أغنية الزفاف

١

كان القطار الذي انطلق من بوسيتانو مُمتلئًا بالركاب. توقَّف في محطة صغيرة قرب شاطئ بحيرة شكسبير التي تقع في منتصف المسافة بين بوسيتانو وبوفوا، وأفرغ حمولته التي تتألف من البشر والآليين. كان الكثيرون يحملون سِلالًا بها طعام وبطاطين وكراسيُّ قابلة للطي. وراح بعض الأطفال الصغار يركضون من المحطة إلى العُشب الكثيف المجزوز حديثًا الذي يحيط بالبحيرة. وأخذوا يضحكون ويتدحرجون على المنحدَر غير الوعر الذي يُغطي مسافة المائة والخمسين مترًا التي تفصل بين المحطة وحافة المياه.

ولِمن لا يُفضل الجلوس على العشب، وُضِعت مقاعد خشبية أمام اللسان الضيق الذي يمتدُّ خمسين مترًا في المياه، ويقع عند طرفه منصَّة مستطيلة. كان على المنصة مُكبر صوت ومنبر للخطابة وعددٌ من الكراسي، فهناك سيُلقي الحاكم واتانابي خطابَ يوم الاستيطان بعد فقرة الألعاب النارية.

وعلى بُعد أربعين مترًا إلى يسار المقاعد، وضع أفراد أُسرَتي ويكفيلد وواتانابي مائدة طويلة يُغطيها غطاء لونه أزرق وأبيض. ورُصَّت عليها وجبات خفيفة بترتيبٍ رفيع الذوق. ومُلئت الثلاجات الصغيرة الموضوعة أسفل المائدة بالمشروبات. تجمَّع أفراد الأسرتَين والأصدقاء في هذه المنطقة، ومنهم من أخذ يأكل، ومنهم من راح يلعب لعبةً ما، ومنهم من انهمك في حوارات مُحتدمة. كان هناك آليَّان من نوع لينكولن يتحرَّكان حول المجموعة يُقدِّمان المشروبات والمقبلات لمن يجلسون بعيدًا عن المائدة والثلاجات.

كان الجو حارًّا في ذلك الوقت من العصر. بل كان شديد الحرارة في الواقع، إنه ثالث يوم شديد الحرارة على التوالي. ولكن عندما بدأت الشمس الصناعية رحلة المغيب في القبة الهائلة على ارتفاعٍ شاهق فوق رءوسهم وبدأ الضوء يخفُت ببطء، تناسى الجمهور المُترقِّب الجالس على ضفاف بحيرة شكسبير أمر الحرارة.

وصل قطار أخير قبل دقائق من حلول الظلام. وكان قادمًا من محطة المدينة المركزية الواقعة في الشمال، وكان يُقلُّ المستعمِرين الذين يعيشون في هاكون أو سان ميجيل. لم يكن عدد الذين تأخَّروا كبيرًا. فمعظم الناس جاءوا مبكرًا حتى يُرتِّبوا الأطعمة التي جاءوا بها معهم على العشب. جاءت إيبونين في القطار الأخير. كانت قد قرَّرَت في البداية ألا تحضر الاحتفال من الأساس، ولكنها غيَّرَت رأيها في اللحظة الأخيرة.

شعرت إيبونين بالارتباك عندما نزلت من رصيف المحطة إلى العشب. فقد كان المكان يعجُّ بالناس! قالت لنفسها: لا بدَّ أنَّ سكان عدن الجديدة كلهم هنا. للحظة تمنَّت لو لم تحضر. فقد كان الجميع في صحبة أصدقائهم وأُسَرهم، أما هي فكانت وحيدة.

كانت إيلي ويكفيلد تلعب مع بينجي لعبة رمي الحدوات عندما خرجت إيبونين من القطار. وسرعان ما ميَّزت أستاذتها رغم بُعدها عنها، بفضل الشريط الأحمر الزاهي الذي يُحيط بذراعها. قالت إيلي وهي تجري نحو نيكول: «إنها إيبونين يا أمي. هل يمكن أن أطلب منها الانضمام إلينا؟»

أجابت نيكول: «بالطبع.»

قاطع صوت صادر من مُكبر الصوت الموسيقى التي تعزفها فرقة صغيرة، معلنًا أن الألعاب النارية ستبدأ في غضون عشر دقائق. فصفَّق بعض الحضور.

صاحت إيلي: «إيبونين. أنا هنا.» ولوَّحَت إيلي بيدَيها.

سمعت إيبونين من يُنادي باسمها، ولكنها لم تستطِع أن ترى المُنادي بوضوح في الضوء الخافت. بعد دقائق رأت إيلي وتوجَّهت نحوَها. لكن في طريقها، اصطدمت دون قصدٍ بطفل صغير كان يتجول وحيدًا على العشب. صرخت الأم: «كيفين، ابتعِد عنها!»

في لحظةٍ أمسك رجلٌ أشقر ضخمٌ بالطفل الصغير وأبعدَه عن إيبونين. وقال: «يجب ألا تكوني هنا. لا يجب أن تكوني مع الأناس المُحترَمين.»

شعرت إيبونين بشيءٍ من الانزعاج، لكنها تابعت سيرَها نحو إيلي التي كانت تمشي على العشب باتجاهها. صاحت امرأة كانت قد شاهدت الموقف الذي حدث لتوِّه قائلة: «عودي إلى بيتك يا رقم ٤١!» أشار طفل سمين في العاشرة من عمره مُنتفخ الأنف إلى إيبونين وهمس في أذن أخته بتعليقٍ ما.

قالت إيلي عندما وصلت إلى مُعلمتها: «أنا سعيدة برؤيتك. أتودِّين أن تأكلي شيئًا؟»

أومأت إيبونين برأسها. فقالت إيلي بصوتٍ عالٍ يسمعه كلُّ من حولها: «آسفة بشأن هؤلاء. من العار أن يكونوا بهذا الجهل.»

رافقت إيلي إيبونين إلى المائدة الكبيرة وعرَّفت الجميع بها. قالت: «انتبهوا جميعًا، أُقدِّم لكم إيبونين، لِمن لا يعرفها، إنها مُعلمتي وصديقتي. وهي لا تحمِل اسم عائلة، فلا تسألوها عنه.»

كانت إيبونين ونيكول قد التقتا عدة مراتٍ من قبل. فأخذتا تمزحان بينما كان يُقدِّم لينكولن لإيبونين بعض قطع الخضراوات ومشروب الصودا. وتعمدت ناي واتانابي إحضار توءمَيها كيبلر وجاليليو، اللذَين احتفلا بعيد ميلادهما الثاني قبل أسبوع، ليلتقِيا الوافدة الجديدة. وأخذ لفيف من المُستعمِرين الجالسين بالقرب منهم والقادمين من بوسيتانو يحدقون في إيبونين وهي تحمل كيبلر بين ذراعيها. قال الطفل الصغير وهو يشير إلى وجه إيبونين: «جميلة.»

قالت نيكول بالفرنسية وهي تُشير برأسها في اتجاه المُتفرجين المُحملِقين: «لا بد أن هذا صعب للغاية.»

أجابت إيبونين بالفرنسية: «صحيح.» وقالت بينها وبين نفسها: صعب؟! هذا أشدُّ تهوين سمعتُه هذا العام. ماذا لو قُلنا هذا أمر يستحيل تحمُّله؟ ألا يكفيهم أنني أعاني من مرضٍ رهيب غالبًا سيودي بحياتي. لا. يجب أيضًا أن أرتدي شريطًا حول ذراعي حتى يتمكن الناس من اجتنابي إن شاءوا.

رفع ماكس باكيت عينَيه من على رقعة الشطرنج ولاحظ وجود إيبونين. فقال: «مرحبًا مرحبًا. لا بد أنك أنت المعلمة التي سمعت عنها كثيرًا.»

قالت إيلي وهي تقود إيبونين نحوه: «هذا ماكس. إنه يهوى المغازلة، ولكن لا يُخشى منه. والكهل الذي يتجاهلنا هو القاضي بيوتر ميشكين … تُرى أنطقت اسمك نطقًا صحيحًا أيها القاضي؟»

أجاب القاضي دون أن يرفع عينَيه من على رقعة الشطرنج: «بالطبع يا فتاتي. اللعنة يا باكيت ما الذي تحاول أن تفعله بهذا الحصان؟ كالعادة، لعبك إما أن يكون غبيًّا أو عبقريًّا وأنا لا أستطيع أن أُقرِّر إلى أيٍّ منهما تنتمي هذه الخطوة الأخيرة.»

أخيرًا رفع القاضي رأسه ورأى الشريط الأحمر يُحيط بذراع إيبونين فهبَّ واقفًا. وقال: «آسف يا سيدتي. آسف حقًّا، فأنتِ تُعانين بما فيه الكفاية، ولم تكن تنقصك إهانات هذا العجوز الأناني.»

قبل أن تبدأ الألعاب النارية بدقيقةٍ أو دقيقتَين، كان يختٌ كبير يقترب من الجانب الغربي من البحيرة متجهًا نحو منطقة النزهة الخلوية. كان ظهْر اليخت الطويل تُزينه الأضواء الملونة والفتيات الجميلات. وكان اسم ناكامورا منقوشًا على جانب اليخت. رأت إيبونين كيمبرلي هندرسون واقفةً بجانب توشيو ناكامورا عند الدفةِ فوق الظَّهْر الرئيسي لليخت.

أخذ من يقفون على ظهر اليخت يلوِّحون لمن على الشاطئ. جرى باتريك ويكفيلد في حماسٍ إلى المائدة. وقال: «انظري يا أمي، كيتي على المركب.»

ارتدت نيكول نظارتها ليتسنَّى لها الحصول على رؤية أفضل. فرأت ابنتَها مُرتديةً لباس سباحة من قطعتَين وتلوِّح من على سطح اليخت. تمتمت نيكول لنفسها: «هذا ما كان ينقُصنا»، في اللحظة التي انفجرت فيها أولى الألعاب النارية فوقهم، فتألَّقَت السماء المُظلمة بالألوان والأنوار.

•••

بدأ كينجي واتانابي خطبتَه قائلًا: «في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة أعوام جاءت مجموعة استكشافية من بينتا إلى هذا العالم الجديد لأول مرة. لم يكن أحد منَّا يعرف ما الذي ينتظرنا. وأخذنا نتساءل جميعًا، خاصة في الشهرَين الطويلَين اللذَين كنا نقضي فيهما ثماني ساعات يوميًّا في قاعة التنويم، إن كان من المُمكن أن تنشأ حياة طبيعية هنا في عدن الجديدة.

لم تتحقَّق مخاوفنا الأولى. فمُضيِّفونا الفضائيون، مهما كانت هويتهم، لم يتدخلوا في حياتنا قط. قد يكون صحيحًا أنهم يُراقبوننا باستمرارٍ كما قالت نيكول ويكفيلد والآخرون، ولكننا لا نشعر بوجودهم على أيِّ نحو. وخارج مُستعمرتنا، تندفع مركبة الفضاء راما باتجاه النجم الذي نُطلِق عليه تاو سيتي بسرعة هائلة. لكن داخل المُستعمرة لا تتأثر أنشطتنا اليومية بهذه الظروف الخارجية غير العادية.

قبل الأيام التي قضيناها في قاعة التنويم، عندما كنا لا نزال نرتحِل بين مجموعة الكواكب التي تدور حول نجمنا الأم: وهو الشمس، كان الكثيرون منَّا يعتقدون أن «مدة المراقبة» ستكون قصيرة. اعتقدنا أنه بعد أشهر قليلة سنعود إلى الأرض أو إلى الوجهة التي كنَّا نقصدها في البداية، أي المريخ، وأن مركبة راما الثالثة هذه ستختفي في غياهب الفضاء مثل المركبتَين اللتَين سبقتاها. لكن وأنا أقف أمامكم اليوم، يُخبرني ملَّاحونا أننا ما زلنا نبتعِد عن شمسنا بنصف سرعة الضوء تقريبًا، وهذا هو الحال الذي نحن عليه منذ عامَين ونصف. إذا حالفنا الحظ وعُدنا ذات يومٍ إلى نظامنا الشمسي، فإن هذا لن يحدُث على الأقل قبل عدة أعوام.

هذه العوامل هي التي أملت عليَّ فكرة آخِر خطابٍ أُلقيه عليكم في هذه المناسبة. الفكرة بسيطة وهي أننا — يا إخواني المُستعمِرين — يتعيَّن علينا أن نضطلع بمسئولية مصيرنا كاملة. لا يُمكننا أن نعتمِد على القوى الجبارة التي خلقت عالَمَنا في البداية في إنقاذنا من أخطائنا. علينا أن نُدير عدن الجديدة وكأننا سنبقى فيها نحن وأبناؤنا إلى الأبد. إن ضمان الحفاظ على جودة الحياة هنا، في الحاضر والمستقبل، أمر يتوقَّف علينا بالكامل.

في الوقت الحاضر تُواجِه المُستعمرة عدة تحدِّيات. وأرجو أن تُلاحظوا أنني أُطلق عليها تحدِّياتٍ وليس مشكلات. وذلك لأننا إذا تعاونَّا فسننجح في أن نُواجهها. وإذا ما فكَّرنا مليًّا في عواقب أفعالنا على المدى البعيد فسنتمكَّن من اتخاذ القرارات الصحيحة. ولكن إنْ عجزْنا عن فهم مفهومَي «تأخير تلبية الرغبات» و«النفع العام» فإن مُستقبل عدن الجديدة سيكون في مهبِّ الريح.

دعوني أضرب لكم مثالًا يُوضح وجهة نظري. لقد أوضح ريتشارد ويكفيلد في البرامج التليفزيونية والمُنتديات العامة كيف أنَّ النظام الأساسي الذي يتحكم في الطقس يقوم على افتراضاتٍ مُحددة بشأن الأحوال الجوية داخل موطننا. وعلى وجه التحديد، تفترض الخوارزمية التي تتحكَّم في الطقس أنَّ مستويات ثاني أكسيد الكربون وتركيز جسيمات الدخان أقل من مقدارٍ مُحدد. ونحن لا نحتاج إلى فهمٍ دقيق لكيفية عمل النظام الرياضي الذي يحكم الخوارزمية لكي نستوعب أن الحسابات التي تتحكم في المدخلات الخارجية التي تدخل مساكننا لن تكون صحيحة إذا لم تكن الافتراضات التي بُنِيت عليها دقيقة.

لستُ أنوي أن ألقي محاضرة علمية اليوم عن موضوع مُعقد للغاية. بل ما أريد أن أتحدَّث عنه حقًّا هو الاستراتيجية. ولمَّا كان معظم علمائنا يُؤمنون بأن الطقس الغريب الذي ساد في الأشهُر الأربعة الأخيرة كان نتيجة ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون وجسيمات الدخان في الجو ارتفاعًا مُفرطًا، قدَّمَت حكومتي اقتراحات مُحدَّدة بشأن مواجهة هذه المشكلات. غير أن مجلس الشيوخ رفض كلَّ اقتراحاتنا.

لماذا؟ لأن اقتراحنا بفرض حظرٍ تدريجيٍّ على المدافئ — التي ليست لها أي ضرورة في عدن الجديدة من الأساس — وُصِف بأنه «قيد على الحرية الشخصية». كما صوَّت أعضاء المجلس ضد اقتراحنا المُفصَّل بإصلاح جزءٍ من شبكة أجهزة تبادُل الغازات بهدف تعويض الفاقد من الغطاء النباتي الناتج عن تطوير أجزاءٍ من غابة شيروود والمساحات الخضراء الشمالية. لماذا؟ تقول المُعارضة إن المُستعمرة لن يُمكنها توفير الإمكانات اللازمة للقيام بهذه المهمة، كما أن الطاقة التي تستهلكها الأجزاء الجديدة من شبكة أجهزة تبادل الغازات ستتسبَّب في فرض إجراءاتٍ صارمة للغاية للحفاظ على الكهرباء.

سيداتي سادتي، من السخيف أن ندفن رءوسنا في الرمال ونأمُل أن تختفي هذه المشكلات البيئية من تلقاء نفسها. فكلَّما أرجأنا اتخاذ إجراءاتٍ عملية فستُواجِه المستعمرة صعوباتٍ أكبر في المُستقبل. إنني لا أستطيع أن أُصدق أن الكثير منكم يقتنع بفكر المعارضة غير العملي، ومفاده أننا سننجح بطريقةٍ ما في فهم طريقة عمل خوارزميات الطقس خارج كوكب الأرض ونُغيرها، بحيث تعمل كما ينبغي في ظل الأحوال الجوية التي ترتفع فيها مستويات ثاني أكسيد الكربون وجسيمات الدخان. يا للغرور!»

كانت نيكول وناي تُراقبان ردود الأفعال الصادرة عن خطبة كينجي بعناية شديدة. لقد نصحه الكثير من مؤيديه بأن يُلقي خطابًا لطيفًا متفائلًا دون مناقشة أيِّ مشاكل عصيبة. ولكن الحاكم كان مُصممًا على أن يُلقي خطابًا هادفًا.

مالت ناي إلى نيكول وهمست في أُذنها قائلة: «لقد فقد انتباه الجمهور. فهو يتحدَّث بأسلوبٍ مُتحذلق أكثر مما يجب.»

سادت حالة من التملمُل لا تُخطئها عين بين الحاضرين الذين تراجع عددهم الآن إلى حوالي النصف. وأبحر يخت ناكامورا، الذي كان راسيًا على مقربة من الشاطئ أثناء عرض الألعاب النارية، وذلك بعد لحظات من إلقاء الحاكم واتانابي لخطابه.

غيَّر كينجي موضوع حديثه، فانتقل من الحديث عن البيئة إلى الحديث عن فيروس «آر في ٤١» الارتجاعي. لمَّا كان هذا الموضوع من الموضوعات التي أثارت بلبلة في المستعمرة، زاد انتباه الجمهور زيادةً ملحوظةً. وأخذ الحاكم يشرح كيف أن طاقم العاملين في المجال الطبي في عدن الجديدة، تحت إشراف الدكتور روبرت تيرنر، قطع شوطًا طويلًا لفهم المرض ولكنه لا يزال يحتاج إلى إجراء أبحاثٍ شاملة أكثر ليُحدِّد كيفية علاجه. ثم انتقد بشدة الخوف الجامح الذي أدى إلى تمرير مشروع قانون يقضي بإلزام كل المُستعمِرين الذين يحملون أجسامًا مضادة لفيروس «آر في ٤١» في أجسادهم بارتداء أشرطةٍ حمراء حول أذرُعهم باستمرار، وذلك رغم استخدامه حقَّ الفيتو لمنع هذا.

أخذ عددٌ كبيرٌ من الجالِسين على المقاعد التي تقع على الجانب الآخر من نيكول وناي، معظمهم من الشرقيين؛ يُطلقون صيحات استهجان.

كان كينجي يقول: «… هؤلاء المساكين سيئي الحظ يُواجهون ما يكفي من الكرب …»

صاح رجل يجلس خلف جماعة ويكفيلد وواتانابي: «ما هم إلا مجموعة من فتيات الليل والمِثليِّين.» ضحك من حوله وصفَّقوا.

«… لقد أكد الدكتور تيرنر مرارًا وتكرارًا أن هذا المرض مِثله مِثل معظم الفيروسات الارتجاعية، لا ينتقل إلا عن طريق الدم والسائل المنوي …»

كان الجمهور قد بدأ يخرج عن السيطرة. وكانت نيكول تأمُل أن ينتبِه كينجي لما يحدث وأن يختصر تعليقاته. كان ينوي أن يُناقش حكمة (أو انعدام الحكمة في) التوسع في استكشاف المناطق التي تقع خارج عدن الجديدة من راما، ولكنه لاحظ أنه فقد انتباه الجمهور.

صمت الحاكم واتانابي لحظة ثم أطلق صفارةً عالية للغاية في مُكبر الصوت. مما أسكت المُستمِعين مؤقتًا. قال: «لم يبقَ سوى القليل من الملاحظات، ويجب ألا ينزعِج أحدٌ من كلامي …

كما تعلمون، أنجبتُ أنا وزوجتي ناي توءمين. ونشعر بأن الله أغدق علينا بنِعَمه. في يوم الاستيطان هذا، أطلب من كلٍّ منكم أن يُفكر في أبنائه، وأن يتخيل يوم استيطانٍ آخَر بعد مائة بل ألف عام. تخيَّلوا أنكم جالسون وجهًا لوجهٍ مع ذُريتكم، مع أبناء أحفادكم. هل ستستطيعون أن تُخبروهم بأنكم فعلتم كل ما بوسعكم لتتركوا لهم عالمًا يجدون فيه فرصةً جيدة للسعادة وأنتم تتحدَّثون معهم وتَحملونهم بين أذرُعكم؟»

•••

عاد الحماس يُسيطر على قلب باتريك. فقُرب انتهاء النزهة الخلوية دعاه ماكس إلى قضاء هذه الليلة واليوم الذي يلِيها في مزرعة باكيت. قال الشابُّ لوالدته: «لن يبدأ الفصل الدراسي الجديد في الجامعة حتى يوم الأربعاء. أتسمحين لي بالذهاب يا أمي؟ أرجوكِ!»

كانت نيكول لا تزال تشعر بالانزعاج حيال ردِّ فعل الجمهور على خطبة كينجي، ولم تستوعِب في البداية ما كان ابنها يطلُبه. فطلبت منه إعادة طلبِه ثم نظرت إلى ماكس. وسألته: «هل ستعتني بابني جيدًا؟»

ابتسمَ ماكس باكيت وأومأ برأسه إيجابًا. انتظر ماكس وباتريك حتى أنهى الآليون تنظيف كل النفاية التي خلَّفتها النزهة الخلوية، ثم توجَّها إلى محطة القطار معًا. بعد نصف ساعة كانا في محطة المدينة الرئيسية ينتظران القطار غير المُنتظِم الذي يتوجَّه إلى المنطقة الزراعية مباشرةً. على الرصيف المُواجه لهما كانت مجموعة من زملاء باتريك في الكلية يركبون قطار هاكون. وصاح أحدُهم لباتريك قائلًا: «عليك أن تأتي. إنهم يُقدمون المشروبات للجميع مجانًا طوال الليل.»

شاهد ماكس عينَي باتريك تتبعان أصدقاءه الذين يستقلون القطار. فسأله: «ألم تذهب إلى فيجاس قط؟»

أجاب: «نعم يا سيدي. فوالداي …»

«أتُحِب أن تذهب؟»

كان تردُّد باتريك هو كل ما يَحتاجُه ماكس. بعد ثوانٍ قليلة ركِبا قطار هاكون مع كلِّ رفاق الحفل. قال ماكس وهما يركبان: «أنا لستُ مولعًا بالمكان. فهو يبدو زائفًا وسطحيًّا للغاية … ولكن بالتأكيد يستحقُّ أن تراه، كما أنه مكان لا بأس من زيارته للتسلِية عندما تكون وحيدًا.»

قبل عامَين ونصف بقليل، بعد انتهاء مدة زيادة السرعة التي تحدُث يوميًّا مباشرةً، قدَّر توشيو ناكامورا أنه من المُحتمَل أن يبقى المستعمرون في عدن الجديدة وراما وقتًا طويلًا. وقرَّر أن يُصبح أغنى وأقوى شخصٍ في المستعمرة، حتى قبل عقد الاجتماع الأول للجنة الدستورية واختيارها نيكول دي جاردان ويكفيلد حاكمةً مؤقتةً. واعتمادًا على مؤيدِيه من السجناء الذين استقطبهم أثناء الرحلة من الأرض إلى المريخ على سانتا ماريا، وسَّع علاقاته الشخصية واستطاع أن يبدأ بناء إمبراطوريته فور سكِّ العملات وتأسيس البنوك في المستعمرة.

كان ناكامورا مُقتنعًا بأنَّ أفضل منتجاتٍ يمكن بيعها في عدن الجديدة هي المنتجات التي تمدُّ المُستعمرين بالمتعة والإثارة. وحقَّق أول مشروعٍ يقوم به — وهو كازينو قمار صغير — نجاحًا فوريًّا. بعد هذا، اشترى بعض الأراضي الزراعية التي تقع على الجانب الشرقي من هاكون وبنى أول فندقٍ في المستعمرة، إضافةً إلى كازينو أكبر من الكازينو الأول يقع بجوار البهو مباشرة. ثم أضاف ناديًا خاصًّا صغيرًا، تعمل به مُضيفات مُدرَّبات على الخدمة على الطريقة اليابانية، إلى جانب نادٍ صاخب يتَّسِم بالخلاعة. كانت كل أنشطته تُكلَّل بالنجاح. واستغل استثماراته بدهاء، حتى صار في وضعٍ يُمكنه من أن يعرض على الحكومة شراء خُمس غابة شيروود بعد انتخاب كينجي واتانابي حاكمًا مباشرةً، وأتاح عرضُه هذا لمجلس الشيوخ التراجُع عن زيادة الضرائب التي كانوا يحتاجونها للإنفاق على البحث المبدئي المُتعلق بفيروس «آر في ٤١».

أُزيل جزء من الغابة المزدهرة، وحلَّ محلَّها قصر ناكامورا الشخصي وكازينو/فندق فاخر ومنطقة ترفيه ومجمع مطاعم وعدة نوادٍ. وحتى يُعزز ناكامورا من احتكاره، أخذ يمارس ضغوطًا لإصدار تشريعٍ يقصر لعب القمار على المنطقة المُحيطة بهاكون حتى تحقَّق له ما أراد. ثم تمكن البلطجية العاملون معه من إقناع كل أصحاب المشاريع في هذا المجال بترك الساحة «للملك الياباني» وعدم منافسته في مجال القمار.

عندما وصل سلطانه إلى حدِّ منحِه حصانة، سمح لرفاقه بأن يبدءوا العمل في الدعارة والمخدرات، وهما من الأنشطة التي لم يحظُرهما مجتمع عدن الجديدة. وعند اقتراب نهاية فترة رئاسة واتانابي، عندما بدأت سياسات الحكومة تتعارَض بشكلٍ مُتزايدٍ مع جدول أعمال ناكامورا الشخصي، قرَّر أن يُسيطر على الحكومة أيضًا. ولكنه لم يُرِد أن يُرهق نفسه بتحمُّل أعباء هذه الوظيفة المُملَّة. إذ كان يحتاج إلى دُمية يحركها من وراء الستار. فجند الاسكتلندي السيئ الحظ إيان ماكميلان، الربَّان السابق لبينتا الذي خسر في أول انتخاباتٍ تجرى لاختيار الحاكم، وفاز بها كينجي واتانابي. عرض ناكامورا على ماكميلان منصب الحاكم مُقابل ولائه.

لا يُوجَد في المستعمرة كلها مكان يُشبه فيجاس ولو شبهًا طفيفًا. فالمعمار الأساسي في عدن الجديدة الذي صمَّمه الزوجان ويكفيلد والرجل النسر كان بسيطًا وعمليًّا إلى أقصى حد، فتصميماته الهندسية بسيطة وواجهاته غير مزخرفة. أما فيجاس، فكانت تتَّسِم بطابعٍ معماري يغلب عليه الإسراف في الزخرفة وعدم التناسُق؛ فهو في الواقع مزيج من عدة أساليب معمارية مختلفة. ولكن فيجاس كانت مُمتعة وكان الإعجاب واضحًا على الشاب باتريك أوتول وهو يدخل بصُحبة ماكس باكيت من البوابات الخارجية للمجمع.

قال: «أوه!»، وهو يُحدِّق في لافتة النيون الضخمة التي تُومِض أضواؤها فوق الباب.

قال ماكس وهو يُشعل سيجارة: «لا أريد أن أُقلل من إعجابك يا فتى ولكن الطاقة اللازمة لتشغيل هذه اللافتة الواحدة يُمكن أن تُساهم في تشغيل نحو كيلومتر مُربع من أجهزة تبادل الغازات.»

ردَّ باتريك: «تتحدَّث مثل أمي وأبي.»

كان لزامًا على كلِّ مَن يدخل كازينو القمار أو أي نادٍ من النوادي التوقيع في السجل الرئيسي. فناكامورا لا يترك شيئًا للصُّدفة. ويحتفظ بملفٍ كامل يضمُّ كل الأنشطة التي يقوم بها كل زائر من زوار فيجاس في كل مرة يدخل فيها. وهكذا كان يتسنَّى لناكامورا التعرُّف على المجال الذي يَجب التوسع فيه، والأهم من ذلك، الرذيلة (أو الرذائل) المُفضَّلة لكل عميلٍ من عملائه.

دخل ماكس وباتريك كازينو القمار. وعندما كانا واقِفَين بجوار إحدى الطاولتَين اللتَين تُلعَب عليهما لعبة الكرابس حاول ماكس أن يشرح للشابِّ كيفية عمل اللعبة. ولكن باتريك لم يستطع أن يرفع عينَيه عن كوكبة النادلات اللاتي يرتدين ملابس فاضحة.

سأله ماكس: «هل سبق لك مُضاجعة أحدٍ من قبل يا فتى؟»

ردَّ باتريك: «ماذا تقصد يا سيدي؟»

«هل أقمتَ علاقة جنسية مع امرأةٍ من قبل؟»

أجاب الشاب: «لا يا سيدي.»

تردَّد في عقل ماكس صوت يقول إنه ليس مسئولًا عن تعريف الشابِّ بعالَم المُتعة. وذكَّره نفس الصوت بأنه في عدن الجديدة وليس في آركنسو، وإلا كان سيصحب باتريك إلى زانادو ويوفر له سُبل الدخول في أول علاقةٍ جنسية له.

كان هناك أكثر من مائة شخصٍ في كازينو القمار وهو عدد ضخم مقارنةً بحجم المستعمرة، وكان يبدو أن الجميع يستمتعون بوقتِهم. كانت النادلات يوزعنَ المشروبات المجانية بأقصى سرعةٍ مُمكنة، فاختطف ماكس كأس مارجاريتا وناول كأسًا آخر لباتريك.

قال باتريك: «لا أرى أيَّ آليين.»

رد ماكس: «لا يُوجَد آليون في الكازينو. بل إنهم لا يُديرون المناضد، مع أنهم أفضل في هذه المهمة من البشر. فالملك الياباني يعتقد أن وجودهم يقضي على غريزة المقامرة. ولكنه يَستخدمهم في المطاعم فقط.»

«ماكس باكيت، هذا أنت حتمًا.»

استدار ماكس وباتريك. كانت هناك شابَّةٌ جميلة ترتدي ثوبًا ورديًّا حريريًّا تقترِب منهما. وأردفت قائلة: «إنني لم أرك منذ أشهُر.»

قال ماكس بعد أن انعقد لسانُه عدَّةَ ثوانٍ على غير عادته: «مرحبًا يا سامانثا.»

قالت سامانثا وهي تُصوِّب رموشها الطويلة باتجاه باتريك: «ومن هذا الشاب الوسيم؟»

أجاب ماكس: «إنه باتريك أوتول. أحد …»

هتفت سامانثا: «أوه، يا إلهي! لم أُقابل قطُّ أحد المُستعمِرين الأصليين.» أنعمتِ النظر في باتريك عدة ثوانٍ قبل أن تُتابع حديثها. فقالت: «أخبِرني يا سيد أوتول، أحقًّا أنك نمتَ عدة سنوات؟»

أومأ باتريك برأسه إيجابًا في خجَل.

«تقول صديقتي جولدي إن القصة بأكملها هراء، وإنك أنت وأُسرتك عملاء لوكالة الاستخبارات العالمية. إنها لا تُصدِّق أننا تركنا مدار المريخ. وتقول إن كل تلك المدة الكئيبة التي قضيتموها في الأحواض كانت أيضًا جزءًا من الخدعة.»

ردَّ باتريك بأدب: «أؤكد لك يا سيدتي أن أُسرتي نامت بالفعل سنوات. لقد كنتُ في السادسة من عمري فقط عندما وضعَني والداي في المضجع. وعندما استيقظتُ كنتُ في نفس الهيئة التي أنا عليها الآن تقريبًا.»

«إن ما تقوله مُبهر، حتى لو لم أكن أستوعِبه … إذن يا ماكس ما الذي ستفعله؟ وبالمناسبة ألن تُعرِّفني عليه رسميًّا؟»

«آسف. باتريك، أُقدِّم لك الآنسة سامانثا بورتر، من ولاية ميسيسيبي العظيمة. كانت تعمل في زانادو …»

قاطعَتْه سامانثا قائلة: «أنا فتاة ليل يا سيد أوتول. إحدى أفضل فتيات الليل … هل قابلتَ فتاة ليلٍ من قبل؟»

احمرَّ وجه باتريك. وقال: «لا يا سيدتي.»

رفعت سامانثا ذقنه بإصبعها. وقالت لماكس: «إنه وسيم. أحضره. إن كانت هذه أول مرةٍ له فلن آخُذ منه نقودًا.» طبعَتْ قبلةً صغيرة على شفتَي باتريك ثم استدارت وانصرفت.

لم يستطِع ماكس أن يُفكر في أي شيءٍ مناسبٍ يقوله بعد أن انصرفت سامانثا. وخطر له أن يعتذِر، ولكنه قرَّر أن هذا لن يكون ضروريًّا. لفَّ ماكس ذراعَه حول باتريك واتَّجها إلى المنطقة الخلفية من كازينو القمار حيث تُوجَد مناضد مَبالغ الرهان المرتفعة في منطقة منفصلة.

قالت شابة تُعطيهم ظهرها: «حسنًا يا هذا. خمسة وستة تعني «يو».»

نظر باتريك إلى ماكس في دهشة. وقال وهو يُسرع الخُطى نحوها: «هذه كيتي.»

كانت كيتي مُنهمكة تمامًا في اللعبة. أخذت نفسًا سريعًا من سيجارتها وعبَّت الشراب الذي ناولها إيَّاه الرجل الأسمر الجالس على يمينها، ثم رفعت الزهر عاليًا فوق رأسها. وقالت وهي تناول مدير اللعبة الفيشة: «كلُّ الأرقام». وأضافت وهي تقذف الزهر في الناحية المُقابلة من المنضدة بضربةٍ سريعةٍ من معصمها: «هاك ستةً وعشرين وخمسة ماركات على الثمانية الصعبة … الآن، يُصبح معك أربعة وأربعون.» صاح الأشخاص المُلتفُّون حول المنضدة بصوت واحد: «أربعة وأربعون.»

أخذت كيتي تقفز في مكانها واحتضنت خليلَها وعبَّت شرابًا آخَر وأخذت نفسًا طويلًا من سيجارتها.

ناداها باتريك وهي على وشك أن ترمي الزهر ثانيةً.

تسمَّرت والتفتت والنظرة المُتسائلة مُرتسمة على وجهها. قالت: «تبًّا. هذا أخي الصغير.»

اتجهت باضطرابٍ نحو أخيها لتُحييه، ومدير اللعبة واللاعبون الآخَرون على المنضدة يصيحون فيها لتُواصِل اللعب.

قال باتريك بهدوءٍ وهو يُعانقها: «إنك سكرانة يا كيتي.»

ردَّت عليه كيتي وهي تبتعِد عنه مُتجهة نحو المنضدة: «كلَّا يا باتريك. إنني أطير. أنا أطير نحو النجوم في مكوكي الخاص.»

استدارت نحو منضدة الكرابس ورفعت ذراعها اليُمنى عاليًا. وصاحت: «حسن، الآن، «يو». هل ستلعبون «يو»؟»

٢

عادت الأحلام تزور نيكول في الساعات الأولى من الصباح. استيقظت وحاولت أن تتذكر ما كانت تحلُم به ولكنها لم تستطِع أن تتذكَّر سوى مشاهد منفصلة من هنا وهناك. في أحد أحلامها رأت وجه أومه ظاهرًا بلا جسدِه. كان أومه — جدُّها الأكبر المنحدر من جماعة السينوفو — يُحذرها من شيءٍ ما ولكنها لم تستطع أن تفهم ما كان يقول. في حلمٍ آخر رأت ريتشارد يدخل في محيط هادئ، وبعدها مباشرة اندفعت موجةٌ عارمة نحو الشاطئ.

فركت نيكول عينَيها ونظرت إلى الساعة. كانت الساعة الرابعة إلَّا قليلًا. قالت لنفسها: «تقريبًا في نفس الموعد من كل صباح طوال هذا الأسبوع. ماذا تقصد؟» وقفت واتجهت إلى الحمام.

بعد دقائق كانت تقِف في المطبخ مُرتدية ملابس التمرين. شربت كوبًا من الماء. عاد اللينكولن الآلي إلى العمل بعد أن كان مُستندًا بلا حراك إلى حائط عند نهاية السطح الرخامي الموجود في المطبخ، واقترب منها.

سألها وهو يأخذ كوب المياه الفارغ منها: «أتودِّين أن أُعِد لك فنجانًا من القهوة يا سيدة ويكفيلد؟»

أجابته: «كلَّا يا لينك. سأخرج الآن. إذا استيقظ أحدٌ منهم أخبِره أنَّني سأعود قبل السادسة.»

سارت نيكول في الرواق مُتجهةً إلى الباب. وقبل أن تُغادر المنزل مرَّت بحجرة المكتب التي تقع عن يمين الممر. كانت الأوراق مبعثرةً على مكتب ريتشارد، بجانب الكمبيوتر الجديد الذي صمَّمه وجمَّعه بنفسه وفوقه. كان ريتشارد فخورًا للغاية بجهاز الكمبيوتر الجديد الخاص به الذي حثَّته نيكول على صنعه، لكن من غير المُحتمَل أن يحتلَّ هذا الكمبيوتر بالكامل محل محبوبته: الكمبيوتر الجيبي الرائع الذي صنعته وكالة الفضاء العالمية. فريتشارد لم يكن يُفارق ذلك الكمبيوتر المحمول الصغير منذ ما قبل انطلاق نيوتن.

ميزت نيكول خطَّ ريتشارد على بعض الأوراق، ولكنها لم تستطِع أن تقرأ لغة الكمبيوتر الرمزية التي يستخدمها. فقالت لنفسها وقد انتابها شعور بالذنب: «كان يقضي وقتًا طويلًا هنا مؤخَّرًا. مع أنه يؤمِن بأن ما يفعله خطأ.»

في البداية رفض ريتشارد المشاركة في جهود حلِّ شفرة الخوارزمية التي تحكم الطقس في عدن الجديدة. تذكرت نيكول النقاش الذي دار بينهما بوضوح. قالت: «لقد اتفقنا على المشاركة في هذا النظام الديمقراطي. فإذا ما قرَّرْنا أنا وأنت أن نتجاهل قوانينه فإننا بهذا نضرب مثلًا سيئًا للآخرين …»

قاطعها ريتشارد: «هذا ليس قانونًا. إنه مجرد قرار. وتعلمين مثلما أعلم أنه يستند على فكرةٍ سخيفة للغاية. لقد عارضتِ هذا القرار أنتِ وكينجي. وفضلًا عن ذلك، ألَم تقولي لي ذات مرةٍ إنه من واجبنا أن نقِف في وجه غباء الأغلبية؟»

ردَّت نيكول: «أرجوك يا ريتشارد. يُمكنك بالطبع أن توضح للجميع سبب رفضك للقرار. ولكن محاولة الوصول إلى الخوارزمية هذه أصبحت قضيةَ رأيٍ عام. فالمُستعمرون يعلمون أننا قريبون من أسرة واتانابي. وإذا تجاهلنا القرار فسيبدو وكأن كينجي يتعمَّد محاولة الحط من …»

بينما كانت نيكول تتذكر الحوار الذي دار بينها وبين زوجها في وقتٍ سابق، راحت عيناها تدوران في الغرفة بلا هدف. وعندما عاد ذهنها إلى التركيز على الحاضر، اندهشت بعض الاندهاش لأنها وجدت أن عينَيها ظلَّتا تُحدِّقان في ثلاثة أشكالٍ صغيرة واقفة في رفٍّ مفتوح فوق مكتب ريتشارد. قالت لنفسها: الأمير هال وفولستاف وشين. كم من الوقت مضى منذ أن سلَّانا ريتشارد بكم؟

عادت نيكول بذاكرتها إلى الأسابيع الطويلة المُملَّة التي أعقبت استيقاظ أُسرتها بعد سنواتٍ من النوم. عندما كانوا ينتظرون وصول المُستعمرين الآخرين، كان مصدر تسليتهم الأساسي هو الآليين الذين صنعهم ريتشارد. لا تزال تتذكَّر ضحكات الأطفال المرحة وريتشارد وهو يبتسم في سرور. قالت لنفسها: كانت الحياة في تلك الأوقات أبسط وأسهل من الحياة التي نعيشها الآن. أغلقت حجرة المكتب وواصلت سيرَها في الممر. وتابعت حديثها مع نفسها قائلة: أصبحتِ الحياةُ معقدة حتى إنها لا تحتمِل الترفيه. الآن لا يسع أصدقاءك الصِّغار سوى الجلوس على الرفِّ في صمت.

عندما خرجَتْ في الممشى، توقفت لحظةً تحت عمود الإنارة بجوار موقف الدراجة. ترددَتْ لحظة وهي تنظر إلى دراجتها، ثم استدارت وتوجَّهَت إلى الفناء الخلفي. بعد دقيقة، كانت قد عبرت المنطقة المكسوة بالعشب التي تقع خلف المنزل ووصلت إلى الطريق الضيق الذي يلتفُّ صعودًا حتى يؤدي إلى قمة جبل الأوليمب.

مشَتْ نيكول بنشاطٍ وخفة. كانت غارقة بشدة في أفكارها. ولم تكن تنتبه إلى ما يُحيط بها وقتًا طويلًا. إذ أخذ عقلها يقفز من موضوع إلى آخر، من المشكلات التي تهدد عدن الجديدة، إلى الأحلام الغريبة التي تأتيها، إلى قلقها على أبنائها وخاصة كيتي.

وصلت إلى نقطة تشعَّب عندها الطريق المُلتف. كانت هناك لافتة صغيرة جميلة تقول إن الطريق الأيسر يؤدي إلى محطة التلفريك، التي تقع على بُعد ثمانين مترًا، حيث يُمكن الركوب إلى قمة جبل الأوليمب. اكتشف النظام الإلكتروني وجود نيكول عند مُفترق الطريق، وأمر جارسيا آليًّا بأن ينطلق من اتجاه عربة تلفريك إلى نيكول.

صاحت نيكول: «لا عليك. سأصعد مشيًا.»

أخذ المشهد يزداد جمالًا كلما صعدت الطرق المُتعرجة المحفورة في جانب الجبل الذي يُواجِه المستعمرة. توقفت نيكول عند موضعٍ يرتفع عن الأرض خمسمائة متر ويبعُد عن منزلها مسافة تقلُّ بقليلٍ عن ثلاثة كيلومتر، ونظرت إلى عدن الجديدة وهي تبدو من بعيد. كانت ليلةً السماء فيها صافية، تنخفِض فيها نسبة الرطوبة أو تكاد تكون مُنعدمة.

قالت نيكول لنفسها: «لن تُمطر اليوم»، وقد لاحظَت أن السماء دائمًا ما تكون مشبعة ببخار الماء صباح الأيام التي تشهد هطول أمطار. نظرت نيكول إلى أسفل منها مباشرة فرأت بوفوا، ومكَّنَتها الأضواء الصادرة من مصنع الأثاث الجديد من تمييز معظم المباني المألوفة في منطقتها رغم بُعد المسافة. في الشمال كانت سان ميجيل مُختبئة خلف الجبل الضخم. ولكنها لمحت الأضواء الساطعة التي تُميز فيجاس التي بناها ناكامورا في الجانب الآخر البعيد من المدينة المركزية التي يلفُّها الظلام.

وعلى الفور انقلب مزاجها وتذمَّرت في صمت: هذا المكان اللعين يظلُّ مفتوحًا طوال الليل، ويستهلك مصادر طاقة مهمة ويُقدِّم متعًا مُشينة.

كان من المستحيل ألا تفكر نيكول في كيتي وهي تنظر إلى فيجاس. قالت لنفسها: «يا لها من موهبة»، واعتصر قلبَها ألمٌ شديد وهي تستحضِر صورة ابنتها في خيالها. لم تستطع أن تمنع نفسها من التساؤل عما إذا كانت كيتي لا تزال مُستيقظة ومنخرطة في تلك الحياة الوهمية البراقة التي تدبُّ في الجانب الآخر من المُستعمرة. ثم قالت في نفسها وهي تهزُّ رأسها: «يا للخسارة!»

كثيرًا ما تناقشت هي وريتشارد حول أحوال كيتي. فهما لا يتشاجران إلَّا حول موضوعَين: كيتي، وسياسة عدن الجديدة. ولم يكن من المُمكن أن يُقال إنهما يتشاجران حول السياسة. فريتشارد يرى أن جميع السياسيين — ما عدا نيكول — وربما كينجي واتانابي، ليس لهم مبادئ أصلًا. وكانت طريقتُه في النقاش قوامها إطلاق آراءٍ عامَّة عن الأحداث السخيفة التي تقع في مجلس الشيوخ، أو في قاعة المحكمة التي تترأسها نيكول، ثم يرفض أن يسترسل في مناقشة الموضوع بعد ذلك.

أما كيتي فأمرها مختلف. إذ إن ريتشارد دائمًا ما يقول إن نيكول تقسو عليها أكثر مما ينبغي. قالت نيكول لنفسها وهي تُحدق في الأضواء البعيدة: إنه يلومُني أيضًا لأنني لا أقضي ما يكفي من الوقت معها. ويؤكِّد أن انهماكي في سياسة المستعمرة جعل الأولاد يفتقدون وجود أمِّهم وهم في أهم مراحل حياتهم.

لم تعُد كيتي تأتي إلى البيت إلَّا لِمامًا. فمع أنهم لا يزالون يحتفظون لها بغرفتها فإنها تُمضي مُعظم الليالي في إحدى الشقق الفاخرة التي بناها ناكامورا في مجمع فيجاس.

سألت نيكول ابنتَها ذات ليلةٍ قبل أحد الشجارات المعتادة: «وكيف تدفعين الإيجار؟»

أجابت كيتي بلهجةٍ عدوانية: «ماذا تعتقِدين يا أمي؟ إنني أعمل. لديَّ ما يكفي من الوقت. فأنا لا أدرس سوى ثلاث مواد في الجامعة.»

سألت نيكول: «وما نوع العمل الذي تقومين به؟»

أجابت كيتي بغموض: «إنني مُضيفة، أقوم بتسلية الروَّاد … وأُلبي جميع طلباتهم.»

أشاحت نيكول بوجهها عن أضواء فيجاس، وقالت لنفسها: بالطبع، سبب اضطراب كيتي مفهوم. فهي لم تمُر بمرحلة المراهقة قط. ولكن لا يبدو أنها تتحسَّن على الإطلاق … وأخذت نيكول تصعد الجبل بسرعةٍ من جديدٍ كي تُبدِّد كآبتها المتزايدة.

هذا الجبل كانت تكسوه أشجار سميكة طولها خمسة أمتار على طول المساحة المُمتدَّة على ارتفاعٍ يتراوح بين خمسمائة متر وألف متر فوق الأرض. في هذه المنطقة كان الطريق الذي يؤدي إلى القمة يصعَد بين الجبل والجدار الخارجي للمُستعمرة، في منطقةٍ مظلمة للغاية تمتدُّ إلى أكثر من كيلومتر. وكانت نقطة المُراقبة التي تُطلُّ على الشمال وتقع بالقُرب من نهاية الطريق هي المنطقة الوحيدة غير المظلمة.

وصلت نيكول إلى أعلى نقطةٍ في صعودها. وتوقفت عند نقطة المُراقبة وأخذت تُحدق في سان ميجيل. قالت لنفسها وهي تهزُّ رأسها: ذلك هو الدليل على أننا فشِلنا هنا في عدن الجديدة. فرغم كلِّ شيءٍ يوجَد فقر ويأس في الجنة.

لقد أحسَّت باقتراب المشكلة، فقد تنبأت بوقوعها بدقةٍ قرب نهاية العام الذي قضته في الحكم المؤقَّت. ومن المفارقات أنَّ الظروف التي تمخَّضت عنها مشكلة سان ميجيل — التي تصل مستويات المعيشة فيها إلى نصف مستوى المعيشة في المدن الثلاث الأخرى — قد بدأت بعد وصول بينتا مباشرة. فقد استقرَّ معظم المُستعمرين من تلك المجموعة الأولى في المدينة التي تقع في الجنوب الشرقي والتي أصبحت فيما بعدُ بوفوا، مما أرسى سابقة تأكدت بعد وصول ركاب نينيا إلى راما. وبدأ تنفيذ نظام حرية الاستيطان (أي حرية اختيار مكان الإقامة)، فقرَّر مُعظم الشرقيِّين العيشَ معًا في هاكون، واختار الأوروبيون والأمريكيون البيض وسكان أواسط آسيا أن يعيشوا إما في بوسيتانو أو فيما تبقَّى من بوفوا. أما المكسيكيون وغيرهم من مواطني أمريكا اللاتينية والأمريكيون السود والأفارقة فابتلعَتهم سان ميجيل.

بصفتها حاكمة، حاولت نيكول أن تُنهي هذا الفصل العنصري القائم في المستعمرة عن طريق تطبيق نظام إعادة استيطانٍ مثالي يقوم على إعادة توزيع السكان، بحيث تسكن في كل مدينة من المدن الأربع نِسَب من الأعراق المختلفة لتُمثل المستعمرة ككل. كان من الممكن أن يُقبَل اقتراحها في أول أيام المستعمرة، خاصة بعد الأيام التي قضَوها في قاعة التنويم عندما كان معظم المواطنين ينظرون إلى نيكول على أنها شخصية ذات قدسية. ولكن بعد مرور أكثر من عامٍ كان الوقت قد فات. فقد تسبَّبت مشاريع القطاع الخاص في حدوث فجواتٍ في كلٍّ من الثروة الشخصية وقيمة العقارات. وحتى أشد مؤيدي نيكول رأوا أن فكرة إعادة الاستيطان في تلك المرحلة غير عملية.

بعد نهاية المدة التي شغلتها نيكول في منصب الحاكمة، رحَّب مجلس الشيوخ بتعيين كينجي لها واحدة من القضاة الخمس الدائمين في عدن الجديدة. غير أن صورتها في المستعمرة قد تضرَّرَت كثيرًا بعدما شاعت الآراء التي أبدتها دفاعًا عن خطة إعادة الاستيطان التي وُئدت في مهدها. فقد قالت نيكول إنه من الضروري أن يسكن المستعمرون في أحياءٍ صغيرة مشتركة حتى يُصبح لدَيهم وعي مُستنير بالاختلافات الثقافية والعرقية. وقد وصف مُنتقدوها آراءها بأنها «في منتهى السذاجة».

أخذت نيكول تنظر إلى أضواء سان ميجيل المُتلألئة دقائق أخرى وهي تستريح بعد رحلة صعود الجبل الشاقة. وقبل أن تستدير وتعود إلى بيتها في بوفوا تذكَّرَت فجأة مجموعةً أخرى من الأضواء المُتلألئة، في مدينة دافوس السويسرية على كوكب الأرض. في آخِر رحلة تزلُّج قامت بها نيكول، تناولت هي وابنتها جنيفياف العشاء على الجبل المطل على دافوس، وبعد تناول الطعام، وقفَتا في شرفة المطعم وقد تشابكَت أيديهما في البرد المُنعش. وكانت أضواء دافوس تلمع كالمجوهرات الصغيرة تحتهما بعدة كيلومترات. دمعت عينا نيكول وهي تُفكر في ابنتها الكبرى التي لم ترَها منذ سنوات، وتذكَّرت جمالها وخفة ظلِّها. وتذكَّرت الصور التي أحضرَها صديقها الجديد من الأرض، فتمتمت وهي تبدأ السير قائلة: أشكرك مرةً أخرى يا كينجي لأنك سمحت لي أن أعايش معك أحداث زيارتك لجنيفياف.

عاد الظلام يُخيم مرة أخرى من حول نيكول وهي تعود أدراجها وتنزل جانب الجبل. صار الجدار الخارجي للمُستعمرة عن يسارها الآن. وراحت تُواصل التأمُّل في الحياة في عدن الجديدة. وقالت لنفسها: نحتاج إلى شجاعةٍ كبيرة الآن. نحتاج إلى الشجاعة وإلى القيم وإلى الرؤية المُستقبلية. ولكنها كانت في قرارة نفسها تتوجَّس أن المُستعمرين مُقبلون على الأسوأ. وأخذت تُفكر في كآبةٍ قائلة: للأسف، ظلَّ الناس ينظرون إليَّ أنا وريتشارد، بل والأطفال، على أننا مُختلفون عنهم، رغم كلِّ ما حاولنا فعله. ومن المُستبعَد أن نتمكن من تغيير أي شيءٍ تغييرًا يُذكر.

•••

تحقق ريتشارد من أن الأينشتاين الآليين الثلاثة نسَخوا على أتمِّ وجهٍ كل الإجراءات والبيانات التي كانت ظاهرة على الشاشات المُختلفة في حجرة مكتبه. وبينما كان الأربعة يُغادرون المنزل، قبَّلته نيكول.

قالت: «أنت رجل رائع يا ريتشارد ويكفيلد.»

ردَّ عليها وهو يُحاول أن يبتسِم: «أنت الوحيدة التي ترَين هذا.»

قالت: «أنا أيضًا الوحيدة التي تعرف هذا.» صمتت لحظة. ثم تابعت حديثها قائلةً: «أنا أُقدِّر ما تفعله يا عزيزي. أعرف …»

قاطعها قائلًا: «لن أتأخَّر كثيرًا. فليس أمامي أنا والآليين الأينشتاين الثلاثة سوى تجريب فكرتَين أساسيتَين … إن لم ننجح اليوم فسنكفُّ عن المحاولة.»

أسرع ريتشارد إلى محطة بوفوا والأينشتاين الثلاثة في إثره، واستقلَّ القطار المُتجه إلى بوسيتانو. توقف القطار قليلًا بجوار الحديقة الكبيرة المُطلة على بحيرة شكسبير التي احتفلوا فيها بيوم الاستيطان منذ شهرَين. بعد دقائق، نزل ريتشارد ومعاونوه في محطة بوسيتانو وساروا عبر البلدة إلى الركن الجنوبي الغربي من المُستعمرة. وهناك، سُمِح لهم بعبور مخرج المُستعمرة المؤدِّي إلى الحلقة التي تُطوِّق عدن الجديدة بعد أن تحقَّق حارس بشري واثنتان من آليات جارسيا من بطاقات الهوية. خضعوا لتفتيشٍ إلكتروني آخَر سريع، ثم وصلوا إلى الباب الوحيد الذي شُقَّ في الجدار الخارجي السميك المُحيط بالمنطقة السكنية. بعده، انفتح الباب فجأة ودخل ريتشارد منه ومن خلفه الآليون إلى راما نفسها.

ثارت مخاوف ريتشارد عندما صوَّت مجلس الشيوخ منذ ثمانية عشر شهرًا لمصلحة قرارٍ بصنع وتشغيل مسبارٍ ثاقب لاختبار الأحوال البيئية في راما خارج وحدة الإسكان مباشرةً. وكان ريتشارد عضوًا في اللجنة التي راجعت التصميمَ الهندسيَّ للمسبار، وكان مُتخوفًا من أن تكون البيئة الخارجية غير مواتية ومن أن يعجز تصميم المسبار عن حماية سلامة المنطقة السكنية كما ينبغي. وقد تكلف الأمر قدرًا كبيرًا من الوقت والمال لضمان أن تكون حدود عدن الجديدة مُحكمة الغلق على نحوٍ لا يسمح بتأثُّرها بالبيئة الخارجية طوال العملية بأكملها، بما في ذلك المدة التي يحفر المسبار فيها ببطء في الجدار.

كان ريتشارد قد فقد مصداقيتَه في المُستعمرة عند اكتشاف أنَّ بيئة راما لا تختلف عن بيئة عدن الجديدة اختلافًا كبيرًا. فمع أنَّ الظلام كان يُخيم في الخارج باستمرار ومع أن بعض التغييرات الدورية الطفيفة تطرأ على الضغط الجوي وعلى العناصر الجوية، فإن البيئة المُحيطة في راما كانت مشابهةً بشدة لبيئة المستعمرة، حتى إن المُستكشفين البشَر لم يكونوا في حاجةٍ إلى ارتداء بذَلِهم الفضائية. وبعد أسبوعين من كشف المسبار الأول عن أن جوَّ راما غير مؤذٍ كان المُستعمرون قد أتمُّوا رسم خريطة لمنطقة السهل المركزي التي أصبحوا يستطيعون الآن الوصول إليها.

كانت عدن الجديدة ومبنًى آخر مُستطيل الشكل في الجنوب يكاد يكون نسخةً مطابقة منها — يعتقد ريتشارد ونيكول أنه منطقة سكنية لنوعٍ آخر من أنواع الحياة — تُحيط بهما منطقة أكبر ومُستطيلة الشكل أيضًا، وتفصلها عن باقي راما حواجز رمادية معدنية شاهقة. وكانت الحواجز الموازية للجانبَين الشمالي والجنوبي عبارةً عن امتدادٍ لجدران المنطقتَين السكنيتَين أنفسهما. لكن كانت تُحيط بالمنطقتَين السكنيتَين المُسيَّجتَين، من الجانبين الشرقي والغربي، مساحة مفتوحة تُقدَّر بنحو كيلومترين.

في الزوايا الأربع لهذا المُستطيل الخارجي كانت توجَد أبنية أسطوانية عملاقة. كان ريتشارد والفنيون الآخرون في المستعمرة يعتقدون أن تلك الأسطوانات الغامضة تحتوي على السوائل وآليات الضخ المستخدمة للحفاظ على توازن الأحوال البيئية داخل المناطق السكنية.

تُغطي المنطقة الخارجية الجديدة — غير المسقوفة إلا في الجانب المقابل لراما نفسها — معظم النصف الشمالي من مركبة الفضاء. ولا يُوجَد في السهل المركزي الواقع بين المنطقتَين السكنيتَين سوى كوخٍ معدني ضخم تعلُوه قبة، يُشبِه منازل الإسكيمو. وكان هذا الكوخ هو مركز التحكُّم في عدن الجديدة، ويقع على بُعد نحو كيلومترين من جنوبي جدار المستعمرة.

عندما خرج ريتشارد والآليون الأينشتاين من عدن الجديدة، توجهوا إلى مركز التحكم، حيث كانوا يعملون معًا طوال قرابة أسبوعين في محاولةٍ لاختراق دوائر التحكم المنطقية الأساسية التي تتحكم في الطقس داخل عدن الجديدة. فعلى الرغم من اعتراض كينجي واتانابي، خصص مجلس الشيوخ حِصصًا من الميزانية لتمويل «الجهود الدءوبة» التي يبذلها «أفضل مهندسي» المستعمرة لتغيير خوارزمية الطقس الفضائي. وقد أعلنوا هذا التشريع بعد أن استمعوا إلى شهادة مجموعة من العلماء اليابانيين الذين قالوا إن هذا سيمكنهم من الحفاظ على استقرار الأحوال الجوية في عدن الجديدة وإن ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون والدخان في الهواء.

لاقى القرار قبولًا لدى السياسيين. ففي حالة عدم اضطرارهم إلى حظر حرق الأخشاب ونشر شبكة مُعدَّلة من أجهزة تبادل الغازات، وفي حالة إذا لم يكن من الضروري فعل شيءٍ سوى تعديل بضعة معاملات في الخوارزمية الفضائية التي صُمِّمت أصلًا بناءً على بعض الافتراضات التي لم تعُد صحيحة، إذن …

كان ريتشارد يمقُت ذلك الأسلوب في التفكير. وكان يُطلق عليه أسلوب التسويف والمماطلة. ومع هذا فقد وافق على تولي المهمة استجابةً لتوسُّلات نيكول، ونظرًا إلى فشل المهندسين الآخرين في فهم أيٍّ من جوانب عملية التحكم في الطقس فشلًا ذريعًا. لكنه أصر على أن يعمل بمفرده دون أن يتلقى مساعدة من أحد سوى الأينشتاين الآليين.

في اليوم الذي عزم ريتشارد أن يقوم فيه بآخِر محاولة لفك شفرة الخوارزمية المتحكمة في طقس عدن الجديدة توقف هو والآليون بالقرب من موقع يبعُد نحو كيلومتر عن مخرج المستعمرة. فقد رأوا مجموعةً من المهندسين والمعماريِّين يعملون حول منضدة كبيرة جدًّا تحت أضواء مبهرة.

«لن يكون حفر القناة صعبًا، فالتربة ناعمة للغاية.»

«لكن ماذا عن الصرف الصحي؟ هل نبني بالوعات أم نُعيد المخلَّفات إلى عدن الجديدة لمُعالجتها؟»

«ستكون احتياجات هذه المُستوطنة من الطاقة هائلة. فالطاقة لازمة لإنارة هذا الظلام الحالك وأيضًا لتشغيل المعدات. كما أننا بعيدون عن عدن الجديدة حتى إننا مُضطرون للإبلاغ عن الخسائر غير العادية هاتفيًّا … ولا يمكن أن نستخدِم ما لدَينا من مواد مُوصلة فائقة لأنها أخطر من أن تُستخدَم لهذا الغرض.»

شعر ريتشارد بمزيجٍ من الاشمئزاز والغضب وهو يستمع إلى هذه الحوارات. فما كان يقوم به المهندسون والمِعماريون الآن هو دراسة جدوى لبناء مدينةٍ خارجية يعيش فيها المصابون بفيروس «آر في ٤١». هذا المشروع المُسمى أفالون هو ثمرة تسوية سياسية واهية بين الحاكم واتانابي والمعارضة. فقد سمح كينجي بتمويل هذه الدراسة ليُثبت أنه مُتفتح فيما يتعلق بقضية مواجهة مشكلة فيروس «آر في ٤١».

واصل ريتشارد والأينشتاين الثلاثة السير جنوبًا. وعند شمال مركز التحكم مرُّوا بمجموعة من البشر والآليين يتوجَّهون نحو موقع الاستكشاف في المنطقة السكنية الثانية وهم يحملون آلات ضخمة.

قالت ميريلين بلاكستون، وهي مهندسة بريطانية مثل ريتشارد، كان قد رشَّحها لرئاسة مشروع الاستكشاف: «أهلًا، ريتشارد.» وُلِدت ميريلين في مدينة تونتون بمقاطعة سومرست. وحصلت على بكالوريوس الهندسة من جامعة كامبريدج عام ٢٢٣٢، وهي تتمتع بكفاءة عالية.

سألها ريتشارد: «كيف يسير العمل؟»

قالت ميريلين: «تعال، ألقِ نظرة إن كان لديك وقت.»

ترك ريتشارد الأينشتاين الثلاثة عند مركز التحكُّم وصحب ميريلين وفريقها إلى المنطقة السكنية الثانية الواقعة على الجانب الآخر من السهل المركزي. تذكَّر وهو في سيره الحوارَ الذي دار بينَه وبين كينجي واتانابي وديميتري أولانوف في عصر أحد الأيام في مكتب الحاكم قبل حصول مشروع الاستكشاف على الموافقة الرسمية.

قال ريتشارد: «أُريد أن أؤكد أنني أعترض تمامًا على أيٍّ من محاولات التعدِّي على تلك المنطقة السكنية الأخرى. فأنا ونيكول على يقينٍ تامٍّ من أن بها نوعًا آخر من المخلوقات. فليست ثمة أسباب قوية تدعو لاقتحامها.»

ردَّ عليه ديميتري: «ماذا لو كانت فارغة؟ ماذا لو أنهم خصَّصوها لنا في ذلك المكان مُفترِضِين أننا أذكياء بما يكفي لنستشف كيف نستخدِمُها؟»

صاح ريتشارد: «يا ديميتري، هل استوعبتَ كلمةً مما كنتُ أقوله لك أنا ونيكول طوال هذه الأشهر؟ إنك ما زلت تتمسك بفكرة سخيفة تُفسر مكانتنا في الكون من منظور التفوُّق البشري. إنك تفترض أننا كائنات متفوقة لأننا النوع المُهيمن في كوكب الأرض. ولكن هذا غير صحيح. لا بد أن هناك مئات …»

قاطعَه كينجي بصوتٍ هادئ قائلًا: «ريتشارد، نعرف رأيك عن هذا الموضوع. لكن مُستعمري عدن الجديدة لا يُشاطرونك الرأي. فهم لم يرَوا الرجل النسر أو الأوكتوسبايدر أو أيًّا من المخلوقات الرائعة الأخرى التي تتحدَّث عنها. وهم يريدون أن يعرفوا إن كان أمامنا مجال للتوسع …»

قال ريتشارد لنفسه وهو يقترب مع فريق الاستكشاف من المنطقة السكنية الثانية: إذن كان كينجي خائفًا حينها. وهو لا يزال خائفًا من احتمال تغلُّب ماكميلان على أولانوف في الانتخابات مما يضع المُستعمرة تحت رحمة ناكامورا.

بدأ اثنان من الأينشتاين العمل فور وصول الفريق إلى موقع الاستكشاف. فأخذا يُركِّبان بعنايةٍ حفارًا صغير الحجم يعمل بالليزر في الثُّقب الذي سبق حفره. وبعد خمس دقائق بدأ الحفَّار يُوسِّع ببطءٍ الثقب الموجود في الجدار المعدني.

سأل ريتشارد: «ما المسافة التي تمكنتم من حفرها؟»

أجابت ميريلين: «نحو خمسة وثلاثين سنتيمترًا حتى الآن. فنحن نتقدَّم ببطءٍ شديد. إن كان سُمك ذلك الجدار يُساوي نفس سُمك جدار منطقتنا السكنية فسنستغرق ثلاثة أو أربعة أسابيع قبل أن نحفره حتى الجانب الآخر … بالمناسبة، يشير التحليل الطيفي لمكونات الجدار إلى أنها من نفس المادة التي يتكون منها جدارنا.»

«وماذا بعد أن تخترقوا الجدار إلى الداخل؟»

ضحِكَت ميريلين. وقالت: «لا تقلق يا ريتشارد. فنحن نتبع كل الإجراءات التي أوصيت بها. قبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية سنُمضي أسبوعَين على الأقل في المراقبة دون فعل شيء، وسنُعطيهم فرصةً للرد علينا، هذا إن كانوا بالداخل حقًّا.»

كان الشك واضحًا في صوتها. فقال ريتشارد: «حتى أنت يا ميريلين. ماذا أصاب الجميع؟ أتظنِّين أنني أنا ونيكول والأولاد اختلقْنا كل تلك القصص؟»

ردَّت عليه: «البيِّنة على من ادَّعى.»

هز ريتشارد رأسه. وهمَّ بأن يُجادلها، لكنه تذكَّر أن عليه القيام بمهامَّ أهم.

فأمضى دقائق قليلة في حوار مهذب عن النواحي الهندسية، ثم عاد إلى مركز التحكم حيث كان ينتظره الآليون الأينشتاين الثلاثة.

•••

ما يُعجب ريتشارد في العمل مع آليي الأينشتاين هو أنهم يتيحون له تجربة الكثير من الأفكار في الوقت نفسه. فمتى خطرت له فكرة جديدة حدَّد ملامحها لأحد الآليين وهو مُطمئن إلى أنه سيُنفذها على أكمل وجه. ومع أن الأينشتاين لم يقترحوا على ريتشارد أفكارًا جديدة فقد كانوا مُزوَّدين بذاكراتٍ ممتازة وكثيرًا ما كانوا يلفتون انتباه ريتشارد عندما تتشابَه إحدى أفكاره بأسلوب آخر سبق أن طبَّقَه وباءَ بالفشل.

في أول الأمر، حاول جميع مهندسي المستعمرة المُكلَّفين بتعديل خوارزمية الطقس التوصُّلَ إلى فهم كيفية عمل الكمبيوتر الفضائي الفائق الموجود في منتصف مركز التحكُّم. وكان هذا هو خطأهم الأساسي. أما ريتشارد فكان يعلم مُسبقًا أن العمليات الداخلية لهذا الكمبيوتر ستكون أشبه بالطلاسم بالنسبة إليه؛ لذا فقد ركز جهوده على تحليل الإشارات التي تخرج من الكمبيوتر الضخم وتحديدها. وافترض أن البنية الأساسية للعملية لا بدَّ أن تكون مباشرة. وأنها كالتالي: تُحدد مجموعة من قياسات الأحوال المناخية في عدن الجديدة في وقتٍ مُحدد. ثم تستخدِم الخوارزمية تلك القياسات لتصوغ الأوامر التي تُنقَل بطريقةٍ ما إلى الهياكل الأسطوانية الضخمة، حيث يحدُث النشاط الفيزيائي الفعلي الذي يؤدِّي إلى تعديل الغلاف الجوي داخل المنطقة السكنية.

لم يستغرق ريتشارد وقتًا طويلًا ليرسم رسمًا تخطيطيًّا لطريقة عمل ذلك النظام. فقد كان واضحًا أن هناك نوعًا من التواصُل الكهرومغناطيسي بين مركز التحكم والبنايات الأسطوانية، وذلك لعدم وجود وصلاتٍ كهربائية مباشرة تربط بينهما. لكن يبقى سؤال هو: ما نوع هذا التواصُل الكهرومغناطيسي؟ عندما قام ريتشارد بإجراء التحليل الطَّيفي ليتوصَّل إلى طول موجات الاتصال وجدَ عددًا كبيرًا من الإشارات المُحتمَلة.

كان تحليل هذه الإشارات وفهمها كالبحث عن إبرةٍ في كومة قش. توصَّل ريتشارد — بمساعدة آليي الأينشتاين — إلى أن مُعظم الإشارات المُرسَلة نطاقها التردُّدي من الموجات الكهرومغناطيسية المتناهية القصر. ظلَّ هو وآليو الأينشتاين طوال أسبوع يُصنفون الموجات الكهرومغناطيسية القصيرة، ويُقارنون الأحوال المناخية في عدن الجديدة بعدَ وقبل إرسالها، ويُحاولون تعديل مجموعة المُعاملات التي تتحكَّم في قوة استجابة الواجهة من جهة الأسطوانات. وأثناء ذلك الأسبوع أيضًا اختبر ريتشارد جهازًا محمولًا لإرسال الموجات الكهرومغناطيسية المتناهية القِصَر، وتأكد من صلاحيته للعمل، وذلك بعد أن انتهى من صنعه بمساعدة الآليين. وكان يهدف من ذلك إلى أن يُرسل إلى الأسطوانات إشارةً تحمل أمرًا وكأنها صادرة من مركز التحكُّم.

باءت أول محاولة جادة يقوم بها في اليوم الأخير بالفشل الذريع. وخمَّن ريتشارد أن سبب المشكلة قد يكون مدى دقَّة توقيت الإرسال، فصنع هو وآليو الأينشتاين نظامًا يتحكم في تسلسل الموجات بحيث يُمكِّنهم من إرسال الإشارة بدقةٍ متناهية تُحسب بالفيمتوثانية، وبهذا تستقبل الأسطوانات الأمر في غضون مدةٍ زمنية وجيزة للغاية.

بعد أن أرسل ريتشارد إلى الأسطوانات ما ظنَّ أنه مجموعة جديدة من المعاملات بلحظات، انطلق إنذار مُدَوٍّ في مركز التحكم. وبعد ثوانٍ ظهرت صورة شبَحِيَّة للرجل النسر فوق ريتشارد والآليين.

قالت الصورة الهولوجرافية المُجسَّمة: «أيها البشر احذروا بشدة. فقد تطلَّب خلقُ التوازن الحساس الذي تتمتَّع به بيئتكم قدرًا كبيرًا من الجهد والعلم. فلا تُغيروا هذه الخوارزميات الحساسة إلا في حالة الطوارئ القصوى.»

تغلَّب ريتشارد على وقع المفاجأة، وبدأ التصرُّف على الفور آمِرًا الأينشتاين بتسجيل ما يرونه. كرَّر الرجل النسر التحذير مرةً أخرى ثم اختفى، وحينها كان المشهد كله قد سُجِّل صوتًا وصورةً في الأنظمة الفرعية المدمجة في الآليين.

٣

سألت نيكول زوجها وهي تنظُر إليه من الجانب الآخر من مائدة الإفطار: «أستظل مكتئبًا هكذا طوال الوقت؟ لم يحدُث شيء رهيب حتى الآن. والطقس جيد.»

قال باتريك مؤكدًا حديثها: «أعتقد أنه أفضل من ذي قبل يا عم ريتشارد. فالطلاب في الجامعةِ يَعدونك بطلًا، وإن كان بعضهم يرَون أنك أشبه بالمخلوقات الفضائية.»

ابتسم ريتشارد رغمًا عنه. ثم قال بصوتٍ خفيض: «الحكومة لا تأخُذ بتوصياتي ولا تأبه بالتحذير الذي أطلقَه الرجل النسر على الإطلاق. بل إن بعض الأشخاص في مكتب الهندسة يقولون إنَّني اصطنعتُ صورة الرجل النسر المُجسمة بنفسي. هل تتخيلون؟»

«لكن كينجي يُصدِّق ما أخبرته به يا حبيبي.»

«إذن لماذا يسمح لمن يعبثون بالجوِّ بأن يزيدوا الاستجابة المُوجهة باستمرار؟ لا يمكنهم التنبُّؤ بأثر ما يقومون به على المدى البعيد.»

سألت إيلي بعد دقيقة: «ما الذي يُقلقك يا أبي؟»

«إن عملية التحكُّم في هذا المقدار الهائل من الغاز مُعقدة للغاية يا إيلي، وأنا أُكن تقديرًا للفضائيِّين الذين صمَّموا البِنية التحتية لعدن الجديدة في البداية. وقد أصرُّوا على ألا يزيد مقدار ثاني أكسيد الكربون في الهواء وتركيزات الجسيمات عن مستوياتٍ مُحددة. فلا بد أنهم قالوا هذا لأنهم يعرفون شيئًا ما.»

أنهى باتريك وإيلي فطورهما واستأذنا للانصراف. بعد دقائق من انصراف الأبناء دارت نيكول حول المائدة ووضعت يدَيها على كتفَي ريتشارد. وقالت: «أتذْكُرُ الليلة التي تحدَّثنا فيها عن ألبرت أينشتاين مع باتريك وإيلي؟»

نظر ريتشارد إلى نيكول وهو مُقطب الجبين.

«في تلك الليلة عندما كنَّا في الفراش، قلتُ أنا إن اكتشاف أينشتاين للعلاقة بين المادة والطاقة كان «مريعًا» لأنه أدَّى إلى اختراع الأسلحة النووية … أتذكُر بم أجبتني؟»

هز ريتشارد رأسه.

«قلت لي إن أينشتاين كان عالمًا، لم يكن هدفه سوى البحث عن المعرفة والحقيقة. وقلت لي إنه ليست هناك معرفة مريعة. بل إن المُريع هو استخدام البشر للمعرفة.»

ابتسم ريتشارد. ثم قال: «أتُحاوِلين إعفائي من تبعات مسئولية قضية الطقس هذه؟»

أجابت نيكول «ربما.» انحنت وطبعت قبلة على شفتَيه. ثم تابعت قائلة: «أعلم أنك من أذكى البشر قاطبةً ومن أكثرهم قدرة على الإبداع، ولا أحب أن أراك تحمِل كل أعباء المُستعمرة على عاتقك.»

قبَّلها ريتشارد بحرارة. وهمس قائلًا: «أتعتقدين أنه يمكننا أن ننتهي قبل أن يستيقظ بينجي؟ لقد بقي مستيقظًا حتى وقتٍ متأخر ليلة أمس لأن اليوم عطلة في المدرسة.»

أجابت نيكول وهي تبتسِم في دلال: «ربما. يُمكننا أن نُحاول على الأقل. فأول قضية لي لن تبدأ إلا في العاشرة.»

•••

تتناول المادة التي تُدَرسها إيبونين لطلَّاب السنة الأخيرة في المدرسة الثانوية المركزية، والمُسمَّاة «الفن والأدب»، الكثير من نواحي الثقافة التي تركها المُستعمرون وراءهم مؤقتًا على الأقل. فإيبونين تتناول، في المنهج الأساسي الذي وضعتْه، مجموعة من المصادر المُنتقاة من ثقافات مُتعددة، بحيث تُشجع التلاميذ على القيام بدراسةٍ مستقلة في أيٍّ من المجالات التي تُثير اهتمامهم. ومع أن إيبونين دائمًا ما تتَّبع خطط الدراسة والمنهج عندما تُدرِّس، فإنها تنتمي إلى ذلك النوع من الأساتذة الذين يُكيفون كل مادة علمية وفقًا لاهتمامات الطلاب.

كانت إيبونين ترى أن رواية «البؤساء» التي كتبها فيكتور هوجو هي أعظم رواية على الإطلاق، وأن الرسام الانطباعي بيير-أوجوست رينوار الذي وُلِد في القرن التاسع عشر في مدينتِها الأم لِيموج هو أروع الرسامين قاطبةً. لذا فقد وضعت أعمال مواطنَيْها ضمن منهجها، ولكنها نظَّمت باقي المصادر بعنايةٍ بحيث تُمثل باقي الأمم والثقافات تمثيلًا عادلًا.

لأنَّ الكاواباتا الآليين كانوا يُساعدون إيبونين كل عام في المسرحيات المدرسية، كان من الطبيعي أن تأخُذ روايتيْ كاواباتا «ألف طائر كركي»، و«بلاد الثلج»، نموذجًا للأدب الياباني. وفي الأسابيع الثلاثة المُخصَّصة لدراسة الشعر أبحرت بين الشعراء: فروست وريلكه وعمر الخيام. ولكنها ركَّزت على الشاعرة بنيتا جارسيا، ولا يعود ذلك لوجود الجارسيا الآليات في جميع أنحاء عدن الجديدة وحسب، وإنما أيضًا إلى إعجاب الشباب بشِعر بنيتا وحياتها.

في العام الذي كان على إيبونين أن ترتدي فيه الشريط الأحمر لأن نتائج اختبار الأجسام المضادة لفيروس «آر في ٤١» جاءت إيجابية، لم يحضر إلى فصلها سوى أحدَ عشر طالبًا. لقد وضعت نتائج هذا الاختبار إدارة المدرسة في ورطة كبيرة. فمع أن الناظر قاوم بشجاعة جهود مجموعة دءوبة من أولياء الأمور — معظمهم من هاكون — تُطالب بطرد إيبونين من المدرسة الثانوية، فإنه رضخ هو والعاملون معه بعض الرضوخ للهستيريا التي أصابت المُستعمرة فجعلوا المادة التي تُدرسها إيبونين لطلاب السنة النهائية اختيارية. نتيجةً لهذا تضاءل عدد طلَّابها مقارنةً بالعامَين السابقَين.

كانت إيلي ويكفيلد تلميذة إيبونين المُفضلة. فمع معاناة تلك الشابة من قصورٍ شديد في المعرفة بسبب السنوات التي مرَّت عليها في سباتٍ طوال الرحلة التي انطلقوا فيها من النود في طريق عودتهم إلى النظام الشمسي، فإن ذكاءها الفطري ونهمها للتعلُّم حبَّبها إلى قلب إيبونين. كثيرًا ما كانت إيبونين تطلُب من إيلي القيام بمهامَّ خاصة. وفي الصباح الذي بدأ فيه الطلاب دراسة بنيتا جارسيا — الذي كان بالصدفة الصباح نفسه الذي تحدَّث فيه ريتشارد ويكفيلد مع ابنته عن مخاوفه بشأن أنشطة التحكُّم في الطقس في المستعمرة — طلبت إيبونين من إيلي أن تحفظ إحدى القصائد الواردة في ديوان الشاعرة المكسيكية بنيتا جارسيا الأول المعنوَن «أحلام فتاة مكسيكية»، الذي كتبته وهي في مرحلة المراهقة. ولكن قبل أن تُلقي إيلي القصيدة، حاولت إيبونين أن تُلهب خيال الشباب بإلقاء محاضرةٍ قصيرة عن حياة بنيتا.

قالت إيبونين وهي تُومئ برأسها صوب الجارسيا الآلية ذات الوجه المُجرد من التعبير التي كانت تقف في الزاوية، والتي تساعدها في القيام بالأعمال الروتينية المتعلقة بالتدريس: «كانت بنيتا جارسيا الحقيقية من أكثر النساء المُدهشات اللاتي عشنَ على وجه الأرض. إذ كانت شاعرة ورائدة فضاء وقائدة سياسية ومتصوِّفة، وكانت حياتها تعكس تاريخ الحقبة التاريخية التي عاشت فيها وتُمثل مصدر إلهام للجميع.

كان والدُها من كبار مُلَّاك الأراضي في ولاية يوكاتان المكسيكية، بعيدًا عن المنطقة الوسطى من البلاد التي تشتهر بالأنشطة الفنية والسياسية. وكانت بنيتا الابنة الوحيدة لأمٍّ ماينية وأبٍ يكبُر الأم بكثير. وقضت معظم طفولتها بمفردها في مزرعة الأسرة التي كانت تقع بالقرب من أطلال منطقة بوك الماينية في مدينة أوكشمال. وكثيرًا ما لعبت بنيتا وهي طفلة صغيرة بين أهرامات ومباني ذلك المركز الشعائري الذي يعود تاريخه إلى ألف عام.

كانت تلميذةً موهوبة من البداية، ولكن ما كان يُميزها حقًّا عن أقرانها في الفصل هو خيالها وحماسها. كتبت بنيتا أولى قصائدها عندما كانت في التاسعة من عمرها، وعندما وصلت إلى الخامسة عشرة من عمرها تقريبًا — وكانت في هذا الوقت مُلتحقةً بمدرسةٍ كاثوليكية داخلية في عاصمة يوكاتان، ميريدا — نُشِرت قصيدتان من قصائدها في صحيفة «دياريو دي ميكسيكو» المهمة.

بعد أن أنهت بنيتا الدراسة الثانوية فاجأت مُدرِّسيها وأُسرتها حين أعلنت عن رغبتها في أن تُصبح رائدة فضاء. وفي عام ٢١٢٩، أصبحت أول مكسيكية يُسمح لها بالالتحاق بأكاديمية الفضاء في كولورادو. لكن عندما تخرَّجت بعد ذلك بأربع سنوات كانت الحكومة قد بدأت حينئذٍ في تخفيض الميزانية المُخصَّصة للفضاء تخفيضًا ملحوظًا. وبعد الانهيار الاقتصادي الذي حدث عام ٢١٣٤ أُصيب العالم بحالةٍ من الركود معروفة باسم الفوضى الكبرى، وتوقفت جميع أنشطة استكشاف الفضاء تقريبًا. سرَّحت وكالةُ الفضاء العالمية بنيتا عام ٢١٣٧، فظنت أن ذلك نهاية عملها في الفضاء.

في عام ٢١٤٤ انطلقت واحدة من آخِر سفن النقل التي ترتحِل بين الكواكب — وهي جيمس مارتن — بصعوبةٍ من المريخ عائدة إلى الأرض، وكان معظم ركَّابها من نساء وأطفال مُستعمرات المريخ. وتمكنت المركبة من الدخول في مدار الأرض بشقِّ الأنفس، وظنَّ رُكابها أنهم هالكون. لكن بنيتا جارسيا وثلاثة من أصدقائها روَّاد الفضاء تمكنوا من صُنع مركبة إنقاذ بدائية على عجل، ونجحوا في إنقاذ أربعةٍ وعشرين راكبًا في أروع مهمة فضاء على مرِّ العصور …»

شردت إيلي بعيدًا عن حكاية إيبونين وأخذت تتخيَّل كم كانت مهمة الإنقاذ التي قامت بها بنيتا مُثيرةً. إذ قادت بنيتا سفينتها يدويًّا بدون وجود وسيلة مساعدة تُتيح الاتصال بغرفة العمليات التي على الأرض، وخاطرت بحياتها لإنقاذ الآخرين. أيُمكن أن يُبدي المرء التزامًا تجاه قومه أكبر من هذا؟

بينما إيلي تُفكر فيما تتمتَّع به بنيتا جارسيا من إيثار إذ بصورة أمها تخطر لها. وتبعتها مجموعة أخرى من الصور لأمِّها. في البداية رأت إيلي أمَّها مرتديةً ثياب قاضية وتتحدَّث بلباقةٍ أمام مجلس الشيوخ. ثم رأت نيكول تدلك رقبة والدها في غرفة المكتب في وقت متأخر من الليل، ورأتها تُعلم بينجي القراءة بصبرٍ يومًا بعد يوم، وتركب الدرَّاجة بجوار باتريك ذاهبين للعب التنس في الحديقة، وتُخبر لينكولن بالأصناف التي عليه إعدادها على العشاء. وفي آخِر صورة كانت نيكول جالسةً على سرير إيلي في وقتٍ مُتأخِّر من الليل تُجيب أسئلتها عن الحياة والحب. فجأة أدركت إيلي أن أُمَّها هي بطلتها. فهي تتميز بالإيثار مثل بنيتا جارسيا بالضبط.

«… تخيلوا فتاة مكسيكية في السادسة عشرة من عمرها تعود من المدرسة الداخلية إلى بيتها لقضاء الإجازة، وتصعد ببطءٍ الدرجات الشاهقة المَبنية في «هرم الساحر» في أوكشمال. وتلهو من تحتها بين الصخور والأطلال سحالي إجوانا في صباح يومٍ ربيعي دافئ.»

أشارت إيبونين إلى إيلي. لقد حان وقت إلقاء قصيدتها. فوقفت عند مقعدها وراحت تُلقي هذه الأبيات.

شهدتِ كلَّ شيء، أيتها السحلية العجوز.
رأيتِ أفراحَنا وأحزاننا،
وقلوبنا المليئة بالأحلام،
وبالرغبات الرهيبة.
فهل تغيَّر مما رأيتِ شيء؟
هل جلسَتْ جدَّتي الهندية
على هذه الدرجات الحجرية،
منذ ألف عام،
وأسرَّت إليك بمشاعرها الخفية
التي ما كانت لتُفضي بها إلى أحد، ولم تستطع أن تُطلِع أحدًا عليها؟

•••

في الليل أتطلَّع إلى النجوم،
وأجرؤ على رؤية نفسي بينها،
يحلق قلبي فوق هذه الأهرامات،
طائرًا حرًّا إلى حيث تختفي كلمة مستحيل.
قالت لي السحالي: نعم يا بنيتا،
نُجيبك أنتِ وجدتك بنعم؛
جدتك التي ستتحقَّق أحلامها التي راودتها منذ سنوات،
فيكِ أنتِ.

بعد أن انتهت إيلي كانت الدموع الصامتة قد بلَّلت خدَّيها. على الأرجح، ظنَّت مُعلمتها وباقي التلاميذ أن ذلك من فرط تأثرها بالقصيدة وبالمحاضرة التي ألقتها إيبونين عن بنيتا جارسيا. لم يكن من المُمكن أن يفهموا أن إيلي مرَّت لتوِّها بلحظة تنوير عاطفية، وبأنها اكتشفت لتوِّها عُمق حُبها واحترامها لأمها.

•••

كان هذا آخر أسبوعٍ للبروفات على المسرحية المدرسية. اختارت نيكول مسرحيةً قديمة هي مسرحية «في انتظار جودو» التي كتبها صامويل بيكيت الذي حاز جائزة نوبل في القرن العشرين؛ لأن أفكارها تنطبق تمامًا على الحياة في عدن الجديدة. ستقوم إيلي ويكفيلد وبدرو مارتينيز، وهو شابٌّ وسيم في التاسعة عشرة من عمره، كان أحد المُراهقين «المكتئبين» الذين انضمُّوا إلى المستعمرة في الأشهُر الأخيرة قبل الانطلاق؛ بلعب دور الشخصيتَين الرئيستَين اللتَين ترتديان ثيابًا رثة طوال المسرحية.

لم تكن إيبونين لتستطيع عرض المسرحية بدون مساعدة الكاواباتا الآليين. إذ كانوا يُصمِّمون الديكور والملابس، ويُنفذون هذه التصميمات، ويتحكَّمون في الإضاءة، ويُديرون البروفات عندما لا تستطيع الحضور. كان في المدرسة أربعة كاواباتا آليين، ثلاثة منهم كانوا تحت سلطة إيبونين أثناء الأسابيع الستة التي سبقت المسرحية مباشرة.

صاحت إيبونين وهي تتوجَّهُ نحو تلاميذها على خشبة المسرح: «أحسنتُم. لنكتفي بهذا القدر اليوم.»

قال كاواباتا رقم ٠٥٢: «آنسة إيلي لم تكن كلماتك صحيحة تمامًا في ثلاثة مواضع. في كلامك الذي يبدأ ﺑ…»

قاطعتْه إيبونين وهي تُشير برفق إلى الآلي بأن ينصرف: «أخبِرها غدًا. ستكون ملاحظتك أهمَّ حينَها.» والتفتت إلى فريق التمثيل الصغير. وسألت: «هل لديكم أي أسئلة؟»

قال بدرو مارتينيز بتردُّد: «أعلم أننا ناقشنا هذا من قبلُ يا سيدتي، ولكنني سأستفيد إن ناقشناه ثانيةً … لقد أخبرتِنا أن جودو ليس شخصًا وإنما هو فكرة أو شيء من صُنع الخيال … وأننا جميعًا ننتظِر شيئًا ما … أنا آسف، ولكن يصعب عليَّ فهم ما الذي …»

أجابت إيبونين بعد ثوانٍ قليلة: «المسرحية كلها تعليق على عبَث الحياة. إننا نضحك لأننا نرى أنفسنا في هذَين المُتشردَين اللذَين يقفان على خشبة المسرح، ولأنهما ينطقان بلساننا. ما يُصوِّره بيكيت هنا هو التَّوق المُتأصِّل في النفس البشرية. أيًّا كانت هوية جودو، فإنه سيصلح كل أحوالنا. وبطريقةٍ ما سيُغير حياتنا ويجعلنا سعداء.»

سأل بدرو: «أيمكن أن يكون جودو هو الله؟»

أجابت إيبونين: «بالتأكيد. بل من المُمكن أن يكون هو الكائنات الفضائية فائقة التطوُّر التي صنعت مركبة راما وأدارت النود الذي أقامت فيه إيلي وأُسرتها. أي سلطة أو قوة أو كائن يرى البشر أنه سيُنقذ العالم من جميع الكروب يمكن أن يكون جودو. ولهذا أصبحت المسرحية تصلح لكل مكانٍ وزمان.»

صاح صوتٌ آمِر من خلف القاعة الصغيرة: «بدرو، هل أوشكتَ على الانتهاء؟»

أجاب الشاب: «لحظة يا ماريكو. تدور بيننا مناقشة شائقة الآن. لم لا تنضمِّين إلينا؟»

ظلَّت الفتاة اليابانية واقفةً عند المدخل. وقالت بوقاحة: «كلَّا. لا أريد، لنرحل الآن.»

أذِنت إيبونين للفريق بالانصراف، فقفز بدرو من على خشبة المسرح. وبينما هو يُسرع باتجاه الباب، اقتربت إيلي من مُعلمتها.

وتساءلت بصوتٍ عالٍ: «لماذا يسمح لها بالتصرُّف على هذا النحو؟»

أجابت إيبونين وهي تهزُّ كتفها: «لا تسأليني. فمِن المُؤكَّد أنني لستُ خبيرة في العلاقات الشخصية.»

قالت إيبونين لنفسها: «إن تلك الفتاة المدعوة ماريكو كوباياشي مصدر إزعاج»، وقد تذكَّرَتْ كيف عاملَتْها ماريكو هي وإيلي وكأنهما حشرتان ذات ليلة بعد البروفة. وأردفت بينها وبين نفسها: «أحيانًا ما يتَّضح أن الرجال أغبياء للغاية.»

سألت إيلي: «إيبونين، هل لديك اعتراض على حضور والديَّ البروفة النهائية؟ بيكيت هو أحد الكتَّاب المسرحيين الذين يُفضِّلهم أبي و…»

أجابت إيبونين: «لا مانع. إني أُرحِّب بمجيء والدَيك في أي وقت. كما أنني أُريد أن أشكرهما …»

صاح صوت شاب من الجانب الآخر من الغرفة: «آنسة إيبونين.» كان صاحب الصوت هو ديريك بروير أحد تلاميذ إيبونين، وكان واقعًا في غرامِها على طريقة الطالب والمُعلِّمة. قطع ديريك خطواتٍ قليلة باتجاهها جريًا ثم صاح مرةً ثانية. وقال: «أسمعتِ آخِر الأخبار؟»

هزَّت إيبونين رأسها نفيًا. كان من الواضح أن ديريك قد تملَّكه الحماس الشديد. قال: «حكم القاضي ميشكين بأن ارتداء الأشرطة غير دستوري!»

استغرق الأمر من إيبونين بضعَ ثوانٍ لتستوعِب ما قاله. وأثناء هذا كان ديريك قد وصل إلى جوارها مسرورًا بأنه هو من زفَّ إليها البُشرى. سألته إيبونين: «هل … هل أنت متأكد؟»

«لقد سمعنا الخبر يُذاع للتوِّ في الراديو ونحن في المكتب.»

مدَّت إيبونين يدَها إلى ذراعِها الذي يلتفُّ حوله الشريط الأحمر البغيض. ثم نظرت إلى ديريك وإيلي ونزعت الشريط من على ذراعِها بحركةٍ سريعة وألقت به في الهواء. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تُشاهده يتَّجه نحو الأرض متخذًا شكلَ قوس.

قالت: «أشكرك يا ديريك.»

وبعد لحظاتٍ أسرع الطالبان يُعانقانها. وقالت إيلي بصوتٍ منخفض: «مبارك.»

٤

يتولَّى الآليون كلَّ الأمور المتعلقة بإدارة مطعم الهامبرجر الصغير في المدينة المركزية، فمهام الإشراف على هذا المطعم الذي لا يخلو من الحركة يقوم بها اثنان من اللينكولن الآليين، ويتولَّى تسجيل طلبات الزبائن أربعٌ من آليات الجارسيا. أما إعداد الطعام فيقوم به اثنان من الأينشتاين، وتتولَّى تياسو واحدة فقط مهمة المحافظة على نظافة المكان الذي يأكل فيه الزبائن. كان المطعم يُدِر ربحًا هائلًا على صاحبه؛ لأنه لا يتحمَّل أي تكاليف سوى التكاليف التي تحمَّلها عند تجهيز المبنى الأساسي وتكاليف الحصول على المواد الخام.

كانت إيلي مُعتادة على تناول طعامها هناك في ليالي الخميس التي تعمل فيها متطوعةً في المستشفى. وفي اليوم الذي أُلقِي فيه ما عُرِف فيما بعدُ بإعلان ميشكين، رافقت إيلي في مطعم الهامبرجر مُعلمتُها إيبونين التي أصبحت لا ترتدي الشريط.

قالت إيبونين وهي تقضم إحدى قِطَع البطاطس المُحمرة: «لماذا لم أركِ من قبلُ في المستشفى؟ ما الذي تفعلينه هناك على أي حال؟»

أجابت إيلي: «العمل الأساسي الذي أقوم به هو التحدُّث إلى الأطفال المرضى. هناك أربعة أو خمسة أطفال مُصابون بأمراضٍ خطيرة، وصبيٌّ صغير مُصاب بفيروس «آر في ٤١»، وهم يسعدون بالزيارات التي يقوم بها البشر. ومع أن التياسو الآليات بارعات جدًّا في تشغيل المستشفى وفي القيام بكلِّ الأعمال الروتينية، فإنهن لسنَ عطوفات بما يكفي.»

قالت إيبونين بعد أن مضغت قضمة من الهامبرجر وابتلعتها: «اسمحي لي أن أسألك، لماذا تقومِين بهذا؟ إنك صغيرة وجميلة وتتمتَّعين بصحةٍ جيدة. ولا بد أن هناك آلاف الأشياء التي قد تُفضلين القيام بها.»

أجابت إيلي: «غير صحيح. فأمي تربطها بالمجتمع مشاعرُ انتماء قوية للغاية كما تعلمين، وأنا أشعر أنني أصبح ذات قيمة بعد أن أتحدث مع الأطفال.» تردَّدَت لحظة ثم تابعَت حديثها قائلةً: «كما أنني لا أتمتَّع بمهارةٍ اجتماعية كبيرة … جسدي جسد فتاة في التاسعة عشرة أو العشرين، وهذه سِن كبيرة على المدرسة الثانوية، ولكني أفتقر إلى أي خبرةٍ اجتماعية تقريبًا.» احمرَّ وجهها. ثم تابعت: «أخبرتني إحدى صديقاتي في المدرسة أن الأولاد مقتنعون بأنني من المخلوقات الفضائية.»

ابتسمت إيبونين لتلميذتها. وقالت لنفسها: أن يكون المرء من المخلوقات الفضائية أفضل من أن يكون مريضًا بفيروس «آر في ٤١». على أي حال، هؤلاء الشباب يفوتهم الكثير إن كانوا يتجاهلونك.

أنهت المرأتان عشاءهما وغادرتا المطعم الصغير. وتوجَّهتا إلى ميدان المدينة المركزية. كان يُوجَد في وسط الميدان نصب تذكاري ذو شكلٍ أسطواني، أُقيم ضمن مراسم أول احتفالٍ بيوم الاستيطان. وكان يبلُغ طوله مترَين ونصف. وتتدلَّى منه عند مستوى النظر، كرة شفافة قُطرها خمسون سنتيمترًا. وكان في وسط الكرة مصباح صغير يُمثل الشمس، وكان السطح الموازي للجزء السُّفلي من الكرة يمثل السطح البيضاوي الذي يضمُّ الأرض وباقي كواكب المجموعة الشمسية، وعكست الأضواءُ المبعثرة في أنحاء الكرة المواقعَ النسبية الصحيحة لكلِّ النجوم التي تقع حول الشمس بنصف قطرٍ قدره عشرين سنة ضوئية.

وكان هناك خيط من الضوء يربط بين الشمس والشعرى اليمانية مُمثلًا الطريق الذي سلكته أسرة ويكفيلد في رحلتها من وإلى النود. كما كان يخرج خيط رفيع من الضوء من النظام الشمسي ويمتدُّ على طول المسار الذي اتَّبعته مركبة راما الثالثة منذ أن تتبَّعت المُستعمرين البشر في مدار المريخ. وكانت المركبة المُضيفة، التي يمثلها ضوء أحمر قوي مُتقطع، في مكان يُمثل نحو ثلث الطريق بين الشمس والنجم تاو سيتي.

قالت إيبونين وهما واقفتان بجوار الكرة السماوية: «أظنُّ أن أباك هو صاحب فكرة هذا النصب.»

قالت إيلي: «صحيح. فأبي مُبدع للغاية في كلِّ ما يتعلق بالعلوم والإلكترونيات.»

حدَّقَت إيبونين في الضوء الأحمر المُتقطع. وقالت: «أيُزعِجه أننا سائرون باتجاهٍ مختلف، لا إلى الشعرى اليمانية ولا إلى النود؟»

هزَّت إيلي كتفَيها. وقالت: «لا أعتقد هذا. إننا لا نتحدَّث عن هذا كثيرًا … وقد أخبرني ذات مرة أننا لن نستطيع أن نفهم ما يفعله الفضائيون على أي حال.»

جالت إيبونين ببصرِها في الميدان. وقالت: «انظُري إلى كل هؤلاء الناس وهم يُسرعون هنا وهناك. ومعظمهم لا يتوقَّفون أبدًا ليرَوا أين نحن … إنني أتحقَّق من المكان الذي نصِل إليه مرة أسبوعيًّا على الأقل.» فجأة اكتسب حديثها لهجةً جادة. وقالت: «منذ أن تبيَّن أنني مصابة بفيروس «آر في ٤١» وأنا أشعر بحاجةٍ ماسَّة إلى معرفة مكاني في الكون بالضبط … تُرى هل هذا جزء من خَوفي من الموت؟»

بعد صمتٍ طويل وضعت إيبونين ذراعها على كتف إيلي. وقالت: «هل سبق أن سألت الرجل النسر عن الموت؟»

أجابت إيلي بهدوء: «لا. عندما غادرنا النود لم أكن قد تجاوزتُ الرابعة من عمري. وبالتأكيد لم تكن لديَّ أي فكرة عن الموت.»

قالت إيبونين لنفسها: «عندما كنتُ طفلة، كنتُ أفكر مثلما يُفكر الأطفال.» ضحكت. وسألت إيلي: «فيمَ كنتِ تتحدَّثين مع الرجل النسر؟»

قالت إيلي: «لا أتذكَّر بالضبط. ولكن باتريك يقول إن الرجل النسر كان مُغرمًا بمشاهدتنا ونحن نلعب بلُعبنا.»

قالت إيبونين: «حقًّا؟ هذه مفاجأة. فمن وصْف والدتك تخيلتُ أن الرجل النسر يتَّسم بجديةٍ بالغة تمنعه من أن يهتمَّ باللُّعَب.»

قالت إيلي: «صورته لا تزال واضحة في خيالي مع أنني كنتُ صغيرة للغاية. ولكنني لا أستطيع تذكُّر الانطباع الذي كان يتركه فيَّ.»

سألتها إيبونين بعد ثوانٍ قليلة: «هل حلمتَ به قط؟»

«أوه، نعم. كثيرًا. في أحدِ أحلامي كان واقفًا فوق شجرةٍ ضخمة وينظر إليَّ من بين السحاب.»

ضحكت إيبونين ثانية. ثم نظرت إلى ساعتها بسرعة. وقالت: «أوه، يا إلهي! لقد تأخرت عن موعدي. متى يجب أن تصلي إلى المُستشفى؟»

قالت إيلي: «في السابعة.»

«إذن فمن الأفضل أن نمضي الآن.»

•••

عندما ذهبت إيبونين إلى مكتب د. تيرنر لتقوم بالفحص نصف الأسبوعي، أخذتها التياسو المسئولة إلى المعمل وأخذت عينات دمٍ وبول ثم طلبت منها الجلوس. أخبرت الآلية إيبونين أن الطبيب «قادم في غضون دقائق».

كان هناك رجل شديد السواد جالس في حجرة الانتظار، وكانت عيناه ذكيتَين وترتسِم على وجهه ابتسامةٌ ملؤها الود. عندما تقابلَت عيناهما قال: «مرحبًا، اسمي أمادو ديابا. أعمل صيدليًّا.»

قدمت إيبونين نفسها له وهي تُحدِّث نفسها أنها رأته من قبل.

سألها الرجل بعد صمتٍ قصير: «يوم رائع، أليس كذلك؟ من المُريح أن نخلع ذلك الشريط اللعين.»

في هذه اللحظة، تذكرت إيبونين أمادو. لقد رأته مرةً أو مرتَين في اللقاءات الجماعية المُخصَّصة للمُصابين بفيروس «آر في ٤١». لقد أخبرها شخصٌ ما أن أمادو أُصيب بالفيروس الارتجاعي عن طريق نقل الدم في بدايات المُستعمرة. قالت نيكول لنفسها: «ما إجمالي عدد المُصابين بالفيروس؟ ثلاثة وتسعون. أم أربعة وتسعون؟ خمسة منَّا أُصيبوا به عن طريق نقل الدم …»

كان أمادو يقول: «يبدو أن الأخبار المهمة لا تأتي فرادى أبدًا. فقد نُطق بإعلان ميشكين قبل ساعاتٍ قليلة من مشاهدة ذوات الأرجل لأول مرة.»

نظرت إليه إيبونين نظرةً متسائلة. وسألته: «عم تتحدَّث؟»

قال أمادو وهو يكاد يضحك: «ألَم تسمعي عن ذوات الأرجل بعد؟ أين كنت؟»

انتظرَ أمادو ثواني قليلةً قبل أن يبدأ في الشرح. قال: «كان فريق الاستكشاف هناك في المنطقة السكنية الأخرى يَمضي في عملية توسيع موقع الاختراق طوال الأيام القليلة الماضية. واليوم واجهتهُم فجأةً ستة مخلوقات غريبة خرجت من الثُّقب الذي حفروه في الجدار. يبدو أن ذوات الأرجل هذه، كما أطلق عليها المذيع، تعيش معًا في المنطقة السكنية الأخرى. وهي تُشبه كرات جولف مكسوَّة بشعرٍ كثيف ومُلتصقة بستة أرجل عملاقة مُمَفْصلة، وهي تسير بسرعة شديدة … وظلت تزحف أسفل الرجال والآليين والمعدَّات حوالي ساعة. ثم اختفت عائدة إلى موقع الاختراق.»

كانت إيبونين على وشك أن تطرح بعض الأسئلة حول ذوات الأرجل عندما خرج د. تيرنر من مكتبه. قال: «سيد ديابا وآنسة إيبونين. لديَّ تقرير مُفصَّل لكلٍّ منكما. بمن أبدأ؟»

لا تزال إيبونين ترى أن عيني الطبيب هما أروع عينَين زرقاوين. أجابت: «السيد ديابا حضر قبلي. لذا …»

قاطعها أمادو قائلًا: «النساء أولًا دائمًا. وإن كنَّا في عدن الجديدة.»

ذهبت إيبونين إلى مكتب د. تيرنر الداخلي. وعندما أصبحا بمُفردهما قال لها: «كل شيء على ما يُرام حتى الآن. أنا مُتأكِّد من أن الفيروس في جسدك، ولكن لا تُوجَد أيُّ علامة تدلُّ على تدهور عضلات القلب. ولستُ متأكدًا من سبب هذا ولكن من المؤكَّد أن المرض يتطوَّر عند بعض الأشخاص أسرع من البعض الآخر.»

قالت إيبونين لنفسها: كيف تتابع كل بياناتي الطبية عن كثب يا طبيبي الوسيم، دون أن تلحظ أبدًا النظرات التي أرميك بها طوال الوقت؟

«ستُواصِلين تناوُل أدوية النظام المناعي بانتظام. فليس لها أعراض جانبية خطيرة، وقد تكون مسئولةً جزئيًّا عن عدم ظهور أي دلائل على الأثر المُدمر للفيروس … بخلاف ذلك، هل أنت على ما يُرام؟»

عادا إلى حجرة الانتظار معًا. وراجع د. تيرنر مع إيبونين الأعراض التي تُشير إلى أن الفيروس انتقل إلى مرحلةٍ أخرى من مراحل تطوُّره. وبينما كانا يتحدَّثان، انفتح الباب ودخلت إيلي ويكفيلد الحجرة. في البداية تجاهل دكتور تيرنر وجودها ولكن بعد لحظات أخذ يُطيل النظر إليها.

قال لإيلي: «هل من مُساعدةٍ يُمكنني تقديمها يا سيدتي؟»

أجابت إيلي باحترام: «جئتُ لأطرح سؤالًا على إيبونين. يُمكنني أن أنتظر بالخارج إن كنتُ أسبب لك أي إزعاج.»

هز د. تيرنر رأسه نفيًا، ولكن عندما كان يُدلي بتعليقاته الأخيرة لإيبونين طرأ تشوُّش على أسلوبه على غير عادته. في البداية لم تفهم إيبونين ما حدث. ولكن عندما بدأت تُغادر مع إيلي وجدت أن الطبيب لا يرفع بصرَه عن تلميذتها. قالت في نفسها: طوال ثلاث سنوات وأنا أتوق لرؤية نظرةٍ كهذه من عينَيه. لم أكن أعتقد أنه يستطيع الإعجاب بأحد. أما إيلي، حماها الله، فلم تلحظ شيئًا من هذا كله.

•••

كان اليوم طويلًا. وكانت إيبونين مرهقةً للغاية وهي تمشي من المحطة إلى شقَّتها في هاكون. زال الارتياح الذي شعرَت به بعد أن خلعت الشريط. وكانت تشعر الآن بشيءٍ من الاكتئاب. كما أنها كانت تُغالب شعورها بالغيرة من إيلي ويكفيلد.

توقفت أمام شقتها. الخط الأحمر العريض على بابها كان يُذكِّر الجميع بأن من يعيش بالداخل يحمل فيروس «آر في ٤١». عاودها الشعور بالامتنان تجاه القاضي ميشكين وهي تمسح الخط بعناية. ترك أثرًا على الباب. قالت إيبونين في نفسها: سأطلِيه غدًا.

ما إن دخلت شقَّتها حتى ألقت بنفسها على مقعدها الوثير وأخذت سيجارة. وشعرت بدفقةٍ من المتعة المُنتظَرة وهي تضع السيجارة في فمها. وأخذت تُبرر تصرُّفها وهي تقول لنفسها: «أنا لا أُدخِّن في المدرسة أمام تلاميذي أبدًا. فأنا أتجنَّب أن أكون قدوةً سيئة لهم. ولا أُدخن إلا هنا. في البيت. عندما أكون بمُفردي.»

نادرًا ما كانت تخرج إيبونين ليلًا. فسكَّان هاكون أوضحوا لها أنهم لا يُريدونها بينهم، فقد بعثوا إليها بوفدَين مُنفصلَين طلَبَا منها مغادرة المدينة، وعلَّقوا العديد من الرسائل البذيئة على باب شقَّتها. ولكن إيبونين أصرَّت بعنادٍ على رفض المغادرة. فقد كانت المساحة التي تعيش فيها أكبر من أيِّ مساحةٍ تستطيع أن تتحمَّل نفقات الحصول عليها في الأحوال العادية، ويرجع الفضل في هذا إلى أن كيمبرلي هندرسون لم تكن تأتي إلى البيت قط. هذا بالإضافة إلى أن إيبونين تعرِف أن حاملي فيروس «آر في ٤١» لن يكونوا محل ترحيبٍ في أيٍّ من أحياء المستعمرة.

غطَّت إيبونين في النوم على مقعدها وكانت تحلُم بحقولٍ من الزهور الصفراء. فلم تكد تسمع دقَّ الباب مع أنه كان عاليًا للغاية. نظرت في ساعتها، كانت الحادية عشرة. عندما فتحت إيبونين الباب دخلت كيمبرلي هندرسون الشقة.

•••

قالت: «أوه يا إيب! أنا سعيدة جدًّا لأني وجدتك هنا. أنا في حاجة ماسَّة إلى التحدُّث إلى شخصٍ ما. شخص يمكن أن أثِق به.»

أشعلت كيمبرلي سيجارةً ويدُها ترتعش، ثم راحت تُثرثر بكلامٍ غير مُترابط. قالت وقد رأت الاعتراض في عينَي إيبونين: «نعم، نعم، أعرف. معك حق، المُخدرات تُدير رأسي بالفعل … ولكنَّني أحتاج إليها … ما أجمل الكوكومو … أن يكون لديك شعور زائف بالثقة بالنفس أفضل من أن تعتبري نفسك حقيرة.»

أخذت نفسًا مسعورًا من السيجارة ثم زفرتْهُ على دفعاتٍ قصيرة متقطعة. وقالت: «الحقير فعلها هذه المرة يا إيب … أزاحني من طريقه … ذلك السافل، يظنُّ أنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له … تحمَّلتُ علاقاته الغرامية، بل إنني سمحتُ لبعض الفتيات الأصغر منِّي أن يُشاركنني فيه، فالمجالس الثلاثية تُذهب الملل … ولكنني كنتُ دائمًا رقم واحد، أو على الأقل هكذا كنت أظن …»

سحقت كيمبرلي عقب السيجارة وبدأت تضغط يدَيها المُتشابكتَين. كانت على وشك البكاء. قالت: «الليلة أخبرَني بأنني سأرحل … قلتُ له: «ماذا؟! ماذا تعني؟» قال: «سترحلين» … لم يبتسم، لم يناقش الأمر … قال: «احزمي أمتعتك، وهناك شقة لك خلف زانادو.»

ردَدتُ عليه: «هذا المكان تعيش فيه فتيات الليل» … ابتسم قليلًا ولم ينبس ببنت شفة … قلت: «أهكذا، تطردني؟» استشطتُ غضبًا … قلت: «لا يُمكنك أن تفعل هذا بي» … حاولت أن أضربه ولكنه أمسك يدي وصفعَني … قال: «ستفعلين ما آمُر به» … «لن يحدُث أيها الوغد» … التقطتُ مزهرية وقذفتُها. فتحطمت على منضدةٍ وتبعثرت. في ثوانٍ، كان رجلان قد ثبَّتا ذراعيَّ خلف ظهري … قال الملك الياباني: «أبعدوها.»

أخذوني إلى شقَّتي الجديدة. كانت جميلة للغاية. في غرفة الملابس كان هناك صندوق كبير من الكوكومو الملفوف … دخنتُ سيجارة كاملة حتى انتشيتُ … قلتُ لنفسي: ما بك؟ الأمر ليس بهذا السوء. على الأقل لن يكون عليَّ أن أرضخ لرغبات توشيو الجنسية الغريبة … ذهبت إلى كازينو القمار، وكنتُ أستمتع بوقتي، وأشرب وأُدخن حتى أثمل، حتى رأيتهما … على الملأ، أمام الجميع … جُنَّ جنوني، صحتُ وصرختُ ولعنت، بل إنني هاجمتُها … ضربني شخصٌ ما على رأسي … وقعتُ على الأرض وانحنى توشيو عليَّ … قال بصوتٍ كفحيح الأفعى: «لو فعلتِ شيئًا كهذا ثانيةً فسأدفنك بجوار مارتشيللو داني.»»

دفنَت كيمبرلي وجهها بين يدَيها وبدأت تنتحِب، قالت بعد ثوان: «آه يا إيب. أشعر بقلة الحيلة. وليس لديَّ مَن ألجأ إليه. ماذا يُمكنني أن أفعل؟»

قبل أن تتمكَّن إيبونين من أن تتفوَّه بأي كلمة، كانت كيمبرلي قد بدأت تتحدَّث ثانية، قالت: «أعرف أعرف. يُمكنني أن أعود إلى العمل في المستشفى. فهم لا يزالون بحاجةٍ إلى مُمرضات، ممرضات حقيقيات من لحمٍ ودم … بالمناسبة، أين لينكولن الخاص بك؟»

ابتسمت إيبونين وأشارت إلى الخزانة. ضحكت كيمبرلي. وقالت: «أحسنت. أبقيه في الظلام. أخرجيه ليُنظِّف الحمَّام ويغسل الأطباق ويطهو الطعام. ثم أعيديه إلى الخزانة …» ضحكت ضحكة خافتة. ثم تابعت حديثها قائلةً: «تعرفين، لا يُرجى من الرجال الآليين نفع. فهم مُكتملون من الناحية التشريحية بنحوٍ أو بآخَر ولكنهم دون نفع. ذات ليلةٍ عندما كنتُ تحت تأثير المخدِّر وبمفردي طلبتُ من أحدهم مُضاجعتي … إنهم لا يقلُّون سوءًا عن بعض الرجال الذين عرفتُهم.»

قفزَتْ كيمبرلي وأخذت تسير بسرعةٍ في أنحاء الغرفة. قالت وهي تُشعل سيجارة أخرى: «لا أعرف سبب مجيئي يقينًا، ولكنَّني ظننتُ أنه ربما يُمكننا … أعني أننا كنَّا صديقتَين مدة …» تهدج صوتها. ثم أردفت قائلةً: «إنني أفيق من تأثير المخدرات، وبدأتُ أشعر بالاكتئاب. هذا فظيع، رهيب. لا أحتمل. لا أعرف ما الذي أنتظِرُه منك، فأنت لك حياتك الخاصة … من الأفضل أن أذهب.»

اتجهت كيمبرلي إلى الجانب الآخر من الغرفة وعانقت إيبونين عناقًا فاترًا. وقالت: «اعتنِ بنفسك، اتفقنا؟ ولا تقلقي عليَّ، سأكون بخير.»

لم تُدرك إيبونين أنها لم تنبس ببنت شفة وصديقتها السابقة في الغرفة إلَّا عندما أُغلق الباب وانصرفت كيمبرلي. كانت إيبونين متأكِّدة من أنها لن ترى كيمبرلي ثانية.

٥

في ذلك اليوم، عقد مجلس الشيوخ اجتماعًا مفتوحًا سُمِح لكل مَن في المستعمرة بحضوره. شغل الحضورُ جميعَ مقاعدِ الصالة العلوية التي لا يزيد عددُها على ثلاثمائة مقعد. في حين كان هناك مائة شخصٍ ما بين وقوفٍ بمحاذاة الجدران وقعودٍ في الممرات التي تفصل بين صفوف المقاعد. وفي مقاعد الأعضاء دعا الحاكمُ كينجي واتانابي أعضاءَ الهيئةِ التشريعية الأربعة والعشرين لعدن الجديدة الذين يرأسهم إلى أن يُعيروه انتباههم.

قال كينجي بعد أن دقَّ بالمطرقة عدة مراتٍ حتى يهدأ الحضور: «تستمر جلسات مناقشة الميزانية اليوم بتقرير يعرِضُه علينا مدير مستشفى عدن الجديدة د. روبرت تيرنر. وفيه يُلخص ما أنجزه بميزانية الصحة في العام الماضي، ويُقدم طلباته للعام المقبل.»

اتجه د. تيرنر إلى المنصة وأشار إلى التياسو الآليَّين اللذَين كانا جالسَين بجواره. فأسرعا بتركيب جهاز العرض وتعليق شاشةٍ مكعبة حتى يستخدمهما د. تيرنر في عرض المواد المرئية التي تدعم حديثه.

بدأ د. تيرنر حديثه قائلًا: «قطعنا خطواتٍ واسعة إلى الأمام في العام الماضي، سواء في خلق بيئة طبية ممتازة للمستعمرة أم في فهم النقمة التي حلَّت بنا، ألا وهي فيروس «آر في ٤١» الارتجاعي الذي لا يزال يُعذِّب شعبنا. فعلى مدى الاثني عشر شهرًا الماضية تمكنَّا بالكامل من تحديد دورة حياة هذا الكائن المُعقد، كما طوَّرنا تحاليل للكشف المبكر تُمكننا من التعرُّف بدقة على أي شخصٍ يحمل المرض …

أُجرِيَت تحاليل لكلِّ سكان عدن الجديدة في غضون ثلاثة أسابيع وذلك منذ سبعة أشهر. فاكتشفنا في ذلك الوقت أنَّ هناك ستةً وتسعين شخصًا في المُستعمرة مصابًا بالفيروس الارتجاعي. ومنذ انتهاء إجراء التحاليل لم نكتشِف إلا إصابةً واحدة جديدة. وأثناء هذه المدة وقعت ثلاثُ وفيات بسبب فيروس «آر في ٤١»، وبهذا يصل العدد الحالي للمُصابين به إلى أربعة وتسعين …

فيروس «آر في ٤١» هو فيروس ارتجاعي مُميت يُهاجم عضلات القلب ويتسبَّب في ضمورها ضمورًا لا يمكن علاجه. وفي النهاية يموت حامل المرَض. ولا يُوجَد علاج معروف لهذا المرض. ولكنَّنا نُجرب مجموعةً متنوعةً من التقنيات التي تمنع تطوُّره، وحقَّقنا بعض النجاح في حالاتٍ فردية ولكنها غير حاسمة. وحاليًّا، وحتى نُحقق تقدمًا ملحوظًا في عملِنا، يجب أن نفترِض، على مضض، أن كلَّ المُصابين بهذا الفيروس سينهارون في النهاية أمام حِدَّته.

الرسم الذي أضعه على جهاز العرض يُوضح المراحل المختلفة للمرض. ينتقل الفيروس الارتجاعي بين الأشخاص أثناء انتقال سوائل جسدية تتضمَّن أيَّ خليط يدخل فيه الدم والسائل المنوي. ولا تُوجَد إشارة على أن هناك أي طريقة أخرى لنقل المرض.» قال د. تيرنر وهو يرفع صوته ليسمعه الناس من بين الصخب الذي علا في الصالة العلوية: «أُكرِّر مرة أخرى، وجَدْنا أن الفيروس لا ينتقل إلَّا عن طريق السائل المنوي أو الدم فقط. ومع أنه لا يُمكننا أن نعلن على نحوٍ قاطع أن السوائل الأخرى التي يُفرزها الجسد مثل العرق والمخاط والدموع واللعاب والبول لا يمكن أن تكون من عوامل نقل الفيروس، فإن البيانات المُتوفرة لدَينا حتى الآن تدلُّ بدرجةٍ كبيرة على أن فيروس «آر في ٤١» لا يُمكن أن ينتقل عن طريق هذه السوائل.»

انتشرت الأحاديث الجانبية في الصالة العلوية. فدقَّ الحاكم واتانابي بمطرقتِه عدة مراتٍ حتى يعود الهدوء إلى القاعة. تنحنح روبرت تيرنر ثم واصل حديثَه. فقال: «هذا الفيروس الارتجاعي ذكي للغاية، إن كان يجوز وصفُه بهذه الكلمة، وهو يستطيع التكيُّف مع الجسم المُضيف على نحوٍ مميز. وكما ترَون في الرسم الظاهر على المكعب، فإنه يكون حميدًا نسبيًّا في المرحلتَين الأوليَين، ففيهما يسكن الفيروس في خلايا الدم والسائل المنوي دون أن يُسبِّب ضررًا. وربما يبدأ الهجوم على جهاز المناعة في هذه المرحلة. ولكنَّنا لا نستطيع أن نؤكد هذا؛ لأن كلَّ بيانات التشخيص في هذه المرحلة تكشف عن أنه يكون سليمًا.

نحن لا نعرف ما الذي يؤدي إلى تدهور جهاز المناعة. فهناك عملية غامضة في أجسادنا المُعقدة — وهذا جانب يتطلَّب المزيد من البحث المُكثف — تُعطي إشارة مفاجئة لفيروس «آر في ٤١» بأن جهاز المناعة ضعيف فيبدأ هجومًا ضاريًا. وتزيد كثافة الفيروس في الدم والسائل المنوي فجأة بمعدلاتٍ كبيرة، وفي هذه المرحلة يرتفع احتمال العدوى إلى أقصى درجة، وفيها أيضًا، يتغلَّب الفيروس على الجهاز المناعي.»

توقف د. تيرنر. وقلَّب الأوراق التي كان يقرأ منها. ثم واصل حديثه قائلًا: «من المُحيِّر أن جهاز المناعة لا ينجح أبدًا في مقاومة الهجوم. فالفيروس يُدرك بطريقةٍ ما اللحظة المناسبة للهجوم، ولا ينتشِر إلا عند وصول الجهاز المناعي إلى حالة الضعف. وما إن يُصاب جهاز المناعة بالتلَف حتى يبدأ ضمور عضلات القلب ويعقُب ذلك الموت المُتوقَّع.

في المراحل اللاحقة للمرض يختفي الفيروس تمامًا من السائل المنوي والدم. وتستطيعون أن تتخيلوا كيف يضرُّ ذلك الاختفاء بالتشخيص، أين يذهب؟ هل «يختبئ» بطريقةٍ ما أم يتحوَّل إلى شيءٍ آخر لم نتعرَّف عليه بعد؟ هل يُشرِف على التلف التدريجي لعضلات القلب أم إنَّ الضمور مجرد عرض جانبي لهجومه السابق على الجهاز المناعي؟ كل هذه الأسئلة لا نستطيع أن نُجيب عنها حاليًّا.»

توقف د. تيرنر قليلًا ليشرب جرعة ماء. ثم قال: «كان ضمن الأهداف التي أعلنَّاها العام الماضي أن نبحث في أصل هذا المرض. وقد ثارت إشاعات بأن الفيروس مُتأصِّل في بيئة عدن الجديدة، وأنه ربما يكون قد زُرِع هنا بصفتِه جزءًا من تجربةٍ فضائية وحشية. وهذا هراء. فمن المؤكد أننا جلبنا هذا الفيروس من الأرض إلى هنا. فقد مات اثنان من ركاب سانتا ماريا بسبب هذا الفيروس دون أن يفصل بين وفاتهما سوى ثلاثة أشهر، وأولهما مات أثناء الرحلة من الأرض إلى المريخ. ويُمكننا أن نكون على يقينٍ — مع أن هذا لا يُطمئن — من أن أصدقاءنا وزملاءنا على الأرض يُصارعون هذا الوحش أيضًا.

أما عن أصل الفيروس فلا يسعني سوى التخمين. وربما تمكنتُ من تخطي مرحلة التخمين إلى الحسم لو أن قاعدة البيانات الطبية التي أحضرناها معنا من الأرض كانت أكبر … ولكنني أريد أن أشير إلى أن جينوم فيروس «آر في ٤١» الارتجاعي يُشبه، على نحوٍ مُذهلٍ، عاملًا مُمرِضًا طوَّرَه البشر عن طريق الهندسة الوراثية في إطار اختبار نطاق اللقاحات الذي جرى في أوائل القرن الثاني والعشرين.

دعوني أشرح هذا بمزيدٍ من التفصيل. فبعد أن نجح البشر في تطوير لقاحات تقي من فيروس الإيدز الارتجاعي، الذي ظلَّ يمثل بلاءً رهيبًا طوال العقدَين الأخيرين من القرن العشرين، استغلَّت التكنولوجيا الطبيةُ الهندسةَ الأحيائية لتزيد من وظائف كل اللقاحات المتاحة. وعلى وجه التحديد، تعمَّد علماء الأحياء والأطباء هندسة أنواع جديدة من الفيروسات الارتجاعية والبكتيريا الأكثر فتكًا، وذلك لإثبات أنه يُمكن استخدام مجموعةٍ مُعينة من اللقاحات بنجاح في عدة أغراض. وبالطبع تمَّت المهمة بأكملها تحت ضوابط دقيقة ودون تعريض السكان لأي خطر.

لكن عندما حدثت الفوضى الكبرى، خُفِّضت الأموال المُخصصة للبحث تخفيضًا كبيرًا، واضطُررنا إلى إغلاق الكثير من المُختبرات الطبية. من المُفترَض أن تكون كل العوامل المُمرِضة الخطيرة المُخزَّنة في أماكن معزولة في جميع أنحاء العالم قد أُعدِمت. إلا إذا … وعند هذه النقطة يأتي التكهُّن الذي طرحتُه في شرحي للظاهرة.

إن الفيروس الارتجاعي الذي نُعاني منه هنا في عدن الجديدة يُشبه، إلى درجة مدهشة، الفيروس الارتجاعي «إيه كيو تي ١٩» الذي قام العلماء بهندسته عام ٢١٠٧ في مُختبر لافون الطبي في السنغال. أقرُّ أنه من المُحتمَل أن يحمل ناقل طبيعي جينومًا مُشابهًا لفيروس «إيه كيو تي ١٩»، ولهذا يمكن أن يكون تخميني خاطئًا. ولكنَّني مع هذا أومن أن فيروسات «إيه كيو تي ١٩» التي كانت في ذلك المُختبر المهجور في السنغال لم تُعدَم. أنا مقتنِع بأن هذا الفيروس الارتجاعي بالذات ظلَّ حيًّا بطريقةٍ ما، وتحوَّر قليلًا في القرن التالي — ربما عن طريق العيش في أجساد القردة — وفي النهاية وجد طريقَه إلى البشر. في هذه الحالة، نكون نحن المُتسبِّبين من البداية في المرض الذي يفتك بنا.»

ضجَّت الصالة العلوية. ومرة أخرى، أخذ الحاكم واتانابي يدقُّ بالمطرقة ليُهدئ الحضور متمنيًا في سرِّه أن لو كان د. تيرنر قد احتفظ بتخميناته لنفسه. عندها بدأ د. تيرنر، مدير المستشفى، يناقش كل المشروعات التي تتطلب تمويلًا في العام القادم. إذ طلب زيادة المخصصات المالية بمقدار الضعف مقارنة بالمخصصات التي حصلت عليها إدارته العام الماضي. فسَرَت همهمة مسموعة في مقاعد أعضاء المجلس.

•••

لم تكن الكلمات التي ألقاها كلُّ مَن تحدث بعد روبرت تيرنر مباشرةً أكثر من كونها ذرًّا للرماد في العيون. وكان الجميع يُدركون أن الخطبة المهمة الوحيدة الأخرى لذلك اليوم هي التي سيُلقيها إيان ماكميلان، مرشح المعارضة لشغْل منصب الحاكم في الانتخابات التي ستجرى بعد ثلاثة أشهر. كان معروفًا أن الحاكم الحالي كينجي واتانابي وديميتري أولانوف — الذي رشَّحه حزب كينجي السياسي لخوض الانتخابات القادمة — يُرحبان بزيادة الميزانية الطبية زيادةً كبيرةً، وإن تطلَّب ذلك فرض ضرائب جديدة لتمويل الميزانية. أما ماكميلان، فقد قيل إنه يُعارض أي زيادة في الاعتمادات المالية المُخصصة للدكتور تيرنر.

هزم كينجي واتانابي إيان ماكميلان هزيمةً نكراء في الانتخابات العامة الأولى التي أُجريت في المستعمرة. ومنذ ذلك الحين، نقل ماكميلان محلَّ إقامته من بوفوا إلى هاكون وانتُخِب عضوًا في مجلس الشيوخ عن منطقة فيجاس، وشغل وظيفةً مُربحة في إمبراطورية توشيو ناكامورا التجارية الآخِذة في النمو. وكان ذلك تحالفًا مثاليًّا. فناكامورا كان بحاجةٍ إلى شخصٍ «مقبول» يُدير المستعمرة نيابةً عنه، وكان ماكميلان — وهو رجل طموح لا يؤمِن بأي قِيَمٍ أو مبادئ مُحددة — يريد أن يكون حاكمًا.

بدأ إيان ماكميلان إلقاء خطبته قائلًا: «مِن السهل جدًّا أن نستمع إلى د. تيرنر ثم نفتح قلوبنا وجيوبنا ونُخصِّص الأموال اللازمة لتغطية طلباته. وهذا هو عيب جلسات مناقشة الميزانية. فكل رئيس إدارة يستطيع أن يسوق الحجج القوية التي تدعم مقترحاته. ولكننا عندما نستمِع إلى كلِّ بندٍ منفصل نعجز عن رؤية الصورة مكتملة. إنني لا أقصد بكلامي إنكار أن برنامج د. تيرنر مُهم حقًّا. ولكنَّني مع هذا أعتقد أنه من المطلوب الآن أن نناقش أولوياتنا.»

طرأ تحسُّن كبير على أسلوب ماكميلان في الحديث منذ أن انتقل إلى هاكون. ومن الواضح أنه تلقَّى تدريبًا جيدًا في فنِّ الخطابة. ولكنه لم يكن خطيبًا موهوبًا بالفطرة، ولذا كانت الحركات التي تدرَّب عليها تجيء مُضحكة في بعض الأحيان. كانت النقطة الأساسية التي تناولها هي أن حاملي فيروس «آر في ٤١» يُمثلون أقلَّ من خمسة بالمائة من سكان عدن الجديدة وأن التكلفة التي تتكبَّدها المستعمرة لتُساعدهم، عالية للغاية.

قال ماكميلان: «لماذا نُجبِر باقي مواطني المستعمرة على معاناة الحرمان لمصلحة هذه الجماعة القليلة؟ كما أن هناك مشاكل أخرى ضرورية أكثر من هذا تحتاج مزيدًا من النقود وهي مشاكل تمسُّ كل فئات المستعمرين، ومن المُحتمَل أن تؤثر على قدرتنا على البقاء.»

عندما طرح إيان ماكميلان روايته لموضوع ذوات الأرجل التي «اندفعت» من الوحدة المجاورة في راما و«أفزعت» فريق الاستكشاف الذي أرسلته المستعمرة، صور «هجومها» كما لو كان الغارة الأولى في حربٍ مُخطط لها بين نوعَين مختلفَين من المخلوقات. ورسم ماكميلان صورة خيالية مُرعبة لتلك الكائنات، وزعم أنها تُبشر بهجومٍ آخر ﻟ «كائنات مُرعبة أكثر» تُثير الذُّعر بين المُستعمرين ولا سيما النساء والأطفال. وقال: «المال الذي يُنفَق على الدفاع يعود بالنفع علينا جميعًا.»

كما أشار المرشح ماكميلان إلى أن البحثَ العلميَّ في مجال البيئة يُعَد من الأنشطة الأخرى التي تفوق البرنامج الطبي الذي طرَحه د. تيرنر كثيرًا في «أهميتها لرفاهية المستعمرة». وأشاد بالجهود التي تُتَّخَذ للسيطرة على البيئة، ورسم صورة لمُستقبلٍ تُتاح فيه الفرصة للمستعمرين بالتنبُّؤ الكامل بالطقس المتوقَّع.

قاطع الحضور في الصالة العلوية خطبتَه بالتصفيق أكثر من مرة. وعندما وصل أخيرًا إلى مناقشة قضية المُصابين بفيروس «آر في ٤١» طرح خطة «أفضل من الناحية الاقتصادية» لمواجهة «مِحنتهم الرهيبة». وأردف بلهجةٍ جادة وهو يضغط على كل كلمةٍ قائلًا: «سنبني لهم مدينة جديدة خارج عدن الجديدة حيث يُمكنهم أن يقضوا أيامهم الأخيرة في سلام.»

وأضاف: «أرى أن الجهود الطبية التي ستُبذَل لمواجهة «آر في ٤١» في المُستقبل يجب أن تكون قاصرةً على تحديد وتعيين كل الآليات التي ينتقل بها هذا البلاء من شخصٍ إلى آخر. وإلى حين انتهاء هذه الجهود البحثية، من مصلحة كلِّ مَن في المستعمرة — بمن فيهم البؤساء الذين يحملون المرض — أن نفرِض الحجر الصحي على حاملي المرض حتى لا تحدُث أي إصابة بالصدفة.»

كانت نيكول وأسرتها في الصالة العلوية. وقد ظلُّوا يُلحون على ريتشارد حتى أقنعوه بالحضور مع أنه يكره التجمعات السياسية. أثار خطاب ماكميلان اشمئزاز ريتشارد. أما نيكول، فبعث في نفسها الخوف. إذ إنَّ ما يقوله كان يُلاقي قبولًا عند الناس. قالت نيكول لنفسها في ختام خطبته: تُرى من ذا الذي يكتب له الخُطَب. ووبَّخت نفسها لأنها لم تُقدِّر ناكامورا حقَّ قدره.

قرب نهاية خطبة ماكميلان غادرت إيلي ويكفيلد مكانها في الصالة العلوية بهدوء. وبعد دقائق أُصيب والداها بالدهشة عندما رأياها عند مقاعد أعضاء المجلس وتقترب من المنصة. وكان ذلك هو شعور الحاضرين في الصالة العلوية الذين ظنُّوا أن إيان ماكميلان آخِر المتحدِّثين في هذا اليوم. كان الجميع يستعدُّون للانصراف. لكن معظمهم جلسوا ثانيةً عندما قدم كينجي واتانابي إيلي.

بدأت إيلي حديثها والتوتر بادٍ في صوتها قائلةً: «في مادة التربية المدنية في المدرسة الثانوية كنَّا ندرس دستور المُستعمرة والنظم المتبعة في مجلس الشيوخ. ولا يعرف الكثير من الناس أن أيَّ مواطنٍ من مواطني عدن الجديدة يُمكنه إلقاء خطاب في إحدى هذه الجلسات المفتوحة …»

أخذت إيلي نفَسًا عميقًا قبل أن تُواصل حديثها. في الصالة العلوية، مالت أمُّها ومُعلمتها إيبونين إلى الأمام وأمسكَتا بالحاجز الذي أمامهما. قالت إيلي بلهجةٍ أقوى من ذي قبل: «أردتُ أن أتحدَّث اليوم لأنني أومن بأنني لديَّ وجهة نظر فريدة في قضية مرضى فيروس «آر في ٤١». أولًا، أنا صغيرة، وثانيًا، حتى ما يزيد بقليلٍ عن ثلاث سنوات مضت، لم تُتَح لي الفرصة قطُّ للتعامُل مع بشرٍ غير أُسرتي.

ولهذين السببين فإنني أُقدر الحياة البشرية وكأنها كنز. لقد اخترت هذه الكلمة بعناية. الكنز هو شيء تُقدره كلَّ التقدير. ومن الجليِّ أن هذا الرجل، هذا الطبيب المذهل الذي يعمل طوال اليوم وأحيانًا طوال الليل ليُحافظ على صحتنا، يرى أن الحياة البشرية كنز أيضًا.

عندما تحدَّث د. تيرنر سابقًا لم يُخبركم عن السبب الذي يدعوكم إلى تمويل برنامجه، وإنما أخبركم فقط بماهية المرَض والطريقة التي سيحاول من خلالها مكافحته. لقد افترض أنكم جميعًا تفهمون السبب.» ونظرت إيلي إلى المُتحدِّث السابق وتابعت حديثها قائلة: «لكن بعد الاستماع إلى السيد ماكميلان ثارت بداخلي الشكوك في افتراضه.

لا بد أن نواصل دراسة هذا المرض الرهيب حتى نستطيع أن نطوِّقَه ونُسيطر عليه، لأن الحياة البشرية سلعة غالية. فكلُّ إنسانٍ معجزة مُتفردة في حد ذاته، فهو تركيبة مذهلة من المواد الكيميائية المعقدة، وله مواهب وأحلام وتجارب متفردة. لا شيء في المستعمرة كلها أهم من نشاطٍ يهدف إلى الحفاظ على الحياة البشرية.

فهمت من النقاش الدائر اليوم أن برنامج د. تيرنر مُكلف. وإذا كان من الحتمي أن نفرض الضرائب لنُموله، فربما يُصبح على كلٍّ منَّا أن يستغنيَ عن أشياء مُحببة كان يريدها. غير أن هذا ثمن بخس مقابل كنز هو صحبة إنسان آخَر.

أحيانًا يقول لي أفراد أُسرتي وأصدقائي إنني ساذجة للغاية. ربما يكون هذا صحيحًا. ولكن قد تُمكنني براءتي من رؤية الأمور بوضوحٍ أكبر من الآخَرين. في هذه الحالة أومن أننا بحاجة إلى طرح سؤال واحد فقط. إن علمتَ أنك مصاب بفيروس «آر في ٤١» أو أحد أفراد أسرتك مُصاب به، فهل ستدعم برنامج د. تيرنر؟ … شكرًا جزيلًا.»

ساد صمت غريب وإيلي تتنحَّى عن المنصة. ثم دوَّى تصفيق حاد. وترقرقت الدموع من عينَي نيكول وإيبونين. وفي مقاعد أعضاء المجلس، مدَّ د. روبرت تيرنر يدَيه ليُصافح إيلي.

٦

عندما فتحت نيكول عينَيها وجدت ريتشارد جالسًا بجوارها على السرير. كان مُمسكًا بفنجان قهوة. قال لها: «طلبتِ أن نُوقظك في الساعة السابعة.»

جلسَتْ في السرير وأخذَت منه القهوة. ثم قالت: «شكرًا يا حبيبي. لكن لماذا لم تطلُب من لينك …»

«قررتُ أن أحضر قهوتك بنفسي … هناك أخبار جديدة من السهل المركزي. أردتُ مناقشتها معك، مع أنني أعلَم أنك تكرهين أن تَستيقظي على الثرثرة وأن يكون أول ما يحدُث في الصباح هو ثرثرة الناس معك.»

احتَسَت نيكول رشفةً طويلة من قهوتها ببطء. وابتسمت لزوجها ثم قالت: «ما الأخبار؟»

«وقعت حادثتان للكائنات ذوات الأرجل الليلة الماضية. هذا يجعل إجمالي الحوادث التي وقعت في هذا الأسبوع اثنتَي عشرة حادثة. قيل إنَّ قوات الدفاع التابعة لنا دمَّرت ثلاثةً منها كانت «تُزعج» طاقم الهندسة.»

«هل قامت الكائنات ذات الأرجُل بأي محاولةٍ للردِّ على الهجوم؟»

«كلَّا، لم تفعل. لقد أسرعت إلى الحفرة التي في المنطقة السكنية الأخرى مع أول صوتٍ لإطلاق النار … معظمها هربت كما حدث أمس الأول.»

«وهل لا تزال تعتقِد أنها تقوم بمهمة المُراقبة عن بُعد مثل العناكب الآلية في مركبتَي راما الأولى والثانية؟»

أومأ ريتشارد برأسه إيجابًا. وقال: «وتستطيعين أن تتخيَّلي الصورة التي يُكوِّنها الآخَرون عنَّا. إننا نُطلِق النيران على مخلوقاتٍ غير مسلحة لم تُحاول استفزازنا … إننا نقوم بردود فعلٍ عدوانية لفعلٍ لا يعدو أن يكون محاولةً منهم للتواصُل معنا …»

قالت نيكول بهدوء: «أوافقك الرأي. ولكن ما الذي يُمكننا أن نفعله؟ لقد أجاز مجلس الشيوخ لطواقم الاستكشاف الدفاع عن أنفسهم.»

كان ريتشارد على وشك أن يُجيب عندما لاحظ أنَّ بينجي يقِف عند المدخل. كانت هناك ابتسامة عريضة مُرتسِمة على وجه الشاب. سأل: «أيُمكنني الدخول يا أمي؟»

أجابت نيكول: «بالطبع يا حبيبي.» فتحت ذراعَيها له. وقالت: «تعالَ أعطني حضنَ عيد الميلاد.»

زحف الفتى — الذي يفوق حجمُه حجم معظم الرجال — على السرير واحتضن والدته، وقال ريتشارد: «كل عام أنت بخير يا بينجي.»

«أشكرك يا عم ريتشارد.»

سأل بينجي ببطء: «هل ما زالت نُزهتنا الخلوية في غابة شيروود اليوم قائمة؟»

أجابت والدته: «نعم، بالتأكيد. وسنُقيم حفلًا كبيرًا الليلة.»

قال بينجي: «رائع.»

كان ذلك يوم السبت. نام باتريك وإيلي حتى وقتٍ مُتأخِّر لأنهما في إجازة من المدرسة. قدم لينك الإفطار إلى ريتشارد ونيكول وبينجي، والزوجان يُشاهدان أخبار الصباح على التليفزيون. كان يُعرَض تقرير مصور قصير عن آخِر المواجهات مع الكائنات ذوات الأرجل التي وقعت بالقُرب من المنطقة السكنية الثانية، وكذلك تعليقات المُرشحَيْن لمنصب الحاكم على الواقعة.

قال إيان ماكميلان للمُراسِل: «كما كنتُ أقول طوال الأسابيع الماضية، يجب علينا أن نتوسع في استعدادات الدفاع توسعًا كبيرًا. لقد بدأنا أخيرًا في تطوير الأسلحة المتاحة لقواتنا، ولكننا يجِب أن نتقدَّم بخُطًى أكثر جرأةً على هذا الصعيد.»

اختتمت أخبار الصباح بلقاء مع المديرة المسئولة عن الطقس. إذ أوضحت أن الطقس الحالي الجاف والعاصف على نحوٍ غير معتاد نتج عن خطأ في تصميم برنامج المحاكاة بالكمبيوتر. قالت: «طوال الأسبوع كنَّا نُحاول أن نستمطِر السماء ولكن دون جدوى. الآن، برمجنا الكمبيوتر بحيث يُصبح الجوُّ صحوًا لأننا في عطلة نهاية الأسبوع … ولكننا نعِدُكم بأن تُمطر الأسبوع القادم.»

قال ريتشارد مُتذمرًا وهو يُغلق التليفزيون: «ليست لديهم أدنى فكرة عما يفعلونه. فهم يأمرون النظام بمهامَّ تفوق طاقته ويتسبَّبون في حدوث فوضى.»

سأله بينجي: «ماذا تعني بفوضى يا عم ريتشارد؟»

تردَّد ريتشارد لحظة. ثم قال: «أعتقد أن أبسط تعريفٍ لها هو غياب النظام. لكن في الرياضيات، تحمِل الكلمة معنًى أدق. فهي تُستخدَم لوصف الاستجابات غير المحدودة للتشوُّش البسيط.» ضحك ريتشارد. وقال: «آسِف يا بينجي. أحيانًا أستخدِم مصطلحاتٍ علمية بحتة في حديثي.»

ابتسم بينجي. وقال بتأنٍّ: «أُحب أن تتحدَّث إليَّ على طبيعتك. وأحيانًا أفـ…ـهم بعض ما تقول.»

بدت نيكول مشغولة البال عندما كان لينك يرفع صحون الإفطار من على المائدة. عندما غادر بينجي الغرفة ليغسِل أسنانه، مالت على زوجها وسألته: «هل تحدثت إلى كيتي؟ إنها لم تُجب على هاتفها عصر أمس أو ليلة أمس.»

هز ريتشارد رأسه.

«سيتألَّم بينجي كثيرًا إن لم تحضر حفلَه. سأُرسل باتريك ليبحث عنها اليوم.»

قام ريتشارد من كُرسيه ولفَّ حول المنضدة. ومال على نيكول مُمسكًا بيدِها. وقال: «وماذا عنك يا سيدة ويكفيلد؟ هل وضعتِ في برنامجك المزدحِم مكانًا للراحة والاسترخاء؟ لا تنسي، إنها عطلة نهاية الأسبوع.»

«سأمرُّ على المستشفى هذا الصباح للمساعدة في تدريب المُسعفتَين الجديدتَين. ثم سألتقي بإيلي وبينجي هنا في تمام العاشرة ونخرج معًا. وفي طريق العودة سأمر على المحكمة، فأنا لم أقرأ بعد المذكرات التي قدمت عن الدعاوى القضائية التي ستُنظَر يوم الاثنين. ولديَّ اجتماع سريع مع كينجي في الثانية والنصف، ومحاضرة عن علم الأمراض في الثالثة … سأعود إلى المنزل بحلول الرابعة والنصف.»

«وبهذا لا يبقى لديك من الوقت سوى ما يكفي بالكاد لتنظيم حفلة بينجي. حبيبتي إنك فعلًا تحتاجين إلى أخذ قسطٍ من الراحة. فلا تنسَي أنك لستِ آلية.»

قبَّلت نيكول زوجها. وقالت: «أنت آخِر من يجب أن يقول هذا. ألستَ تعمل مدة عشرين أو ثلاثين ساعةً مُتصلة عندما تكون منشغلًا بمشروعٍ مُثير؟» صمتت لحظة ثم بدا عليها الجدية. وقالت: «كل ما نقوم به في غاية الأهمية يا حبيبي … أشعر أن المُستعمرة في مرحلةٍ حرجة وأنني أقوم بدور مؤثر.»

«لا ريبَ في هذا يا نيكول. إنك تتركين بصمتك على الحياة هنا بلا شك. ولكنك لا تُخصِّصين أيَّ وقتٍ لنفسك أبدًا.»

قالت نيكول وهي تفتح باب غرفة باتريك: «هذه رفاهية. سأستمتع بها في سنوات عمري الأخيرة.»

•••

بينما كانت نيكول وإيلي وبينجي يخرجون من بين الأشجار إلى المرج الواسع أخذت الأرانب والسناجب تركض مُبتعدة عن طريقهم. في الجانب المُقابل من المرج كان هناك أيل صغير يأكل في هدوءٍ وسط مجموعة من الزهور الأرجوانية الطويلة. أدار إليهم رأسه التي نبتت عليها قرون منذ فترة قريبة، ورمقَهم وهم يقتربون منه، ثم قفز مُبتعدًا إلى داخل الغابة.

نظرت نيكول في خريطتها. وقالت: «لا بدَّ أن هناك مناضد مُخصصة للنزهات الخلوية في مكانٍ ما بجوار المرج.»

كان بينجي يجثو على ركبتَيه ليتأمَّل مجموعة من الزهور الصفراء يُغطيها النحل. وقال وهو يبتسم: «عسل. النحل يصنع العسل في خلاياه.»

بعد دقائق وجدوا المناضد وغطَّوا إحداها بمفرش. كان لينك قد أعد لهم حقيبتهم وجهزها بالشطائر — بينجي يُفضل زبدة الفول السوداني وحلوى الجيلي — وببرتقال وجريب فروت طازج قطفَه من البساتين القريبة من سان ميجيل. بينما كانوا يتناولون غداءهم كانت أسرة أخرى تتجول في الجانب الآخر من المرج. لوَّح لهم بينجي.

قال: «هؤلاء الـ…ـناس لا يعرفون أن اليوم عيد ميـ…ـلادي.»

قالت إيلي وهي ترفع كوبها المليء بالليمونادة لتشرب نخبه: «ولكننا نعرف. كل عام وأنت بخير يا أخي.»

قبل أن ينتهوا من تناول الطعام مباشرة مرَّت سحابة صغيرة فوقهم في السماء فبهتت ألوان المرج الزاهية ثوانيَ معدودة. قالت نيكول لإيلي: «هذه السحابة لونها داكن على غير المُعتاد.» انقشعت السحابة بعد دقائق، وعاد ضوء الشمس الساطع يغمُر العشب والزهور من جديد.

سألت نيكول بينجي: «أتريد حلوى البودنج الآن؟ أم تُفضل أن تنتظِر؟»

أجاب بينجي: «لنلعب أولًا.» أخرَجَ أدوات البيسبول وناول إيلي القفاز. ثم قال وهو يجري إلى المرج: «هيا بنا.»

بينما كان ولداها يتبادلان الكرة بينهما أخذت نيكول تُزيل بقايا الطعام. وكانت على وشك أن تلحق بهما لكنها سمعت صوت رنين جهاز الاستقبال اللاسلكي الذي ترتديه حول مِعصمها. فضغطت على زر الاستقبال وحلت صورة تليفزيونية محل الساعة الرقمية. رفعت نيكول الصوت حتى تتمكن من سماع ما يقوله كينجي.

قال كينجي: «آسف على إزعاجك يا نيكول ولكن لدَينا حالة طوارئ. فقد تلقَّينا اتهامًا رسميًّا بارتكاب جريمة اغتصاب، وتُريد الأسرة اتخاذ الإجراءات اللازمة لإصدار قرار اتهامٍ على الفور. إنها حالة حسَّاسة، وهي في نطاق سُلطتك القضائية، أعتقِد أنك يجب أن تُباشريها الآن … لا أريد أن أسترسِل في الحديث عبر اللاسلكي.»

ردت نيكول: «سأحضر في غضون نصف ساعة.»

في البداية شعر بينجي بخيبة أملٍ لقطع النُّزهة الخلوية دون استكمالها. ولكن إيلي أقنعت أمَّها بأنها لا تُمانع في أن تبقى مع بينجي في الغابة ساعتَين أخرَيَين. وقبل أن تُغادر نيكول المرج أعطت خريطة غابة شيروود لإيلي. وفي تلك اللحظة تحرَّكت سحابة أكبر من السحابة السابقة أمام شمس عدن الجديدة الصناعية.

•••

لم تكن هناك أي دلائل على وجود أحدٍ في شقة كيتي. فشعر باتريك بالإحباط مؤقتًا. أين يُمكنه أن يبحث عنها؟ لا يعيش أيٌّ من أصدقاء الجامعة في فيجاس، ولذا فلم يدرِ من أين يبدأ.

اتصل بماكس باكيت من هاتف عمومي. فأعطى له أسماء وعناوين وأرقامَ هواتفِ ثلاثةٍ من معارفه في فيجاس. وقال له: «ليس منهم من تودُّ أن تدعوه لتناول العشاء في منزلك مع والدَيك، إن كنت تفهم ما أقصده.» ضحك ثم أردف قائلًا: «ولكنهم جميعًا طيبون وعلى الأرجح سيُساعدون في البحث عن أختك.»

الاسم الوحيد الذي تعرَّف عليه باتريك من بين هذه الأسماء هو سامانثا بورتر، وكانت شقتها تبعُد مئات قليلة من الأمتار عن كابينة الهاتف. كانت سامانثا لا تزال ترتدي ثياب النوم عندما فتحت الباب، مع أن الوقت كان بعد الظهيرة. قالت بابتسامة مُغرية: «عندما نظرتُ إلى الشاشة، عرفت أن مَن يدقُّ الباب هو أنت. باتريك أوتول أليس كذلك؟»

أومأ باتريك برأسه إيجابًا ثم أخذ يتململ في وقفتِه على نحوٍ يشي بعدم الارتياح خلال فترة صمتٍ طويلة. ثم قال: «آنسة سامانثا، أُعاني من مشكلة …»

قاطعته قائلة: «أنت أصغر كثيرًا من أن تُعاني من مشكلة.» ثم ضحكت بملء فيها. وقالت: «ما رأيك أن تدخُل حتى نتحدَّث عنها؟»

احمرَّ وجه باتريك. وقال: «لا يا سيدتي، ليس هذا النوع من المشاكل … كلُّ ما في الأمر أنني لا أستطيع العثور على أُختي كيتي، وظننتُ أنه ربما يمكنك أن تساعديني.»

بعد أن كانت سامانثا قد أفسحت لباتريك الطريق حتى يدخل، التفتت إليه وأخذت تُحدق فيه. وقالت: «ألهذا أتيت؟» هزَّت رأسها وضحكت ثانية. ثم أردفت قائلةً: «يا لخيبة أملي! ظننتُ أنك جئتَ للَّهوِ غير البريء، وعندها كنتُ سأستطيع أن أعطي الجميع القول الفصل فيما إذا كنتَ فضائيًّا بالفعل أم لا.»

ظلَّ باتريك يتململ وهو واقف في المدخل. بعد عدة ثوان هزَّت سامانثا كتفَيها. وقالت: «أعتقد أن كيتي تقضي مُعظم وقتها في القصر. اذهب إلى كازينو القمار واسأل عن شيري. هي تعرف كيف تجد أُختك.»

•••

كانت نيكول تقول للياباني الجالس في مكتبها: «بالطبع بالطبع يا سيد كوباياشي، أفهم هذا. وأستطيع أن أتفهَّم شعورك. كن متأكدًا من أن العدالة ستأخذ مجراها.»

صحبت الرجل إلى حجرة الانتظار حيث لحق بزوجته. كانت عينا الزوجة لا تزالان مُتورِّمَتَين من فرط البكاء. كانت ابنتهما ماريكو البالِغة من العمر ستة عشر عامًا في مستشفى عدن الجديدة، تخضع لفحصٍ طبيٍّ شامل. فقد تعرضت لضربٍ مبرح، ولكنها لم تكن في حالة خطرة.

اتصلت نيكول بدكتور تيرنر بعد أن انتهت من حديثها مع والدَي الفتاة. قال الطبيب: «تُوجَد آثار سائل منوي حديث في مهبلها، وكدمات في كل شبر من جسدها تقريبًا. كما أنها منهارة نفسيًّا، احتمال تعرُّضها للاغتصاب وارد.»

تنهَّدت نيكول. اتهمت ماريكو كوباياشي بدرو مارتينيز — وبدرو هو الشاب الذي لعب دور البطولة مع إيلي في مسرحية المدرسة — باغتصابها. فهل هذا ممكن؟ حركت نيكول مقعدها ذي العجلات على أرض مَكتبها ودخلت إلى قاعدة بيانات المستعمرة عبر جهاز الكمبيوتر الخاص بها.

مارتينيز، بدرو إيسكوبار … ولد في السادس والعشرين من مايو عام ٢٢٢٨ في ماناجوا عاصمة نيكاراجوا … والدتُه غير متزوجة، تُدعى ماريا إسكوبار، خادمة منازل، غالبًا لا تعمل … والدُه على الأرجح رامون مارتينيز، زنجي يعمل عاملًا في حوض السفن، وهو من دولة هايتي … له ستة إخوة غير أشقاء، كلهم أصغر منه … أُدين ببيع الكوكومو في عامَي ٢٢٤١ و٢٢٤٢ … وبالاغتصاب في عام ٢٢٤٣ … قضى ثمانية أشهر في إصلاحية ماناجوا … كان سجينًا مثاليًّا … انتقل إلى دار رعاية أطفال الشوارع في مكسيكو سيتي عام ٢٢٤٤ … مستوى الذكاء ١٫٨٦، المستوى الدراسي ٥٢.

قرأت نيكول البيانات القصيرة التي أظهرها الكمبيوتر مرَّتَين ثم استدعت بدرو إلى مكتبها. جلس، حسبما طلبت منه نيكول، ولم يرفع عينَيه عن الأرض. وقف آلي لينكولن في الزاوية طوال المقابلة وسجَّل حديثهما بعناية.

قالت نيكول بهدوء: «بدرو.» لم يرُد. بل لم يرفع عينَيه إليها. كرَّرت بمزيدٍ من الحزم: «بدرو مارتينيز، هل تعِي أنك مُتهم باغتصاب ماريكو كوباياشي ليلة أمس؟ أنا واثقة من أنني لستُ في حاجةٍ لأن أوضِّح لك أن هذه تُهمة خطيرة للغاية … نحن نمنحك الآن فرصةً للردِّ على اتهاماتها.»

لم ينبس بدرو ببنت شفة. في النهاية تابعت نيكول حديثها قائلة: «في عدن الجديدة لدَينا نظام قضائي ربما يكون مُختلفًا عن النظام الذي عرفته في نيكاراجوا. فهنا لا يمكن إصدار قرار اتهامٍ في القضايا الجنائية إلَّا إذا صار القاضي مؤمنًا بأن هناك سببًا كافيًا للاتهام بعد أن يدرس الوقائع. ولهذا أنا أتحدَّث معك الآن.»

بعد صمتٍ طويل غمغم الشاب بكلامٍ غير مسموع دون أن يرفع عينَيه.

سألته نيكول: «ماذا تقول؟»

قال بدرو بصوتٍ أعلى: «إنها تكذب. لا أدري لماذا، ولكن ماريكو تكذب.»

«أتودُّ أن تُطلِعني على ما حدث؟»

«ما جدوى ذلك؟ لن يُصدِّقني أحد على أي حال.»

«اسمعني يا بدرو. إذا قرَّرَت محكمتي — استنادًا إلى قيامها بتحقيق أوَّلي — أنه ليس هناك سببٌ كافٍ لإقامة الدعوى، فمِن المُمكن أن تُرفَض الدعوى التي رُفِعت ضدك. بالطبع تتطلَّب خطورة هذه التهمة إجراء تحقيقٍ دقيق، مما يعني أنك ستُضطَر للإدلاء بإفادةٍ كاملة عما حدث والإجابة عن بعض الأسئلة الصعبة للغاية.»

رفع بدرو مارتينيز رأسه ونظر إلى نيكول بعينَين حزينتَين. ثم قال بهدوء: «أيتها القاضية نيكول، أنا وماريكو تطارَحنا الغرام ليلة أمس … ولكنها كانت فِكرتها هي. قالت إنه سيكون من اللطيف أن ندخُل إلى الغابة …» توقف الشابُّ عن الحديث وعاد ينظر إلى الأرض.

سألته نيكول بعد عدة ثوان: «هل سبق وفعلتَ ذلك من قبل مع ماريكو؟»

أجاب بدرو: «مرة واحدة فقط، قبل نحو عشرة أيام.»

«بدرو هل كنت … عنيفًا معها أمس؟»

سالت الدموع من عينَي بدرو وانهمرت على وجنتَيه. وقال بانفعال: «لم أضربها. لم أكن لأؤذيها أبدًا.»

أثناء حديثه، صدر صوت غريب من بعيد، وكأنه صوت فرقعة سوط طويل، ولكنه يختلف عن صوت السوط في أنه أعمق بكثير.

تساءلت نيكول بصوتٍ مرتفع: «ما هذا؟»

قال بدرو: «يبدو وكأنه صوت رعد.»

•••

سمع هزيم الرعد أيضًا سكان مدينة هاكون، حيث كان يجلس باتريك في جناحٍ فاخر في قصر ناكامورا ويتحدَّث إلى أُخته كيتي. كانت ترتدي ثوبًا منزليًّا مصنوعًا من الحرير الأزرق الغالي.

تجاهل باتريك الضوضاء الغريبة. إذ كان يقول غاضبًا: «أتعنين أنك لن تُحاولي أن تأتي إلى حفلة بينجي الليلة؟ ماذا أقول لأمي؟»

قالت كيتي: «ما يحلو لك.» أخذت سيجارة من عُلبتها ووضعتْها بين شفتَيها. ثم قالت: «أخبِرها أنك لم تَجدني.» أشعلت السيجارة بقدَّاحة من الذهب، ونفثت الدُّخان باتجاه أخيها. فحاول أن يُبعِده بيدِه.

قالت كيتي ضاحكةً: «دعك من هذا يا أخي الصغير. إنه لن يَقتلك.»

ردَّ عليها: «ليس على الفور على أيِّ حال.»

نهضت كيتي وبدأت تَقطع الجناح جيئة وذهابًا. ثم قالت: «اسمع يا باتريك، بينجي غبي، أبله. ولم تجمعنا قطُّ علاقة وثيقة. وهو لن يُدرك أنني لم أحضر إلَّا لو أخبرَه شخصٌ ما بهذا.»

«أنت مُخطئة يا كيتي. إنه أذكى مما تعتقدِين. إنه يسأل عنك طوال الوقت.»

ردَّت كيتي: «إنك تكذب عليَّ يا أخي الصغير. أنت تقول هذا لتجعلني أشعر بالذنب … اسمع، لن آتي. أعني كنتُ سأفكر في الأمر لو كان الحضور هم أنت وبينجي وإيلي، مع أنها أصبحت شخصية مُزعجة منذ أن ألقت خطبتها «الرائعة». ولكنك تعرف معنى وجودي مع أمي. إنها تنتقدني طوال الوقت.»

«إنها قلقة عليك يا كيتي.»

ضحكت كيتي في توتُّر، وأخذت نفسًا عميقًا من سيجارتها فأنهتها به. ثم قالت: «طبعًا قلقة يا باتريك. إن كلَّ ما يُقلقها فعلًا هو ما إذا كنتُ سأُسبب حرجًا للأسرة.»

نهض باتريك ليرحل. فقالت له كيتي: «لستَ مضطرًا للانصراف الآن. ما رأيك أن تبقى معي بعض الوقت؟ سأرتدي ملابسي وننزل إلى الكازينو. أتذكُرُ كم تسلينا ونحن معًا؟»

أسرعت كيتي نحو غرفتها. فسألها باتريك فجأة: «هل تتعاطَين المخدرات؟»

توقفت ورمقت أخاها بنظرةٍ فاحصة. ثم قالت بلهجةٍ مفعمة بالتحدي: «مَن يريد أن يعرف؟ أنت أم السيدة رائدة الفضاء الدكتورة الحاكمة القاضية نيكول دي جاردان ويكفيلد؟»

قال باتريك بهدوء: «أنا أريد أن أعرف.»

اتَّجهت كيتي إليه ووضعت يدَيها على وجنتَيه. وقالت: «أنا أُختك وأُحبك. لا يُهِم أي شيء آخر.»

•••

تجمَّعت السحب الداكنة كلها فوق تلال غابة شيروود الصغيرة ذات المُنحدرات غير الوعرة. كانت الرياح تهبُّ على الأشجار، وتعصف بشعر إيلي فيتطاير خلف رأسها. لمعت صاعقة برق وتزامَن معها تقريبًا قصف الرعد.

تراجع بينجي فجذبته إيلي إلى جوارها. وقالت: «وفقًا للخريطة، نحن نبعُد عن حافة الغابة بكيلومتر.»

سأل بينجي: «كم سيستغرِقُ الوصول إلى هناك؟»

صاحت إيلي ليعلو صوتُها على صوت الرياح: «إن سِرنا بسرعةٍ يُمكننا أن نصل إلى هناك في حوالي عشر دقائق.» أمسكت بيد بينجي وجذبته إلى جوارها على الطريق المُمهد.

بعد لحظة شطر البرق إحدى الأشجار التي كانت بجوارهما إلى قسمين وسقط فرع سميك فقطع الطريق. ارتطم الفرع بظهر بينجي وأوقعه على الأرض. وقع معظم جسده على الطريق، ولكن رأسه ارتطمَ بالنباتات الخضراء واللبلاب النامي أسفل أشجار الغابة. وكاد دويُّ الرعد أن يُصيبه بالصمم.

بقِي راقدًا على أرض الغابة عدة ثوانٍ محاولًا أن يفهم ما حدث له. وبعد برهة تمكن من النهوض بصعوبة. قال وهو ينظر إلى أخته المُتمدِّدة على الناحية الأخرى من الطريق: «إيلي.» كانت عيناها مغمضتين.

أخذ بينجي يصرُخ الآن وهو يتَّجه نحوها مشيًا تارة وزحفًا تارة أخرى: «إيلي!» أمسكها من كتفَيها وهزَّها برفق. لكنها لم تفتح عينَيها. وكان التورُّم الذي أصاب جبهتها وغطى المنطقة التي تعلو عينها اليُمنى قد بلغ حجم برتقالة كبيرة في ذلك الحين.

قال بينجي بصوتٍ مرتفع: «ﻣ… ماذا أ… أفعل؟» شمَّ رائحة دخان ونظر إلى الأشجار. فرأى النيران تنتقِل بسرعة من فرعٍ إلى آخَر بفعل الرياح. وضربت الأرض صاعقة برقٍ أخرى ودوَّى هزيم الرعد. وعندما نظر أمامه في الاتجاه الذي كان يمشي فيه مع إيلي على الطريق الذي يشق الغابة رأى حريقًا أكبر من الحريق الأول يجتاح الأشجار على جانبَي الطريق. فبدأ الذُّعر يتملَّكه.

احتضن أخته وأخذ يضربها على وجهها برفق. وقال: «إيلي أرجوك استيقظي، أرجوك.» لكنها لم تتحرك. كانت النيران من حوله تنتشِر بسرعة. وسرعان ما سيُصبح هذا الجزء من الغابة بأكمله جحيمًا.

شعر بينجي بالفزَع. وحاول أن يحمل إيلي لكنه تعثر ووقع أثناء المحاولة. صاح: «لا، لا، لا»، وهو يقف مرة أخرى وينحني ليرفع إيلي على كتفَيه.

بدأت كثافة الدخان تزداد. وأخذ بينجي يمضي ببطءٍ على الطريق مُبتعدًا عن النيران وهو يحمِل إيلي على ظهره.

كان يشعر بالإرهاق عندما وصل إلى المرج. فوضع إيلي برفق على إحدى الطاولات الإسمنتية وجلس على مقعد. كانت النيران تخرج عن نطاق السيطرة في الجانب الشمالي من المرج. قال بينجي بينه وبين نفسه: ماذا أفعل الآن؟ وقعت عيناه على الخريطة التي تُطل من جيب قميص إيلي. وقال لنفسه: يمكن أن تُساعدني هذه. أمسك بالخريطة ونظر فيها. في البداية لم يفهم أي شيء منها وعاد الذُّعر ينتابه.

سمع صوت أمِّه يقول له بلهجةٍ مهدئة: اهدأ يا بينجي. هذا صعب بعض الشيء، ولكنك تستطيع أن تقوم به. الخرائط شديدة الأهمية فهي تُرشدنا إلى الاتجاهات … حسنًا، أول ما نفعله دائمًا هو أن نضع الخريطة في الاتجاه الصحيح حتى نتمكَّن من قراءة ما كُتِب عليها. انظر. هذا صحيح. في أغلب الأحوال يُسمَّى الاتجاه الذي يُشير إلى أعلى بالشمال. جيد. هذه خريطة لغابة شيروود …

أخذ بينجي يُقلب الخريطة في يديه حتى صار يرى الحروف في وضعها الصحيح. استمر الرعد والبرق. وتغيَّر اتجاه الرياح فجأة فاندفع الدُّخان إلى رئتَيه حتى سعل. حاول أن يقرأ الكلمات التي على الخريطة.

سمع صوت أمه ثانيةً تقول: إن لم تعرف الكلمة من النظرة الأولى فانظر إلى كل حرفٍ على حدة وانطقْهُ ببطءٍ بصوتٍ عال. وبعد ذلك انطق الحروف مع بعضها إلى أن تتكوَّن كلمة تفهمها.

نظر بينجي إلى إيلي الراقدة على الطاولة الأسمنتية. وقال: «استيقظي، آه، أرجوك استيقظي يا إيلي. أحتاج إلى مساعدتك.» لكنها لم تتحرك.

انحنى على الخريطة وحاول أن يُركز بكل جهده. وأخذ بينجي ينطق كل الحروف بتأنٍّ وعناية مرةً بعد أخرى، حتى تأكَّد له أن الرقعة الخضراء على الخريطة هي المرج الذي كان يجلس فيه. قال لنفسه: الخطوط البيضاء هي الطُّرق. هناك ثلاثة خطوط بيضاء تقطع الرقعة الخضراء.

رفع بينجي بصرَه من على الخريطة وعدَّ الطرق الثلاث التي تؤدِّي إلى خارج المرج، فزاد هذا من ثقتِه بنفسه. لكنَّ الوضع تدهور بعد دقائق إذ حملت الرياح الجمر عبر المرج فاشتعلت الأشجار في الجانب الجنوبي. تحرَّك بينجي بسرعة. وقال في نفسه وهو يحمِل إيلي مرةً أخرى على ظهره: يجب أن أرحل من هنا.

أصبح الآن يعرِف أن الحريق الرئيسي في الجزء الشمالي من الخريطة ويتَّجه نحو مدينة هاكون. أنعم النظر مرةً أخرى في الورقة التي بين يدَيه. وقال في نفسه: إذن يجب أن أتتبع الخطوط البيضاء الموجودة في الجزء السفلي.

راح الشابُّ يمضي في الطريق بصعوبةٍ والنيران تلتهم شجرةً أخرى فوق رأسه. وكان يحمل أخته على كتفِه والخريطة المُنقذة في يده اليُمنى. وكان يتوقف لينظر في الخريطة كل عشر خطوات ليتأكد كل مرةٍ أنه لا يزال ماضيًا في الاتجاه الصحيح. عندما وصل أخيرًا إلى مفترق طرقٍ كبير وضع إيلي بحذر شديد على الأرض وأخذ يشير بإصبعه فوق الخطوط البيضاء على الخريطة. بعد دقيقة ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وحمل أختَه ثانيةً مُتجهًا إلى الطريق الذي يُفضي إلى بوسيتانو. ومرة أخرى، لمع البرق ودوَّى قصف الرعد وبدأت الأمطار الغزيرة تهطل على غابة شيروود.

٧

بعد عدة ساعات كان بينجي يغط في نومٍ عميق في غرفته. وفي الوقت نفسه كانت الفوضى تعم مستشفى عدن الجديدة الواقع وسط المستعمرة. فالبشر والآليون يُهرعون في كل مكان، والنقالات ذات العجلات التي تحمِل الجُثَث تقف في الأروقة، والمُصابون يصرخون من الألم. كانت نيكول تتحدَّث إلى كينجي واتانابي عبر الهاتف. كانت تقول: «نُريدكم أن تُرسِلوا لنا كل التياسو الآليات الموجودات في المستعمرة بأسرع ما يمكن. حاول أن تستخدِم الجارسيا أو حتى الأينشتاين بدلًا من التياسو اللائي يقُمنَ برعاية الأطفال والمُسنين. ووجِّه البشر إلى العمل في العيادات الموجودة في المدن. الوضع خطير جدًّا.»

كانت تُميز ما يقوله كينجي بصعوبةٍ من بين الضوضاء التي يضجُّ بها المستشفى. قالت ردًّا على سؤال كينجي: «سيئ، سيئ بالفعل. وصَلَنا سبعة وعشرون حتى الآن منهم أربعة موتى، على حدِّ علمنا. وأشدُّ المناطق نكبةً هي منطقة نارا، تلك المقاطعة ذات البيوت الخشبية المبنية على الطراز الياباني التي تقع وراء فيجاس وتُحيط بها الغابة. فقد اشتعلت بها النيران بسرعة كبيرة. وسيطر الذُّعر على الناس.»

«دكتورة ويكفيلد، دكتورة ويكفيلد. من فضلك اذهبي إلى الغرفة رقم مائتين وأربعة على الفور.» وضعت نيكول سمَّاعة الهاتف وأسرعت تركض في الرواق. ثم أخذت تصعد السُّلم قفزًا إلى الطابق الثاني. كان الرجل الكوري الذي يحتضر في الغرفة رقم مائتين وأربعة الذي يُدعى كيم لي صديقًا قديمًا لنيكول، فقد كان همزة الوصل بينها وبين مُجتمع هاكون طوال الوقت الذي كانت تعمل فيه حاكمةً مؤقتة.

كان السيد كيم من أوائل من بنوا المنازل الجديدة في نارا. وأثناء الحريق هُرع إلى بيته الذي تضطَرِم فيه النيران ليُنقذ ابنه ذا السنوات السبع. وكُتبت النجاة للابن لأن السيد كيم تمكن من حمايته وهو يسير به بين ألسنة اللهب. ولكن كيم لي نفسه أُصيب بحروقٍ من الدرجة الثالثة في معظم أنحاء جسده.

قابلت نيكول د. تيرنر في الممر. فقال لها: «لا أعتقِد أن بوسعِنا فعل أيِّ شيءٍ لصديقك الذي في الغرفة مائتين وأربعة. مع هذا أود أن أسمع رأيك في حالته. اتَّصلي بي في غرفة الطوارئ. فقد أحضروا لتوِّهم حالة خطرة أخرى لامرأةٍ حاصرتها النيران في بيتها.»

أخذت نيكول نفَسًا عميقًا وفتحت باب الغرفة ببطء. كانت زوجة السيد كيم — وهي امرأة كورية جميلة في منتصف الثلاثينيات — جالسة بهدوء في الزاوية. سارت نيكول إليها وعانقتها. وبينما كانت تحاول أن تهدئها، أحضرت التياسو التي كانت تُراقب كل بيانات السيد كيم مجموعةً من الرسومات البيانية. وعندما اطَّلَعت عليها نيكول وجدت أن حالة الرجل ميئوس منها بالفعل. حين رفعت نيكول عينَيها مما كانت تقرؤه اندهشت لرؤية ابنتها إيلي تقف بجوار سرير السيد كيم والجانب الأيمن من رأسها ملفوف بضمادة كبيرة. كانت إيلي مُمسكةً بيد الرجل.

ما إن تعرف السيد كيم على نيكول حتى قال في همسٍ مُغلف بالألم: «نيكول.» كانت بشرة وجهه قد اسودَّت بشدة. وكان يتألَّم حتى إنه نطق بكلمةٍ واحدة. قال وهو يشير إلى زوجته الجالسة في الزاوية: «أريد أن أموت.»

وقفت زوجته وتوجَّهت نحو نيكول. ثم قالت: «يُريد منِّي زوجي أن أوقِّع على أوراق القتل الرحيم. ولكنني لا أُريد أن أفعل هذا إلا إذا أخبرتني أنه لا يُوجَد أي احتمال على الإطلاق للنجاة.» همَّت بالبكاء ولكنها تمالكت نفسها.

تردَّدت نيكول لحظة. ثم قالت بتجهُّم: «لا أستطيع أن أقول هذا يا سيدتي.» وأخذت تنظر تارة إلى الرجل المحروق وتارة إلى زوجته. ثم قالت: «كلُّ ما يمكنني أن أقوله هو أنه سيموت على الأرجح في غضون الأربع والعشرين ساعة التالية، وأنه سيظل يُعاني بلا انقطاع حتى الموت. وإن حدثت معجزة طبية ونجا، فسيتعرض لتشوُّه كبير، وسيظل ضعيف الجسد لِما تبقى من حياته.»

كرر كيم بصعوبة: «أريد أن أموت الآن.»

أرسلت نيكول تياسو لتُحضِر أوراق القتل الرحيم. يلزم أن تحمل الأوراق توقيع طبيب استشاري والزوجة والشخص نفسه، إن كان الطبيب يرى أنه أهل لاتخاذ قراراته بنفسه. عندما خرجت التياسو أشارت نيكول إلى إيلي بأن تخرج معها إلى الرواق.

قالت نيكول بهدوءٍ لإيلي بعدما ابتعدا عن مرمى السمع: «ماذا تفعلين هنا؟ طلبت منك أن تبقَي في البيت وترتاحي. إنك مُصابة بارتجاج شديد.»

قالت إيلي: «إنني بخير يا أمي. كما أنني وددتُ أن أقدم للسيد كيم أي مساعدةٍ بعدما سمعت أنه أصيب بحروق خطيرة. فقد قدم لنا خدمات جليلة في فترة بداية إنشاء المستعمرة.»

قالت نيكول وهي تهز رأسها: «إنه في حالة شديدة السوء. لا أُصدق أنه لا يزال حيًّا.»

اقتربت إيلي من أُمها ولمست ساعدها. وقالت: «يريد أن يكون موته مفيدًا. لقد تحدثت معي زوجته عن هذا. وقد استدعيت أمادو ولكنني أريدك أن تتحدثي مع د. تيرنر.»

حدقت نيكول في ابنتها. وقالت: «عم تتحدثين بالله عليك؟»

«ألا تذكرين أمادو ديابا …؟ صديق إيبونين، الصيدلي النيجيري السينوفوي الأصل. إنه ممن أصيبوا بفيروس «آر في ٤١» عن طريق نقل الدم … على أي حال، أخبرتني إيبونين أن حالة قلبه تتدهور بسرعة.»

صمتت نيكول عدة ثوان. إذ لم تستطع أن تُصدق ما تسمع. ثم قالت: «تريدين منِّي أن أطلب من د. تيرنر أن يجري عملية نقل قلب يدويًّا الآن ونحن في وسط هذه الأزمة؟»

«إنْ أخَذَ القرار الآن، يمكن إجراؤها في وقتٍ متأخر الليلة، أليس كذلك؟ يُمكننا الحفاظ على قلب السيد كيم سليمًا هذه المدة على الأقل.»

قالت نيكول: «اسمعي يا إيلي، إننا لا نعرف أصلًا …»

قاطعتها إيلي: «لقد تحققتُ من هذا من قبل. فقد أكدت إحدى التياسو أن السيد كيم متبرع مناسب.»

هزَّت نيكول رأسها مرةً أخرى. وقالت: «حسنًا، حسنًا. سأفكر في الأمر. أما الآن فأريدك أن تستلقي وترتاحي. فالارتجاج ليس إصابةً بسيطة.»

•••

قال د. تيرنر لنيكول وهو لا يصدق ما يسمعه: «تطلبين منِّي ماذا؟»

قال أمادو بلهجة بريطانية: «يا د. تيرنر ليست د. ويكفيلد هي من تطلُب منك. بل أنا، أتوسَّل إليك أن تجري هذه العملية. ومن فضلك لا تحكم بأنها تنطوي على مخاطرة. فقد أخبرتني بنفسك أنه لم يبقَ أمامي سوى ثلاثة أشهر. وأنا أعرف جيدًا أنني قد أموت على منضدة العمليات. ولكنَّني إن نجوتُ فستكون أمامي فرصة لا بأس بها لأن أعيش ثمانية أعوام أخرى — استنادًا للإحصائيات التي أطلعتني عليها. بل ربما أستطيع أن أتزوَّج وأنجب.»

استدار الدكتور تيرنر ونظر إلى الساعة المُعلقة على حائط مكتبه. وقال: «يا سيد ديابا فلنتغاضَ عن أن الساعة تجاوزت منتصف الليل، وإنني أعمل منذ تسع ساعاتٍ متواصلة لعلاج ضحايا الحريق. لكن أرجو أن تتروَّى في طلبك هذا. فأنا لم أجرِ عملية نقل قلب منذ خمس سنوات. ولم يسبق لي إجراء عملية كهذه قط دون مساعدة أمهر الأطباء المتخصصين في القلب، ودون استخدام أفضل المعدات المُستخدَمة في كوكب الأرض. فمثلًا كل المهام الجراحية كان يقوم بها الآليون دائمًا.»

«أتفَهَّمُ كلَّ ذلك يا د. تيرنر. ولكن هذا لا يعنيني في شيء. فأنا سأموت حتمًا إن لم أُجْرِ العملية. وغالبًا لن يُوجَد مُتبرع آخر في المستقبل القريب. كما أن إيلي أخبرتني أنك كنت تراجع في الآونة الأخيرة كل خطوات إجراء عملية نقل القلب، وذلك في إطار الإعداد لطلب ميزانية المعدات الجديدة …»

رمق د. تيرنر إيلي بنظرة متسائلة. فقالت: «أخبرتني أمي بالإعداد الدقيق الذي قمتَ به يا د. تيرنر. آمُل ألا تكون قد تضايقت لأنني أخبرت أمادو.»

أضافت نيكول: «سيُسعدني أن أُساعدك بأي طريقةٍ ممكنة. فمع أنني لم أُجر عمليةً جراحية للقلب بنفسي قط، فإنني قضيتُ فترة التخصُّص في معهدٍ مُتخصِّص في أمراض القلب.»

أخذ د. تيرنر ينقل بصرَه في أنحاء الغرفة ناظرًا إلى إيلي ثم إلى أمادو ونيكول. وقال: «إذن هذا يحسم الأمر على ما أعتقد. أرى أنكم لم تتركوا لي خيارًا.»

تساءلت إيلي في حماس: «هل ستُجري العملية؟»

أجابها الطبيب: «سأحاول.» ثم سار نحوَ أمادو ديابا ومدَّ إليه يدَيه. وقال: «تعلم أن فُرصتك في النجاة ضئيلة للغاية، أليس كذلك؟»

«بلى، يا سيدي الطبيب. ولكن الفرصةَ الضئيلة للغاية أفضل من الفرصة المعدومة … أشكرك.»

التفت د. تيرنر إلى نيكول. وقال: «سأُقابلك في مكتبي بعد خمس عشرة دقيقة لنراجع خطوات العملية. بالمناسبة يا دكتورة، أيمكنك أن تطلُبي من إحدي آليي التياسو أن تُحضر لنا إبريقًا من القهوة الساخنة؟»

•••

تسبب الاستعداد لإجراء عملية نقل القلب في استعادة د. روبرت تيرنر لذكريات كان قد دفنها في أعماق عقله. حتى إنه ظنَّ، لعدة ثوانٍ مرةً أو مرتَين، أنه عاد حقًّا إلى مركز دالاس الطبي. كانت الذكرى المُسيطرة عليه هي ذكرى السعادة التي كانت تُرفرف على حياته في تلك الأيام الماضية التي عاشها على الكوكب الآخر. كان يُحب عمله ويُحب عائلته. وكانت حياته تكاد تكون مثالية.

كتب د. تيرنر ود. ويكفيلد بعناية سلسلة الإجراءات التي سيَتَّبعانها قبل أن يَبدآ تنفيذ العملية. وأثناء العملية نفسها كانا يتوقفان بعد كل مرحلةٍ أساسية ليتأكَّدا من دقة الخطوات التي اتُّخذت. لم تقع أي أحداث غير مُتوقَّعة قط أثناء العملية. وعندما نزع د. تيرنر قلب أمادو القديم قلَبَه لترى نيكول وإيلي (أصرَّت إيلي على البقاء معهما لتُقدم المساعدة إن احتاجا إليها) العضلات التي أصابها ضمور شديد. كان قلب الرجل تالِفًا. وكان على الأرجح سيموت في غضون أقلِّ من شهر.

ساعدت مضخَّة آلية في الحفاظ على استمرار الدورة الدموية للمريض عندما كان الطبيب «يُركب» القلب الجديد في الشرايين والأوردة الرئيسية. كانت تلك هي أصعب وأخطر مرحلة من مراحل العملية. وعلى مدار السنوات التي قضاها د. تيرنر في العمل طبيبًا، لم يسبق تنفيذ هذا الجزء من العملية بأيدٍ بشرية على الإطلاق.

ساهمت العمليات اليدوية الكثيرة التي أجراها د. تيرنر طوال السنوات الثلاث التي قضاها في عدن الجديدة في الارتقاء بمهاراته الجراحية كثيرًا. حتى إنه اندهش هو نفسه من مدى السهولة التي أوصل بها القلب الجديد بالأوعية الدموية الحيوية لأمادو.

قرب نهاية العملية، بعد الانتهاء من كل المراحل الخطرة، عرضت نيكول عليه أن تقوم بما تبقى من مهام. ولكنه هزَّ رأسه نفيًا. فقد كان مصرًّا على إنهاء العملية بنفسه بالرغم من أن الفجر كاد يبزغ على المستعمرة.

هل كان التعب الشديد هو المُتسبِّب في الخداع البصري الذي شعر به د. تيرنر أثناء الدقائق الأخيرة من العملية؟ أم أن السبب في هذا هو ارتفاع مستوى الأدرينالين لأنه أدرك أن العملية ستنجح؟ أيًّا كان السبب، المُهم هو أن د. تيرنر كان يرى تغيُّراتٍ ملحوظة في وجه أمادو ديابا أثناء المراحل الأخيرة من العملية. فقد تحوَّل وجه المريض ببطءٍ أكثر من مرة أمام عينَيه بحيث صارت ملامحه تُشبه ملامح كارل تايسون، ذلك الشاب الأسود الذي قتله د. تيرنر في دالاس. بعد أن أنهى د. تيرنر خِياطة إحدى الغرز رفع بصره إلى أمادو فأخافته ابتسامة كارل تايسون الوقحة. فتح الطبيب عينَيه وأغمضهما، ثم أعاد النظر إلى الوجه، ولكنه لم يجد أحدًا على منضدة العمليات سوى أمادو ديابا.

بعد أن تكرَّرت هذه الظاهرة أكثر من مرة سأل د. تيرنر نيكول إذا ما كانت تلحظ أي شيءٍ غريب في وجه أمادو. فأجابته: «لا شيء سوى ابتسامته. لم أرَ قطُّ شخصًا يبتسِم هكذا وهو تحت تأثير التخدير.»

عندما انتهت العملية وقالت الآليات التياسو إنَّ كل مؤشرات المريض الحيوية مُمتازة، شعر الدكتور تيرنر ونيكول وإيلي بالابتهاج رغم إرهاقهم. ودعا الطبيب المرأتَين إلى مكتبه لاحتساء القهوة على سبيل الاحتفال. وحتى تلك اللحظة لم يكن قد أدرك بعدُ أنه سيطلُب يد إيلي.

•••

أذهلت المفاجأةُ إيلي. حتى لم يعُد بوسعها سوى التطلُّع إلى الطبيب. نظر تيرنر إلى نيكول ثم عاد يرنو إلى إيلي. وقال: «أعلم أنني فاجأتكما. ولكنَّني واثق من قراري. فقد فكرت كثيرًا. ووجدت أني أُحبك. أريد الزواج منك. وكلما كان أسرع كان أفضل.»

ساد الهدوء شِبه التامِّ الغرفةَ دقيقةً تقريبًا. وأثناء مدة الصمت هذه اتَّجه الطبيب إلى باب مكتبه وأغلقه. وفصل الهاتف. همَّت إيلي بأن تقول شيئًا. لكنه قال لها بانفعال: «لا، لا تقولي شيئًا الآن. فهناك شيء آخَر يجب أن أقوم به أولًا.»

جلس على كُرسيه وأخذ نفسًا عميقًا. ثم قال بهدوء: «شيءٌ كان يجب أن أقوم به منذ وقتٍ طويل. فمِن حقِّكما أن تعرفا الحقيقة الكاملة عني.»

اغرورقت عينا د. تيرنر بالدموع قبل حتى أن يبدأ في رواية قصته. وتهدَّج صوته في بداية حديثه، ولكنه تمالك نفسه وبدأ الحكاية.

«كنتُ في الثالثة والثلاثين من عمري، وكنتُ أنعم بسعادة جارفة. إذ كنتُ قد أصبحت حينئذٍ أحد أنجح جرَّاحي القلب في أمريكا، ووهبَني الله زوجةً جميلة مُحبة، وابنتَين في الثالثة والثانية من عمرهما. كنا نعيش في قصرٍ به حمام سباحة يقع في ضاحية راقية تقع على بُعد نحو أربعين كيلومترًا شمال دالاس بولاية تكساس.

ذات ليلة عُدت من المستشفى إلى البيت، وكان الوقت متأخرًا جدًّا لأنني كنتُ أُشرف على عملية قلب مفتوح دقيقة للغاية، فأوقفني حراس الأمن على بوابة الضاحية. وكانوا يتصرَّفون بارتباكٍ وكأنهم في حيرة من أمرهم، ولكنهم سمحوا لي بالدخول بعد إجراء مكالمةٍ هاتفية وإلقاء بعض النظرات الغريبة باتجاهي.

رأيتُ سيارتَي شرطة وسيارة إسعاف متوقفة أمام منزلي. وكانت عربات التليفزيون منتشرة بالقُرب من بيتي في الزقاق الذي يقع خلف منزلي. وعندما انعطفت بالسيارة لِأتَّجه إلى الطريق الداخلي الذي يُفضي إلى البيت أوقفني شرطي. وقادني إلى بيتي، ومصابيح التصوير تنبثق من كل مكان، والأضواء الصادرة من كاميرات التليفزيون تُعمي عينيَّ.

كانت زوجتي ترقد تحت غطاءٍ على سريرٍ نقَّال في الردهة الرئيسية بجوار السُّلَّم المؤدِّي إلى الطابق الثاني. وكانت مذبوحة. وسمعتُ أشخاصًا يتحدثون في الطابق العلوي فهُرعت إلى أعلى لأرى ابنتيَّ. كانت الفتاتان لا تزالان راقدتَين في المكان الذي قُتِلَتا فيه، كريستي على أرض الحمام، وأماندا على سريرها. فالوغد ذبحهما أيضًا.»

وفجأة راح د. تيرنر يبكي وينتحِب في أسًى شديد. ثم تابع قائلًا: «لن أنسى أبدًا هذا المشهد المُريع. لا بدَّ أنَّ أماندا قُتلت وهي نائمة لأنه لم يكن في جسدها أي آثارٍ أخرى غير الجرح الذي أدَّى إلى مَقتلها … أي نوع من البشر هذا الذي يقتل هذه المخلوقات البريئة؟»

كانت دموع د. تيرنر تنهمِر على وجنتَيه. وكان صدره يعلو وينخفض بعُنف. لم ينبس ببنت شفة عدة ثوان. فذهبت إيلي بهدوءٍ إلى جوار كُرسيه وجلست على الأرض ممسكةً بيده.

«طوال الأشهر الخمسة اللاحقة ظللتُ أعاني من صدمة قوية أفقدتني إحساسي بما حولي. إذ كنتُ عاجزًا عن العمل والأكل. وحاول الناس مُساعدتي: الأصدقاء والأطباء النفسيون وغيرهم من الأطباء، لكن محاولاتهم باءت بالفشل. إذ لم أستطِع أن أتقبل فكرة مقتل زوجتي وابنتَيَّ.

وجدت الشرطة مُشتبهًا فيه في أقل من أسبوع. كان اسمه كارل تايسون. وهو شاب أسود في الثالثة والعشرين من عمره كان يعمل لدى متجر قريب في توصيل البقالة إلى المنازل. كانت زوجتي دائمًا ما تشتري عبر التليفزيون. وقد جاء كارل تايسون إلى منزلنا مرات ومرات من قبل — أتذكر أنني رأيتُه بنفسي مرة أو مرتين — ولا شك أن منزلنا كان مألوفًا لديه.

رغم حالة الذهول التي كانت تسيطر عليَّ في تلك المدة، كنتُ أتابع ما يحدث في التحقيق الذي يجرى حول الحادث. في البداية بدت أركان الجريمة واضحة. إذ وُجِدت بصمات حديثة لكارل تايسون على الأثاث في جميع أنحاء المنزل. وكان قد دخل إلى ضاحيتنا عصر ذلك اليوم ليقوم بتوصيل طلب. وكانت معظم مجوهرات ليندا مفقودة، لذلك كان دافع السرقة واضحًا. وبناءً على هذا، توقعت أن يُدان المُشتبَه فيه ويُعدَم بسرعة.

غير أن المسألة سرعان ما اكتنفها الغموض. إذ لم تعثر الشرطة قطُّ على أي قطعةٍ من قطع المجوهرات. ومع أن الحراس سجلوا دخول كارل تايسون إلى الضاحية وخروجه منها في السجل الرئيسي فإنه لم يمكث في ضاحيتنا، جرينبراير، سوى اثنتَين وعشرين دقيقة، وهي مدة لا تكفي لتوصيل البقالة والسرقة وارتكاب ثلاثِ حوادث قتل. إضافة إلى هذا، بعد أن قرَّر محامٍ شهير أن يدافع عن تايسون وساعده في إعداد ما سيقوله تحت القَسَم، أصرَّ تايسون على أن ليندا طلبت منه أن ينقل بعض قطع الأثاث عصر ذلك اليوم. وكان هذا تفسيرًا ممتازًا لوجود بصماته في جميع أنحاء المنزل …»

توقف د. تيرنر مفكرًا وقسماته تنطق بالألم. ضغطت إيلي على يدِه برفق فتابع حديثه.

قال: «عندما حان وقت المحاكمة، كانت أطروحة الادعاء تقول إن تايسون أحضر البقالة إلى البيت عصرًا، واكتشف من حديثه مع ليندا أنني سأتغيَّب لإجراء جراحةٍ حتى وقتٍ متأخِّر من تلك الليلة. ولم يكن مُستبعدًا أن تكون زوجتي قد تحدثت مع فتى توصيل الطلبات وذكرت له أنني سأتأخَّر في عودتي، لأنها ودودة وتثِق في الناس بسهولة … على أي حالٍ عاد تايسون — وفقًا لما قاله مُمثل الادعاء — بعد أن أنهى ورديتَه في متجر البقالة. وتسلَّق الحائط الصخري المُحيط بالمجمع السكني بالضاحية وقطع ملعب الجولف. ثم دخل المنزل بنِيَّة سرقة مجوهرات ليندا، وهو يظنُّ أن جميع من بالمنزل نائمون. ويبدو أن زوجتي واجهته فأصابه الذُّعر فقتلَها، ثم قتل الطفلتَين ليضمن عدم وجود شهود على جريمته.

مع أن أحدًا لم يرَ تايسون يعود إلى حيِّنا، كنت أعتقد أن دعوى الادعاء مُقنعة للغاية، وأن الرجل سيُدان بسهولة. فهو لم يستطع إثبات وجوده في مكانٍ آخر وقت وقوع الجريمة. كما أن الطين الذي وُجِد على حذاء تايسون مُطابق تمامًا للطين الذي يُغطي الزقاق الذي لا بد أنه قطعَه ليصِل إلى الجانب الخلفي من المنزل. كما أنه تغيَّب عن عمله مدة يومَين بعد الجريمة. وفضلًا عن ذلك، عند القبض عليه، كان يحمل مبلغًا كبيرًا من النقود قال إنه كسبها في لعبة بوكر.

أثناء مدة الدفاع، بدأتُ أفقد ثِقتي فعلًا في النظام القضائي الأمريكي. فقد حوَّل مُحاميه القضية إلى مشكلةٍ عنصرية مصورًا كارل تايسون على أنه رجل أسود مسكين سيئ الحظ، يتعرَّض للزجِّ به في السجن ظلمًا استنادًا على دليل بالقرينة. ودفع مُحاميه بأن كلَّ ما فعله تايسون في ذلك اليوم من شهر أكتوبر هو توصيل البقالة إلى منزلي. وأضاف أن شخصًا آخر — معتوهًا مجهولًا — تسلَّق سور جرينبراير وسرق المجوهرات ثم قتل ليندا والطفلتَين.

في آخِر يومَين من أيام المحاكمة تأكدت أن تايسون سيحصل على البراءة من خلال ملاحظتي لإيماءات أفراد هيئة المُحلَّفين وتعبيرات وجوههم أكثر من أي شيءٍ آخَر. فجُن جنوني من فرط الغيظ. إذ لم يساور عقلي شكٌّ في أن هذا الشاب هو من ارتكب الجريمة. ولم أستطع أن أحتمِل فكرة أنهم قد يُطلقون سراحه.

طوال مدة المحاكمة — التي استمرَّت ستة أسابيع — كنتُ أذهب إلى المحكمة يوميًّا ومعي حقيبتي الطبية الصغيرة. في البداية كان الحراس يُفتشون الحقيبة في كل مرةٍ أدخل فيها، لكن بعد مدة، صاروا يسمحون لي بالمرور بلا تفتيش، خاصة أن معظمهم كانوا مُتعاطفين معي.

في عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت انتهاء المحاكمة سافرتُ إلى ولاية كاليفورنيا زاعمًا أنَّني مسافر لحضور مؤتمرٍ طبي، ولكنني في الواقع سافرتُ لأشتري بندقية من السوق السوداء يكون حجمُها مناسبًا لوضعِها في حقيبتي الطبية. وكما توقعت، لم يطلُب مني الحرَّاس أن أفتح حقيبتي في يوم النطق بالحكم.

عندما أُعلِنت البراءة ارتفعَت أصوات مَن في قاعة المحكمة. إذ أطلق كل السُّود الذين كانوا في القاعة العلوية صيحات الفرح. وعانق كارل تايسون مُحاميه اليهودي إرفينج بيرنستين. عندها، كنتُ مستعدًّا لتنفيذ ما نويتُه. ففتحتُ حقيبتي وركَّبت البندقية بسرعة ثم قفزت فوق الحاجز وقتلتُهما، أفرغت في كلٍّ منهما طلقةً من طلقات البندقية.»

أخذ د. تيرنر نفَسًا عميقًا وصمَت. ثم أردف قائلًا: «لم أعترف من قبل بأن ما فعلتُه كان خطأ، بل إنني لم أعترِف بذلك بيني وبين نفسي. ولكن في لحظةٍ ما أثناء هذه العملية التي أجريتُها لصديقكما السيد ديابا، فهمتُ بوضوح كم أنَّ غضبي أعمى روحي طوال تلك السنوات … فانتقامي العنيف لم يُعِد إليَّ زوجتي وبنتيَّ. ولم يُسعدني أيضًا، فيما عدا تلك المتعة الحيوانية السقيمة التي شعرتُ بها لحظة أن علمتُ أن تايسون ومحاميه سيَلقيان حتفهما.»

في تلك اللحظة، اغرورقت عينا د. تيرنر بدموع الندم. ورنا إلى إيلي. وقال: «مع أنني قد لا أكون كُفئًا لك، فإنني أُحبك يا إيلي ويكفيلد، وأريد حقًّا أن أتزوَّجك. وآمُل أن تُسامحيني على ما فعلتُه منذ سنوات.»

رفعت إيلي عينيها إلى الدكتور تيرنر وضغطت على يدِه مرةً أخرى. ثم قالت بروية: «ليست لي دراية بالعلاقات العاطفية لأنني لم أمرَّ بتجربة عاطفية من قبل. ولكنني متأكدة أنني أُكِنُّ لك مشاعر رائعة. أنا أُقدرك وأحترمك، بل ربما أُحبك. بالطبع أودُّ أن أستشير والديَّ بهذا الشأن … ولكنني أقول لك نعم يا د. روبرت تيرنر إن لم يعترِضا سيُسعدني أن أتزوَّجك.»

٨

مالت نيكول فوق الحوض وأنعمت النظر في وجهها الظاهر في المرآة. مرَّت بأصابعها على التجاعيد التي تُغطي المنطقة الواقعة تحت عينَيها وصفَّفت غُرَّتها الرمادية. ثم قالت لنفسها: أوشكتِ أن تُصبحي عجوزًا. ابتسمت. وقالت بصوت عالٍ: «إنني أهرم، إنني أهرم، سأترك ثنية سروالي مقلوبة (في إشارة إلى قصيدة «أغنية حُب جيه ألفريد بروفروك» للشاعر الأمريكي تي إس إليوت).»

ضحكت نيكول وابتعدت عن المرآة ثم استدارت لترى كيف يبدو جسدها من الخلف. كان الثوب الأخضر المائل إلى الصفرة الذي تنوي أن ترتديه في حفل زفاف إيلي مضبوطًا على جسدها الذي كان لا يزال مُتناسقًا ورياضيًّا رغم مرور كل هذه السنوات. قالت لنفسها باستحسان: ليس سيئًا. على الأقل لن تشعُر إيلي بالإحراج منِّي.

كان على المنضدة الموجودة بجوار سريرها صورتان أحضرهما كينجي واتانابي، وتظهر فيهما جنيفياف وزوجها الفرنسي. بعد أن عادت نيكول إلى غرفة النوم أمسكت الصورتَين ونظرت فيهما. ثم قالت لنفسها وقد داهمَها شعور مباغِت بالحزن: لم أستطع أن أحضر حفل زفافك يا جنيفياف. بل لم ألتقِ بزوجك قط.

راحت تُغالب انفعالاتها، واتجهت بسرعةٍ إلى الجانب الآخر من الغرفة. حيث أنعمت النظر قليلًا في صورة سيمون ومايكل أوتول التي التُقِطت يوم زفافهما في النود. وقالت بينها وبين نفسها: تركتك بعد أسبوع فقط من زفافك … كنتِ صغيرة جدًّا جدًّا يا سيمون، ولكنك أنضج من إيلي في نواحٍ كثيرة …

لم تترك نفسها تنجرِف في تيار الذكرى. إذ كان ينتابها أسًى شديد عندما تتذكَّر سيمون أو جنيفياف. ورأت أنه من المُفيد كثيرًا أن تُركز على الحاضر. مدَّت نيكول يدَيها وأمسكت بصورة إيلي المُعلقة على الحائط بجوار صور إخوتها التي تظهر فيها بمفردها. وقالت لنفسها: بهذا تكونين ثالث ابنةٍ من بناتي تتزوَّج. لا أكاد أُصدق هذا! أحيانًا تمضي الحياة بسرعة شديدة.

ظهرت سلسلة من الصور لإيلي في مخيلة نيكول. كان منها صورة الرضيعة الخجول الضئيلة التي ترقد بجوارها في مركبة راما الثانية، وصورة أخرى لوجه إيلي والانبهار يعلوه وهم يتوجَّهون نحو النود في المكوك وهي لا تزال فتاةً صغيرة، وصورتها بملامحها الجديدة وقد صارت في مرحلة المراهقة لحظة الاستيقاظ من النوم الطويل، وفي النهاية رأت إيلي الناضجة وهي تتحدَّث أمام مواطني عدن الجديدة في ثباتٍ وشجاعة مُدافعةً عن برنامج د. تيرنر. كانت رحلة من المشاعر القوية أخذتها إلى الماضي.

أعادت نيكول صورة إيلي إلى موضعها على الحائط وبدأت تخلع ملابسها. وما إن انتهت من تعليق ثوبها في خزانة الملابس حتى سمعت صوتًا غريبًا يُشبه صوت البكاء، وكان خافتًا للغاية. تعجبت قائلة في نفسها: ما هذا؟ ثم جلستُ لحظاتٍ بلا حراك، ولكنها لم تسمع أي صوتٍ آخر. لكن عندما وقفت راوَدَها إحساس غريب بأن جنيفياف وسيمون معها في الغرفة. فتلفتت حولها بسرعة ولكنها وجدت أنها بمفردها.

سألت نفسها: ما الذي يحدُث لي؟ هل أرهقتُ نفسي في العمل في المدة الماضية؟ هل تزامُن قضية مارتينيز مع الزفاف تسبَّب في إرهاقي إلى هذا الحد؟ أم أن هذه سلسلة أخرى من نوباتي النفسية؟

حاولت نيكول أن تُهدئ نفسها فأخذت تتنفَّس ببطءٍ وعُمق. لكنها لم تستطع أن تنفض عن نفسها الإحساس بأن جنيفياف وسيمون كانتا معها في الغرفة فعلًا. فوجودهما بجوارها كان قويًّا حتى إن نيكول اضطرَّت إلى كبح نفسها لكيلا تتحدَّث معهما.

تذكَّرت نيكول بوضوح النقاشات التي دارت بينها وبين سيمون قُبيل زواجها بمايكل أوتول. وقالت لنفسها: ربما حضَرَتا لهذا السبب. جاءتا لتُذكِّراني بأنني كنتُ مشغولة جدًّا في عملي حتى إنني لم أتحدَّث مع إيلي حول زفافها. ضحكت نيكول في توتر ولكنَّها ظلَّت تشعُر بقشعريرة في ذراعَيها.

قالت نيكول لصورة إيلي ولرُوحَي جنيفياف وسيمون: «اغفرنَ لي يا حبيباتي. أعدكما أنني غدًا …»

في هذه المرة كانت الصرخة لا تُخطئها أُذن. فتجمَّدت نيكول في غرفة نومِها وسرى الأدرينالين في جسدها. وفي ثوانٍ كانت تجري عبر المنزل إلى غرفة المكتب التي كان ريتشارد يعمل فيها.

قالت قبل أن تصِل إلى باب الغرفة: «ريتشارد، أسمعت …»

توقفت قبل أن تُتمَّ العبارة. فقد كانت الفوضى تعمُّ غرفة المكتب. وكان ريتشارد جالسًا على الأرض وسط شاشتَين وكومة غير منظمة من المعدات الإلكترونية. وكان يحمل الأمير هال، الآلي الصغير، في إحدى يدَيه والكمبيوتر المحمول المُحبَّب إليه الذي حصل عليه أثناء بعثة نيوتن في اليد الأخرى. وكان هناك ثلاثة من الآليين يميلون عليه، اثنتان من الجارسيا وأينشتاين مُفكك جزئيًّا.

قال ريتشارد بلا مبالاة: «آه، مرحبًا يا حبيبتي. ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ظننتك نائمة.»

قالت: «ريتشارد، أنا على يقينٍ من أنني سمعت صرخة أحد المخلوقات الطائرة. منذ حوالي دقيقة واحدة فقط. وكان الصوت قريبًا.» تردَّدت نيكول وهي تُحاول أن تُقرر أتُخبره بزيارة جنيفياف وسيمون أم لا.

عقد ريتشارد حاجبَيه. وردَّ عليها: «لم أسمع شيئًا.» سأل الآليين: «أسمعتُم شيئًا؟» هزوا رءوسهم جميعًا وفيهم الأينشتاين الذي كان صدرُه مفتوحًا ومُوصلًا بالشاشتَين الموضوعتَين على الأرض عن طريق أربعة كابلات.

كررت نيكول ما قالته: «أنا على يقينٍ من أنني سمعتُ شيئًا.» صمتت لحظة. ثم سألت نفسها: هل هذه علامة أخرى تدلُّ على أنني أُعاني من ضغط رهيب؟ ألقت نيكول نظرةً على الفوضى التي تعمُّ الأرض أمامها. وسألت ريتشارد: «بالمناسبة يا حبيبي ماذا تفعل؟»

قال ريتشارد وهو يُحرِّك يدَيه حركة نصف دائرية مبهمة: «تقصدين هذا؟ آه، لا، ليس شيئًا مهمًّا. مجرد مشروع أقوم به.»

قالت بسرعة: «إنك تكذب عليَّ يا ريتشارد ويكفيلد. هذه الفوضى على الأرض لا يمكن ألا تكون شيئًا مهمًّا؛ أعرفك حتى إني لا أُصدق هذا. الآن، ما هو هذا الأمر الشديد السرية …»

غيَّر ريتشارد ما يظهر على الشاشات الثلاث وأخذ يهزُّ رأسه بقوة. وتمتم قائلًا: «لا يروقني هذا. على الإطلاق.» رفع عينَيه إلى نيكول. وسأل: «هل حدث ودخلتِ على ملفات البيانات الحديثة الخاصة بي التي أخزنها في الكمبيوتر المركزي العملاق؟ ولو عن غير قصد؟»

«كلَّا، كلَّا بالطبع. بل لا أعرف شفرة الدخول الخاصة بك … ولكن ليس هذا ما أريد أن أتحدث عنه …»

فقاطعها قائلًا: «شخصٌ ما دخل عليها.» أدخل ريتشارد بسرعةٍ برنامجًا فرعيًّا أمنيًّا يُحدد الأخطاء، وأخذ ينظر إلى إحدى الشاشات. ثم تابع قائلًا: «على الأقل خمس مراتٍ في الأسابيع الثلاثة الماضية. هل أنتِ متأكدة من أنك لم تدخُلي على هذه الملفات؟»

قالت وهي تضغط على الكلمات لتؤكِّد ما تقوله: «نعم يا ريتشارد. ولكنك ما زلتَ تُحاول أن تُغير الموضوع. أريدك أن تُخبرني عما تفعله؟»

وضع ريتشارد الأمير هال على الأرض أمامه وتطلَّع إلى نيكول. ثم قال بعد لحظةٍ من التردد: «لستُ مُستعدًا لأن أخبرك الآن يا حبيبتي. أرجوك أعطني مهلة يومَين.»

بدت الحيرة على نيكول. لكن تهلَّل وجهُها في النهاية. وقالت: «حسنًا يا حبيبي إن كانت هذه هدية زفاف إيلي فسأنتظر بكل سرور.»

عاد ريتشارد إلى عمله. وارتمت نيكول على المقعد الوحيد الذي كان يخلو من الأشياء المُتراكمة. وأخذت تُشاهد زوجها، وأدركت عندئذٍ كم هي مُتعبة. وأقنعت نفسها بأنها تخيَّلت الصرخة نتيجةً لشعورها بالإرهاق.

قالت نيكول بصوتٍ خفيض بعد دقيقة أو دقيقتَين: «حبيبي.»

ردَّ عليها وهو يرفع بصرَه إليها من على الأرض: «نعم.»

«ألم تتساءل قطُّ عن طبيعة ما يحدُث هنا في عدن الجديدة؟ أعني، لماذا لم يتدخل صانعو راما في شئوننا على الإطلاق؟ معظم المُستعمرِين يعيشون حياتهم دون أن يتوقفوا ليتأملوا فكرة أنهم يسافرون على متن سفينة فضاء تنتقل بين نجوم المجرة وهي من صنع فضائيين. كيف يكون هذا مُمكنًا؟ ولماذا لا يظهر فجأة الرجل النسر أو أي مظهر آخر من مظاهر التكنولوجيا الفضائية الفائقة التي تُضارع الرجل النسر في الروعة؟ ربما في هذه الحالة نجد لمشاكلنا التافهة …»

صمتت نيكول عندما بدأ ريتشارد يضحك. وقالت: «ما الذي يضحكك؟»

«كلامك يُذكرني بحوارٍ دار بيني وبين مايكل أوتول ذات مرة. كان مُحبطًا لأني لم أتقبل بدون دليلٍ ما شهده الحواريون وأخبروا به. ثم قال لي كان يجب أن يعلم الله أن الإنسان يميل إلى الشكِّ بطبعه، وكان يجب أن يُرسِل المسيح إلى الأرض أكثر من مرةٍ بعد بعثه.»

ردت نيكول: «ولكن ذلك الموقف كان مختلفًا تمامًا.»

قال ريتشارد: «حقًّا؟ إن وصفنا للنود وللرحلة الطويلة التي قُمنا بها بسرعاتٍ نسبية لا يقلُّ عما قالَه المسيحيون الأوائل عن المسيح من حيث صعوبة التقبُّل … فمن المُريح أكثر للمستعمرين الآخرين أن يُصدقوا أن هذه السفينة صنعت لتكون جزءًا من تجربة تجريها وكالة الفضاء العالمية. وهناك قلَّة منهم لدَيهم دراية كافية بالعلوم بحيث يتمكنون من استيعاب أن راما تفوق قدراتنا التكنولوجية بمراحل.»

صمتت نيكول لحظة. ثم قالت: «إذن لا يُوجَد ما يُمكننا أن نفعله لنُقنعهم …»

قاطعها رنين ثلاثي يدلُّ على أن المكالمة الواردة عاجلة. فأسرعت لتُجيب على الهاتف. وظهر وجه ماكس باكيت على الشاشة وقد بدا عليه القلق.

قال: «الموقف خطير خارج المُعتقَل. فهناك حشد غاضب من الناس معظمهم من هاكون ويبلغ عددهم نحو سبعين أو ثمانين شخصًا. وهم يريدون الوصول إلى مارتينيز. لقد حطَّموا اثنتَين من الجارسيا الآليات، وهاجموا ثلاثة آليين آخرين. يُحاول القاضي ميشكين التفاهُم معهم ولكنهم في حالةٍ خطيرة. يبدو أن ماريكو كوباياشي انتحرت منذ نحو ساعتَين. فأسرتها بالكامل هنا وفيهم والدها.»

•••

ارتدت نيكول ملابسها الرياضية في أقلَّ من دقيقة. فحاول ريتشارد أن يُجادلها ولكن دون جدوى. إذ قالت وهي تركب درَّاجتها: «كان القرار قراري أنا. ويجب أن أكون أنا من يُواجِه ما يترتَّب عليه من نتائج.»

قادت نيكول درَّاجتها ببطءٍ في الممر المؤدي إلى طريق الدراجات الرئيسي، ثم بدأت تقود بسرعةٍ شديدة. إذا سارت بالسرعة القصوى فستصِل إلى مركز الإدارة في أربع أو خمس دقائق، أي أن الذهاب بالدراجة يَستغرق أقل من نصف الوقت الذي سيستغرقه الذهاب بالقطار في هذا الوقت من الليل. قالت نيكول لنفسها: كان كينجي مُخطئًا. كان علينا أن نعقد مؤتمرًا صحفيًّا هذا الصباح. حينها، كان سيُمكنني أن أشرح قراري.

تجمَّع نحو مائة من المستعمرين في الميدان الرئيسي من المدينة المركزية. كانوا يتحركون بغير نظامٍ أمام مُعتقل عدن الجديدة الذي ظلَّ بدرو مارتينيز محتجزًا فيه منذ اتهامه باغتصاب ماريكو كوباياشي. كان القاضي ميشكين واقفًا أعلى سُلم المعتقل. كان يتحدث إلى الحشد الغاضب في البوق. وكان عشرون آليًّا، أغلبهم من الجارسيا وعدد من اللينكولن والتياسو، يشبكون أذرعهم أمام القاضي ميشكين ليمنعوا الحشود من صعود السُّلَّم والوصول إليه.

كان القاضي الروسي ذو الشعر الرمادي يقول: «الآن يا رفاق، إذا كان بدرو مارتينيز مُذنبًا بالفعل فسنُدينه. ولكن دستورنا يكفُل له حق الحصول على محاكمة عادلة …»

صاح فردٌ من الجماهير: «اصمت أيها العجوز.»

قال صوتٌ آخر: «نريد مارتينيز.»

أمام مسرح الأحداث، أقصى جهة اليسار، كان ستةٌ من الشباب الشرقيين يضعون اللمسات النهائية على مشنقةٍ مؤقتة. وهللت الجماهير عندما ربط واحد منهم حبلًا سميكًا به أنشوطة في الحاجز الأفقي. أخذ شاب ياباني قوي البنية في أوائل العشرينيات يُزاحم للوصول إلى طليعة الحشد. وقال: «ابتعد عن طريقنا أيها العجوز. وخذ هؤلاء الميكانيكيين الأغبياء معك. فمعركتنا ليست معك. نحن هنا لنضمن حصول أُسرة كوباياشي على العدالة.»

صاحت شابة: «تذكَّروا ماريكو.» دوَّى صوت تحطُّم عندما ضرب صبيٌّ أحمر الشعر إحدى الجارسيا على وجهها بمضرب بيسبول غليظ مصنوع من الألومونيوم. فتحطمت عيناها وتشوَّه وجهها حتى لم يعُد من المُمكن تمييز ملامحها، ومع هذا لم يصدُر منها أيُّ ردِّ فعل، ولم تترك مكانها في الطوق المضروب عند السُّلَّم.

قال القاضي ميشكين في البوق: «لن يردَّ الآليون على هجومكم بهجومٍ مُماثل. فقد بُرمِجوا على رفض اللجوء إلى العنف. ولكن لا طائل من تدميرهم. فهذا عنف أحمق.»

جاء شخصان من هاكون جريًا وعندما وصلا إلى الميدان طرأ تغيُّر مؤقَّت في اهتمام الحشد. وبعد هذا بأقلَّ من دقيقة، هلل الحشد الجامح لظهور زندَين خشبِيَّين هائلَين يحمل كلًّا منهما اثنا عشر شابًّا. قال الشاب الياباني المُتحدث باسم الحشد: «الآن سنزيح الآليين الذين يحمون القاتل مارتينيز عن طريقنا. هذه آخِر فرصة لك أيها العجوز. ابتعِد عن الطريق قبل أن يُصيبك أذى.»

أسرع العشرات من الحشد ليأخذوا مواقعهم حول الزندَين الخشبِيَّين لاستخدامهما لدكِّ الطوق المؤلَّف من الآليين. وفي هذه اللحظة وصلت نيكول ويكفيلد إلى الميدان راكبةً دراجتها.

قفزت من على الدراجة بسرعةٍ واخترقت طوق الآليِّين وصعدت السُّلم بسرعة لتقف بجوار القاضي ميشكين، ثم صاحت في البوق قبل أن يتعرَّف الحشد على هويتها: «يا هيرو كوباياشي، لقد جئتُ لأشرح لك سبب عدم انعقاد محاكمةٍ ترأسها هيئة مُحلَّفين لمحاكمة بدرو مارتينيز. هل لك أن تتقدَّم حتى أستطيع رؤيتك؟»

تقدَّم العجوز كوباياشي، الذي كان واقفًا بعيدًا عند جانب الميدان، ببطءٍ مُتجهًا إلى أسفل السُّلَّم أمام نيكول.

قالت نيكول باليابانية: «يا سيد كوباياشي، يؤسِفني حقًّا سماع نبأ وفاة ابنتك …»

صاح شخص ما بالإنجليزية: «منافقة»، وبدأت تسري همهمة بين الحشد.

واصلت نيكول حديثها باليابانية قائلةً: «باعتباري أُمًّا، أستطيع أن أتخيَّل مدى فظاعة فقْد أحد الأبناء.»

انتقلت إلى الحديث بالإنجليزية وخاطبت الجماهير قائلةً: «الآن دعوني أشرح قراري لكم جميعًا. ينصُّ دستور عدن الجديدة على أنَّ لكلِّ مواطن الحق في الحصول على «محاكمة عادلة». وفي جميع القضايا التي مرَّت علينا منذ تأسيس المستعمرة، كانت الاتهامات الجنائية تستدعي عقد محكمة ترأسها هيئة مُحلَّفين. لكن في حالة السيد مارتينيز، أنا مؤمنة بأننا لن نجد هيئة مُحلَّفين غير مُتحيزة بسبب اتخاذ القضية بعدًا جماهيريًّا.»

قاطعت عاصفة من الصفير وصيحات الاستهجان نيكول مدة قصيرة. وبعد أن هدأت تابعت قائلةً: «دستورنا لا يُحدِّد ما يجب علينا فعله لنضمن عقد «محاكمة عادلة» في حالة غياب هيئة محلَّفين من نفس العرق. غير أن قضاتنا قد اختِيروا لتنفيذ القانون وتلقَّوا تدريبًا على البتِّ في القضايا على أساس الأدلة المتاحة. ولهذا أوكلت اتهام مارتينيز إلى اختصاص محكمة عدن الجديدة الخاصة. فهناك يُمكن دراسة كل الأدلة بعناية، بما فيها بعض الأدلة التي لم يُعلَن عنها حتى الآن قط.»

ردًّا على هذا، صاح السيد كوباياشي المكلوم: «ولكنَّنا جميعًا نعرف أن مارتينيز مُذنب. بل إنه أقرَّ بأنه ضاجَع ابنتي. ونعرف كذلك أنه اغتصب فتاةً في نيكاراجوا عندما كنَّا على الأرض … لماذا تُدافعين عنه؟ إني أُطالب بحصول أُسرتي على العدالة.»

بدأت نيكول تُجيب: «لأن القانون …»، لكن الحشد أسكتها.

«نُريد مارتينيز. نريد مارتينيز.» أخذ هذا الهتاف المنغَّم يرتفع بينما عاد الناس المُحتشدون في الميدان يرفعون الزندَين الخشبِيَّين الهائلَين اللذَين ألقَوهما على الرصيف بعد ظهور نيكول. وبينما كان الحشد يُحاول رفع الزندَين الخشبِيَّين لدكِّ الآليين، اصطدم أحد الزندَين عن غير قصدٍ بالنصب التذكاري الذي يظهر فيه موقع راما في السماء. فتبعثرت الكرة وسقطت الأجزاء الإلكترونية التي تُمثِّل النجوم المجاورة على الرصيف. وتحطَّم الضوء المُومِض الصغير الذي يُمثل راما نفسها.

صاحت نيكول في البوق: «يا مُواطني عدن الجديدة، اسمعوني. هناك شيء عن هذه القضية لا يعلمه أيٌّ منكم. إن أنصتُّم …»

صاح الشاب ذو الشعر الأحمر الذي ضرب الجارسيا الآلية بمضرب البيسبول: «اقتلوا الزنجية الحقيرة.»

حدَّقت نيكول في الشاب ونيران الغضب مشتعلة في عينَيها. وصاحت: «ماذا قلت؟»

سكتت الهتافات فجأة. وابتعد الحشد عن الشاب. وتلفَّت حوله في توتُّرٍ وابتسمَ ابتسامة عريضة. وكرَّر ما قاله: «اقتلوا الزنجية الحقيرة.»

نزلت نيكول السُّلَّم في غمضة عين. وتنحَّى الحشد جانبًا وهي تتَّجِه مباشرةً نحو الشاب ذي الشعر الأحمر. وعندما صارت على بُعد أقل من مترٍ من خصمها قالت وفتحتا أنفِها تتَّسعان من فرط الغضب: «قُلها مرةً أخرى.»

بدأ يقول: «اقتلوا …»

صفعته بقوة. فتردَّد صدى الصفعة في الميدان، ثم استدارت على نحوٍ مفاجئ وبدأت تتَّجِه نحو السُّلم، ولكن الأيدي أخذت تتجاذَبها من كلِّ جانب. ورفع الشابُّ المصدوم قبضته …

وفي هذه اللحظة، انطلَق دويُّ رصاصتَين هزَّ الميدان. فبينما كان الجميع يُحاولون اكتشاف ما يحدث، أُطلِقَت رصاصتان أخرَيان في السماء فوق رءوس الحشد. وقال ماكس باكيت في البوق: «هذا أنا وبندقيتي. الآن، أرجو منكم ترك سيادة القاضية تمرُّ … نعم هكذا … وبعدَها توجَّهوا إلى بيوتكم، هذا سيكون أفضل لنا جميعًا.»

حرَّرت نيكول نفسها من الأيدي المُمسكة بها، لكنَّ الحشد لم يفترق. رفع ماكس البندقية ووجَّهها إلى العقدة السميكة الموجودة في الحبل فوق الأنشوطة المُعلقة على المشنقة المؤقتة وأطلق النار مرةً أخرى. تمزَّق الحبل إربًا ووقعت أجزاء منه على الجماهير.

قال ماكس: «أيها الناس! إن سلوكي ليس راقيًا كسلوك هذين القاضِيَين. وأنا أعرف أنني على أي حالٍ سأقضي بعض الوقت في المُعتقَل لأنني انتهكتُ قوانين استخدام البنادق في المستعمرة. وأكره أن أُضطَرَّ إلى قتْل بعضكم أيضًا.»

صوب ماكس بندقيتَه نحو الحشد. فتراجَع الجميع تلقائيًّا. وأطلق ماكس رصاصاتٍ طائشة فوق رءوسهم، وضحك من أعماق قلبه عندما بدأ الناس يركضون مُبتعدِين عن الميدان.

•••

لم يغمض لنيكول جفن. أخذت تتذكَّر نفس المشهد مرارًا وتكرارًا. ظلَّت ترى نفسها تشقُّ طريقها بين الحشد وتصفع الشاب ذا الشعر الأحمر. قالت لنفسها: وهذا يجعلني مثله.

قال ريتشارد: «ما زلتِ مستيقظة، أليس كذلك؟»

«ممم!»

«هل أنت بخير؟»

مرَّت لحظات من الصمت. ثم أجابت نيكول: «لا يا ريتشارد. لستُ بخير … أنا مستاءة بشدة من نفسي لأنني صفعتُ هذا الفتى.»

قال: «بالله عليك. كفِّي عن انتقاد نفسك. لقد كان يستحقُّ هذا. فقد أهانك أسوأ إهانة، وأمثاله لا يفهمون أي لغةٍ سوى لغة القوة.»

اقترب ريتشارد منها وأخذ يُدلِّك ظهرها. قال: «يا إلهي، لم أرك بهذا التوتر من قبل. إن عضلات جسدك كلها مشدودة.»

قالت نيكول: «أشعر بالقلق. يُراوِدُني شعور مريع بأن نسيج حياتنا هنا في عدن الجديدة على وشك أن ينقض … وأن كل ما قمتُ به أو أقوم به حاليًّا يذهب سُدًى.»

«لقد بذلتِ قصارى جهدك يا حبيبتي. وأعترف أنني مُندهش من مثابرتك.» ظل ريتشارد يُدلِّك ظهر نيكول برفقٍ شديد. ثم أردف قائلًا: «ولكن يجب عليك أن تتذكَّري أنك تتعامَلين مع بشر. يمكنك أن تنقليهم إلى عالمٍ آخر وتمنحيهم جنة، ولكنهم يذهبون إليها وهم مُحمَّلون بمخاوفهم وهمومهم وميولهم الثقافية. العالم الجديد لن يُصبح جديدًا حقًّا إلا إذا كانت عقول البشر الذين يعيشون فيه بيضاء مثل أجهزة الكمبيوتر الجديدة المُجردة من البرامج ونظُم التشغيل، بل مجرد مجموعة من الإمكانيات غير المُستغلة.»

رسمت نيكول ابتسامةً على وجهها. وقالت: «لستَ متفائلًا يا حبيبي.»

«ولماذا أتفاءل؟ لا يُوحي إليَّ أيُّ شيءٍ مما رأيته هنا في عدن الجديدة أو على الأرض بأن البشرية قادرة على تحقيق الانسجام فيما بينها، فما بالك بتحقيق التوافق مع المخلوقات الأخرى. أحيانًا يستطيع فرد، أو مجموعة، السموَّ فوق العوائق الجينية والبيئية التي يُواجهها جنسنا … ولكن هؤلاء فئة نادرة.»

قالت نيكول بهدوء: «لا أتفق معك. فنظرتك يائسة جدًّا. أومن أن معظم الناس يرغبون بقوة في تحقيق هذا الانسجام. كل ما في الأمر هو أنهم لا يعرفون كيف يقومون بهذا. ولهذا نحتاج إلى مزيدٍ من التعليم. والنماذج الصالحة التي يُقتدى بها.»

«وهل هذا ينطبق على الشاب ذي الشعر الأحمر أيضًا؟ أتؤمِنين بأن التعليم يُمكن أن يخلِّصه من تعصُّبه؟»

«عليَّ أن أومن بهذا يا حبيبي. وإلا … أخشى أنني سأستسلِم.»

همهم ريتشارد همهمةً تقع في مرحلةٍ وُسطى بين الضحكة والسعال.

سألته نيكول: «ما الأمر؟»

أجاب: «كنت أتساءل إن كان المُحارب سيزيف يخدع نفسه بأنه قد يستطيع أن يمنع الجلمود في المرة التالية من التدحرُج إلى أسفل التل.»

ابتسمت نيكول. وقالت: «لا بدَّ أنه كان يؤمِن بأنَّ هناك فرصةً ما أن يبقى الجلمود على القمة وإلا لم يكن ليُرهق نفسه هكذا … هذا رأيي على الأقل.»

٩

بينما كان كينجي واتانابي ينزل من القطار في هاكون، كان مستحيلًا عليه ألا يتذكَّر لقاءً آخر عقدَه مع توشيو ناكامورا منذُ سنوات على كوكبٍ يبعُد عنه مليارات الكيلومترات. حدث كينجي نفسه قائلًا: كان هو من اتَّصل بي هاتفيًّا في تلك المرة أيضًا. وأصرَّ على أن نتكلم بشأن كيكو.

توقَّف كينجي أمام نافذة متجر وعدَّل من وضع ربطة عنقه. وعندما نظر إلى الانعكاس المشوَّش لصورته في النافذة، كان سهلًا عليه أن يتخيل أنه قد عاد مرة أخرى ذلك المراهق المتمسِّك بالمُثل العليا الذي يقطن في كيوتو والذي هو في طريقه للقاء غريمه. قال كينجي لنفسه: لكن هذا كان في الماضي البعيد عندما لم يكن هناك شيء مُعرض للخطر سوى غرورنا. أما الآن فمصير عالمنا الصغير بأكمله …

لم تكن زوجته ناي ترغب في أن يلتقي ناكامورا على الإطلاق. وحثته على الاتصال بنيكول حتى يستأنس برأي آخَر. كانت نيكول أيضًا قد عارضت فكرة عقد أي لقاء بين الحاكم وتوشيو ناكامورا. فقالت: «إنه شخص مُخادع مصاب بجنون العظمة، وهو مجنون بالسلطة. فلا يمكن أن يأتي أي خير من وراء الاجتماع به. إنه لا يبغي إلَّا أن يصِل إلى نقاط ضعفك.»

«لكنه قال إنه يستطيع أن يُهدئ التوتر الذي ساد المستعمرة.»

«وما المقابل يا كينجي؟ احذَر من الشروط التي سيفرضها عليك. فذلك الرجل لا يُعطي بلا مقابل.»

سأل صوت بداخل كينجي وهو يُحدِّق في القصر الضخم الذي بناه زميل طفولته لنفسه: إذن لماذا أتيت؟ أجاب صوت آخر: «لستُ واثقًا. ربما الشرف. أو احترام الذات. شيء ما في أعماق تراثي.»

كان قصر ناكامورا والبيوت المُحيطة به مُشيَّدة من الخشب على الطراز التقليدي المعروف عن كيوتو. كان كلُّ ما في المكان من أسطحٍ من القرميد الأزرق، وحدائق مقلمةٍ بعناية، وأشجار وارفة الظلال، ومماشٍ نظيفة للغاية، بل ورائحة الزهور؛ كل ذلك يُذكِّر كينجي بالمدينة التي جاء منها على الكوكب البعيد.

قابلَتْه على الباب شابَّة جميلة ترتدي صندلًا وكيمونو، انحنت وقالت له بالطريقة اليابانية الرسمية: «تفضل بالدخول.» ترك كينجي حذاءه في رف الأحذية وارتدى صندلًا. لم ترفع الفتاة عينَيها من على الأرض وهي تقوده عبر الغُرف القليلة المُصمَّمة على النمط الغربي في القصر إلى المنطقة المُغطاة بحصير التاتامي، التي يُقال إن ناكامورا يقضي فيها معظم وقت فراغه مع محظياته.

بعد أن سارا قليلًا توقفت الفتاة وفتحت حاجزًا ورقيًّا يُزينه رسمٌ لسِربٍ من طيور الكركي وهي تطير. قالت باليابانية: «تفضل»، وأشارت إليه أن يدخل إلى الغرفة. دلف كينجي إلى الغرفة المفروشة بستِّ حُصر، وجلس القرفصاء على إحدى الوسادتَين أمام منضدة سوداء لامعة مطلية بورنيش اللك. قال كينجي لنفسه: «سوف يأتي متأخرًا. هذا جزء من استراتيجيته.»

دخلت شابة أخرى إلى الغرفة دون أن تُصدر صوتًا حاملةً الماء والشاي الياباني، وكانت هي الأخرى جميلة ورزينة، وترتدي كيمونو أنيقًا فاتح اللون. احتسى كينجي الشاي ببطء وعيناه تجوبان الغرفة. كان في إحدى زوايا الغرفة حاجز خشبي مكون من أربعة ألواح. ولاحظ كينجي، على بعد أمتارٍ قليلة، أنه كان منحوتًا بإتقان. قام من على الوسادة لينظر إليه عن قرب.

كان الجانب المواجِه له يُصور جمال اليابان، فقد خُصِّص كل لوح من الألواح ليعكس جمال فصل من الفصول الأربعة. كان يظهر في الصورة التي تُمثل الشتاء منتجع تزلج في جبال الألب اليابانية تُغطيه أمتار من الثلج، ويظهر في اللوح الذي يصور الربيع أشجار الكرز المزدهرة التي تحف ضفاف نهر كاما في كيوتو. أما الصيف فيُمثله يوم ريفي صافٍ؛ إذ تظهر في الصورة قمة جبل فوجي التي تُكللها الثلوج فوق الريف الأخضر. أما اللوح الذي يُمثل الخريف فتظهر فيه الأشجار المختلفة الألوان التي تُحيط بمقام وضريح أسرة توكوجاوا في مدينة نيكو.

قال كينجي لنفسه وقد شعر فجأة بحنين جارف إلى الوطن: يا لهذا الجمال الخلاب! لقد حاول أن يُحيي في راما العالَم الذي تركناه خلفنا. ولكن لماذا؟ لماذا ينفق أمواله الحقيرة على هذا الفن الرائع؟ إنه رجل غريب ذو شخصية متناقِضة.

وكان الوجه الخلفي من الألواح الأربعة يحكي جانبًا مختلفًا من اليابان. إذ كان يصور بألوانٍ زاهية معركة قلعة أوساكا التي دارت رحاها في بداية القرن السابع عشر، والتي بعدها صار إيه-ياسو توكوجاوا الحاكم العسكري على اليابان دون معارضة. كان يُغطي الحاجز رسومات لأشخاصٍ ما بين محاربي ساموراي يقاتلون، وحاشية بلاط، ذكور وإناث، ينتشرون على أرض القلعة، كما كانت تظهر شخصية اللورد توكوجاوا بحجم أكبر من الآخرين وقد بدا مُنتشيًا بانتصاره. لاحظ كينجي، وهو يبتسِم، أن الحاكم العسكري المنحوت كان يُشبه ناكامورا إلى حدٍّ بعيد.

كان كينجي على وشك أن يعود ويجلس على الوسادة حين انفتح الحاجز ودخل خصمه. قال ناكامورا باليابانية: «آسِف لأنك اضطُررت للانتظار»، مُنحنيًا انحناءة بسيطة باتجاهه.

انحنى كينجي بدوره، وكانت انحناءته سخيفة بعض الشيء لأنه لم يستطع أن يرفع عينَيه من على مُضيفه. فقد كان توشيو ناكامورا مُرتديًا زيَّ الساموراي بالكامل بما فيه السيف والخنجر! قال كينجي لنفسه: كل هذا جزء من خدعة نفسية ما. والهدف منها إرباكي أو تخويفي.

قال ناكامورا باليابانية وهو يجلس على الوسادة المُقابلة لكينجي: «حسنًا، هلَّا بدأنا؟ آه، الشاي لذيذ، أليس كذلك؟»

ردَّ عليه كينجي وهو يحتسي رشفة أخرى من الشاي: «لذيذ للغاية.» كان الشاي رائعًا للغاية. ولكنه قال لنفسه: إنه ليس حاكمًا عسكريًّا عليَّ. يجب أن أُغير هذا الجو قبل أن نبدأ أي نقاش جاد.

قال الحاكم واتانابي بالإنجليزية: «يا سيد ناكامورا، كلانا مشغول. لذا يُهمني أن نُنحي الرسميات جانبًا وندخل مباشرة في صلب الموضوع. قال لي مندوبك على الهاتف هذا الصباح إنك «منزعج» من الأحداث التي وقعت في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وإن لدَيك «اقتراحات إيجابية» للحد من التوتر السائد في عدن الجديدة. لذا جئت لأتحدَّث معك.»

لكن لم يظهر أي تعبير على وجه ناكامورا ولكن نبرة صوته كشفت عن أنه استاء من دخول كينجي في صلب الموضوع. قال: «نسيتُ قواعد السلوك الحميد على الطريقة اليابانية يا سيد واتانابي. من سوء الأدب أن تبدأ حديث عملٍ قبل أن تُثني لمُضيفك على المكان وتسأل عن حاله. وهذا السلوك غير اللائق غالبًا ما يؤدي إلى خلافٍ سيئ يُمكننا تجنُّبه …»

قاطعَه كينجي بلهجةٍ تشي بنفاد الصبر: «آسِف ولكنني لا أحتاج إلى تلقي درس في قواعد السلوك الحميد منك أنت بالذات. كما أننا لسنا في اليابان، بل لسنا على الأرض، وعاداتنا اليابانية القديمة لا تمتُّ لواقعنا بصلة، بالضبط كالملابس التي ترتديها …»

لم يكن كينجي ينوي أن يهين ناكامورا ولكن لم تكن لدَيه استراتيجية أفضل تجعل خصمه يكشف عن نواياه الحقيقية. ويبدو أنه حقَّق مراده إذ نهض ملك المال الثري. وللحظة ظن الحاكم أن ناكامورا سيشهر سيفه.

قال ناكامورا وعيناه تفيضان بالعدوانية: «حسن، سندير الحوار على طريقتك … لقد فقدت السيطرة على المستعمرة يا واتانابي. فالمواطنون مستاءون بشدة من أسلوب قيادتك، ويُخبرني رجالي أن الحديث عن محاسبتك أمام القضاء أو العصيان المسلَّح ضدك، أو كليهما، انتشر في المستعمرة. لقد فشلتَ في معالجتك للقضايا المتعلقة بالبيئة وبفيروس «آر في ٤١»، والآن تأتي القاضية السوداء وتعلن، بعد كل هذا التأخير، أن المغتصِب الزنجي لن يخضع لمحاكمة ترأسها هيئة مُحلَّفين. وقد طلب منِّي بعض الحكماء من المستعمرين، بصفتي أنتمي لنفس الأصول التي تنتمي إليها، أن أتوسط وأحاول إقناعك بالتنحِّي عن الحكم قبل أن تعمَّ الفوضى وتُسفَك الدماء.»

قال كينجي لنفسه وهو يستمع إلى ناكامورا: لا أصدق. لقد فقد الرجل صوابه بالتأكيد. قرَّر الحاكم ألا ينطق إلا بالقليل في هذا الحوار.

سأله كينجي بعد صمتٍ طويل: «إذن فأنت تعتقِد أنه عليَّ أن أستقيل؟»

أجابَه ناكامورا بلهجةٍ صارت مُتعجرفة: «نعم. لكن ليس على الفور. انتظر للغد. فاليوم عليك أن تستغلَّ سُلطتك التنفيذية لتنزع الاختصاص القضائي لقضية مارتينيز من نيكول دي جاردان ويكفيلد. فمن الواضح أنها مُتحيِّزة له. القاضي أيانيلا أو رودريجيز أفضل. اختر أيًّا منهما.» ثم قال وهو يصطنع الابتسام: «لاحظ أنني لا أقول أن تنتقل القضية إلى محكمة القاضي نيشيمورا.»

سأل كينجي: «هل من شيء آخر؟»

«شيء واحد فقط. قل لأولانوف أن ينسحب من الانتخابات. فليست أمامه أي فرصة للفوز ولن يؤدي الاستمرار في هذه الحملة المُسببة للشقاق في المستعمرة إلا إلى زيادة صعوبة تحقيق التعاون بيننا بعد فوز ماكميلان. إذ يجب أن نكون يدًا واحدة. وأنا أتوقع أن تواجه المستعمرة خطرًا شديدًا من الأعداء الذين يقطنون المنطقة السكنية الأخرى أيًّا كانوا. فالكائنات ذات الأرجل، التي تقول إنهم «مراقبون مُسالمون» ما هي إلا فرق استكشاف تابعة لهم …»

اندهش كينجي مما يسمع. كيف أصبح ناكامورا سيئًا بشدة هكذا؟ أم أنه كان هكذا طوال الوقت؟

كان ناكامورا يقول: «… يجب أن أؤكد على أهمية الوقت بالنسبة إليَّ خاصة فيما يتعلق بقضية مارتينيز واستقالتك. فقد طلبت من السيد كوباياشي وباقي أفراد المجتمع الآسيوي ألا يتصرفوا بتسرُّع، ولكن بعد ما حدث في ليلة أمس لم أعد واثقًا من أنني سأتمكَّن من كبح جماحهم. فقد كانت ابنتُه شابة جميلة موهوبة. ورسالة انتحارها تُبين أنها لم تستطع أن تحيا بالعار الذي جلبَه عليها التأخُّر المُستمر في محاكمة من اغتصبها. هناك غضب حقيقي يعم …»

نسي الحاكم واتانابي مؤقتًا ما كان قد عزم عليه من التزام الصمت. ووقف قائلًا: «أتعلم أننا وجدْنا في جسد ماريكو كوباياشي آثار سائل منوي لشخصَين مختلفَين بعد الليلة التي قيل إنها اغتُصِبت فيها؟ وأن كلًّا من ماريكو وبدرو مارتينيز أكَّدا مرارًا وتكرارًا أنهما كانا معًا بمُفردهما طوال الليل؟ وحتى عندما ألمحت نيكول لماريكو الأسبوع الماضي أن هناك دليلًا على قيامها بعلاقة جنسيةٍ أخرى تشبَّثَت الفتاة بقصتها.»

فقد ناكامورا هدوءه لحظاتٍ. وأخذ يُحدق في كينجي واتانابي بعينَين خاليتَين من أي تعبير.

تابع كينجي حديثه: «لم نستطِع أن نتعرَّف على الشخص الآخر. فقد اختفت عينات السائل المنوي من مُختبر المستشفى في ظروف غامضة قبل الانتهاء من عمل تحليلٍ كامل للحمض النووي. وكل ما لدَينا هو سجل الفحص الأول.»

عادت إلى ناكامورا ثقته بنفسه وقال: «يمكن أن يكون ما في هذا السجل خطأ.»

«هذا غير مُحتمل على الإطلاق. ولكن على أي حال، تستطيع أن تتفهم الآن المعضلة التي تواجهها القاضية نيكول. فقد قرَّر كلُّ مَن في المستعمرة من قبل أن بدرو مُذنب. وهي لا تريد أن تدينه هيئة المُحلَّفين ظلمًا.»

ساد صمت طويل. وهم الحاكم بالانصراف. فقال ناكامورا: «أنت تُدهشني يا واتانابي. إنك لم تفهم الغرَض من الاجتماع على الإطلاق. لا يَعنيني ما إذا كان ذلك الأسود مارتينيز اغتصب ماريكو كوباياشي أم لا. فقد وعدت أباها بأنَّ الفتى النيكاراجوي سيُعاقب. وهذا هو المهم.»

نظر كينجي واتانابي إلى رفيق صباه باشمئزاز. وقال: «سأنصرف الآن قبل أن يشتدَّ غضبي.»

قال ناكامورا والعداء يملأ عينَيه: «لن أُعطيك فرصة ثانية. كان هذا أول وآخر عرضٍ أُقدمه لك.»

هزَّ كينجي رأسه وفتح الحاجز الورقي بنفسه وخرج إلى الممر.

•••

كانت نيكول تمشي على الشاطئ تحت أشعة الشمس الدافئة. وأمامها على بُعد نحو خمسة أمتار كانت إيلي واقفة بجوار د. تيرنر. كانت ترتدي فستان الزفاف، ولكن العريس كان يرتدي زيَّ السباحة. وكان جد نيكول الأكبر أومه يؤدي المراسم وهو يرتدي ثوبه التقليدي الأخضر الطويل المعروف في قبيلته.

وضع أومه يدَي إيلي في يدَي دكتور تيرنر، وبدأ يُنشد ترنيمة من سينوفو. ثم رفع عينَيه إلى السماء. وكان هناك مخلوق طائر وحيد يُحلق فوق رءوسهم وهو يصيح صيحةً متناغمة مع ترنيمة الزفاف. وبينما كانت نيكول تُراقب المخلوق الطائر وهو يطير فوقها اكفهرت السماء. وأقبلت سُحب العاصفة لتحلَّ محل السماء الصافية.

بدأ المحيط يهيج والرياح تهب. وتطاير شعر نيكول، الذي أصبح رماديًّا تمامًا، من خلفها. واجتاحت الفوضى حفل الزفاف. وأخذ الجميع يركضون بعيدًا عن الشاطئ ليهربوا من العاصفة القادمة. لم تتحرَّك نيكول. فقد كانت تُحدِّق في شيءٍ ضخم تتقاذفه الأمواج.

كان الشيء هو حقيبة خضراء ضخمة تُشبه الحقائب البلاستيكية التي كان الناس يضعون فيها نفاية الحدائق في القرن الحادي والعشرين. كانت الحقيبة مليئةً وكانت تتَّجه نحو الشاطئ. وكانت نيكول تريد أن تمسك بها لكنها خافت البحر الهائج. فأشارت إلى الحقيبة. واستغاثت.

رأت زورقًا طويلًا في أعلى يسار شاشة الحلم. وبينما كان الزورق يقترب أدركت أن ركَّابه الثمانية فضائيون، وكان لونهم برتقاليًّا، وحجمهم أصغر من حجم البشر. بدَوا وكأن أجسادهم من عجين الخبز. وكانت لهم وجوه وعيون، ولكن أجسادهم لم يكن يُغطيها الشعر. وجَّه الفضائيون الزورق نحو الحقيبة الخضراء الكبيرة والتقطوها.

وضع الفضائيون البرتقاليون الحقيبة الخضراء على الشاطئ. لكن نيكول لم تقترب إلا بعد أن ركبوا زورقهم وعادوا إلى المحيط. لوَّحت لهم مُودعة وسارت نحو الحقيبة. كان لها زمام منزلق فتَحته بعناية. ورفعت الجزء العلوي من الحقيبة فاصطدمت عيناها بوجه كينجي واتانابي الميت.

ارتعدت نيكول وصرخت وجلست في السرير. مدَّت يدها بحثًا عن ريتشارد ولكن السرير كان شاغرًا. كانت الساعة الرقمية على الطاولة تُشير إلى الثالثة إلَّا الربع صباحًا. حاولت نيكول أن تُهدئ من سرعة تنفُّسها وأن تطرد عن ذهنها الحلم المريع.

ظلَّت صورة كينجي واتانابي الميت تُلحُّ على ذهن نيكول. وأثناء توجُّهها إلى الحمام، تذكرت ما رأته من أحلام تتنبأ بوفاة أمِّها عندما كانت في سنٍّ لم تتجاوز العاشرة. قالت لنفسها وهي تشعر بأولى موجات الرُّعب تجتاحها: ماذا لو كان كينجي سيموت بالفعل؟ أجبرت نفسها على التفكير في موضوعٍ آخر. فتساءلت: الآن، أين ذهب ريتشارد في هذه الساعة من الليل؟ ارتدت نيكول رداء النوم بسرعةٍ وغادرت غرفة النوم.

مرت نيكول بهدوء على غرف الأبناء مُتجهةً إلى مقدمة المنزل. كان بينجي يغط في النوم كعادته. وكان نور حجرة المكتب مُضاءً، ولكن ريتشارد لم يكن فيها. لا هو ولا اثنان من الآليين الجُدد ولا الأمير هال. كانت لا تزال هناك صورة ظاهرة على إحدى الشاشات الموضوعة على طاولة العمل الخاصة بريتشارد.

ابتسمت نيكول لنفسها وتذكَّرت ما اتفقا عليه. فكتبت اسمها مُستخدمةً لوحة المفاتيح، وتغيرت الصورة التي كانت ظاهرة على الشاشة. ظهرت رسالة تقول:

«عزيزتي نيكول، إذا استيقظت قبل عودتي فلا تقلقي. أنوي أن أعود بحلول الفجر، أو في الساعة الثامنة صباحًا كحدٍّ أقصى. كنتُ أُجري بعض العمل مع الآليين الذين يَحملون أرقامًا تبدأ بثلاثمائة — أتتذكرينهم، إنهم الآليون الذين لم أبرمجهم ببرامج ثابتة، ولذا يمكن تصميمهم لأداء مهام خاصة، ولديَّ أسباب تجعلني أقتنع أن هناك من كان يتجسس على عملي. لذا عجلت بإتمام المشروع الذي أقوم به حاليًّا وذهبت إلى خارج عدن الجديدة لإجراء اختبارٍ أخير. أُحبك.»

ريتشارد

كان الظلام يُغلف السهل المركزي وكان الجو باردًا. حاول ريتشارد أن يتحلَّى بالصبر. أرسل الأينشتاين المطور (يُطلق عليه ريتشارد اسم الآلي الفائق) وجارسيا رقم ٣٢٥ إلى موقع استكشاف المنطقة السكنية الثانية أمامه. فأوضحا للحارسة الليلية، وهي جارسيا عادية، أنَّ تغيُّرًا قد طرأ على جدول الاستكشاف المنشور، وأن هناك استقصاءً خاصًّا سيجرى الآن. وبينما كان ريتشارد لا يزال بعيدًا، أخذ الآليُّ الفائق كل المعدات من الفتحة وأدخلها إلى المنطقة السكنية الأخرى واضعًا إيَّاها على الأرض. استغرقت هذه العملية أكثر من ساعة من الوقت الثمين. وبعد أن انتهى الآلي الفائق أخيرًا من ذلك، أشار إلى ريتشارد أن يقترب. وأبعدت جارسيا رقم ٣٢٥ الحارسة الآلية ببراعة إلى منطقةٍ أخرى حول موقع الاستكشاف، بحيث لا تستطيع أن ترى ريتشارد.

لم يُضيِّع ريتشارد الوقت. فأخرج الأمير هال من جيبه ووضعه في الفتحة. وقال وهو يضع الشاشة الصغيرة على أرض المَمر: «انطلق بسرعة.» كان المهندسون قد وسَّعوا الثغرة المؤدية إلى المنطقة السكنية الأخرى تدريجيًّا خلال الأسابيع الماضية بحيث أصبحت الآن على شكل مربعٍ تقريبًا يبلُغ ضلعه ثمانين سنتيمترًا. وبهذا فإن مساحته كانت تكفي لدخول الآلي الصغير وتزيد.

انطلق الأمير هال نحو الجانب الآخر. تبلغ المسافة بين الممر والأرضية الداخلية حوالي متر. ربط الآلي بمهارة كابلًا صغيرًا في الدعامة التي لصقها في أرض الممر، ثم ترك نفسه ينزل. كان ريتشارد يراقب كل حركة يقوم بها هال على الشاشة ويصدر له التعليمات عبر اللاسلكي.

توقع ريتشارد أن تكون هناك حلقة خارجية تحمي المنطقة السكنية الثانية. وكان توقُّعه صائبًا. فقال لنفسه: إذن فالتصميم الأساسي للمسكنَين مُتشابِه. كما توقع ريتشارد وجود فتحة من نوعٍ ما في الجدار الداخلي، بوابة أو باب تدخل منه الكائنات ذات الأرجل وتخرج، وتوقَّع أن الأمير هال سيكون حجمُه صغيرًا بما يكفي ليدخُل المنطقة السكنية من نفس المدخل.

لم يستغرق هال وقتًا طويلًا ليُحدد موقع المدخل المؤدِّي إلى الجزء الرئيسي من المنطقة السكنية. ولكن الشيء الذي كان فيما يبدو بابًا، كان يبعد عن قاع الحلقة الخارجية بأكثر من عشرين مترًا. ولأن ريتشارد شاهد التسجيلات التي تظهر فيها الكائنات ذات الأرجل وهي تتسلق الأسطح الرأسية للكائنات الآلية الجرَّافة في موقع استكشاف أفالون، فقد استعد لهذا الاحتمال أيضًا.

أصدر ريتشارد أمرًا للأمير هال بأن يتسلَّق الجدار بعد أن نظر في ساعته بتوتُّر. كانت الساعة السادسة تقريبًا. وسرعان ما سيبزغ الفجر على عدن الجديدة. وحينها سيعود العلماء والمهندسون النظاميون إلى موقع الاستكشاف.

يزيد ارتفاع المدخل الذي يؤدِّي إلى الجزء الداخلي من المنطقة السكنية عن ارتفاع الأمير هال مائة مرة. وبهذا تساوي رحلة الصعود التي سيقوم بها الآلي رحلة صعود مبنى مكونٍ من ستِّين طابقًا يقوم بها إنسان. كان ريتشارد قد درَّب الآلي الصغير على تسلُّق جدران المنزل، ولكنه كان دائمًا بجواره. تُرى هل كان الحائط الذي يتسلَّقه هال به تعرُّجات تُتيح ليَدَيه وقدمَيه التشبُّث بإحكام؟ لم تُمكنه الصورة الظاهرة على الشاشة من معرفة الإجابة. هل أدخل ريتشارد كل المعادلات الصحيحة في المُعالج الفرعي الذي يتحكَّم في الهندسة الميكانيكية التي يعمل الأمير هال وفقًا لها؟ قال ريتشارد لنفسه عندما بدأ تلميذُه البارع يتسلَّق الجدار: سأعرف الإجابة عاجلًا.

تعثر الأمير هال مرة وتعلق في الجدار بيدَيه، لكن في النهاية نجح في الصعود إلى القمة. غير أن رحلة الصعود استغرقت ثلاثين دقيقةً أخرى. وكان ريتشارد يُدرك أن الوقت ينفد. وبينما كان هال يرفع نفسَه حتى وصل إلى عتبة نافذة دائرية، لاحظ ريتشارد وجود حاجز سلكي يعوق دخول الآلي إلى المنطقة السكنية. غير أنه رأى جزءًا صغيرًا من المنطقة الداخلية في الضوء الخافت. فضبط موقع كاميرا هال الضئيلة بعناية بحيث يتمكَّن من رؤية المنطقة الواقعة خلف الشبكة.

قالت جارسيا رقم ٣٢٥ لريتشارد عبر اللاسلكي: «تُصر الحارسة على العودة إلى موقعها الرئيسي. فعليها أن تقدم تقريرها اليومي في الساعة السادسة والنصف.»

قال ريتشارد لنفسه: تبًّا، أمامي ست دقائق فقط. وحرك هال ببطء على حافة النافذة ليرى إن كان سيُمكنه التعرف على الأشياء الموجودة داخل المنطقة السكنية. لم يستطع ريتشارد أن يرى شيئًا مُحددًا. فأمر هال وهو يرفع مقدار جهارة صوته إلى أقصى درجة قائلًا: «اصرخ. اصرخ حتى آمُرك أن تتوقف.»

لم يسبق لريتشارد اختبار جهاز تكبير الصوت الجديد الذي وضعه في الأمير هال وهو يعمل بطاقته القصوى. ولهذا أدهشه المدى الذي بلغه صوت المخلوقات الطائرة الذي قلده هال. فقد تردد صداه حتى جعل ريتشارد يقفز إلى الخلف. وقال بعد أن هدأ: جيد جدًّا، على الأقل إن لم تكن ذاكرتي قد خانتني.

في خلال لحظات، صارت الحارسة الآلية أمام ريتشارد وأخذت تُنفذ التعليمات التي بُرمجت عليها مسبقًا، طالبة أوراقه الشخصية وتفسيرًا لما يقوم به. حاول الآلي الفائق وجارسيا رقم ٣٢٥ أن يُشتِّتا انتباه الحارسة، لكنه عندما وجد أن ريتشارد غير مُتعاون أصرَّت على أن ترسِل تقريرًا بوجود حالة طوارئ. على الشاشة، رأى ريتشارد الشبكة تنفتح، ورأى ستةً من الكائنات ذات الأرجل تندفع نحو الأمير هال. وواصل الآلي صياحه.

بدأت الحارسة من نوع جارسيا تنقل لرؤسائها حالة الطوارئ التي تُواجهها. وكان ريتشارد يُدرك أنه لم يعُد أمامه سوى دقائق قليلة قبل أن يُضطرَّ للانصراف. قال وهو يُراقب الشاشة تارة ويختلس نظراتٍ إلى السهل المركزي خلفه تارةً أخرى: «هيا، هيا، تبًّا.» لم يرَ على البعد أي أضواء تقترب من صوب المُستعمرة التي يقطنها.

في البداية ظن ريتشارد أنه تخيَّل ما سمعه. ثم تكرَّر الصوت، صوت رفرفة أجنحة هائلة. كان أحد الكائنات ذوي الأرجل يحجب عنه الرؤية جزئيًّا، ولكن بعد لحظاتٍ رأى بلا شكٍّ مخلبًا مألوفًا يمتدُّ نحو الأمير هال. وأكدت الصرخة التي أطلقها المخلوق الطائر ما رآه. بعد هذا تشوَّشت الصورة الظاهرة على الشاشة.

صاح ريتشارد في اللاسلكي: «إن أُتيحت لك الفرصة، حاول أن تعود إلى الممر. سأعود لآخُذك لاحقًا.»

استدار ريتشارد ووضع شاشتَه في حقيبته بسرعة. ثم قال لمساعِدَيه الآليَّين: «هيا بنا.» وبدءوا يركضون نحو عدن الجديدة.

شعر ريتشارد بالانتصار وهو يعدو نحو منزله. وقال لنفسه بابتهاج: أصاب حدسي. هذا يغير كل شيء … أما الآن فلديَّ ابنة أزوجها.

١٠

تحدَّدت الساعة السابعة مساءً موعدًا لإقامة مراسم الزفاف في مسرح المدرسة الثانوية المركزية. أما حفل الاستقبال نفسه — الذي كان سيحضره عددٌ أكبر من الضيوف — فقد كان من المقرر إقامته في مبنى الألعاب الرياضية، وهو مبنى مجاور يبعد عن المسرح بما لا يزيد على عشرين مترًا. طوال اليوم كانت نيكول تبذل أقصى جهدها لمواجهة المفاجآت التي تظهر في اللحظة الأخيرة، ولإنقاذ إجراءات الاستعداد للحفل من كارثة مُحتمَلة تلو الأخرى.

لم تحظ بوقتٍ تتأمَّل فيه أهمية الاكتشاف الجديد الذي قام به ريتشارد. فقد عاد إلى البيت وقد تملَّكه الحماس، وكان يريد أن يتحدَّث معها حول المخلوقات الطائرة وحول هوية الذين يتجسَّسون على بحثه، ولكن نيكول لم تستطع أن تُركز في أي شيءٍ سوى الزفاف. فاتفقت مع ريتشارد على عدم إطلاع أحدٍ على أمر المخلوقات الطائرة حتى تُتاح لهما فرصة مناقشة الأمر بالتفصيل.

كانت نيكول قد خرجت لتتمشَّى في الصباح مع إيلي في الحديقة العامة. وتحدَّثتا حول الزواج والحب والجنس لأكثر من ساعة، ولكن إيلي كانت تشعُر بتوتُّر شديد بشأن حفل الزفاف حتى إنها عجزت عن التركيز كما ينبغي فيما كانت تقوله أمُّها. فتوقفت نيكول تحت شجرةٍ قرب نهاية رحلتهما لتُلخِّص ما تريد قوله لإيلي.

قالت نيكول، وهي تمسك بيدي ابنتها في يدَيها: «على الأقل تذكَّري شيئًا واحدًا يا إيلي. الجنس أحد العناصر المهمة للزواج ولكنه ليس المُكون الأكثر أهمية. ومن المُحتمَل ألا يروق لكِ في البداية بسبب افتقارك إلى الخبرة. ولكن إذا كان بينك وبين روبرت حُب وثقة متبادلان، وإذا ما كان كل منكما يُريد بصدقٍ أن يمنح الآخر المتعة ويحصل عليها منه، فستجدين أن الانسجام الجسدي بينكما سيزيد عامًا بعدَ آخر.»

وصلت نيكول وناي وإيلي معًا إلى المدرسة قبل الحفل بساعتَين. ووجدن إيبونين بانتظارهن. سألت المعلمة إيلي وهي تبتسِم: «أتشعرين بتوتر؟» أومأت إيلي. فقالت إيبونين: «يكاد الخوف يَقتُلني وما أنا إلا إحدى إشبينات العروس.»

طلبت إيلي من أمِّها أن تكون وصيفةَ الشرف. وكانت ناي وإيبونين وأختها كيتي إشبينات العروس. أما د. تيرنر فكان إشبينه هو د. إدوارد ستافورد، وهو رجل يشارك روبرت تيرنر ولعَه بتاريخ الطب. ولأنه لم يكن لديه أي رفاق مُقربين إلَّا الآليين العاملين في المستشفى، فقد اختار الأشابين من بين أفراد أسرة ويكفيلد وأصدقائهم؛ إذ وقع اختيارُه على كينجي واتانابي وباتريك وبينجي.

قالت إيلي بعد أن تجمَّعوا في غرفة الملابس: «أمي، أشعر بالغثيان. سأشعر بإحراجٍ شديد إن تقيَّأتُ على فستان الزفاف. هل أحاول أن آكُل شيئًا ما؟» توقَّعت نيكول حدوث مثل هذا الموقف فاحتاطت له. وأعطت إيلي موزةً وبعض الزبادي، وأكدت لابنتها أنه من الطبيعي تمامًا أن تشعر بالغثيان قبل هذا الحدث الجلل.

زاد توتر نيكول عندما أخذ الوقت يمرُّ دون أن تظهر كيتي. فقررت أن تذهب لتتحدَّث مع باتريك بعدما أصبح كل شيءٍ في غرفة ملابس العروس على ما يُرام. كان الرجال قد فرغوا من ارتداء ملابسهم عندما دقت نيكول الباب.

سألها القاضي ميشكين عندما دخلت: «كيف حال أمِّ العروس؟» سيقوم القاضي العجوز الجليل بعقد مراسِم الزفاف.

أجابت نيكول بابتسامةٍ واهنة: «متوترة بعض الشيء.» وجدت باتريك في مؤخِّرة الغرفة يضبط ملابس بينجي.

سأل بينجي والدتَه وهي تقترِب منه: «كيف أبدو؟»

ردَّت نيكول على ابنها المبتسِم قائلةً: «وسيم جدًّا جدًّا.» ثم سألت باتريك: «هل تحدثت إلى كيتي هذا الصباح؟»

قال: «لا. ولكنني أكدتُ معها على الموعد مرة أخرى كما طلبت، ليلة أمس … ألم تصل بعد؟»

هزت نيكول رأسها. كانت الساعة السادسة والربع ولم يبقَ على موعد بدء الحفل سوى خمسٍ وأربعين دقيقة. خرجت إلى الردهة لتتصل بها هاتفيًّا، ولكن رائحة دخان السجائر أنبأتها بأنها وصلت أخيرًا.

بينما كانت نيكول تعود إلى غرفة العروس، كانت كيتي تقول بصوتٍ مرتفع: «تصوَّري يا أختي الصغيرة، الليلة ستُقيمين أول علاقةٍ جنسية لك. أوه! لا بد أن تلك الفكرة تُعربد بجسدك الرائع هذا!»

قالت إيبونين: «كيتي، لا أعتقد أنه من الملائم على الإطلاق أن …»

دخلت نيكول الغرفة فصمتت إيبونين. قالت كيتي: «أوه! كم تبدين جميلةً يا أمي! لقد نسيتُ أن هناك امرأةً تختبئ وراء زيِّ القاضية.»

نفثت كيتي دخان سيجارتها في الهواء وأخذت رشفةً من زجاجة الشمبانيا الموضوعة على الطاولة بجوارها. وقالت وهي تُحرك يدَها حركة مسرحية: «ها نحن أولاء، على وشك أن نشهد زفاف أختي الصغيرة …»

قالت نيكول بصوتٍ بارد صارم: «كُفِّي عن هذا يا كيتي، لقد أسرفت في الشراب.» أخذت الشمبانيا وعلبة سجائر كيتي. وقالت: «انتهِي من ارتداء ملابسك وتوقَّفي عن التصرف ببلاهة. يمكنك أن تسترديهما بعد مراسم الزفاف.»

قالت كيتي وهي تُدخن بعُمق وتنفث حلقات الدخان: «حسنًا يا سيادة القاضية … كما شئتِ.» وابتسمت ابتسامةً عريضة لباقي الفتيات. ثم بينما كانت تمدُّ يدها نحو سلة المهملات لتنفض رماد سيجارتها، فقدت توازُنها. وسقطت فوق الطاولة وارتطمت بالكثير من علب مستحضرات التجميل المفتوحة، ثم سقطت على الأرض وسط الفوضى. فاندفعت إيبونين وإيلي لتساعداها.

سألتها إيلي: «هل أنت بخير؟»

قالت نيكول وهي تنظر باستهجان إلى كيتي وهي متمددة على الأرض: «انتبهي لفستانك يا إيلي.» أخذت نيكول بعض المناديل الورقية وبدأت تُنظف ما أسقطته كيتي.

بعد ذلك بثوانٍ قليلة، قالت كيتي بسخريةٍ عندما نهضت: «صحيح يا إيلي، انتبهي للفستان. يجب أن تكوني مثالَ الطهارة عندما تُزَفِّين إلى ذلك الذي قتل اثنين.»

ساد الغرفة صمتٌ تام. وامتقع وجه نيكول من الغضب. واقتربت من كيتي ووقفت أمامها مباشرة. وأمرتها قائلةً: «اعتذري لأُختك.»

قالت كيتي بتحدٍّ: «كلَّا.» وبعدها بلحظاتٍ صفعتها نيكول على خدها. فانفجرت الدموع في عينَيها. وقالت وهي تمسح وجهها: «آه، إنها أشهر من يصفع في عدن الجديدة. بعد يومَين من اللجوء إلى العُنف البدني في ميدان المدينة المركزية، تضرب ابنتها مكرِّرةً أشهر أفعالِها …»

قاطعتها إيلي بقولها لأُمها، وقد خافت أن تصفع نيكول كيتي ثانيةً: «كلَّا يا أمي … أرجوك.»

استدارت نيكول ونظرت إلى العروس المُضطربة. وتمتمت قائلةً: «أنا آسفة.»

قالت كيتي بغضب: «معك حق. قولي لها هي إنك آسفة. أنا التي ضربتِها أيتها القاضية. أتذكُرينني؟ أنا ابنتُك الكبيرة غير المتزوِّجة؟ تلك التي وصفتِها بأنها «مُقززة» منذ ثلاثة أسابيع … لقد أخبرتِني أن أصدقائي «فاسقون» — أليس هذا ما قلته بالضبط — أما إيلي الغالية، مثال الفضيلة، فتُسلِّمينها لرجلٍ قتل اثنين … وإشبينتها قاتلة أيضًا.»

أدركت جميع النساء في نفس اللحظة تقريبًا أن كيتي ليست ثمِلةً ومشاكسة فحسب. ولكنها أيضًا تُعاني من اضطرابٍ نفسي شديد. فقد كانت عيناها تنطقان بالغضب وتُسدِّد لهن جميعًا نظرات الاتهام، وهي تواصِل إلقاء خطبتها اللاذعة غير المترابطة.

قالت نيكول لنفسها: إنها أشبَه بمن تُشرف على الغرق وتستغيث باستماتة. وأنا لم أتجاهل صرخاتها فحسب، وإنما أيضًا دفعت بها إلى أعماق المياه.

قالت نيكول بهدوء: «كيتي، أنا آسفة. لقد تصرفتُ على نحوٍ أهوج وبلا روية.» واتجهت نحو ابنتها وهي تهمُّ بمُعانقتها.

ردَّت كيتي، وهي تدفع ذراعَي والدتها عنها: «لا. لا، لا، لا … لا أريد منك شفقة.» وتراجعت نحو الباب. وقالت: «في الحقيقة، لا أريد أن أحضر هذا الزفاف اللعين … هذا ليس مكاني. حظًّا طيبًا يا أختي الصغيرة. أخبريني ذات يومٍ عن رأيك في ذلك الطبيب الوسيم في الفراش.»

استدارت كيتي وخرجت من الباب بخطواتٍ متعثرة. كانت إيلي ونيكول تبكيان في صمتٍ وهي تنصرف.

•••

حاولت نيكول أن تُركز تفكيرها على الزفاف ولكن الحزن كان يعتصِر قلبها بعد الموقف المزعج الذي حدث مع كيتي. ساعدت إيلي في وضع زينتها مرةً أخرى، وهي تؤنِّب نفسها مرارًا وتكرارًا لأن ردَّ فعلِها مع كيتي كان غاضبًا.

قبل أن تبدأ المراسم مباشرةً، عادت نيكول إلى غرفة ملابس الرجال وأخبرتهم بأن كيتي قررت ألا تحضر الحفل. ثم ألقت نظرةً خاطفة على الحشد المجتمِع ولاحظت وجود حوالي اثني عشر من الآليين جالسين. فقالت لنفسها: «يا إلهي، لم نكن مُحدَّدين بما يكفي في دعواتنا.» لم يكن من غير المُعتاد أن يُحضِر بعض المُستعمرين الآليين الخاصِّين بهم، من نوع لينكولن أو تياسو، معهم لحضور المناسبات الخاصة، وبخاصة إذا كان لديهم أطفال. قبل أن تعود نيكول إلى غرفة ملابس العروس، انتابها شيء من القلق من ألَّا يكفي عدد المقاعد جميع الحضور.

بعد لحظات، أو هكذا بدا، كان أشابين الزوجين مجتمعين على خشبة المسرح حول القاضي ميشكين وأعلنت الموسيقى وصول العروس. استدارت نيكول، مثلما فعل الجميع، ونظرت إلى مؤخرة المسرح. فرأت ابنتها الصغرى فائقة الجمال متألقةً في فستانها الأبيض ذي الزينة الحمراء، وهي تسير في الممر متأبطةً ذراع ريتشارد. أخذت نيكول تُغالب دموعها، ولكن عندما رأت الدمع يلمع على وجنتَي العروس لم تعد تتمالك نفسها. وقالت لنفسها: أُحبك يا إيلي. كم أتمنَّى لك السعادة.

أعد القاضي ميشكين مراسم انتقائية بناءً على طلب العروسين. وفيها أثنى على الحب بين الرجل والمرأة، وتحدث عن أهمية العلاقة التي تربط بينهما لتكوين أسرة سليمة. ونصح بالتحلي بالتسامح والصبر والإيثار. ودعا دعاءً يخلو من كل ما يمتُّ بصلة إلى طائفة محددة، دعا فيه الله أن «يُلهم» العروسين «الرأفة والتفاهم حتى يرتقي الجنس البشري في مراتب النبل».

كانت المراسم قصيرة، لكن هذا لم يؤثر على روعتها. تبادل د. تيرنر وإيلي خاتميهما، ونطقا بعهود الزواج بأصواتٍ قوية واثقة. ثم التفتا إلى القاضي ميشكين فأخذ بيده ويدها وضمهما. وقال: «باسم السلطة التي منحتني إيَّاها مستعمرة عدن الجديدة أعلن روبرت تيرنر وإليانور ويكفيلد زوجًا وزوجة.»

بينما كان د. تيرنر يرفع غطاء وجه إيلي برفق ليتبادلا القبلة التقليدية، دوَّت طلقة نارية وأتبعتها طلقةٌ أخرى بعد لحظة. وسقط القاضي ميشكين إلى الأمام باتجاه العروسين والدم يتدفَّق من جبهته. وسقط كينجي واتانابي على الأرض بجواره. واندفعت إيبونين بين العروسين والحضور أثناء انطلاق دويِّ الطلقتَين الثالثة والرابعة. كان الجميع يصرخون. وعمَّت الفوضى المسرح.

تبع هذا انطلاق رصاصتَين أُخريين في تتابع سريع. وبعدها، نجح ماكس باكيت في نزع سلاح اللينكولن الآلي الذي أطلق النيران وهو في الصف الثالث. فقد استدار ماكس في لمح البصر فور أن سمع الطلقة الأولى، وبعدَها بثانية قفز فوق المقاعد. لكن اللينكولن الآلي الذي كان قد قام من مقعده عندما سمع كلمة «زوجة» أطلق من بندقيته الآلية ستَّ طلقاتٍ إلى أن نجح ماكس في التغلُّب عليه تمامًا.

كان الدم يُغطي خشبة المسرح. شقَّت نيكول طريقها إلى الحاكم واتانابي لتفحصه. فوجدته ميتًا. احتضن د. تيرنر القاضي ميشكين والعجوز الكريم يغمض عينَيه للمرة الأخيرة. من الواضح أن د. تيرنر كان هو المقصود بالطلقة الثالثة لأنها أصابت إيبونين في جنبها وهي تقفز قفزتها المذعورة لتُنقذ العريس والعروس.

التقطت نيكول مُكبر الصوت الذي كان قد سقط مع القاضي ميشكين. وقالت: «سيداتي سادتي. هذه مأساة مفجعة للغاية. أرجو ألا تُصابوا بالذعر. فأنا أعتقد أن الخطر قد زال. رجاءً ابقوا في أماكنكم حتى نتمكن من أن نعتني بالمصابين.»

لم تُحدِث الطلقات الأربع الأخيرة أضرارًا بالغة. إذ لم تكن حالة إيبونين حرجة رغم نزيفها. كما أن ماكس ضرب اللينكولن قبل أن يُطلق طلقته الرابعة، وبهذا أنقذ حياة نيكول من موتٍ شبه مُحقق؛ إذ مرقت هذه الرصاصة بجوارها بسنتيمترات قليلة. أما الرصاصتان الأخيرتان فمسَّتا اثنَين من الحضور واللينكولن يسقط أرضًا.

لحق ريتشارد بماكس وباتريك اللذين كانا يُقيدان الآلي القاتل. قال ماكس: «لن يُجيب عن أي سؤال.»

نظر ريتشارد إلى كتف اللينكولن. كان رقم الآلي ٣٣٣. قال: «خذوه إلى الخلف. أريد أن ألقي نظرة عليه لاحقًا.»

على خشبة المسرح، كانت ناي واتانابي جاثيةً وقد وضعت رأس حبيبها كينجي على حجرها. وكان جسدها يرتجف من شدة البكاء. وبجوارها كان التوءمان جاليليو وكيلبر يبكيان في رعب. وكانت إيلي تحاول أن تهدئ من روع الصبِيَّين وقد غطت الدماء فستان زفافها.

كان د. تيرنر يُطبب إيبونين. وقال بعد أن ضمَّد جرحها: «ستحضر عربة الإسعاف في غضون دقائق.» ثم قبَّل جبهتها وقال: «لن يسعني أنا وإيلي أن نشكرك على ما فعلت.»

نزلت نيكول إلى الضيوف لتتأكد من أن الحضور الذين أصابهم الرصاص لم يُصابوا إصابة خطيرة. وكانت على وشك أن تعود إلى مُكبر الصوت وتخبر الجميع بأنه يمكنهم البدء في مغادرة المكان، عندما اندفع أحد المُستعمرين إلى المسرح وهو في حالة هستيرية.

وصاح قبل أن يلقي نظرة على المشهد الذي أمامه: «جُن جنون أحد الأينشتاين. وقتل أولانوف والقاضية أيانيلا.»

•••

قال ريتشارد: «علينا أن نرحل نحن الاثنان. والآن. وسأرحل وحدي يا نيكول حتى لو رفضتِ مرافقتي. فأنا أعرف الكثير عن الآليين الذي يحملون الأرقام التي تبدأ بثلاثمائة وأعرف ما الذي فعله رجال ناكامورا ليُغيروهم. سيسعون خلفي الليلة أو في الصباح على أقصى تقدير.»

ردت نيكول قائلةً: «حسنًا، يا حبيبي. أتفهَّم ما تقول. ولكنني لا أستطيع الرحيل. يجب أن يكون هناك من يعتني بالأسرة. ويُحارب ناكامورا. حتى وإن كانت الحرب ميئوسًا منها. علينا ألا نخضع لطغيانه.»

مرَّت ثلاث ساعات على إفساد عُرس إيلي. كان الرعب يجتاح المستعمرة. وأذاع التليفزيون أن خمسة آليين أو ستة جن جنونهم في وقتٍ واحد، وأن أحد عشر شخصًا من أبرز مواطني عدن الجديدة قتلوا. وأضاف أن الحظ قد حالف المرشح لمنصب الحاكم، إيان ماكميلان ورجل الأعمال المعروف توشيو ناكامورا، بعد أن فشل الكاواباتا الآلي الذي كان يُحيي حفلًا في فيجاس في هجومه عليهما.

قال ريتشارد وهو يشاهد التليفزيون: «هراء. هذا جزء آخَر من خطتهما.»

كان متأكدًا من أن أعوان ناكامورا خططوا لسلسلة الاغتيالات. كما لم يُساوره أي شكٍّ في أنه كان مستهدفًا هو ونيكول. وكان مقتنعًا أن الأحداث التي وقعت اليوم ستتمخَّض عنها عدن جديدة مختلفة تمامًا، يسيطر عليها ناكامورا بعد أن يضمن أن يكون الحاكم إيان ماكميلان مجرد حاكم صوري.

سألته نيكول: «ألن تودع باتريك وبينجي على الأقل؟»

أجابها ريتشارد: «من الأفضل ألا أفعل. ليس لأنني لا أحبهما ولكن لأنني أخشى أن أغير رأيي …»

قالت نيكول: «هل سترحل عبر مَخرج الطوارئ؟»

أومأ ريتشارد. وقال: «إنهم لن يسمحوا لي أبدًا بالخروج من المخرج الطبيعي.»

بينما كان يفحص معدات الغوص دخلت نيكول إلى غرفة المكتب. وقالت: «لقد أذيع في نشرة الأخبار للتوِّ أن الناس يحطمون الآليين الخاصين بهم في جميع أنحاء المستعمرة. وقال أحد المستعمرين الذين استضافهم المُذيع إن أحداث القتل الجماعي جزءٌ من مؤامرة فضائية.»

قال ريتشارد بتجهُّم: «رائع. ها قد بدأت الشائعات من الآن.»

أخذ معه ما يستطيع حمله من طعام وشراب. وعندما صار مستعدًّا عانق نيكول بحرارة لأكثر من دقيقة. وكانت عيونهما تفيض من الدمع وهو يرحل.

سألت نيكول بصوتٍ خفيض: «هل تعلم إلى أين ستذهب؟»

أجاب ريتشارد وهو يقف عند الباب الخلفي: «تقريبًا. لن أُخبرك بالطبع حتى لا تتورَّطي في الأمر …»

قالت: «أتفهَّم ذلك.» سمِعا صوتًا في مقدمة المنزل، فهُرع ريتشارد إلى الفناء الخلفي.

لم يكن القطار المؤدِّي إلى بحيرة شكسبير يمر. فقد حطمت مجموعة من المستعمرين الغاضبين الجارسيا التي كانت تشغل قطارًا سابقًا يسير على نفس الخط وتعطل النظام بأكمله. بدأ ريتشارد يسير متجهًا إلى الجانب الشرقي من بحيرة شكسبير.

بينما كان يمشي مجهدًا وهو يحمل معدات الغوص الثقيلة وحقيبته، انتابه شعور بأن هناك من يتبعه. وظن مرتَين أنه رأى شخصًا ما بطرف عينَيه، لكن عندما توقَّف وتلفَّت حوله لم يرَ شيئًا. أخيرًا، وصل إلى البحيرة. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. ألقى نظرة أخيرة على أضواء المستعمرة وبدأ يرتدي معدات الغوص. ولكن الدم تجمد في عروقه حين رأى جارسيا تخرج من بين الشجيرات وهو يخلع ملابسه.

توقَّع أن تقتله. لكن بعد ثوان بدت طويلةً تحدثت الجارسيا. وسألته: «هل أنت ريتشارد ويكفيلد؟»

لم يُحرك ساكنًا ولم ينبس ببنت شفة. فقالت الآلية في النهاية: «إن كنت ريتشارد أحمل لك رسالة من زوجتك. إنها تقول لك إنها تُحبك وتتمنَّى لك رحلة موفقة.»

أخذ ريتشارد نفسًا طويلًا ببطء. وقال: «أخبريها أني أُحبها أيضًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤