكما.»

قال إبراهام لنكولن بصوتٍ عال وعميق: «نحن هنا لنُرحِّب بكم.»

وأضافت بنيتا جارسيا: «ونأخذكم إلى عدن الجديدة.»

ارتبك القائد ماكميلان ارتباكًا شديدًا. ولم يعرف ماذا يفعل. وبينما هو في تردُّده تحدَّث باقي أفراد مجموعة الاستكشاف فيما بينهم.

قال الأمريكي تري سنيدار: «إنه إبراهام لينكولن، هذا شبحه.»

«الأخرى هي بنيتا جارسيا، لقد رأيتُ تمثالها في مكسيكو سيتي ذات مرة.»

قال مُستكشف آخر: «لنخرج من هذا المكان اللَّعين. هذا المكان يُرعبني.»

«ما الذي تفعله الأشباح في مدار حول المريخ؟»

في النهاية، قال كينجي لماكميلان المُرتبك: «عفوًا أيها القائد. ما الذي تنوي فعله الآن؟»

التفت الاسكتلندي إلى مستشاره الياباني. وقال: «من الصعب أن نُحدِّد التصرُّف السليم بالطبع. أعني أن هذين يبدوان مُسالمَين، ولكن تذكَّر حصان طروادة. هه! حسنًا، ماذا ترى يا واتانابي؟»

«لماذا لا أتقدَّم، بمفردي أو مع أحد الجنود، ونتحدَّث معهما؟ عندها سنعرف …»

«هذه بالتأكيد شجاعة منك يا واتانابي ولكن لا داعي لها. لا، أرى أن نتقدَّم جميعًا. بحذر بالطبع. ونترك رجلَين في المؤخِّرة لينقلوا الأخبار إذا ما أطلقوا علينا مدفع ليزر أو شيئًا من هذا القبيل.»

شغَّل القائد جهاز الإرسال والاستقبال اللاسلكي. وقال: «أيها القائد أولاناوف، معك ماكميلان. لقد قابلْنا كائنَين من نوعٍ ما. هما إما بشر أو كائنات مُتخفِّية في هيئة بشر. أحدهما يبدو مثل إبراهام لينكولن، والآخر يُشبه رائدة فضاء مكسيكية شهيرة … ما هذا! ديميتري؟ … نعم، صحيح، لينكولن وجارسيا. لقد قابلنا لينكولن وجارسيا في النفق بداخل راما. يمكنك أن تنقل هذا إلى الآخرين … والآن، سأترك سنايدر وفينزي هنا بينما يتقدَّم الجميع باتجاه الغريبَين.»

لم تتحرك الشخصيتان عندما كان المُستكشفون الأربعة عشر القادمون من بينتا يتقدَّمون نحوهما. كان الجنود مُصطفِّين أمام المجموعة وهم على استعداد لإطلاق النار مع أول بادرةٍ تُوحي بأنهم سيواجهون متاعب.

قال إبراهام لينكولن عندما صار أولُ مستكشفٍ لا يبعد عنه سوى عشرين مترًا: «مرحبًا بكم في راما. نحن هنا لنصطحبكم إلى بيوتكم الجديدة.»

لم يُجِب القائد ماكميلان على الفور. كان ماكس باكيت الذي لا يمكن كبحُ جماحه هو من كسر حاجز الصمت. صاح قائلًا: «هل أنت شبح؟ أعني هل أنت إبراهام لينكولن فعلًا؟»

أجاب لينكولن بلا انفعالٍ وكأنه يسرد بعض الحقائق العلمية: «بالطبع لا. أنا وبنيتا جارسيا آليان بشريان. ستجد خمسة أصناف من الآليين البشريين في عدن الجديدة، صُمِّم كل منهم بقدراتٍ خاصة بهدف تخليص البشَر من المهام الروتينية المُملة. أنا مُتخصِّص في القيام بأعمال السكرتارية والمحاماة وكذلك أعمال المحاسبة وإمساك الدفاتر وتأمين التجهيزات والخدمات وإدارة المنازل والمكاتب وغيرها من المهام التنظيمية.»

صُعق ماكس. ومشى حتى أصبح على بُعد عدة سنتيمترات من لينكولن متجاهلًا أمر القائد بأن «يقف بعيدًا». تمتم لنفسه قائلًا: «هذا آلي لعين.» بعد هذا مدَّ يدَه ووضع أصابعه على وجه لينكولن مُتناسيًا أي خطر مُحتمل، لمس الجلد المُحيط بأنفه أولًا ثم تحسَّس شعيرات لحيتِه السوداء الطويلة. قال بصوتٍ عال: «غير معقول. غير معقول على الإطلاق.»

عندها قال لينكولن: «كانوا يعتنون بالتفاصيل عنايةً بالغة وهم يصنعوننا. فجِلدُنا مُماثل لجلدكم كيميائيًّا وأعيُننا تعمل على نفس الأسس البصرية الأساسية التي تعمل بها أعينكم. ولكننا لسنا مخلوقاتٍ ديناميكية دائمة التجدُّد مثلكم. كما أنه يجب على الفنيِّين صيانة أنظمتنا الفرعية وأحيانًا استبدالها.»

هدَّأت حركة ماكس الشجاعة من توتر الجميع. وبعدها كانت مجموعة الاستكشاف كلها، بما فيها القائد ماكميلان، تَكِزُ الآليين وتجسهما. أثناء الفحص أجاب لينكولن وجارسيا على الأسئلة التي طرحت حول تصميمهما وتشغيلهما. وفي لحظةٍ ما أدرك كينجي أن ماكس باكيت انسحب من بين مجموعة الاستكشاف وجلس بمفردِه مستندًا إلى أحد حوائط النفق.

اتجه كينجي نحو صديقه. وسأله: «ما الأمر يا ماكس؟»

هز ماكس رأسه. وقال: «أي عبقرية هذه التي صنعت شيئًا كهذا؟ هذا مُخيف حقًّا.» صمت عدة ثوان. ثم قال: «ربما أكون غريبًا ولكن هذين الآليَّيْن يُخيفانني أكثر من هذه الأسطوانة الضخمة.»

•••

مشى لينكولن وجارسيا مع المجموعة المُستكشفة لِما بدا أنه نهاية النفق. وفي ثوانٍ فُتح باب في الحائط وأشار الآلِيَّان إلى البشر أن يدخلوا. إجابةً على استفسار ماكميلان، أوضح الآليَّان أن البشر على وشك دخول «وسيلة مواصلات» تحمِلهم إلى ضواحي المسكن الأرضي.

نقل ماكميلان ما قاله الآليون إلى ديميتري أولانوف على بينتا، وقال لنائبه الروسي أن «ينطلق» إذا لم تصِله منهم أخبار في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة.

كانت الرحلة في العربة الناقلة مُذهلة. ذكَّرت ماكس باكيت بلعبة الدودة الضخمة في مهرجان مدينة دالاس بولاية تكساس. انطلقت المركبة التي على شكل رصاصة بسرعةٍ في طريقٍ حلزوني مُغطًّى، ينحدر من الطرف الشمالي لراما ذي الشكل المُجوَّف إلى السهل الرئيسي في الأسفل. خارج العربة الناقلة المُغطَّاة بنوعٍ من البلاستيك الشفَّاف الثقيل، رأى كينجي والآخرون شبكاتٍ ضخمة من السلالم والأدراج تمتدُّ عبر المنطقة التي يقطعونها. ولكنهم لم يرَوا المَشاهد التي لا تُضَاهَى التي أخبر عنها مستكشفو راما السابقون؛ فقد حجب رؤيتَهم للجنوب حائطٌ طويل جدًّا لونُه كلون الجرانيت.

استغرقت الرحلة أقلَّ من خمس دقائق. وصلوا بعدَها إلى حلقةٍ مغلقة تُحيط بمسكن الأرض إحاطة تامة. عندما خرج مُستكشفو بينتا من العربة الناقلة انتهت حالة انعدام الجاذبية التي كانوا يعيشون فيها منذُ أن رحلوا عن الأرض. وصارت الجاذبية شبه طبيعية.

قال لينكولن الآلي: «الغلاف الجوي في هذا الممر، وفي عدن الجديدة، يُطابق الغلاف الجوي في كوكبكم الأم. ولكن الحال ليس كذلك في المنطقة التي تقع على يَميننا، خارج الحوائط التي تحمي مسكنكم.»

كان الضوء في الحلقة المُحيطة بعدن الجديدة خافتًا؛ لذا لم يكن المُستعمرون على استعدادٍ لاستقبال ضوء الشمس الباهر الذي استقبل أعيُنَهم عندما فُتِح الباب الضخم ودخلوا إلى عالَمِهم الجديد. خلع الرجال خوذاتهم، وحملوها في أيديهم وهم يسيرون في الممشى القصير المؤدِّي إلى محطة القطار القريبة. مرُّوا ببنايات خالية تقع على جانبَي الممر، فرأوا بنايات صغيرة هي على الأرجح بيوت أو محال، ورأوا في الجهة المقابلة للمحطة بنايةً كبيرة (أخبرتهم بنيتا جارسيا أنها ستكون «مدرسةً ابتدائية»).

عندما وصلوا إلى المحطة، وجدوا قطارًا في انتظارهم. وبعد أن ركبوا انطلقت العربة الأنيقة، التي كانت مقاعدها مريحة ناعمة، وكانت بها لوحة إلكترونية تزودهم بمعلومات عن الأماكن التي يمرُّون بها بسرعةٍ باتجاه عدن الجديدة حيث «سيحصلون على معلوماتٍ شاملة» وفقًا لما قاله لينكولن الآلي. في البداية، جرى القطار بموازاة شاطئ بحيرة جميلة صافية (قالت بنيتا جارسيا إنها «بحيرة شكسبير») ثم انعطف يسارًا مُبتعدًا عن الحوائط الرمادية الفاتحة التي تُحيط بالمُستعمرة. وفي نهاية الرحلة هيمن جبلٌ ضخم لا تكسوه خضرة على المنظر الطبيعي الظاهر على يمين القطار.

طوال الرحلة ظلَّ فريق بينتا صامتًا. إذ كان مذهولًا تمامًا. فقد كان ما رأوه رائعًا جدًّا. إن الخيال الإبداعي لكينجي واتانابي نفسه لم يستطع يومًا أن يتصوَّر شيئًا كالذي رأوه. كان أروع كثيرًا مما تخيَّلوه.

كان آخِر جمال سيتطلعون إليه في رحلتهم هو جمال المدينة المركزية التي وضع فيها مصممو عدن الجديدة كل البنايات الرئيسية. وقف أفراد المجموعة وكأنَّ على رءوسهم الطير وهم يُحدقون في صفِّ البنايات الضخمة المُبهرة التي تُمثل قلب المُستعمرة. وكون هذه البنايات لا تزال خاوية أضاف صبغةً من الغموض على التجربة كلها. كان كينجي واتانابي وماكس بيكيت آخِر من دخلا الصرح الذي ستُلقى فيه المعلومات.

سأل كينجي ماكس وهما واقفان أعلى سُلَّم مبنى الإدارة يُلقيان نظرة على مجمع المباني المحيط بهما: «ما رأيك؟»

أجاب ماكس في رهبة واضحة: «لا رأيَ لي. هذا المكان يتحدَّى العقل. إنه كالجنة، بل بلاد العجائب التي زارتها أليس، بل كل القصص الخيالية التي سمعتُها في طفولتي مجتمعةً في صورة واحدة. إنني لا أكفُّ عن قرص نفسي لعلِّي أتأكد من أنني لا أحلم.»

•••

قال لينكولن الآلي: «على الشاشة التي أمامكم خريطة شاملة لعدن الجديدة. كل منكم سيحصل على مجموعةٍ كاملة من الخرائط بها كل الطرق والبنايات الموجودة في المستعمرة. نحن هنا في المدينة الرئيسية التي صُمِّمت لتكون المركز الإداري لعدن الجديدة. بنينا المساكن والمحال والمكاتب الصغيرة والمدارس في الزوايا الأربعة للمُستطيل المحاط بالجدار الخارجي. ولأن اختيار أسماء هذه المدن الأربع متروك للسكان فإننا سنُشير إليهم اليوم بالشمال الشرقي والشمال الغربي والجنوب الشرقي والجنوب الغربي. وإننا إذ نُشير إلى المدن باتجاهاتها فإننا نتبع التقليدَ الذي تبنَّاه مستكشفو راما الأوائل الذين جاءوا من الأرض؛ إذ أشاروا إلى طرف راما الذي ترسو فيه سفينتكم بالطرف الشمالي.

كلٌّ من الجوانب الأربعة لعدن الجديدة له وظيفة جغرافية. تُسمَّى البحيرة العذبة الممتدة على طول الجانب الجنوبي من المُستعمرة — كما أخبرناكم من قبل — بحيرة شكسبير. معظم الأسماك وأشكال الحياة المائية التي أحضرتموها معكم ستعيش هناك، لكن بعض الأنواع قد يكون من الأمثل أن تضعوها في النهرَين اللذَين يصبَّان في البحيرة، واللذَين يمرُّ أحدهما بجبل الأوليمب الواقع على الجانب الشرقي من المستعمرة، ويمر الآخر بغابة شيروود الواقعة على الجانب الغربي.

في الوقت الحالي تُغطي شبكة رائعة من أجهزة تبادل الغازات منحدرات جبل الأوليمب وكل أرجاء غابة شيروود وحدائق المدن والأحزمة الخضراء في كل أرجاء المستعمرة. هذه التقنية الدقيقة تقوم بمهمة واحدة ألا وهي: تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين. بمعنى أنها نباتات ميكانيكية. وستحل محلها النباتات الحقيقية التي أحضرتموها معكم من الأرض.

أما الجزء الذي يقع بين المدن في الجانب الشمالي من المستعمرة فمُخصَّص لأغراض الزراعة. بنَينا المزارع هنا على طول الطريق الذي يصِل بين المدينتَين الشماليتَين. ستزرعون معظم طعامكم في هذه المنطقة. يجب أن تكفي الإمداداتُ الغذائية التي أحضرتموها معكم والطعامُ الصناعي المُخزَّن في المباني الأسطوانية العالية — التي تقع على بُعد ثلاثمائة متر من شمال هذا المبنى — احتياجات ألفَي إنسانٍ من الطعام مدة عامٍ على الأقل، بل قد تصل المدة إلى ثمانية عشر شهرًا إذا ما حافظتم على الحد الأدنى من إهدار الطعام. بعد هذا ستتحملون مسئولية أنفسكم. وعلى هذا فمِن البديهي أن الزراعة ستُمثل جزءًا هامًّا من حياتكم في عدن الجديدة، بما في ذلك الزراعة بلا تربة التي ستقومون بها على السواحل الشرقية لبحيرة شكسبير …»

شعر كينجي أنه لم يكد يلتقط أنفاسه أثناء جلسة التعريف بعدن. فقد ظل اللينكولن الآلي يُلقي المعلومات بسرعةٍ شديدة جدًّا طوال تسعين دقيقة رافضًا الإجابة عن كلِّ الأسئلة إما بقوله «هذا خارج قاعدة بياناتي» أو بالإشارة إلى رقم الصفحة ورقم الفقرة اللذَين يحتويان على الإجابة في كتاب «المُرشد الأساسي لعدن الجديدة» الذي سلَّمَهم إيَّاه. أخيرًا حان وقت الاستراحة وانتقل الجميع إلى الغرفة المُجاورة حيث قدَّموا لهم مشروبًا يُشبه طعمُه طعم المياه الغازية.

قال تيري سنايدر وهو يمسح جبينه: «يا إلهي! هل أنا الوحيد الذي أنهكَه هذا؟»

أجاب ماكس باكيت وهو يبتسِم ابتسامة عابثة: «تبًّا يا سنايدر. أتقول إن قُدراتك أضعف من قدرات هذا الآلي اللعين؟ إنه لم يتعب بالتأكيد. أُراهن أنه يستطيع أن يقضي اليوم بأكمله في إلقاء المحاضرات.»

قال كينجي واتانابي متفكرًا: «بل ربما أسبوعًا كاملًا. وددتُ لو عرفت كم يمرُّ من الوقت قبل أن يحتاج هؤلاء الآليون إلى إصلاح. إن شركة أبي تصنع الآليين وبعضهم مُعقد للغاية، ولكنَّ أيًّا منهم لا يُشبه هذا. لا بد أنَّ محتوى المعلومات في لينكولن هذا عملاق.»

قال لينكولن: «ستبدأ الجلسة مرة أخرى بعد خمس دقائق. أرجو الإسراع.»

•••

في النصف الثاني من الجلسة قدم المحاضر للبشر مُختلف أنواع الآليين الذين سيعيشون معهم في عدن الجديدة، وألقى الضوء على كلِّ ما يتعلق بها. كانت لدى البشر معرفة مُسبقة عن البلدوزر وآليي البناء الآخرين، اكتسبوها من دراستهم الحديثة لبعثات راما السابقة. لذلك لم تُثِر فيهم ردَّ فعلٍ قويًّا كالذي أثارته رؤية الأصناف الخمسة للآليين البشريين.

قال لهم لينكولن: «قرَّر واضعو التصميمات أن يجعلوا الشبَهَ بين الآليين والبشر محدودًا لكيلا يُصبح هناك احتمال أن يخلط أحد بيننا وبينكم. لقد عددتُ لكم وظائفي الأساسية بالفعل، وبرمجة اللينكولن الآخرين، الذين سينضمُّ إلينا ثلاثة منهم، مُماثلة لبرمجتي. على الأقل من حيث الأساسيات. ولكننا نتمتع بشيءٍ من القدرة على التعلُّم، وهذا سيجعل قواعد بياناتنا تختلف بتطوُّر وظائفنا المُحددة.»

عندما كان اللينكولن الجدد الثلاثة ينتشرون في الغرفة سأل أحد أعضاء مجموعة الاستكشاف التي أصابها الذهول: «كيف نُفرِّق بين آليي اللينكولن المُختلِفين؟»

«لكلٍّ منَّا رقم تعريف، منحوت على مكانين: على الكتف وعلى الردف الأيسر. وهذا ينطبق على جميع أصناف البشر الآليين. على سبيل المثال، أنا لينكولن ٠٠٤. الثلاثة الذين دخلوا هم ٠٠٩ و٠٢٤ و٠٧١.»

عندما غادر اللينكولن الآليون القاعة حلَّ محلهم خمسة من آليات بنيتا جارسيا. قامت إحداهن بوصف تخصُّصات صنْفها — وهي القيام بمهام الشرطة ومكافحة الحرائق وتولِّي أمور الزراعة والصرف الصحي والتنقُّل والبريد — وبعدها أجَبْنَ على بضعة أسئلة ثم انصرفن جميعًا.

كان الأينشتاين الآليون هم من دخلوا بعد هذا. وانفجر المُستكشفون ضحكًا عندما رأوا آليي أينشتاين الأربعة يدخلون الغرفة معًا وكل منهم نسخة من صورة عبقري القرن العشرين بشعره الأبيض الأشعث. أوضح هؤلاء أنهم مهندسو المستعمرة وعلماؤها. وأشاروا إلى أن مهمتهم الأساسية هي «ضمان عمل البنية التحتية للمستعمرة على نحوٍ مُرضٍ»، وهذه البنية تشمل مجموعة الآليين، وأضافوا أن مُهمتهم مهمة حيوية تتضمن الكثير من الواجبات.

قدمت مجموعة من الآليات السمراوات الطويلات أنفسهن قائلاتٍ إنهنَّ يُدْعَين تياسو، وإنهن مُتخصصات في العناية الصحية، فهن يَقُمنَ بأدوار الطبيبات والمُمرضات ومسئولات الصحة ويعتنين بالأطفال عندما يتغيَّب آباؤهم. بينما كان الجزء المُخصَّص لهؤلاء من الجلسة في نهايته، دخل إلى الغرفة آليٌّ شرقي له عينان تنبضان بالإحساس، كان يحمل قيثارةً ومسندًا إلكترونيًّا، وقدَّم نفسه على أنه ياسوناري كاواباتا، قبل أن يعزف مقطوعةً قصيرة جميلة على القيثارة.

قال ببساطة: «نحن الكاواباتا فنانون مُبدعون. فنحن موسيقيون وممثلون ورسامون ونحاتون وكُتَّاب، وأحيانًا نعمل مصورين فوتوغرافيين وسينمائيين. عددُنا قليل، ولكن وجودنا ضروري للارتقاء بجودة الحياة في عدن الجديدة.»

عندما انتهي التعريف الرسمي، قُدم للمجموعة الاستكشافية عشاء فاخر في القاعة الكبيرة. انضمَّ نحو عشرين آليًّا للبشر، لكنهم لم يأكلوا شيئًا بالطبع. كان البط المشويُّ الصناعي يُشبه الحقيقي إلى حدٍّ مُربك، وهذا ينطبق على جميع أنواع الطعام والشراب، وفي ذلك الخمر، فهي لم تكن لتُثير شكَّ أيِّ شخصٍ إلا إن كان أوسع العالِمين بصناعة الخمور خبرةً.

بعد هذا، عندما حل المساء وأصبح البشر أكثر اطمئنانًا إلى صحبة الآليين حتى إنهم أخذوا يُمطرونهم بوابل من الأسئلة، ظهرت شخصية نسائية في مدخل الباب المفتوح. لم ينتبِه إليها أحد. لكنَّ الهدوء ساد الغرفة بسرعةٍ بعدما قفز كينجي واتانابي من مقعده واقترب من الوافدة الجديدة بيد ممدودة.

قال مبتسمًا: «الدكتورة دي جاردان، حسبما أعتقد.»

١٠

مع أن نيكول أكدت أن ما قالته في الفيديو وصفٌ صادق لِواقع عدن الجديدة، فقد رفض القائد ماكميلان السماح لركاب بينتا وطاقمها بدخول راما وشغْل بيوتهم الجديدة، إلى أن يتأكد له عدم وجود أي خطر. فعاد إلى بينتا، وتشاوَر طويلًا مع العامِلين بوكالة الفضاء العالمية على الأرض، ثم أرسل بعثةً صغيرة يرأسها ديميتري أولانوف إلى راما للحصول على معلوماتٍ إضافية. كان أهم أفراد فريق أولانوف هو الهولندي الصارم دارل فان روس، وهو مسئول الصحة الأول. وصحِب المهندسَ الروسي كينجي واتانابي وجندِيَّين كانا في مجموعة الاستكشاف الأولى.

كانت التعليمات التي أُعطيت للطبيب واضحة. سيفحص آل ويكفيلد جميعًا ويتأكد من أنهم بشر بالفعل. وثانيةُ مهامِّه هي تحليل الآليين ووضع تصنيفٍ لملامحهم غير البيولوجية. تم إنجاز كل هذا بلا مشاكل، مع أن كيتي ويكفيلد لم تكن متعاونة وظلت تتهكَّم عليه أثناء الفحص. وبناءً على اقتراح من ريتشارد، فكك أينشتاين آلي أحد اللينكولن الآليين وشرح، عمليًّا، كيف تعمل أكثر الأنظمة الفرعية تعقيدًا. فانبهر النائب أولانوف انبهارًا شديدًا.

بعد يومَين بدأ مسافرو بينتا نقل مُمتلكاتهم إلى راما. وساعدهم فريق كبير من الآليين في تفريغ السفينة ونقل الإمدادات إلى عدن الجديدة. استغرق إتمام هذه العملية نحو ثلاثة أيام. ولكن أين سيستقر كلٌّ منهم؟ في قرارٍ ستترتَّب عليه نتائج ذات أهمية شديدة للمستعمرة فيما بعد، اختار الغالبية العظمى من مسافري بينتا الثلاثمائة أن يعيشوا في الجنوب الشرقي، وهو المكان الذي اتخذ فيه آل ويكفيلد مسكنهم. ولم يتخلَّف عن هذا سوى ماكس باكيت وقليل من الفلاحين الذين انتقلوا مباشرةً إلى المنطقة الزراعية على طول المُحيط الشمالي لعدن الجديدة.

انتقل آل واتانابي إلى منزل صغير قريب من الممر المتفرع من مسكن ريتشارد ونيكول. من البداية نشأت أُلفة طبيعية بين كينجي ونيكول وأخذت صداقتهما تنمو مع كل التعامُلات التي تلت. في أول ليلة قضاها كينجي وناي في منزلهما الجديد دعتهما أسرة ويكفيلد إلى العشاء.

قالت نيكول عندما انتهوا من تناول الوجبة: «ما رأيكم أن ننتقل إلى غرفة المعيشة؟ إنها مريحة أكثر. وسينظف اللينكولن المائدة ويتولَّى أمر الأطباق.»

قام آل واتانابي من مِقعدَيهما وسارا خلف ريتشارد في مدخلٍ يقع في نهاية غرفة الطعام. انتظر صغار أسرة ويكفيلد بأدبٍ حتى يدخل كينجي وناي أولًا ثم لحقوا بأبوَيهم والضيوف في غرفة المعيشة الدافئة في مقدمة المنزل.

مرَّت خمسة أيام على دخول مجموعة بينتا الاستكشافية راما لأول مرة. قال كينجي لنفسه وهو جالس في غرفة المعيشة في منزل أسرة ويكفيلد: هذه الأيام الخمسة كانت مُدهشة. واستعرض عقلُه بسرعة مجموعةَ الانطباعات المختلطة التي لم يفلح في ترتيبها بعد. ثم قال في نفسه: أكثر شيء إثارةً للدهشة فيها في كثير من النواحي هو هذا العشاء. ما مرَّت به هذه الأسرة لا يُصدَّق.

قالت ناي لريتشارد ونيكول بعد أن جلس الجميع: «الحكايات التي قصصتموها مُذهلة للغاية. هناك الكثير من الأسئلة التي أودُّ أن أطرحَها ولا أدري من أين أبدأ … أنا مُنبهرة خصوصًا بهذا المخلوق الذي تُسمُّونه الرجل النسر. أهو أحد الفضائيين الذين بنَوا النود وراما من البداية؟»

قالت نيكول: «كلَّا. الرجل النسر إنسان آلي أيضًا. على الأقل هذا هو ما قاله لنا، وليس لدَينا سبب يدعو إلى عدم تصديقه. لقد صنعه الذكاء الذي يحكم النود ليمنحنا فرصةَ التعامُل مع شيءٍ محسوس.»

«ولكن من بنى النود؟»

قال ريتشارد مُبتسمًا: «هذا السؤال بالتأكيد مُصنَّف في المستوى الثالث.»

ضحك كينجي وناي. كانت نيكول وريتشارد قد شرحا لهما ترتيب الرجل النسر للمعلومات ضمن القصص الطويلة التي قالوها على العشاء. قال كينجي: «أتساءلُ ما إذا كان من المُمكن لعقلنا أن يستوعب فكرة وجود كائنات متطورة جدًّا حتى إن آلاتهم يمكن أن تَصنع آلاتٍ أخرى أذكى منَّا.»

قاطعَتْه كيتي قائلة: «أتساءل ما إذا كان من الممكن لنا أن نُناقش بعض الأمور الأقل جدية. على سبيل المثال، أين الشباب الذين هم في نفس عمري؟ حتى الآن لا أظن أنَّني رأيتُ أكثر من اثنَين ما بين الثانية عشرة والخامسة والعشرين.»

أجاب كينجي: «معظم الأفراد الأصغر سنًّا على متن نينيا. مِن المُفترض أن تصِل إلى هنا في غضون ثلاثة أسابيع وبها معظم سكان المُستعمرة. فقد اختير ركاب بينتا للقيام بمهمة التأكد من صحة الفيديو الذي تلقَّيناه.»

سألت كيتي: «ما معنى «صحة»؟»

قالت نيكول: «صِدق ودقة. تقريبًا. كانت هذه إحدى كلمات جدِّك المُفضلة … وبمناسبة الحديث عن جدك، لقد كان من أشدِّ المؤمنين بأن الشباب يَجب أن يُسمح لهم دائمًا بالاستماع لحديث الكبار، لكن لا يُسمح لهم بمقاطعتهم … علينا مناقشة الكثير من الأمور مع آل واتانابي هذا المساء. لستُم مُضطرين للبقاء معنا.»

قال بينجي: «أريد أن أخرج وأرى الأضواء. هل ستأتين معي يا إيلي، لو سمحت؟»

وقفت إيلي ويكفيلد وأمسكت بيَدِ بينجي. استأذَنا بأدبٍ وتبعتهما كيتي وباتريك خارج الباب. قالت كيتي وهما يَخرجان: «سنخرج لنرى ما إذا كان هناك شيءٌ مُثير يُمكننا أن نفعلَه. عِمتما مساءً يا سيد كينجي ويا سيدة ناي. أمي، سنعود بعد حوالي ساعتَين.»

هزَّت نيكول رأسها وآخِر الأطفال يغادر البيت. وقالت شارحةً موقف كيتي: «إن كيتي في حالة هستيرية منذ أن وصلت بينتا، إنها لا تكاد تنام ليلًا. تُريد أن تقابل الجميع وتتحدَّث معهم.»

بعد أن أنهى اللينكولن الآلي تنظيف المطبخ وقف بجوار الباب خلف مِقعد بينجي بلا تطفُّل. سألت نيكول كينجي وناي وهي تسير باتجاه الآلي: «أتريدان أن تشربا شيئًا؟ ليس لدَينا ما هو في حلاوة طعم مشروبات الفاكهة الطازجة التي أحضرتموها من الأرض، ولكن لينك يستطيع أن يصنع بعض المنتجات الصناعية اللذيذة.»

هز كينجي رأسه وقال: «كلَّا شكرًا. لقد أدركتُ أننا قضينا الليل بطوله نتحدَّث عن رحلتكم التي لا يُصدقها عقل. وبالتأكيد لديكما أسئلة تريدان أن تطرحاها علينا. فبعد كل شيء، لقد مرت خمسةٌ وأربعون عامًا على الأرض منذ أن انطلقَتْ منها بعثة نيوتن.»

فجأة دار ما يلي في خلد نيكول: خمسة وأربعون عامًا. هل هذا مُمكن؟ هل من الممكن أن تكون جنيفياف في نحو الستين من عمرها حقًّا؟

تذكَّرَت نيكول بوضوحٍ آخِر مرة كانت فيها مع أبيها وابنتها على الأرض. اصطحبها بيير وجنيفياف إلى المطار في باريس. وظلَّت ابنتها تحتضنها بقوةٍ حتى صدر آخِر نداء للركاب بصعود المركبة وعندها نظرت إلى أُمِّها وعيناها تفيضان بالحُب والفخر. كانت عينا الفتاة مُغرورقَتَين بالدموع. لم تستطع جنيفياف أن تنبس ببنت شفة. قالت نيكول في نفسها: «أثناء الخمس والأربعين سنة مات والدي. وأصبحت جنيفياف عجوزًا، بل جدة كما قال كينجي. في الوقت الذي كنتُ أتِيهُ فيه في الزمان والمكان. في بلاد العجائب.»

كانت الذكريات أقوى مما تحتمِله نيكول. فأخذت نفسًا عميقًا وهدَّأت نفسها. عندما عادت إلى الحاضر كان الهدوء لا يزال يُخيم على غرفة المعيشة.

سألها كينجي برقة: «هل كل شيءٍ على ما يُرام؟» أومأت نيكول برأسها وحدَّقَت في عينَي صديقها الجديد الواسعتَين الصافيتَين. وتصوَّرتْ للحظةٍ أنها كانت تتحدَّث مع زميلها رائد الفضاء شيجرو تاكاجيشي. قالت في نفسها: هذا الرجل فضولي مثل شيج. أستطيع أن أثق به. كما أنه تحدث مع جنيفياف من سنوات قليلة.

قالت نيكول بعد صمت طويل: «شرح لنا ركاب بينتا معظم الأحداث العامة التي وقعت على الأرض في حلقات منفصلة، أثناء الحوارات العديدة التي دارت بيننا. ولكننا لا نعرف شيئًا عن أُسَرِنا إلا ما أخبرتَنا به باختصار في تلك الليلة الأولى. أنا وريتشارد نودُّ أن نعرف إن كنتَ قد تذكرتَ أي تفاصيل أخرى ربما تكونُ قد أهملتها في حواراتنا الأولى.»

قال كينجي: «في الحقيقة، تصفحت يومياتي عصر اليوم، وأعدتُ قراءة ما أدخلتُه من بيانات عندما كنت أقوم ببحثٍ أولي تمهيدًا للكتاب الذي كنتُ أعده عن نيوتن. أهم ما أهملت ذكره في نقاشاتنا السابقة هو إلى أي مدى تشبه جنيفياف والدها، على الأقل من شفتَيها وحتى نهاية وجهها. كان وجه الملك هنري جذابًا، أنا واثق من أنك تتذكَّرين هذا. عندما كبرت جنيفياف استطال وجهها وبدأ يُشبه وجهه بوضوح … تفضَّلي، انظري إلى هذه، نجحت في العثور على صورتَين التُقِطتا في الأيام الثلاثة التي قضيتُها في بوفوا، وكانتا مُختزنَتَين في قاعدة البيانات الخاصة بي.»

استحوذت الصورتان على عقل ومشاعر نيكول. فاندفعت الدموع على الفور في عينَيها وفاضت على وجنتَيها. وارتعشت يداها وهي تُمسك الصورتَين اللتَين تظهر فيهما جنيفياف وزوجها لوي جاستون. صرخت بينها وبين نفسها: آه يا جنيفياف، كم أفتقدك! لكم أودُّ أن أحتضنك ولو لحظة واحدة!

مال ريتشارد نحوها ليرى الصورتَين. وربَّت على كتفها بلُطف. ثم علَّق بهدوء قائلًا: «تُشبه الأمير كثيرًا، ولكنَّني أظنُّ أنها تُشبه والدتها أكثر.»

أضاف كينجي قائلًا: «كانت جنيفياف لطيفةً للغاية، وهذا أدهشَني خاصة عندما نظرتُ إلى كمِّ مُعاناتها أثناء الجلبة الإعلامية التي ثارت عام ٢٢٣٨. أجابت أسئلتي بمُنتهى الصبر. كنتُ أنوي أن أجعلَها إحدى ركائز كتابي حتى أثناني مُحرِّرُ كتابي عن القيام بالمشروع.»

سأل ريتشارد محافظًا على استمرار الحوار، بينما ظلَّت نيكول تنظر إلى الصورتَين: «كم من روَّاد فضاء نيوتن لا يزالون على قيد الحياة؟»

أجاب كينجي: «فقط ساباتيني وتابوري وياماناكا. أصيب الدكتور ديفيد براون بجلطة خطيرة تُوفي بعدَها بستة أشهر في ظروفٍ غريبة بعض الشيء. أظنُّ أن هذا حدث عام ٢٢٠٨. ومات الأميرال هيلمان في حوالي عام ٢٢١٤ بعد إصابته بالسرطان. وعانت إيرينا ترجينيف من انهيارٍ عصبي حادٍّ بعد إصابتها بمُتلازمة «العودة إلى الأرض» التي ظهرت بين بعض روَّاد الفضاء في القرن الحادي والعشرين، وفي النهاية انتحرَت في عام ٢٢١١.»

كانت نيكول لا تزال تقاوم مشاعرها. قالت لآل واتانابي عندما عاد الصمت إلى الغرفة: «حتى ثلاثة أيام مضت، لم أكن قد أخبرتُ ريتشارد أو الأطفال أن هنري هو والد جنيفياف. وعندما كنتُ أعيش على الأرض لم يعرف الحقيقة سوى والدي. ربما يكون الشكُّ قد راود هنري ولكنه لم يتيقن. وعندما أخبرتْني عن جنيفياف، أدركتُ أنني يجب أن أُخبر أُسرتي. أنا …»

تهدج صوت نيكول وظهر مزيد من الدموع في عينَيها. مسحت وجهها بمنديلٍ ناولته إيَّاها ناي وقالت: «آسفة، لم يحدُث لي هذا قط. كانت صدمةً لي أن أرى الصورتَين وأتذكَّر الكثير من الأشياء …»

قال ريتشارد: «أثناء حياتنا في مركبة راما الثانية وفي النود، كانت نيكول مثال الثبات. كانت كالصخرة. فمهما يكن ما نُقابله ومهما تكن غرابة ما نواجِهه فإنها تظلُّ متحكمة في نفسها. كنتُ أنا والأطفال ومايكل أوتول نعتمِد عليها. كنَّا نادرًا جدًّا ما نراها …»

صاحت نيكول بعد أن مسحت وجهها: «كفى.» ونحَّت الصورتَين جانبًا. وقالت: «دعونا ننتقل إلى موضوع آخر. لنتحدَّث عن رائدة الفضاء فرانشيسكا ساباتيني خاصة. هل حصلت على ما تريد؟ هل حققت شهرةً وغِنًى لا مَثيل لهما؟»

قال كينجي: «تقريبًا. لم أكن قد وُلِدت عندما كانت في ذروة مجدها في العقد الأول من القرن الماضي، لكنها لا تزال مشهورةً جدًّا حتى الآن. كانت أحد الذين استضافهم التليفزيون مؤخَّرًا بشأن أهمية إعادة استعمار المريخ.»

مالت نيكول إلى الأمام في كُرسيها. وقالت: «لم أُخبرك بهذا أثناء العشاء، ولكنني متأكدة من أن فرانشيسكا وبراون أعطَيا مخدرات لبورزوف مما تسبَّب في ظهور أعراض الزائدة الدودية عليه. كما أنها تعمَّدت تَركي في قاع تلك الحفرة في نيويورك. إنها امرأة بلا ضمير.»

ظلَّ كينجي صامتًا عدة ثوانٍ. ثم قال: «نعود إلى عام ٢٢٠٨، قبل موت د. براون مباشرة، أثناء مرضه، كان أحيانًا ما يمرُّ بأوقاتٍ يكون فيها عقله سليمًا. في إحدى هذه المرات أجرى حوارًا رائعًا مع مُراسل صحفي في إحدى المجلات، اعترف فيه بأنه مسئول جزئيًّا عن موت بورزوف، واتهم فرانشيسكا بالتسبُّب في اختفائك. قالت السنيورة إن القصة كلها «هراء وتهيؤات عقل مريض»، وقاضت المجلة مُطالبةً إيَّاها بمائة مليون مارك، ثم سوَّت القضية وديًّا. ففصلت المجلة المُراسِل واعتذرت لها رسميًّا.»

علقت نيكول قائلةً: «دائمًا ما تربح فرانشيسكا في النهاية.»

تابع كينجي قائلًا: «كدتُ أُحْيي هذه القضية منذ ثلاثِ سنواتٍ عندما كنتُ أقوم ببحث لكتابي. فقد كانت جميع البيانات الواردة من بعثة نيوتن قد أصبحت ملكيةً عامة متاحةً لكل مَن يَطلبها؛ لأنه كان قد مرَّ عليها أكثر من خمسةٍ وعشرين عامًا. وبهذا وجدت محتويات الكمبيوتر الشخصي الخاص بك مبعثرة بين المعلومات التي نُقِلت إلينا من الفضاء، وفيها مكعب بيانات لا بدَّ أنه يخصُّ هنري. كنتُ قد اقتنعت بأن الحوار الذي دار مع د. براون به بالفعل شيءٌ من الحقيقة.»

«وماذا حدث بعد هذا؟»

«ذهبتُ لأُجري حوارًا مع فرانشيسكا في قصرها في سورينتو. وبعدها مباشرة توقفتُ عن العمل في الكتاب …»

تردَّد كينجي لحظة، وتساءل في نفسه: هل أُفصح عن المزيد؟ نظر إلى زوجته المُحبة وقال لنفسه: لا، لا الوقت مُناسب ولا المكان.

•••

«آسفة يا ريتشارد.»

كان ريتشارد قد أوشك على أن يغطَّ في النوم عندما سمع صوت زوجته الرقيق في غرفة النوم يقول ذلك.

قال: «هه؟ هل قلتِ شيئًا يا حبيبتي؟»

كررت نيكول ما قالته: «آسفة.» تدحرجت لتصِل إلى جواره وتحسَّست الطريق إلى يدَيه بيدَيها تحت الغطاء. قالت: «كان ينبغي أن أُخبرك بشأن هنري منذ سنوات … أما زلت غاضبًا؟»

قال ريتشارد: «لم أغضب أبدًا. ربما اندهشت، بل ذُهلت. لكنني لم أغضب. كان لديك أسبابك عندما أخفيتِ الأمر.» ضغط على يدِها. وقال: «كما أن هذا كان على الأرض، في حياةٍ أخرى. لو كنتِ أخبرتني عندما تقابَلْنا أول مرة، ربما كان الأمر قد شغلَني. فلربما أثار غيرتي، ويقينًا كان سيُثير فيَّ الشعور بأنني غير أهل لك. أما الآن، فلا.»

مالت عليه نيكول وقبَّلته. ثم قالت: «أُحبك يا ريتشارد ويكفيلد.»

أجاب: «أنا أيضًا أحبك.»

•••

تطارَح كينجي وناي الغرام لأول مرة منذ أن غادرا بينتا، ونامت هي على الفور. كان كينجي لا يزال يقظًا على غير المُتوقَّع. ورقد في الفراش مُستيقظًا يفكر في الليلة التي قضياها مع أسرة ويكفيلد. لسببٍ ما جاءت صورة فرانشيسكا ساباتيني إلى عقله. قال لنفسه: «إنها أجمل من بلغ السبعين من النساء. ويا لها من حياةٍ رائعة تلك التي عاشتها!»

تذكَّر كينجي بوضوح عصر ذلك اليوم الصيفي الذي دخل فيه قطارُه المحطة في سورينتو. عرف سائق السيارة الكهربائية العنوان على الفور. وقال له بالإيطالية: «فهمت، تُريد قصر ساباتيني.»

تسكن فرانشيسكا في بيتٍ يُطل على خليج نابولي. وهو فندق مُكون من عشرين غرفة، كان من أملاك أميرٍ من أمراء القرن السابع عشر. كان بوسع كينجي أن يرى، من الغرفة التي ينتظر فيها ظهور السنيورة، العربات المُعلقة التي تنقل السبَّاحين وهي تنطلِق نازلةً جرفًا شديدَ الانحدار لتصِل بهم إلى الخليج ذي المياه الزرقاء في الأسفل.

تأخَّرت السنيورة نصف ساعة وتعجلت إنهاء الحوار. أخبرت فرانشيسكا كينجي مرتَين بأنها وافقت على أن تتحدَّث معه فقط لأن ناشِرها أخبرها أنه «كاتب شاب مُميز». قالت بإنجليزية رائعة: «بصراحة، في هذه المرحلة، أجِد أيَّ نقاشٍ حول نيوتن مُملًّا للغاية.»

غير أن اهتمامها بالحوار اشتعل عندما أخبرَها كينجي ﺑ «البيانات الجديدة» وملفات كمبيوتر نيكول الشخصي التي نُقِلت إلى الأرض في الأسابيع القليلة الأخيرة للبعثة «بطريقة الإرسال البطيء»، وبينما كان كينجي يُقارن ما كتبتْه نيكول باعترافات د. ديفيد براون لمُراسل المجلة عام ٢٢٠٨، هدأت فرانشيسكا، بل استغرقت في التفكير.

عندما سألها كينجي عما إذا كانت تظنُّ أنَّ تَوافُقَ الكثير من النقاط التي جاءت في اعتراف ديفيد براون مع مذكرات نيكول «مصادفة لافتة للانتباه»، أجابت وهي تبتسِم قائلةً: «لقد بخستُك قدرك.» لم تُجب على أسئلتِه مباشرةً قط. وإنما وقفت في الغرفة وأصرَّت أن يبقى هو للمساء وأخبرَتْه أنها ستتحدَّث معه في وقتٍ لاحق.

قُرب الغسق، تلقَّى كينجي وهو في حجرته في قصر فرانشيسكا رسالةً فحواها أن العشاء سيكون في الساعة الثامنة والنصف، وأن عليه أن يرتدي مِعطفًا ورابطة عُنق. وفي الوقت المُحدَّد، وصل آليٌّ إلى حجرته وقاده إلى غرفة طعام رائعة، كانت اللوحات الجدارية واللوحات المرسومة على القماش تُغطي الجدران، والثريَّات المُتلالئة تتدلَّى من السقف، والنقوش الرائعة تُزين حُلَى السقف. أُعِدت المائدة لعشرة أشخاص. كانت فرانشيسكا واقفة قُرب نادلٍ آليٍّ صغير في أحد جوانب الغرفة الضخمة.

قالت فرانشيسكا باليابانية وهي تُقدم لواتانابي كأسًا من الشمبانيا: «تفضل يا سيد واتانابي.» ثم أضافت: «إنني أُجدِّد غُرَف الجلوس الرئيسية لذا سنُضطر للأسف إلى تناول الشراب هنا. أعلم أن هذا غير لائق، كما يقول الفرنسيون، لكنه الحلُّ الأنسب.»

بدت فرانشيسكا رائعة. وكان شعرها الذهبي قد بدت فيه خصلات رمادية. وكان مرفوعًا فوق رأسها يُثبِّته مِشبك شعرٍ كبيرٌ مزدان . وكانت تزين رقبتها قلادةٌ ماسية صغيرة ضيقة، أسفل منها عقد ماسي رقيق تتدلى منه ياقوتة زرقاء كبيرة. وكانت ترتدي فستانًا أبيض بدون حمالات، به طيَّات تُظهر جمال مُنحنيات جسدِها الذي لا يزال ينبض شبابًا. حتى إن كينجي لم يستطع أن يُصدق أنها في السبعين من عمرها.

أمسكت بيده بعد أن أفصحت له عن أنها ستعقد حفلَ عشاءٍ على شرفِه، وقادته إلى اللوحات القماشية (الأوبيسون) المُعلقة على حائطٍ بعيد، سألته: «أتعرف شيئًا عن مدينة أوبيسون؟» وحين أجاب بالنفي انطلقت تحكي تاريخ هذا الفن في أوروبا.

بعد نصف ساعةٍ جلست فرانشيسكا على مقعدها في رأس المائدة. وجلس الجميع على مقاعدهم: أستاذ الموسيقى القادم من نابولي وزوجته (يقولون إنها مُمثلة)، ولاعبا كرة قدم وسيمان داكنا البشرة، والمسئول عن مدينة بومبي الأثرية (والذي كان في بداية الخمسينات من عمره)، وشاعرة إيطالية في منتصف العمر، وشابتان في العشرينيات، جذَّابتان للغاية. بعد مشاورة فرانشيسكا جلست إحدى الشابتَين أمام كينجي وجلست الأخرى بجواره.

كان المقعد المقابل لمقعد فرانشيسكا على طرف المائدة الآخر البعيد شاغرًا. لكن فرانشيسكا همست ببعض كلماتٍ في أذنِ كبير الخدَم، وبعدها بخمس دقائق قاد إلى الغرفة عجوزًا أعرج ضعيف البصر. عرفه كينجي على الفور، إنه جانو تابوري.

كان العشاء رائعًا والحوار شيقًا. لم يُقدِّم الآليون الطعام وإنما قدَّمَه الخدم مثلما يحدث في أكثر المطاعم رقيًّا، وعززوا روعة كلِّ طبقٍ من الأطباق بتقديم نوع مختلفٍ من الخمر الإيطالي معه. ويا لها من مجموعة مُميزة! جميعهم يُجيدون الإنجليزية، وفي ذلك لاعبا كرة القدم. كما أن جميعهم كانوا مُهتمِّين بتاريخ الفضاء ومُتبحِّرين فيه. بل إن الشابة التي تجلس أمامه قرأت أشهر كتبِه عن الاستكشافات الأولى للمريخ. كان مرور الوقت يفتُّ من تحفُّظ كينجي، ذلك الأعزب الذي يبلغ الثلاثين. كان كل شيء يثيره بدءًا بالنساء والخمر ومرورًا بالحديث حول التاريخ والشِّعر والموسيقى.

طوال الساعتَين اللتَين قضوهما حول المائدة، لم يُذكَر أمر اللقاء الذي أجراه كينجي مع السنيورة عصر ذلك اليوم سوى مرة واحدة. ففي إحدى فترات الصمت التي سادت بعد تناول الحلوى وقبل شُرب الكونياك قالت فرانشيسكا لجانو بصوتٍ مرتفع: «هذا الشاب الياباني، الذكي بشدة، يظنُّ أنه وجد في كمبيوتر نيكول الشخصي دليلًا يُؤيد الأكاذيب المُريعة التي قالها ديفيد قبل أن يموت.»

لم يَرُد جانو. ولم تتغير تعبيرات وجهه. لكن بعد العشاء ناول كينجي رسالةً واختفى، كُتب فيها: «في رواية «الأبله» التي كتبها فيودور دوستويفسكي قالت أجلايا يبانشين للأمير ميشكين: «أنت لا تنظر إلا إلى الحقيقة، تنظر إليها بلا رأفة، ولذا تحكُم ظلمًا.»»

لم يُمضِ كينجي أكثر من خمس أو عشر دقائق في غرفته حتى سمع طرقًا على الباب. وعندما فتحه رأى الشابَّة الإيطالية التي كانت جالسةً أمامه أثناء العشاء. كانت مُرتدية رداءَ سباحةٍ من قطعتَين يكشف جمال جسدها. وكانت أيضًا تحمِل رداء سباحة رجاليًّا في يدِها.

قالت بابتسامة ساحرة: «أرجوك أن تأتي لتسبح معنا يا سيد واتانابي. نظن أنَّ هذا الرداء سيُناسبك.»

على الفور، شعر كينجي بإثارة شديدة لم يفلح مرور الدقائق في أن يُهدئها. وبعد أن بدَّل ملابسه، ظلَّ منتظرًا دقيقة أو دقيقتَين قبل أن يلحق بالمرأة، بسبب شعوره بالإحراج.

رغم مرور ثلاث سنوات، ورغم أن كينجي يرقُد في سريره بجوار المرأة التي يُحبها، كان صعبًا عليه ألَّا يحنَّ إلى الليلة التي قضاها في قصر فرانشيسكا. لقد استقلَّ ستة منهم العربات المُعلقة متوجِّهين إلى الخليج، وسبحوا في ضوء القمر. وفي الكوخ المُطل على الماء، شربوا الخمر ورقصوا وضحكوا. باختصار، كانت ليلةً كالحلم.

قال كينجي في نفسه مُتذكرًا: في غضون ساعة، كنَّا جميعًا عرايا. وصارت الخطة واضحة. لاعبا كرة القدم من نصيب فرانشيسكا. والفاتنتان الجميلتان من نصيبي.

تقلَّب كينجي في سريره مُتذكرًا قوةَ المتعة التي شعر بها والضحكةَ التي أطلقتها فرانشيسكا عندما وجدَتْه بين الشابتَين على «شيزلونج» ضخم عند الفجر بجوار الخليج.

قال في نفسه: عندما وصلتُ إلى نيويورك بعد أربعة أيامٍ قال لي المُحرر إنه يرى أنه من الأفضل أن أنسى أمر مشروع نيوتن. ولم أُجادله. بل إنني كنتُ سأقترح هذا بنفسي.

١١

انبهرت إيلي وهي تتأمَّل الأشكالَ المصنوعةَ من الخزف الصيني. فالتقطت أحدها وكان على شكل فتاةٍ صغيرة ترتدي فستان باليه لونُه أزرق فاتح، وقلَّبَتْه بين يدَيها. ثم قالت لأخيها: «انظر إلى هذا يا بينجي. هناك من صنع هذا، صنعه بمُفرده.»

قال صاحب المتجر الإسباني: «تلك في الواقع مجرد نُسخة مُقلدة، لكن النسخة الأصلية التي أنتجتها نسخة الكمبيوتر صنعها فنانٌ بشري. إن عملية تقليد الشكل الأصلي أصبحت دقيقة، حتى إن الخبراء أنفسهم يعجزون عن التفرِقة بين الأصل والتقليد.»

قالت إيلي وهي تُشير بيدها إلى الأشكال التي يبلغ عددها نحو المائة والتي تصطفُّ على المنضدة وتلك الموضوعة في صناديق زجاجية صغيرة: «وأنت جمعتَ كل هذه على الأرض؟»

قال السيد موريللو بفخر: «نعم. لقد كنتُ موظفًا مَدنيًّا في إشبيلية — أصدر تصاريح البناء وما شابه — لكنني كنت أملك أنا وزوجتي محلًّا صغيرًا. وأحببنا فنَّ الخزَف الصيني منذ نحو عشر سنوات، ومن وقتها صِرنا من أشدِّ هواة جمع الأشكال المصنوعة من الخزف الصيني.»

خرجت زوجة السيد موريللو، وهي في أواخر الأربعين أيضًا، من غرفةٍ خلفية حيث كانت لا تزال تُفرغ البضائع من صناديقها.

قالت: «قبل أن نعرف بكثيرٍ أن وكالة الفضاء العالمية اختارتنا لنكون مُستعمِرين، قرَّرنا أن نُحضر معنا المجموعة كلها بصرف النظر عن قيود الوزن المسموح به للأمتعة على متن رحلة نينيا.»

كان بينجي يُمسك بالفتاة الراقصة على بُعد سنتيمترات قليلة من وجهه. قال بابتسامة عريضة: «ﺟ…ـميـ…ـلة.»

قال السيد موريللو: «شكرًا. كنا نأمُل أن نُنشئ جمعية تضمُّ هواة جمع التحف في مستعمرة لوويل. لقد أحضر ثلاثة أو أربعة آخَرون من رُكاب نينيا عدة قطع أيضًا.»

سألت إيلي: «أتسمَح لنا أن نُشاهدها؟ سنكون حريصين جدًّا.»

قالت الزوجة: «تفضَّلا. ففي النهاية، عندما تستقرُّ الأمور، سنبيع أو نُقايض بعضًا منها، من النُّسَخ المقلدة بالتأكيد. أما في الوقت الراهن فهي للعرض فقط.»

بينما كانت إيلي وبينجي يتأمَّلان القِطَع الخزفية، دخل عدة أشخاص آخَرين إلى المحل. بدأ آل موريللو نشاطهما التجاري منذ بضعة أيام. وكانا يبيعان الشموع وفوط المائدة وغيرها من أدوات الزينة المنزلية البسيطة.

قال أمريكي قوي البنية للسيد موريللو بعد عدة دقائق: «إنك لم تُضيِّع أيَّ وقتٍ بالتأكيد يا كارلوس.» كان من الواضح من التحية التي ألقاها في البداية أنهما كانا معًا على متن نينيا.

قال السيد موريللو: «كان هذا سهلًا علينا يا ترافيس. فليست لدَينا أسرة ولا نحتاج إلا إلى مكانٍ صغير نعيش فيه.»

قال ترافيس بلهجةٍ شاكية: «إننا لم نستقر في منزلٍ بعد. بالتأكيد سنعيش في هذه المدينة ولكن شيلسيا والأطفال لا يمكن أن يتَّفقوا على منزل. إن الأمر كله لا يزال يُرعب شيلسيا. فهي لا تُصدِّق أن وكالة الفضاء العالمية تُخبرنا بالحقيقة حتى الآن.»

«أُقِرُّ أنه من العسير جدًّا أن نُصدق أن محطة الفضاء هذه بناها فضائيون ليتمكنوا من مُراقبتنا وحسب … وبالتأكيد كنَّا سنُصدق قصة وكالة الفضاء العالمية لو كانت هناك صور للمكان المُسمَّى بالنود. ولكن لماذا يكذبون علينا؟»

«لقد كذبوا من قبل. فلم يذكُر لنا أي شخصٍ أمر هذا المكان إلا قبل المقابلة بيوم … شيلسيا تعتقد أننا جزءٌ من تجربة استعمار فضائية تقوم بها وكالة الفضاء العالمية. تقول إننا سنبقى هنا لبعض الوقتِ ثم ننتقِل إلى سطح المريخ حتى تتمكن الوكالة من المقارنة بين نوع المُستعمَرتَين.»

ضحك السيد موريللو. وقال: «أرى أن شيلسيا لم تتغير بعدَ أنْ غادرنا نينيا.» ثم أصبح أكثر جدية. وقال: «أتعرف، الشكوك تنتابني أنا وخوانيتا أيضًا، خاصةً بعد أن مرَّ أسبوع ولم نرَ أي أثرٍ للفضائيين. فأمضَينا يومَين كاملَين في التجوُّل والتحدُّث مع الآخرين، وتحرَّينا عن الأمر شخصيًّا. وفي النهاية توصَّلنا إلى أنه لا مناصَ من أن تكون قصة وكالة الفضاء العالمية حقيقية. فأوَّلًا: إنَّ الأمر كله مُذهل إلى درجةٍ تجعله أكبر من مجرد كذبة. ثانيًا: تلك السيدة التي تُدعَى ويكفيلد مُقنِعة للغاية. فقد ظلَّت تُجيب عن الأسئلة نحو ساعتَين في الاجتماع المفتوح، ولم أجد أنا أو خوانيتا أيَّ تضاربٍ في إجاباتها.»

قال ترافيس وهو يهزُّ رأسه: «يصعُب عليَّ أن أتخيَّل أن هناك من نام مدة اثني عشر عامًا.»

«بالطبع. لقد كان صعبًا علينا أيضًا. ولكننا عاينَّا المكان الذي يُقال إن أسرة ويكفيلد نامت فيه. ووجدنا أنَّ كلَّ شيء يُطابق ما وصفته نيكول في الاجتماع. كما أن المبنى بأكمله ضخم. وبه مضاجع وغُرَف تكفي كلَّ من في المستعمرة عند الضرورة … بالتأكيد ليس من المعقول أن تكون وكالة الفضاء العالمية قد بنت هذه المنشأة الضخمة لتؤيِّد كذبتَها.»

«ربما تكون مُحقًّا.»

«على أيِّ حال، لقد قرَّرْنا استغلالَ الموقف الاستغلالَ الأمثل. على الأقل في الوقت الحالي. وبالتأكيد لا يُمكننا أن نشكوَ من أحوال مَعيشتنا. فالمنازل على أعلى مستوًى. وأنا وخوانيتا لدَينا لينكولن آليٌّ خاصٌّ بنا يُساعدنا في البيت والمتجر.»

كانت إيلي تتابع النِّقاش عن كثَب. تذكَّرَت ما قالَتْه لها أُمُّها الليلة الماضية عندما طلبت منها أن تأذن لها أن تخرج للتمشية مع بينجي في المدينة. قالت نيكول: «حسنًا يا حبيبتي، ولكن إذا أدرك أيُّ شخصٍ أنك من أسرة ويكفيلد وبدأ في استجوابك، لا تُجيبيه. تصرفي بلياقة وعودي إلى البيت بأقصى سرعةٍ مُمكنة. فالسيد ماكميلان لا يُريدنا بعدُ أن نتحدَّث عن تجربتنا مع أي شخصٍ من غير العامِلين في وكالة الفضاء العالمية.»

بينما كانت إيلي تتأمَّل الأشكال المصنوعة من الخزَف وتُصغي إلى الحوار الدائر بين السيد موريللو والرجل المدعو ترافيس، تجوَّل بينجي بعيدًا بمُفرده، وعندما أدركت إيلي أنه ليس بجوارها بدأ الذُّعر ينتابها.

سمعت إيلي صوتًا ذكوريًّا خشنًا من الجانب الآخر من المحل يقول: «فيم تُحدِّق يا فتى؟»

أجاب بينجي: «شعرها ﺟ… جميل ﺟ… جدًّا.» كان بينجي يسدُّ الممرَّ مانعًا الرجل وزوجته من التقدُّم. ابتسم ومدَّ يدَه إلى شَعر المرأة الأشقر الطويل الرائع. وسأل: «أيُمكنني أن ألمسه؟»

«أُجننت؟ بالطبع لا. اغرب عن وجهي الآن …»

قالت المرأة بهدوء: «أظن أنه مُتأخِّر عقليًّا يا جيسون»، وأمسكت بذراع زوجها قبل أن يدفع بينجي.

في هذه اللحظة اتجهت إيلي إلى أخيها. كانت تُدرك أن الرجل غاضب ولكنها لم تعرِف كيف تتصرَّف. فوكزت كتف بينجي برفقٍ لتلفتَ انتباهه. قال مُتلعثمًا من فرط حماسه: «انظري يا إيلي، انظري إلى شعرها الأصفر الجـ…ـجميل.»

سأل الرجل الطويل إيلي: «هل هذا الأبله صديقك؟»

أجابت إيلي بصعوبة: «بينجي أخي.»

«حسنًا، أخرِجِيه من هنا. إنه يُزعج زوجتي.»

قالت إيلي بعد أن استجمعت شجاعتها: «يا سيدي، أخي لم يقصد الإساءة. كلُّ ما في الأمر أنه لم يَرَ شعرًا أشقر عن قُربٍ من قبل.»

ظهرت أمارات الغضب والحيرة على وجه الرجل. وقال: «ماذا؟» نظر إلى زوجته. ثم قال: «ما خطبهما؟ أحدُهما غبيٌّ والأخرى …»

قاطعَه صوت أنثوي جميل جاء من خلف إيلي: «ألستُما من أبناء أسرة ويكفيلد؟»

استدارت إيلي في اضطراب. وسارت السيدة موريللو حتى وقفت بين المراهِقَين والزوجَين. فقد اتجهت هي وزوجها إلى ذلك الجانب من المحل عندما سمعا الأصوات المرتفعة. قالت إيلي بهدوء: «بلى يا سيدتي. نحن ولداهما.»

سأل الرجل المدعو جيسون: «تقصدين أن هذين من الأطفال القادِمين من الفضاء الخارجي؟»

نجحت إيلي في سحب بينجي بسرعةٍ إلى باب المحل. وقالت قبل أن يُغادرا: «آسِفان جدًّا. لم نقصد التسبُّب في أي متاعب.»

وبينما الباب يُغلَق خلفهما سمعت إيلي صوتًا يقول: «كم هما غريبان!»

•••

كان هذا يومًا مُرهقًا آخَر. كانت نيكول متعبة للغاية. وقفت أمام المرآة وانتهت من غسل وجهها. قال ريتشارد وهو في غرفة النوم: «إيلي وبينجي مرَّا بتجربةٍ مزعجة في المدينة اليوم. ورفضا أن يُطلِعاني على تفاصيلها.»

أمضت نيكول ثلاث عشرة ساعة طويلة اليوم في تأهيل ركاب نينيا. ومهما تفانت هي وكينجي واتانابي والآخرون في العمل، لم يكن ذلك المجهود ليُرضي أحدًا، ودائمًا ما يظهر المزيد من المهام التي ينبغي إنجازها. وعندما حاولت نيكول أن تشرح للمُستعمِرين الجُدد الإجراءات التي وضعتها وكالة الفضاء العالمية لتقسيم الغذاء والأحياء السكنية ومناطق العمل، تعامل معها الكثير منهم بوقاحةٍ شديدة.

كانت نيكول قد أمضت أيامًا عديدة دون أن تنال قسطًا كافيًا من النوم. نظرت إلى الانتفاخات البادية أسفل عينَيها. وقالت لنفسها: «ولكننا يجب أن نُنهي عملنا مع هذه المجموعة قبل أن تصل سانتا ماريا. إذ سيكون التعامُل مع ركابها أصعب بكثير.»

مسحت نيكول وجهها بمنشفةٍ واتجهت إلى غرفة النوم حيث يجلس ريتشارد على السرير مرتديًا رداء نومه. سألته: «كيف كان يومك؟»

«ليس سيئًا … بل مُثير إلى حدٍّ كبير في الواقع. بدأت العلاقة بين المهندسين البشر والأينشتاين الآليين تتوطَّد ببطءٍ ولكن بخُطى واثقة.» صمت. ثم قال: «أسمعتِ ما قلتُه بشأن إيلي وبينجي؟»

تنهَّدت نيكول. فقد أفهمتْها نبرة ريتشارد مغزى سؤ الألم على وجه الطفل لحظاله. ورغم تعبها، خرجت من غرفة النوم وتوجَّهت إلى الردهة.

كانت إيلي نائمةً أما بينجي فكان لا يزال مُستيقظًا في غرفته هو وباتريك. جلست نيكول بجوار بينجي وأمسكت بيده. فقال: «ﻣ… مرحبًا يا أﻣ…مي.»

قالت نيكول لابنها الأكبر: «قال لي العم ريتشارد إنك ذهبت مع إيلي إلى المدينة عصر اليوم.»

ارتسم الألم على وجه الطفل لحظاتٍ ثم اختفى. ثم قال: «نعم يا أﻣ…ـمي.»

قال باتريك من الجانب الآخر من الغرفة: «أخبرتني إيلي أن الناس عرفوا هويتهما، وأن أحد المُستعمِرين الجُدد سبَّهما.»

سألت نيكول بينجي وهي لا تزال تُمسك بيدَيه وتُربِّت عليهما: «أهذا صحيح يا حبيبي؟»

أومأ برأسه مؤكدًا صحة كلام أخيه، لكن الإيماءة كانت ضعيفة حتى إن نيكول لم تكد تراها ثم حدَّق في أمِّه صامتًا. سألها فجأة والدموع تملأ عينيه: «ما معنى أبله يا أمي؟»

لفَّت نيكول ذراعَيها حول بينجي. وقالت برقة: «أهُناك من ناداك بالأبله اليوم؟»

أومأ بينجي برأسه. فأجابته نيكول: «هذه الكلمة ليس لها معنى مُحدد. فيُمكننا أن نقولها على أي شخصٍ مختلف عنَّا أو أي شخصٍ نعترض عليه.» ربَّتت على بينجي مرةً أخرى. وقالت: «الناس يستخدمون مثل هذه الكلمات دون قصد. لعلَّ الشخص الذي ناداك بالأبله كان مُرتبكًا أو غاضبًا من شيءٍ ما في حياته وصبَّ غضبه عليك لمجرد أنه لم يفهمك … أفعلتَ ما ضايقَه؟»

«لا يا أمي. فقط أخبرتُه أن شعر المرأة الأصفر يُعجبني.»

استغرق الأمر عدة دقائق حتى فهِمَتْ جوهر ما حدث في محلِّ الخزف الصيني. عندما اطمأنَّتْ على بينجي اتَّجهت إلى الجانب الآخر من الغرفة لتطبع على جبين باتريك قبلةً قبل النوم. وقالت: «وماذا عنك؟ أكان يومك جيدًا؟»

قال باتريك: «تقريبًا. واجهتُ كارثةً واحدة فقط، في الحديقة.» وحاول أن يبتسِم. وأضاف: «كان بعض الصبية الجُدد يلعبون كرة السلة، ودعَوني للعب معهم … كان أدائي فظيعًا. فضحك اثنان منهم عليَّ.»

عانقت نيكول باتريك عناقًا طويلًا حنونًا. وقالت لنفسها عندما خرجت إلى الردهة وهي عائدة إلى غرفة النوم: باتريك قوي. ولكنه يحتاج إلى دعم. أخذت نفسًا عميقًا وطرحت على نفسها السؤال الذي لم تكُفَّ عن طرحه منذُ أن وقعت على عاتقها كل الأمور المتعلقة بالتخطيط للمُستعمرة: هل ما أفعله هو الصواب؟ أشعر بأنني مسئولة عن كل شيءٍ هنا. أريد عدن الجديدة أن تبدأ بداية صحيحة … ولكن يجب أن أمنح أبنائي مزيدًا من الوقت … هل سأتمكن من تحقيق التوازن المناسب؟

كان ريتشارد لا يزال مُستيقظًا عندما اندسَّت نيكول بجواره. أخبرت زوجها بقصة بينجي. فقال: «آسِف لأنني لم أستطع المساعدة. فهناك بعض الأمور التي لا يستطيع أحد غير الأمهات …»

كانت نيكول مُتعبة جدًّا حتى إنها نامت قبل أن يتم ريتشارد عبارته. فلمس ذراعها بقوة. وقال: «نيكول، هناك أمر آخَر أريد أن أتحدَّث معك بشأنه. وللأسف لا يمكن تأجيله، فقد لا نحظى بوقتٍ نتحدَّث فيه بمُفردنا في الصباح.»

استدارت نحوَه وهي تنظر إليه نظرةً متسائلة. قال: «الأمر يتعلق بكيتي. أحتاج لمساعدتك فعلًا … هناك حفل راقص جديد يُقام مساء الغد يهدف إلى أن يتعرف الشباب بعضهم على بعض؛ لو تذكرين، أخبرنا كيتي الأسبوع الماضي أنه يُمكنها الذهاب بشرط أن يصحبها باتريك وأن يعودا إلى البيت في وقتٍ مقبول. حسنًا، الليلة حدث أن رأيتها واقفة أمام مرآتها وهي ترتدي فستانًا جديدًا. كان قصيرًا وكاشفًا للغاية. وعندما سألتُها عنه، وأخبرتُها أنه لا يبدو مناسبًا لحفلٍ راقص غير رسمي، استشاطت غضبًا. وظلَّت تُكرر أنني كنت «أتجسَّس عليها»، وقالت لي إنني «لا أفقه شيئًا» في الموضة.»

«وبمَ أجبتَها؟»

«وبَّختُها. فأخذت ترمقني ببرودٍ دون أن تتكلم. وبعد عدة دقائق غادرت المنزل دون أن تنبس ببنت شفة. تناولنا العشاء بدونها … لم تعُد إلى البيت إلا قبل عودتك بثلاثين دقيقة أو نحو ذلك. وكانت رائحتها تبغًا وجعة. وعندما حاولتُ أن أتحدث معها قالت لي: «لا تُزعجني»، ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بعنف.»

قالت نيكول بينها وبين نفسها وهي راقدة في صمتٍ بجوار ريتشارد: كنت خائفة من هذا. ظهرت علامات هذا السلوك عليها منذ أن كانت طفلةً صغيرة. كيتي ذكية للغاية ولكنها أيضًا أنانية ومتهورة.

عندما انتبهت، كان ريتشارد يقول: «كنت سأخبر كيتي أنني لن أسمح لها بالذهاب إلى الحفل الراقص غدًا، ولكنني أدركتُ أنها راشدة تمامًا. كما أن بطاقتها التي أصدرها مكتب الإدارة تقر بأنها في الرابعة والعشرين. وعلى هذا لا يُمكننا أن نُعاملها على أنها طفلة.»

بينما بدأ ريتشارد في سرد الصعوبات التي واجهوها مع كيتي منذ دخول البشر الآخَرين إلى راما أحسَّت نيكول بالضيق وقالت لنفسها: لكن نُضجها العاطفي قد لا يزيد عن نُضج مَن في الرابعة عشرة. فلا شيء يُهمها سوى المغامرة والإثارة.

تذكَّرَت نيكول اليوم الذي قضتْه مع كيتي في المستشفى. كان هذا قبل أسبوع من وصول المُستعمرين الذين أتوا على متن نينيا. فقد شعرت كيتي بالانبهار حين شاهدت المعدات الطبية المتطورة، وبدا عليها الاهتمام الشديد بكيفية عملها، ولكن عندما اقترحت نيكول عليها أن تعمل في المستشفى حتى تبدأ الجامعة، ضحكت ابنتها. وقالت: «أتمزحين؟ لا يمكن أن يكون هناك ما قد يُصيبني بالملل أكثر من هذا. وخاصة عندما يكون أمامنا فرصة التعرُّف على المئات من الأشخاص.»

قالت نيكول لنفسها وهي تتنهَّد: ليس بيدي أنا أو ريتشارد أن نفعل الكثير. إننا نتألم لحالها ونمنحها حُبنا ولكنها قرَّرت تجاهُل معرفتنا وخبراتنا.

ساد الصمت غرفة النوم. فمالت على ريتشارد وقبَّلته ثم قالت: «سأتحدَّث مع كيتي غدًا بشأن الفستان، ولكنني أشكُّ في أن هذا سيُجدي نفعًا.»

•••

كان باتريك جالسًا وحده على كرسي من الكراسي القابلة للطي مُستندًا إلى الحائط في غرفة التمارين الرياضية المُلحقة بالمدرسة. ارتشف رشفةً من الصودا ثم نظر في ساعته في الوقت الذي توقَّفت فيه المُوسيقى الهادئة وبَطَّأ اثنا عشر زوجًا من الراقصين حركاتهم على الساحة الواسعة تمهيدًا للتوقُّف. تبادلَت كيتي وأولاف لارسن — وهو شاب سويدي طويل ابن أحد أفراد طاقم القائد ماكميلان — قبلةً سريعة ثم سارا مُتأبِّطَين باتجاه باتريك.

عندما وصلا إلى باتريك قالت له كيتي: «أنا وأولاف سنخرج لنُدخِّن سيجارًا ونشرب كأسًا آخَر من الويسكي. لماذا لا تأتي معنا؟»

أجاب باتريك: «لقد تأخَّرنا يا كيتي. لقد قُلنا إننا سنعود إلى البيت بحلول الساعة الثانية عشرة والنصف.»

ربَّت الفتى السويدي على ظهر باتريك على سبيل المُلاطفة. وقال له: «ما بك يا فتى؟ كفَّ عن التصرُّف بهذه الصرامة. أنا وأُختك نستمتع بوقتنا.»

كان أولاف ثمِلًا. وكان وجهه الأبيض متوردًا بفعل الشرب والرقص. وأشار إلى الجانب الآخر من الغرفة. وقال: «أترى هذه الفتاة ذات الشعر الأحمر والجسد المُثير التي ترتدي فستانًا أبيض؟ اسمها بيث وهي رائعة. لقد ظلَّت تنتظر طوال الليل أن تطلُب الرقص معها. أتُحب أن تتعارفا؟»

هزَّ باتريك رأسه بالنفي. وقال: «اسمعي يا كيتي. أريد أن أرحل؟ لقد جلست هنا في صبر …»

قاطعَتْه كيتي: «نصف ساعة فقط يا أخي الأصغر. سأخرج قليلًا ثم أعود لنرقص رقصتَين. وبعدها نرحل. اتفقنا؟»

طبعَتْ قبلةً على وجنته واتَّجهت نحو الباب مع أولاف. بدأت موسيقى رقصة سريعة تصدُر من النظام الصوتي للقاعة. وأخذ باتريك يُراقب المنظر مُنبهرًا، والراقصون الشباب يتحركون حركاتٍ متناغمة مع إيقاعات الموسيقى الصاخبة.

سأله شاب كان يسير عند حافة ساحة الرقص: «ألا تجيد الرقص؟»

أجاب باتريك: «نعم. لم أحاول قط.»

تطلَّع الشاب إلى باتريك بنظرةٍ غريبة. ثم توقَّف وابتسم. وقال: «بالطبع أنت أحد أفراد أسرة ويكفيلد … مرحبًا، اسمي بريان والش. أنا من ولاية ويسكنسن في وسط الولايات المتحدة. من المزمع أن يكون والداي هما المسئولان عن تنظيم شئون الجامعة.»

منذ أن وصل باتريك إلى الحفل الراقص قبل ساعات لم يتبادل حديثًا مع أحدٍ سوى كيتي. فصافح بريان والش بسرور، ودار بينهما حديث ودِّي عدة دقائق. كان بريان في العشرين من عمره وهو الابن الوحيد لوالدَيه، وكان على وشك نيل الدرجة الجامعية في هندسة الكمبيوتر عندما اختيرت أُسرته للذهاب إلى مستعمرة لوويل. وقد أبدى اهتمامًا كبيرًا بتجارب رفيقه.

قال لباتريك بعد أن شعر كلٌّ منهما بالألفة تجاه الآخر: «أخبرني، هل هذا المكان المُسمَّى النود موجود فعلًا؟ أم أنه جزء من قصة سخيفة من وحي خيال وكالة الفضاء العالمية؟»

قال باتريك، وقد نسي أنه من المُفترَض ألا يُناقش مثل هذه الأمور: «كلَّا. النود موجود بالفعل. يقول والدي إنه مركز تصنيع بنَتْه كائنات من خارج كوكب الأرض.»

انفجر بريان ضاحكًا. وقال: «إذن في مكانٍ ما قُرب الشعرى اليمانية يوجد مثلث عملاق بناه نوع خارق مجهول؟ ومن المفترض أنه يساعدهم في دراسة المخلوقات الأخرى التي تجوب الفضاء؟ يا للعجب! هذه أغرب حكاية سمعتها. في الواقع، أغلب ما أخبرتنا به والدتك في الاجتماع المفتوح لا يُصدَّق. ومع هذا أُقر أن وجود هذه المحطة الفضائية والمستوى التكنولوجي الذي يتَّسِم به الآليون يُضفي مصداقيةً على قصتها.»

قال باتريك: «كل ما قالته أمي صحيح. وقد تعمَّدَت حجب مجموعة من أغرب القصص. على سبيل المثال تحدَّثَت أمي مع كائنات تُشبه الثعابين البحرية تتحدث من خلال فقاعات. كما أن …» تذكر باتريك تحذيرات نيكول فكبح جماح نفسه.

انبهر بريان. وقال: «ثعابين بحرية؟ كيف عرفَتْ ما كان يقول؟»

نظر باتريك في ساعته. وقال فجأة: «عذرًا يا بريان ولكنني حضرتُ مع أختي ومن المُفترض أن أقابلها في غضون دقائق قليلة.»

سأل بريان: «هل أختك هي الفتاة التي ترتدي فستانًا قصيرًا أحمر بفتحة صدر واسعة للغاية؟»

أومأ باتريك. لفَّ بريان ذراعَه حول كتف صديقه الجديد. وقال: «دعني أنصحك نصيحةً. يجب أن يتحدَّث أحد مع أختك. فالطريقة التي تتصرَّف بها أمام الشباب تجعل الناس يظنُّون أنها فتاة سهلة المنال.»

قال باتريك مدافعًا: «هذه هي طبيعة كيتي. إنها تتصرَّف هكذا لأنها لم تختلط قطُّ بأحد خارج نطاق أسرتها.»

قال بريان وهو يهز كتفه: «آسف. هذا ليس من شأني على أيِّ حال … اسمع، لِمَ لا تتصل بي؟ لقد استمتعت بالحديث معك كثيرًا.»

ودَّع باتريك بريان وبدأ يتوجه نحو الباب. أين كيتي؟ لماذا لم تعُد إلى داخل صالة التمارين الرياضية؟

سمع ضحكتها العالية بعد أن خرج بثوانٍ. كانت كيتي واقفة في الملعب مع ثلاثة رجال أحدهم أولاف لارسن. وكانوا جميعًا يُدخنون ويضحكون ويشربون الخمر من زجاجة واحدة يُمرِّرونها بينهم.

سأل شاب أسمر لديه شنب كيتي قائلًا: «إذن، ما الوضع الذي تُفضلينه؟»

ردَّت ضاحكة: «أوه، أُفضِّل الوضع الفوقي.» وارتشفت رشفةً من الزجاجة. ثم أضافت: «بهذه الطريقة، أكون أنا المُتحكمة في العلاقة.»

قال الرجل الذي كان يُسمَّى أندرو: «يُعجبني هذا.» وضحك ضحكةً خافتة ولمس بيده مؤخِّرتها. فدفعت يده عنها وهي لا تزال تضحك. وبعد ذلك بثوانٍ شاهدت كيتي باتريك يتقدَّم نحوَها.

صاحت كيتي: «تعال هنا يا أخي الأصغر. هذه الملعونة التي نحتسيها قوية للغاية.»

تحرك الرجال الثلاثة مُبتعِدين قليلًا عن كيتي عندما اتَّجه إليهم باتريك، قبل هذا، كانوا يميلون عليها ويُحيطون بها. ومع أن باتريك كان لا يزال نحيفًا بعض الشيء ولم يكتمِل نموُّه بعد، فقد كان يتمتع بطول قامةٍ جعل شكلَه يبدو مهيبًا في الضوء الخافت.

قال باتريك وهو يُبعد عنه الزجاجة التي قدَّمَتها له أخته: «سأعود إلى البيت الآن يا كيتي، وأعتقد أنك يجب أن تأتي معي.»

ضحك أندرو. وقال ساخرًا: «لدَينا هنا فتاة عابثة يا لارسن يصحبها أخوها المُراهق متقمصًا دور المحرم.»

اشتعل الغضب في عينَي كيتي. ورشفت رشفةً أخرى من الزجاجة وناولتها لأولاف. ثم شدَّت أندرو إليها وقبَّلته بعُنف على شفتَيه، وهي تحتضنه بقوة.

شعر باتريك بالإحراج. صاح أولاف والرجل الثالث وصفَّرا وأندرو يُقبل كيتي. وبعد دقيقةٍ تقريبًا ابتعدت كيتي عنه. وقالت مبتسمةً وهي تُحدِّق في الرجل الذي قبَّلته: «لنرحل الآن يا باتريك. أعتقد أن هذا يكفي الليلة.»

١٢

أخذت إيبونين ترنو من نافذة الطابق الثاني إلى المنحدَر غير الوعر. كانت أجهزة تبادُل الغازات تُغطي جانب التل، وشبكاتها الدقيقة تكاد تحجب التربة البُنِّية التي تحتها.

سألت كيمبرلي: «إذن يا إيب، ما رأيك؟ إنها لطيفة حقًّا. وعندما تُزرع الغابة فستجدين نافذتنا تطلُّ على الأشجار والحشائش، وربما نُشاهد منها سنجابًا أو سنجابَين. هذه ميزة بالتأكيد.»

أجابت إيبونين بعد ثوانٍ قليلة في شرود: «لا أعرف. إنها أصغر قليلًا من الشقة التي أعجبتْني أمس في بوسيتانو. كما أن لديَّ بعض المخاوف بشأن العيش هنا في هاكون. لم أكن أعرف أن الكثير من الشرقيين …»

«اسمعي يا زميلتي، لن نستطيع أن ننتظِر إلى الأبد. لقد أخبرتُك أمس أنه كان يجب علينا أن نضع خيارات احتياطية. فقد كان هناك سبعة أشخاص يريدون شقة بوسيتانو، وهذا ليس أمرًا مُستغربًا فلم يبقَ في المدينة بأكملها سوى أربع وحدات، ولم يُحالفنا الحظ. والآن لم يبقَ أمامنا سوى هذه الشقة أو شقة سان ميجيل، وقد استبعدتُ من الاختيارات الشُّققَ الصغيرة التي تقع فوق المحلات في الشارع الرئيسي في بوفوا، والتي لا أُريد أن أعيش فيها لأنها لن تُوفر لنا أدنى مستوًى من الخصوصية. كما أن كلَّ الزنوج والسُّمر يعيشون في سان ميجيل.»

جلسَتْ إيبونين على واحدٍ من مقعدَين. كانت الفتاتان في غرفة المعيشة في شقةٍ صغيرة. أثاث الغرفة مُتواضع ولكنه يؤدِّي الغرض؛ إذ كانت تضمُّ مقعدَين وأريكة كبيرة ومنضدة منخفضة صغيرة مستطيلة من اللَّون البُني. وتبلُغ المساحة الإجمالية للشقة ما يزيد قليلًا عن مائة مترٍ مربع، وهي تضمُّ حمَّامًا واحدًا كبيرًا ومطبخًا صغيرًا إضافة إلى غرفة المعيشة وغرفتي نوم.

أخذت كيمبرلي هندرسون تذرَع الغرفة جيئةً وذهابًا على نحوٍ ينمُّ عن نفاد الصبر. قالت إيبونين ببطء: «كيم، أنا آسفة، ولكنني أعجز عن التركيز في اختيار شقةٍ في الوقت الذي تتلاحَق فيه الأحداث. ما هذا المكان؟ وأين نحن؟ ولماذا نحن هنا؟» عاد ذهنها بسرعة إلى ذكرى الجلسة الإرشادية المُذهلة التي عُقدت منذ ثلاثة أيام، والتي أخبرهم فيها القائد ماكميلان بأنهم بداخل سفينة فضاء بنَتْها مخلوقات من خارج كوكب الأرض وجهَّزتها «بهدف مراقبة سكان الأرض».

أشعلت كيمبرلي هندرسون سيجارةً ونفثَت الدخان بقوة في الهواء. ثم هزَّت كتفَيها. وقالت: «تبًّا يا إيبونين، لا أعرف إجابةَ أيٍّ من هذه الأسئلة. ولكنني أعرف أننا إذا لم نختر شقةً فلن يبقى أمامنا سوى الشُّقق التي لا يريدها أحد.»

نظرت إيبونين إلى صديقتها عدة ثوانٍ ثم تنهَّدت. وقالت متذمرةً: «لا أظن أن هذه العملية مُنصفة على الإطلاق. فقد كان بوسع ركَّاب بينتا ونينيا أن يختاروا منازلهم قبل أن نصل. فنحن مُجبرون على الاختيار من بين الشُّقق التي رفضوها.»

ردَّت كيمبرلي بسرعة: «وما الذي كنتِ تتوقعينه؟ سفينتنا تقلُّ السجناء؛ فمن المنطقي أن نحصل على الحثالة. ولكننا على الأقل حصلنا على الحرية أخيرًا.»

قالت إيبونين بعد مدةٍ طويلة: «إذن أعتقد أنك تُريدين أن تعيشي في هذه الشقة؟»

أجابت كيمبرلي: «نعم. وأريد أن أُقدم طلبًا بشأن الشقتَين الأُخرَيين اللتين رأيناهما هذا الصباح بالقُرب من سوق هاكون، وذلك تحسبًا لعدم حصولنا على هذه الشقة. أخشى أننا سنكون في وضعٍ حرج جدًّا إن لم نحصُل على منزلٍ مُحدَّد بعد السحب الليلة.»

قالت إيبونين لنفسها وهي تُشاهد كيمبرلي تتجوَّل في الغرفة: كان هذا خطأ. لم يكن عليَّ أن أقبل قطُّ أن تكون رفيقتي في الشقة … ولكن لم يكن لي خيار. فالمنازل التي تبقَّت للسكن المُنفرد سيئة للغاية.

لم تكن إيبونين معتادةً على حدوث تغيرات سريعة في حياتها. فقد عاشت مرحلتي الطفولة والصبا في أمانٍ نسبي، بعكس كيمبرلي هندرسون التي مرَّت بعددٍ كبير من التجارب المختلفة قبل اتهامها بالقتل وهي في التاسعة عشرة من عمرها. فقد نشأت إيبونين في دار أيتام على مشارف مدينة ليموج بفرنسا، ولم تخرج قطُّ من المكان الذي نشأت فيه حتى صحبها البروفسير مورو إلى باريس لترى المتاحف العظيمة وهي في السابعة عشرة من عمرها. كان قرار الانضمام إلى مستعمرة لوويل صعبًا جدًّا عليها في المقام الأول. ولكنها كانت تواجِهُ حكمًا بالسجن مدى الحياة في مدينة بورج، وعُرِضت عليها فرصة نيل الحرية على المريخ. فتحلَّت بالشجاعة واتخذت قرار تقديم طلبٍ لوكالة الفضاء العالمية بعد تفكير طويل.

وقع الاختيار على إيبونين لتكون من بين المُستعمِرين بفضل سجلِّها الدراسي المتميز، خاصة في الفنون، ولإتقانها اللغة الإنجليزية، ولأنها كانت سجينة مثالية. حدَّد ملفُّها في وكالة الفضاء العالمية الوظيفةَ التي ستشغلها في مستعمرة لوويل على أنها ستكون على الأغلب «مُعلمة دراما أو فن أو كليهما في المدارس الثانوية». ورغم الصعوبات التي رافقت مرحلة السفر في الفضاء بعد الرحيل عن الأرض، فقد شعرت إيبونين باندفاع دفقةٍ قوية من الأدرينالين والإثارة في عروقها عندما رأت المريخ من نافذة المراقبة في المركبة سانتا ماريا. إذ شعرت أنها مقبلة على حياةٍ جديدة في عالمٍ جديد.

ولكن قبل يومَين من اللقاء المُزمَع أعلن حراس وكالة الفضاء العالمية أن المركبة الفضائية لن تنشُر مكوكات الهبوط كما كان مخططًا. وأخبروا الركاب من فئة السجناء أن سانتا ماريا — بدلًا من ذلك — «ستسلك طريقًا بديلًا مؤقتًا لتقابل محطة فضائية تدور حول المريخ». تسبب الإعلان في إصابة إيبونين بحالة من الارتباك والخوف. فعلى عكس معظم زملائها، كانت قد قرأت بعناية كل المواد التي أعطتها وكالة الفضاء العالمية للمستعمرين، ولم تلاحظ قط أيَّ ذكرٍ لمحطة فضائية تدور حول المريخ.

لم يُخبِر أحد إيبونين والسجناء الآخرين بما يجري إلا بعد انتهاء تفريغ حمولة سانتا ماريا، وصار جميع الأشخاص والإمدادات بداخل عدن الجديدة. حتى بعد حضور الجلسة الإرشادية التي عقدها ماكميلان لم يصدق أغلب المجرمين أن ما أخبرهم به هو الحقيقة. قال ويليس ميكر: «بالله، أيَظُننا بهذا الغباء؟! أتصدِّقون أن مجموعة من المخلوقات القادمة من خارج الأرض أنشأت هذا المكان وكل أولئك الآليين المجانين؟ الأمر كله يبدو خدعة. فنحن هنا ليُجربوا علينا نوعًا جديدًا من أنواع السجن.»

ردَّ مالكولم بيبودي: «لكن يا ويليس ما رأيك في الآخرين الذين جاءوا على متن بينتا ونينيا؟ لقد تحدَّثتُ مع بعضهم. ووجدتهم بشرًا عاديين. أعني أنهم ليسوا من السجناء. لو كانت نظريتك صحيحةً فما هي الحكمة من وجودهم هنا؟»

«بربك، كيف لي أن أعرف أيها الأحمق؟ لستُ عبقريًّا. كل ما أعرفه هو أن هذا المتأنق المدعو ماكميلان لا يُخبرنا بالحقيقة اللعينة.»

لم تسمح إيبونين لشكوكها بشأن الجلسة الإرشادية التي عقدها ماكميلان بأن تثنِيَها عن الذهاب مع كيمبرلي إلى المدينة المركزية لتُقدِّم طلبات الحصول على الثلاث شُقق التي تقع في هاكون. كانتا محظوظتَين في السحب هذه المرة وحصلتا على أول شقةٍ اختارتاها. أمضت المرأتان يومًا كاملًا في الانتقال إلى الشقة التي تقع على حافة غابة شيروود ثم أخطرتا مكتب التوظيف في المجمع الإداري بحضورهما لاتخاذ الإجراءات اللازمة.

ولمَّا كانت المَركبتان الأُخريان قد وصلتا قبل سانتا ماريا بكثير، رُوعي تحديد إجراءات دمج السجناء في الحياة في عدن الجديدة بعناية. ولم يستغرق إلحاقُ كيمبرلي بالعمل في المستشفى المركزي وقتًا طويلًا؛ فقد كانت تتمتَّع بسجِلٍّ مُميز للغاية في مجال التمريض.

أجرت إيبونين مقابلةً شخصية مع مدير المدرسة وأربعة مُعلمين قبل أن تُقبل للعمل في المدرسة الثانوية المركزية. كانت وظيفتها الجديدة تتطلَّب منها الانتقال بالقطار ذهابًا وإيابًا مسافةً قصيرة بينما كان يُمكنها التوجُّه إلى عملِها مشيًّا إذا ما قرَّرت أن تعمل في مدرسة هاكون الإعدادية. ولكن إيبونين رأت أن الأمر يستحقُّ العناء. وقد شعرت بالأُلفة مع الناظر وأعضاء التدريس الذين يعملون في المدرسة الثانوية.

•••

في البداية كان الأطباء السبعة العاملون في المستشفى مُتخوِّفين من الطبيبَين اللذَين يقعان ضِمن فئة السجناء، خاصة الطبيب روبرت تيرنر الذي يضمُّ ملفُّه إشارةً مبهمةً لارتكابه جريمتَي قتل وحشيتَين دون ذِكر أي تفاصيل عن الملابسات. ولكن بعد حوالي أسبوع اتَّضح للجميع مهارته المميزة وعلمه الواسع وبراعته، فاختاره العاملون بالإجماع مديرًا للمستشفى. اندهش د. تيرنر من هذا الاختيار وتعهَّد في خطبةٍ قصيرة ألقاها عند قبول المنصب بأن يُكرس نفسه تمامًا للعمل من أجل رفاهية المستعمرة.

كانت أول مهمةٍ رسمية قام بها تيرنر هي اقتراح قدَّمه إلى الحكومة المؤقتة بإجراء فحصٍ شامل لجميع المواطنين في عدن الجديدة حتَّى يتسنَّى لهم تحديث الملفات الطبية الشخصية. وعندما وافقت الحكومة على اقتراحه نشر د. تيرنر التياسو الآليات في أنحاء المستعمرة ليضطلعوا بمهام المساعِدين الطبيِّين. قام الآليون بعمل كل الفحوصات الروتينية وجمعوا البيانات ليُحللها الأطباء. في الوقت نفسه تذكَّر تيرنر شبكة البيانات الممتازة التي كانت تربط كل المستشفيات في مدينة دالاس، فبدأ العمل بلا كللٍ مع العديد من الأينشتاين الآليين ليقوموا بتصميم نظامٍ قائم بالكامل على الكمبيوتر، يسمح بمتابعة البيانات الصحية للمُستعمرين.

ذات مساء، أثناء الأسبوع الثالث من الْتحام سانتا ماريا براما، كانت إيبونين بمفردها في المنزل كالعادة (الروتين الذي تسير عليه كيمبرلي هندرسون أصبح ثابتًا: فهي تكاد لا تجلس في الشقة على الإطلاق، فهي تقضي حياتها ما بين عمل في المستشفى وخروج مع توشيو ناكامورا ورفاقه)، عندما سمعت رنين الهاتف المرئي الخاص بها. وظهر وجه مالكولم بيبودي على الشاشة. وقال على استحياء: «إيبونين أريد أن أطلب منك خدمة.»

«تفضل يا مالكولم.»

«اتصل بي د. تيرنر من المستشفى منذ خمس دقائق. وقال إن بياناتي الصحية التي جمعها أحد الآليين الأسبوع الماضي «تنمُّ عن وجود بعض الاضطرابات». ويُريدني أن أذهب إليه ليقوم بفحصٍ أدق.»

انتظرت إيبونين بصبرٍ عدة ثوان. ثم قالت: «لا أفهم. ما الخدمة التي تريدها؟»

أخذ مالكولم نفسًا عميقًا. وقال: «لا بد أن الأمر خطير يا إيبونين. إنه يريدني أن أذهب إليه الآن … أيُمكنك أن تأتي معي؟»

قالت إيبونين وهي تنظر إلى ساعتها: «الآن؟ إنها الحادية عشرة مساءً تقريبًا.» لكنها سرعان ما تذكَّرت كيمبرلي هندرسون وهي تشتكي من أن د. تيرنر «يدمن العمل، وهو بهذا لا يختلف كثيرًا عن المُمرضات الآليات السوداوات». وتذكرت أيضًا لون عينَيه الأزرق الخلَّاب.

قالت لمالكولم: «حسنًا. سأقابلك في المحطة في غضون عشر دقائق.»

لم تكن إيبونين تخرج ليلًا كثيرًا. فمنذ تعيينها في وظيفة مُعلمة وهي تقضي معظم أمسياتها في تحضير دروسها. في إحدى ليالي السبت، خرجت مع كيمبرلي وتوشيو ناكامورا وآخرين إلى مطعم ياباني افتُتح حديثًا. ولكن الطعام كان غريبًا ومعظم الحاضرين كانوا من الشرقيين، وبعد أن أسرف عدة رجال في الشراب أخذوا يحاولون مراودتَها عن نفسها. بعد أن عادتا وبَّختْها كيمبرلي «لتحفُّظها وأنَفَتِها»، ولكنها رفضت فيما بعد دعوات زميلتها لها للخروج معهم.

وصلت إيبونين إلى المحطة قبل مالكوم. وبينما كانت تنتظِره أخذت تتعجَّب من مدى تغيُّر المدينة تغيرًا كاملًا بعد وصول البشر. وقالت لنفسها: لنرَ، وصلت بينتا هنا قبل أربعة أشهر ووصلت نينيا بعدها بخمسة أسابيع. وها هي المتاجر قد انتشرت في كل مكان: حول المحطة وفي المدينة نفسها. تُوجَد كل دلائل الوجود البشري. إذا ظللنا في هذه المُستعمرة عامًا أو عامَين فلن تختلف عن الأرض في شيء.

كان مالكوم متوترًا جدًّا أثناء رحلة القطار القصيرة وأخذ يُثرثر. قال: «أعرف أن هناك مشكلةً في قلبي يا إيبونين. ظللت أشعر بآلامٍ حادة هنا منذُ أن مات والتر. في البداية ظننتُ أن هذه مجرد أوهام يُصورها لي عقلي.»

ردَّت إيبونين في محاولةٍ لتهدئته: «لا تقلق. صدِّقني، إنه أمر بسيط.»

•••

كانت إيبونين تشعر بجفنَيها يتثاقلان. فقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحًا. كان مالكولم نائمًا على المقعد الطويل بجوارها. تساءلت في نفسها: ما الذي يفعله هذا الطبيب؟ لقد قال إنه لن يَستغرق وقتًا طويلًا.

بعد وصولهما مباشرةً فحص الطبيب تيرنر مالكولم بسماعةٍ طبية متصلة بكمبيوتر، ثم صحِبه إلى قسمٍ خاص بالمستشفى بعد أن أخبرَهما بأنه بحاجة إلى «إجراء اختبارات شاملة». عاد مالكولم إلى غرفة الانتظار بعد ساعة. لم تر إيبونين الطبيب إلا برهة، وذلك عندما أدخل مالكولم إلى مكتبه في بداية الفحص.

فجأة، سمعت صوتًا يسألها: «هل أنت صديقة السيد بيبودي؟» لا بدَّ أن إيبونين قد غلبها النعاس. بعدما اتضحت لها الرؤية، رأت العينَين الزرقاوَين الجذابتَين تُحدقان فيها من على بُعد متر واحد فقط. كان الطبيب يبدو متعبًا ومنزعجًا.

قالت إيبونين بهدوءٍ محاولةً ألا تُزعج الرجل النائم على كتفها: «نعم.»

قال د. تيرنر: «سيموت قريبًا جدًّا. على الأرجح في غضون الأسبوعَين القادمَين.»

شعرت إيبونين بالدماء تندفع في جسدها. وقالت بينها وبين نفسها: هل حقًّا ما أسمعه؟ هل قال إن مالكولم سيموت في الأسبوعين القادمين؟ وشعرت إيبونين بالصدمة.

قال الطبيب: «سيحتاج إلى دعمٍ كبير منك.» صمت دقيقة مُحدقًا في إيبونين. أكان يحاول أن يتذكَّر أين رآها من قبل؟ ثم سألها: «هل ستستطيعين مساعدته؟»

أجابت إيبونين: «آمُل … آمُل هذا.»

بدأ مالكولم يتحرك. قال الطبيب: «يجب أن نُوقظه الآن.»

لم تظهر أي مشاعر في عينَي تيرنر. فقد قال تشخيصه — بل معلوماته المؤكدة — بلا ذرة من الإحساس. قالت إيبونين لنفسها: كيم مُحقة. إنه آلي مثل التياسو بالضبط.

بناءً على اقتراح الطبيب صحِبَت إيبونين مالكولم وسارا في الممر ودلَفا إلى غرفة تمتلئ بالأجهزة الطبية. قال د. تيرنر لمالكولم: «من اختار الأجهزة التي جُلبت من الأرض إلى هنا ذكي. مع أن عدد العامِلين محدود فإن أجهزة التشخيص من الدرجة الأولى.»

اتجه الثلاثة إلى مُكعب شفاف يبلغ ارتفاع ضلعه نحو متر واحد. وقال الطبيب: «هذا الجهاز المذهل هو جهاز لتصوير الأعضاء الداخلية. إنه يستطيع أن يرسم بدقةٍ متناهية صور معظم الأعضاء الرئيسية في جسد الإنسان. ما نراه الآن، عندما ننظر داخله، هو تمثيل رسومي لقلبك يا سيد بيبودي، بالضبط مثلما كان يبدو منذ تسعين دقيقة عندما حقنت العنصر الاستشفافي في أوعيتك الدموية.»

أشار د. تيرنر إلى الغرفة المجاورة حيث أُجريت الاختبارات على مالكولم على ما يبدو. وواصل قائلًا: «عندما كنتَ جالسًا على هذه المنضدة كان الجهاز ذو العدسة الكبيرة يلتقط لك ملايين الصور في الثانية الواحدة. ثم رسم الجهاز صورةً متناهية الدقة ثُلاثية الأبعاد لقلبك بناءً على ما أظهره العنصر الاستشفافي ومليارات الصور الفورية. وهذا هو ما تراه في المكعب.»

صمت الطبيب لحظات، وأشاح ببصره بسرعةٍ ثم ركز عينَيه على مالكولم. وقال بهدوء: «أنا لا أحاول أن أُصعِّب الأمر عليك يا سيد بيبودي، ولكنَّني أردتُ أن أوضح لك كيف استطعتُ أن أعرف كُنه المشكلة التي تُعاني منها. حتى تفهم أن التشخيص لا يشوبه خطأ.»

اتسعت عينا مالكولم من فرط الخوف. فأمسك الطبيب بيده، وقاده إلى موضعٍ مُعيَّن بجانب المكعب. وقال: «انظر هناك، في الجزء الخلفي من القلب قُرب الجانب العلوي. أترى الشبكات والخطوط الغريبة الظاهرة في الأنسجة؟ هذه عضلات قلبك وقد أصابها اعتلال لا يمكن معالجته.»

أخذ مالكولم يُحدق داخل المكعب طويلًا ثم أطرق برأسه. وسأل في انكسار: «هل سأموت أيها الطبيب؟»

أمسك روبرت تيرنر بيد المريض الأخرى. وقال: «نعم يا مالكولم. لو كنَّا على الأرض كان من المُمكن أن نبحث احتمال إجراء عملية زراعة قلب، ولكن هذا غير وارد هنا لعدم توافر الأجهزة المناسبة والمُتبرع المناسب … إن كنتَ تريد، يمكنني أن أشقَّ صدرك حتى يتسنى لي النظر إلى قلبك مباشرة. ولكن من غير المُحتمَل على الإطلاق أن أكتشف شيئًا قد يُغير من تكهُّني لاحتمال تطور المرض.»

هز مالكولم رأسه رافضًا اقتراحه. وبدأت الدموع تنهمر على وجنتَيه. فلفَّت إيبونين ذراعَيها حول الرجل الضئيل وبدأت تبكي. قال الطبيب: «آسف لأنني استغرقتُ وقتًا طويلًا حتى أُتم التشخيص، ولكن في حالة خطيرة كهذه أردتُ أن أكون متأكدًا تمامًا.»

بعد دقائق قليلة مشى مالكولم وإيبونين باتجاه الباب. ثم استدار مالكولم وسأل الطبيب: «ماذا أفعل الآن؟»

أجاب تيرنر: «ما يحلو لك.»

•••

بعد انصرافهما عاد تيرنر ليجلس إلى مكتبه الذي تتناثر عليه النُّسَخ المطبوعة من الرسومات والملفَّات الخاصة بمالكولم بيبودي. كان الطبيب يشعر بقلقٍ شديد. فهو متأكد تمامًا — وإن كان لن يتأكد يقينًا إلا بعد إجراء تشريح — من أن قلب بيبودي مُصاب بنوع المرض نفسه الذي قتل والتر براكين في سانتا ماريا. لقد ظلَّ الرجلان صديقَين حميمَين طوال عدة سنوات تعود إلى بداية مدة حبسهما في جورجيا. ومن المُستبعَد أن يكون الاثنان قد أُصيبا بالمرض القلبي نفسه بالصدفة. ولكن إن لم تكن صدفةً فلا بد أن العامل المُمرِض قابِل للانتقال من إنسانٍ إلى آخر.

هزَّ روبرت تيرنر رأسه. فأي مرض يُصيب القلب مُخيف. فما بالك إن كان ينتقل من شخصٍ إلى آخر؟ كان شبح الفكرة مُرعبًا.

كان متعبًا جدًّا. لكن قبل أن يضع رأسَه على مكتبه كتب قائمة بالمراجع التي تتناول الفيروسات التي تُصيب القلب والتي يريد الحصول عليها من قاعدة البيانات. ثم سرعان ما نام.

بعد خمس عشرة دقيقة أيقَظه رنين الهاتف فجأة. كان الطرف الآخر إحدى الآليات من نوع تياسو تتَّصِل من غرفة الطوارئ. قالت: «وَجدَ اثنتان من الجارسيا الآليين جثةً بشريةً في غابة شيروود وهما في طريقهما إلى هنا الآن. وبناءً على الصور التي أرسلتاها أستطيع القول إن هذه الحالة تتطلَّب تدخُّلَك الشخصي.»

فرك تيرنر يدَيه وارتدى معطفه مرةً أخرى ووصل إلى غرفة الطوارئ قبل أن تصِل الآليتان جارسيا بالجثة مباشرةً. ومع أنه يتمتع بخبرةٍ واسعة فإنه لم يستطع أن يتمالك نفسه وأشاح بوجهه عن الجثة المُشوَّهة تشويهًا رهيبًا. كان الرأس تقريبًا منفصلًا عن الجسد؛ إذ كان مُعلَّقًا به بخيط رفيع من العضلات، وكان الوجه مُشوَّهًا إلى حدٍّ يصعُب معه التعرُّف على صاحبه. إضافةً إلى هذا، كان حِجر البنطال به فجوة واسعة مُلطخة بالدماء.

بدأت الآليتان تياسو العمل على الفور، فمسحتا الدماء وأعدَّتا الجثة للتشريح. جلس د. تيرنر على كرسي بعيدًا عن هذا المشهد، وبدأ يكتب أول تقريرٍ بحالة وفاة في عدن الجديدة.

سأل الآليتين: «ما اسمه؟»

بحثت إحداهما فيما تبقَّى من ملابس الرجل الميت ووجدت البطاقة التي أصدرتها له وكالة الفضاء العالمية.

أجابت الآلية: «داني. مارتشيللو داني.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤