سيئات الموتى

يقول شكسبير في رواية «يوليوس قيصر»، والقول هنالك يجري على لسان أنطون، في الخطبة المشهورة التي ألقاها عند جثمان قيصر:
السيئات يقترفها الناس، فيمضي فاعلوها وتبقى.
وأما الحسنات فغالبًا ما تدفن مع رفاتهم تحت الثرى.

أما أن تبقى السيئات بعد أن يمضي فاعلوها، فأمر من الوضوح بحيث لا أظنه موضعًا للشك والريبة، على أني تاركه الآن لأعود إليه بعد قليل، لكن الذي قد تخطئه العين العابرة، هو ذهاب الحسنات في جوف الأرض مع رفات المحسنين.

وإني لأعترف أني قد لبثت حينًا طويلًا، أنكر على الشاعر العظيم رأيه هذا كلما ذكرت سطريه السابقين، كنت أعجب كيف يقول إن حسنات المحسنين غالبًا ما تدفن مع رفاتهم وتُنسى، مع أن الناس — فيما كنتُ أرى — ما ينفكون لاهجين بمآثرهم، مخلدين لذكرياتهم، بما يبنون لهم من أنصاب وتماثيل، وما يكتبون عنهم من مقالات وكتب، وما يقيمون لهم من حفلات يحيون بها أسماءهم كلما مضى على موتهم كذا عام … ألا يكفي ذلك كله دليلًا على أن حسناتهم لم تذهب — كما زعم الشاعر — مع رفاتهم تحت الثرى، بل بقيت حية في ذاكرات الأحياء؟

هكذا كنتُ أعجب لنفسي من قول الشاعر، حتى كان الأمس، حين جلست من داري في ركن دافئ ساعة الغروب، أشرب الشاي في صمت وعلى مهل، سارحًا بفكري فيما أساء لنا الأسلاف بما ألقوه على ظهورنا من أعباءٍ ثقال؛ أعباء التقاليد التي أقعدتنا عن الحركة الخفيفة والسير السريع؟ وكان طبيعيًّا عندئذٍ أن تتوارد الخواطر، فتثب إلى ذهني عبارة شكسبير: «السيئات يقترفها الناس فيمضي فاعلوها وتبقى، وأما الحسنات …»

ولكني هذه المرة — ولأول مرة — وقفتُ وقفة المتأمل، بعد أن تعودت فيما مضى أن أوافق على الشطر الأول وأرفض الشطر الثاني، موافقة ورفضًا هما أقرب إلى الحركة الآلية منهما إلى التفكير المتروِّي، لم أرضَ لنفسي هذه المرة أن تتعجل الإنكار والنفي، فالأرجح أن يكون الشاعر الذي صدق القول في شطره الأول، قد صدق القول كذلك في شطره الثاني — فلأفكر من جديد: أحقيقة تُدفن الحسنات غالبًا مع رفات المحسنين؟

وكأنما أشرق عليَّ هذه المرة ضوء جديد، إذ نظرت إلى الموضوع من ناحية جديدة، قلت لنفسي: دع عنك ما يقيمه الناس لموتاهم المجيدين من تماثيل وما يكتبونه عنهم من كتب؛ لأن ذلك كله قد يكون سدًّا من الإنسان لنقص أدركه في نفسه، فربما أدرك الإنسان في نفسه سرعة نسيان الجميل، فعالج نسيانه هذا السريع بما يُذكِّر … إنه إذا ثبت أن طبيعة الإنسان تمنعه من الاعتراف بالجميل لصاحبه، وتدفعه إلى طمس معالم الفضل الذي أُسدى إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، إذا ثبت ذلك في طبيعة الإنسان، إذًا فلا شك في صحة قول الشاعر، بأن الحسنات كثيرًا ما تدفن مع رفات المحسنين، فلا يكاد المدين بفضلٍ أن يُهيل التراب على المتفضِّل؛ حتى يتناسى الدَّيْن فينسى، وينسى الناس معه، وبذلك ترقد الحسنة مع رفات صاحبها في قبره إلى الأبد.

وحسبك وقفة لا تطول، لتدرك على الفور أن الطبيعة البشرية تأبى على الإنسان أن يعترف بفضل أُسدي إليه، فإن أخذنا أنفسنا بهذا الاعتراف، فلأننا قد أخذنا طبيعتنا بالتهذيب والتدريب، وإذًا فليس يحفظ الجميل إلا من اكتسب القدرة على قمع طبيعته والإمساك بزمامها … ذلك لأن من أَعطى أقدر ممن أخذ العطاء، ومن أحسنَ أقوى ممن تقبل الحسنة، ولما كان الإنسان بطبيعته أميل إلى إظهار جوانب قوته وإخفاء جوانب ضعفه، كان من العسير عليه أن يعترف بما بدا من عجزه حين قبل المعونة ممن أعانه.

في العطاء قوة وفي الأخذ ضعف، حتى ليركع الآخذ أمام مُعطيه — حقيقةً أو مجازًا — وإذا ما حدَّثه جاء حديثه خافتًا، وبدت عينه «مكسورة» حسيرة … إن من الكتب التي أقامت لي ركنًا ركينًا من ثقافتي، قصة «راعي ويكفيلد» ﻟ «أولفر جولد سميث». هذا الكتاب العجيب الفريد، الذي ينفذ في الطبيعة البشرية نفاذًا يصل إلى أعماقها، والذي له في كل صفحة، بل في كل فقرة، بل في كل سطر من سطوره، ملاحظة صادقة في تحليل طبيعة الإنسان، في هذا الكتاب يقصُّ عليك الكاتب في سياق قصته، أن مسافرًا التقى براعي ويكفيلد واستدانه قليلًا من المال يرده له عند بلوغه غايته، ثم حدث أن أقام الرجلان ليلة في نُزُل في الطريق، ودارت بينهما مناقشة احتدَّ فيها المسافر، فأخذ العجب من الراعي كيف استباح ذلك الرجل الجريء لنفسه أن يحتدَّ معه في المناقشة مع أنه مَدين له بمال؟!

ولما كان العطاء قوة والأخذ ضعفًا، كان عسيرًا كل العسر على من به كبرياء، أن يضع نفسه موضع الآخذ؛ لأنه يعلم أن ذلك سيصحبه اعتراف لغيره بالفضل، وفي ذلك ما فيه من جرح، ويزداد هذا الجانب وضوحًا، حين يحسن المحسن عن شعور بقدرته، فيثير في الآخذ إحساسه بنقصه وعجزه، وقد يعطي المعطي عن شعور بالعطف على من أعطى، كما يفعل الوالد مثلًا نحو ولده، وعندئذٍ يغلب أن يبادله الآخذ عطفًا بعطف.

وانظر الآن في قولهم: «اتقِ شرَّ مَن أحسنتَ إليه»، أفلا ترى القول قد ازداد وضوحًا وبيانًا؟ كم من مرة سألت نفسي حائرًا: كيف يمكن أن يكون لمن أحسنتُ إليه شر أتقيه؟ لكنني أرى الآن كيف يثير فيه شعورُه بنقصه وعجزه شعورًا بالمرارة نحو من أعطى، خصوصًا إذا اختلط العطاء بالمنِّ، فعندئذٍ يستحيل على الآخذ ألا يحسَّ نحو من أحسن إليه بالكراهية والمقت، فلا يزول الشر ممن أحسنتَ إليه إلا إذا أعطيته الإحسان في عطفٍ خالص، لا تَكبُّر فيه ولا شموخ.

ولولا أن سرعة نسيان الحسنة من طبيعة الإنسان، لما كان بالقائل حاجة أن يقول للناس: «اذكروا حسنات موتاكم.» وإذًا فلم يخطئ شكسبير كما ظننت، حين لاحظ أن الحسنات كثيرًا ما تدفن مع رفات المحسنين.

•••

والحق أني ما قصدت إلى الكتابة في الحسنات التي تذهب مع الموتى في قبورهم، وإنما أردت الكتابة في السيئات التي يقترفها الناس فتبقى بعد موتهم على وجه الأرض حيةً تسعى ينوء بحملها الأحياء بعد ذهاب أصحابها، وأعجب العجب أن ترى هذه السيئات الباقيات على وجه الزمن، قد اكتسبت جلالًا من جلال الزمن، فإذا هي في الأعين مقدَّسات مصونات تجريحها بَغيٌّ ومسها حرام.

كان لأسلافنا ظروف تحيط بهم، وكان لهم سلوك يستجيبون به لتلك الظروف، فوفقوا في حياتهم أو أخفقوا بمقدار ما جاءت استجابتهم ملائمة لظروفهم. وقد مضى الأسلاف وجئنا، فأية قوة في الأرض هذه التي تشدنا إلى سلوك أسلافنا، نستجيب لظروفنا بمثل ما استجابوا لظروفهم، تغيرت الظروف أو لم تتغير، ووفِّق هؤلاء الأسلاف أو أخفقوا؟

كانت لأسلافنا حرية الاختيار فاختاروا لأنفسهم وجهة النظر التي تسعدها وترضيها، وليست هنالك قوة لا في الأرض ولا في السماء، تلزمنا باصطناع وجهة نظرهم إلا بمقدار ما تتفق ظروفنا مع ظروفهم … لكننا مشدودون إلى منظارهم شدَّا، لا نرى الأمور إلا بأعينهم، كأنما هم وحدهم الرجال يشرعون ونحن الأطفال نعمل وفق ما شرعوا. لقد قام علماء النفس المعاصرون بتجارب على الأطفال في لعبهم، فانتهوا إلى نتائج علمية في نفسية الطفل من حيث وجهة نظره إلى القواعد الموضوعة للسلوك؛ فأما الصغار فيما دون العاشرة، فلو سئلوا: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معًا؟ أجابوا بأنهم وجدوها كذلك، ولا يجوز لهم أن يتناولوها بتحوير أو تبديل. فإذا ما ضيق القائم بالتجربة عليهم سُبل الفرار، وحاول أن يظفر منهم بجوابٍ محدَّد عن واضع القواعد التي يتبعونها في ألعابهم، قال بعضهم إنه الله، وقال آخرون إنها الحكومة، وقال فريق ثالث إنهم آباؤهم أو أجدادهم … حتى إذا ما تقدم هؤلاء الأطفال في أعمارهم قليلًا، وجاوزوا العاشرة إلى الثالثة عشرة أو نحوها، وأعيد عليهم نفس السؤال: من الذي وضع لكم قواعد الألعاب التي تلعبونها معًا؟ أجابوا عندئذٍ بأن واضعيها هم أطفال مثلهم، وأن في مقدورهم أن يغيروها إذا شاءوا وكيف شاءوا.

وأظننا نستطيع أن نستخدم هذا المقياس نفسه في التمييز بين المجتمع في طفولته وفي نضجه: فأبناء المجتمع الطفل ينظرون إلى أنواع السلوك التي يسلكونها في مواقف حياتهم المختلفة نظرتهم إلى التراث المقدس الذي لا ينبغي بل لا يجوز أن يتناوله أحد بتغيير، وأما أبناء المجتمع الناضج فيدركون أن الأمر لا قدسية فيه، وأن التغيير مرهون بمشيئتهم؛ لأن الحياة حياتهم هم ولا بد أن يعيشوها على أكمل وجهٍ مستطاع، فإن كان السلوك الموروث عن الآباء صالحًا لهم فأنعم به، وإلا فمن حقهم بل من واجبهم أن يغيِّروا منه ما شاءوا وما شاءت لهم ظروفهم. وأظنك تستطيع أن ترى في وضوح، أن روح الاستبداد والطغيان أقرب إلى الشيوع في المجتمع الأول، وأن روح الحرية والديمقراطية أقرب إلى السيادة في المجتمع الثاني؛ ذلك لأن حرية التصرف حرام هناك حلال هنا.

إن احترام التقاليد الموروثة في ذاته أمر لا عيب فيه ولا غبار عليه، ما دمتُ آخذها أخذ السيد المسيطر لا أخذ التابع المطيع، فها هي ذي أرقى الأمم تحافظ على بعض تقاليدها على شرط ألا تعرقل لهم شيئًا من سياسة أو تجارة أو صناعة أو تعليم أو غير ذلك من شئون الحياة، وكثيرًا ما تراهم — إذا وجدوا التقليد عائقًا في سبيلهم — يبقون على صورته ويفرغون مضمونه وفحواه، كأنما هم ينتزعون من الأفعى سمومها ليبقى لهم جمال ظهرها الأرقط.

ولستُ أول من يتكلم في جناية أسلافنا بما فرضوه علينا فرضًا من وجهات نظرهم وأنواع سلوكهم، فقد سبق إلى ذلك منذ زمن طويل أستاذنا الجليل أحمد أمين، حين فصَّل القول تفصيلًا في جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي … لكنك تستطيع أن توسع من نطاق هذه الجناية حتى تشمل كثيرًا جدًّا من تفصيلات حياتنا، فعنهم أخذنا حب الظهور بكل ما له من ذيول، وعنهم أخذنا الوضع الاجتماعي للمرأة بكل ما يستتبع من نتائج، وعنهم أخذنا غير ذلك وغير هذا.

لكني أريد أن أترك تفصيلات ما جنوا به علينا؛ لأغوص إلى ما تحت السطح من أعماق، فهنالك في العمق البعيد أمٌّ تفرعت عنها هذه التفصيلات كلها، وهي وجهة نظر معينة تصبغ كل شيء بلونها، فورثناها عنهم كما هي وجعلنا ننظر، وإنما أقصد بذلك نظرة وصفها الشهرستاني في عبارة نقلها عنه المغفور عنه الأستاذ مصطفى عبد الرازق في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص٣٢) إذ قال: «من الناس من قسم أهل العالم … بحسب الأمم فقال: كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند، ثم زاوج بين أمة وأمة، فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهبٍ واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية، والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية.»

ولو فهمنا عبارة الشهرستاني على أن العرب والهند من ناحية يمثلون ما يسمى بالشرق، وأن العجم والروم من ناحية أخرى يمثلون وجهة النظر الغربية، كان مؤدى كلامه بلُغة يألفها قارئنا، هو أن أهل الشرق يميلون إلى الأحكام الكلية التي تطمس الفروق التفصيلية بين الأجزاء، وأن أهل الغرب يميلون إلى الأحكام الجزئية التي تلحظ ما بين تلك الأجزاء من فروق، والأَوَّلون روحانيون لا يستشهدون في أحكامهم بمشاهدات الحواس، والآخرون جسمانيون يحتكمون في معارفهم إلى ما تدلهم عليه الحواس من مشاهدات.

ولو كان هذا هكذا، ثم لو كان الأسلاف قد ألبسونا منظارهم، فقد جنوا علينا الجناية التي أودتْ بنا وستؤدي إلى مهوى الهلاك، فالبس المنظار الذي يطمس لك الفروق بين الأجزاء تجد أفراد المجتمع قد أصبحوا في عينك عجينة واحدة، لا شخصية لزيد ولا فردية لعمرو، ولا وجود لخالد، ومن ثم استبداد المستبد وطغيان الطاغية، ثم عد فالبس المنظار نفسه تجد النمل والبعوض والذباب كلها حشرات، والصقر والغراب والعصفور كلها طيور، والجير والرمل والبازلت كله صخور، وإذًا فلا مشاهدات ولا تجارب ولا علوم، ثم عد مرة ثالثة والبس المنظار الموروث الذي يطمس لك الخصائص الجزئية بين يوم ويوم وساعة وساعة، تَرَ الزمان كله قد انحصر في امتداد من فراغ وعدم؛ ومن ثم فلا تعلق بالدنيا الفارغة، ولنضع الرجاء في عالم آخر …

فالجناية الكبرى التي جنى بها أسلافنا علينا، هي هذا المنظار الذي أورثونا إياه، فاستمسكنا به وتشبثنا كأنما نفقت سوق المناظير، فلم يعد منظار سواه.

تعالوا نجرب منظار «العجم والروم» — على تعبير الشهرستاني — لتتبدل الدنيا في أنظارنا، فالعجينة المطموسة تصبح أفرادًا متباينة الصفات والخصائص، والكون الخلاء يمتلئ في أعيننا ألوانًا وأصواتًا فيعمر خرابه، وهذه الحياة الزائلة الفانية تنقلب حياة خصبة مليئة تستحق أن نعمل لها كأننا سنعيش فيها أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤