جناية الأدباء

كانت أمسيات الصيف كثيرًا ما تثقل على كاهلي، فلا أدري كيف أخلُص من ساعاتها الطويلة المديدة التي تسبق النوم؛ لذلك كنت أطيل التردد على السينما في دورها الصيفية المكشوفة، حيث «أقتل» قتلًا من مسائي ثلاث ساعات أو أربعًا، ألهو فيها عن نفسي بما أرى على الشاشة، وكان معظم الأفلام التي عُرضت في تلك الدور المكشوفة التي قصدتُ إليها وقصد إليها ألوفٌ كثيرة جدًّا ممن هجروا ديارهم فرارًا من حرارة الصيف، كان معظم هذه الأفلام عربي التأليف والتمثيل.

وإني لأشهد الله أني ما عدت من هذه الأفلام العربية ليلة، إلا ضيِّق النفس بما قد رأيت، آسفًا لهذه الهاوية التي نعيش في ظلماتها فنًّا وذوقًا وتمثيلًا وإخراجًا، ثائرًا على أدبائنا الذين غضوا أنظارهم عن هذه الصفحة البيضاء التي فتحت لهم صدرها رحبًا ليملئوها بنتاج أقلامهم؛ غضوا عنها أنظارهم، فانتهبها أصحاب الأذواق الفجَّة السقيمة، التي لا تميز بين طيب وخبيث، أستغفر الله، بل لعلها تميز بين الطيب والخبيث تمييزًا تستطيع به أن تمحو الطيب كله وأن تثبت الخبيث كله.

ولست أقصد بالخبيث هنا خبيث الأخلاق كما قد تراءى لكثيرين ممن تعرضوا لنقد أفلامنا العربية؛ لأني رجل لا أبالي في الإنتاج الفني بالأخلاق طيبها وخبيثها على السواء، بل لا أكاد أفهم اللغة التي يتحدث بها الذين ينقدون الفنون على أساس الأخلاق، ماذا عساهم يريدون بالخير الأخلاقي أو الشر الأخلاقي، حين يقولون في نقدهم لإنتاج فني إنه خير أو إنه شر؟ إن الكاتب الذي يصوِّر ملاكًا رحيمًا تصويرًا بارعًا كالكاتب الذي يصوِّر شيطانًا رجيمًا تصويرًا بارعًا … أم تراهم يقصدون بكلامهم عن الخير والشر في الإنتاج الفني، ما يبثه هذا الإنتاج في نفوس الناس من تعاليم؟ فالأدب الخير عندهم هو ما علَّم الناس أخلاقًا تواضعنا على اعتبارها رفيعة سامية، والأدب الخبيث عندهم هو ما علَّم الناس اخلاقًا اتفقنا على اعتبارها خسيسةً دنيئة؟ لو كان هذا ما يقصدون إليه بنقدهم؛ إذن فالطامَّة أكبر، وفهمهم للأدب أبعد جدًّا من الفهم الصحيح؛ لأن الأدب الذي يعلِّم الناس شيئًا ليس من الأدب في كثير، وربما كان من الأدب في قليلٍ ضئيل، فلم يخلق الله الأديب — أو رجل الفن بصفةٍ عامة — أديبًا أو فنانًا ليقف من الناس معلمًا وواعظًا، بل خلقه أديبًا أو فنانًا ليحاكي الطبيعة في خلقها للكائنات، فيضيف إلى خلقها خلقًا جديدًا من نوعٍ جديد … لكني لا أريد استطرادًا في هذا، فما أكتب الآن لأوضح رأيًا في طبيعة الفن، بل أكتب في خاطرة كانت تتردد على رأسي كلما قصدتُ دارًا من دور السينما التي تعرض أفلامًا عربية.

أعود فأقول: إني لم أُرِد بالخبيث خبيث الأخلاق، حين ذكرت عن أصحاب الأفلام العربية أنهم يثبتون على شاشتهم كل الخبيث ذوقًا وفنًّا ولا يفسحون للطيب من تلك الصفحة البيضاء مكانًا كبيرًا أو صغيرًا.

فالله أعلم مني بطبيعة هذا الذوق الذي يبيح لصاحبه أن يحشر في القصة الواحدة — وفي كل قصة مما تعرضه الأفلام العربية — كل ما تحويه الأرض والسماء من الحوادث الضخمة الغليظة، التي تكفي كل حادثة منها عشرين قصة حتى يتم تحليلها … فلا بد عند الكاتب الذي يكتب للسينما المصرية، أن يكون في القصة الواحدة يُتْمٌ وتشريدٌ وزواجٌ وطلاقٌ وغدرٌ وخيانةٌ وتهتكٌ في المراقص والملاهي بالنسبة للأغنياء، وعفة وأمانة بالنسبة للفقراء، فلا أذكر أني رأيت فيلمًا واحدًا يخلو من شابٍّ غني ذهب إلى مرقص فأحب راقصة بعد أن أراد العبث بها فردَّته عن العبث الحرام، ولما أراد الزواج منها وقف له أبوه الغني حائلًا بينه وبين من أحب، ثم لا بد أن تكون هذه الراقصة قد لجأت إلى رقصها عن طلاقٍ أصاب أمها، أو عن موتٍ حرَمَها والدًا، فاضطرت إلى الكسب عن هذا الطريق … وأنا أعيش في مصر كما يعيش هؤلاء الكتاب الذين يكتبون القصص للسينما المصرية، ولا أعلم أين أجد ما يجدونه بهذه الكثرة من أمثال هذه الحوادث؟ فكم رأوا من الشبان الأثرياء الذين تزوجوا من راقصات الملاهي رغم ذويهم؟ وكيف تقصَّوا أنباء هؤلاء الراقصات فعلموا أنهن جميعًا لاجئات من جوع وتشريد؟ وأن واحدة منهن لم تلجأ إلى الرقص عن هواية وفن؟ لكن على رسلك! فإلى من تُوجِّه هذه الأسئلة؟ أتوجِّهها إلى أصحاب القصص السينمائية العربية، زعمًا منك بأنهم أدباء يعلمون ماذا يصنعون، وهم أنفسهم لا يدَّعون لأنفسهم هذا الذي تلصقه بهم رغم أنوفهم.

هل يعلم أصحاب هذه القصص التي تعرض على شاشة السينما، أنهم يصورون بقصصهم أغلظ الأذواق الهمجية؛ إذ يقصرون تصويرهم على الحوادث الصارخة التي تتلاحق تباعًا كأنها سيل من القنابل المتفجرة؟ فصاحب الذوق الهمجي البدائي وحده هو الذي يميل إلى هذا الصراخ كله كي يصحو من نعاسه، وهو وحده الذي لا يطمئن في ألوانه المختارة إلى الهادئ الخافت، ولا يطمئن في حديثه إلى الصوت الخفيض، ولا تكفيه في حياته اللمسات الخفيفة. أما من أصاب شيئًا من تحضر وتهذيب، فتراه هادئ الطبع لا يرتاح إلى زعيق في الصوت أو ضجيج في الحركة أو صراخ في اللون، وحسبه إشارةٌ هامسة إذا أردت له يقظة والتفاتًا، ولا أحسبنا من همجية الذوق بهذه الدرجة كلها التي فرضها أصحاب الأفلام العربية.

إنه لا عجب أن نرى الأفلام العربية كلها صورة تكاد تكون واحدة لا جديد فيها، صورةٌ واحدة تتكرر، بحيث تستطيع أن تعلم في يقين أو شبهه أي الحوادث أنت راءٍ على الشاشة قبل أن تعرض القصة؛ لأن كل واحدة من هذه القصص تحيط بحوادث الدهر كلها، لا تدع منها شيئًا إلى قصة أخرى … وهل رأيت فيلمًا واحدًا قد قصر نفسه على فكرةٍ واحدة يعرضها بظلالها وأضوائها، كهذا الذي نشاهده في الأفلام الأوروبية والأمريكية الجيدة؟

لكن فيم هذا اللوم كله والنقد كله؟ إنما ينصرف اللوم إلى أدبائنا الذين جنوا على أدبهم وعلى الناس جنايةً كبرى، إذ تركوا ميدان الشاشة السينمائية لسواهم من غير ذوي الفهم الأدبي والذوق الفني، ولعلهم تركوا شاشة السينما لغيرهم؛ لأنهم نفضوا أيديهم من القصة والمسرحية جملة واحدة — إذا استثنيا حالات قليلة تعدُّ على أصابع اليد الواحدة — إن كبار أدبائنا يكتبون ويكتبون، ولستُ أدري والله فيم يكتبون، إذا كنتَ تلتمسهم في ميدان القصة والمسرحية فلا تكاد تعثر لأحد منهم على أثر، كأنما هم لا يعلمون — مع أنهم خير من يعلمون — بأن العالم كله لا يكاد يعرف من الأديب الكبير إلا كاتبًا للقصة أو منشئًا للمسرحية.

أدباؤنا الكبار في شغل عن القصة والمسرحية بما يكتبونه للصحف اليومية والأسبوعية من مقالات يذكرون فيها نتفًا وعجالات عن السياسة والاجتماع، وإذا قلنا إنهم في شغل عن القصة والمسرحية فقد أوشكنا أن نقول إنهم في شغل عن الأدب.

كيف يجوز لأدبائنا الذين هم في الطليعة، أن يزعموا لنا أو لأنفسهم أنهم يصورون آمالنا ومخاوفنا إن كانوا لا يخلقون لنا بأيديهم أشخاصًا تتجسد في سلوكهم هذه الآمال والمخاوف؟ هل يجوز لأديبٍ واحد من هؤلاء الكبار أن يدَّعي بأنه قد صوَّر الرجل من الطبقة الوسطى الفقيرة بمثل ما صوره ممثل لم يكن ينتمي إلى طائفة الأدباء، وأعني به المرحوم نجيب الريحاني؟ هل يجرؤ أديبٌ واحد من أئمة أدبائنا أن يدَّعي بأنه قد صوَّر الفساد الذي كان، والذي نرجو ألا يكون، في شخص أو أشخاص أحسن خَلقهم وتصويرهم؟

أليست فضيحة ثقافية كبرى أن تسألني: ما أبرز السمات التي تُميِّز الأدب الإنجليزي اليوم، فأجيب، وأن تسألني السؤال نفسه عن الأدب المصري فلا أستطيع الجواب؟ … إنها فضيحة ثقافية؛ لا لأني أعجز عن تحليل أدبنا المصري المعاصر فأعجز عن إخراج سماته وخصائصه، بل لأني أبحث — حين أبحث — عن الأدب الممثل لنا اليوم في قصة أو مسرحية فلا أكاد أجد من ذلك شيئًا، إنك إذا أردتَ تحليل الأدب الإنجليزي أو الفرنسي — مثلًا — لتستخرج خصاصه المميزة، فلا تستعرض الصحف اليومية هناك التماسًا لما تريد، بل تستعرض كتبًا وقصصًا ومسرحيات، فما الذي أستعرضه هنا من كتب وقصص ومسرحيات لأخلص إلى الاتجاه العام الذي يشترك فيه كبار الأدباء عندنا؟

إنَّ أئمة الأدب في شغل عن الأدب بما لست أدري ماذا، وهيأت لهم شاشة السينما مجالًا فسيحًا، إذا أرادوا حقًّا أن يتعقبوا حياتنا بالتصوير، وأن يعرضوا على الناس قطعًا حية من نفوسهم وما يختلج فيها من خواطر ومشاعر، لكنهم أجمعوا فيما بينهم — أو كادوا يُجمِعون — على أن يتركوا هذا المجال الأدبي لغير الأدباء، فجنوا على أنفسهم وعلى الأدب وعلى الناس جناية لا يمحوها عنهم إلا غفران من الله ورحمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤