المغامرة … تبدأ برسالةٍ شفوية!

انتهى «أحمد» من مغامرة «مزارع العنب»، فودَّع الشياطين الذين اشتركوا معه فيها، حيث يأخذون طريق العودة إلى «المقر السري»، في نفس الوقت الذي يتجه فيه «أحمد» إلى روما، لينضم إلى فريقٍ آخَر من الشياطين، في مغامرةٍ جديدة هي مغامرة «الطائرة المخطوفة». كانت الطائرة المخطوفة، هي تلك الطائرة التي استقلَّها الشياطين في مغامرة «رجل المستقبل»، وعندما طاردتهم العصابة في الجو، اضطروا إلى النزول بالمظلات قرب الشاطئ الفرنسي، وتركوا «كابتن ن»، قائد الطائرة ومَن معه من الملَّاحين، غير أن رسالةً وصلته من رقم «صفر»، تقول إن العصابة قد استطاعت خطف الطائرة، وإن عليه أن ينتهي من مغامرة «مزارع العنب» لينضم إلى مجموعة شياطين «الطائرة المخطوفة»، إلا أن رحلته لم تكتمل؛ ففي الطريق تلقَّى رسالةً جديدة من رقم «صفر» تقول: «انتهت مغامرة الطائرة المخطوفة بنجاح، وحقَّق الشياطين انتصارًا رائعًا كالعادة، اتجِه إلى «برن» للقاء مجموعة الشياطين هناك، انتظر رسالة أخرى!»

غيَّر «أحمد» طريقه إلى مدينة «برن» في سويسرا، كان «أحمد» يعرف أن مجموعة الشياطين التي حقَّقَت مغامرة «الطائرة المخطوفة» تضم: «مصباح»، «بو عمير»، «قيس»، «رشيد»، «زبيدة»، وكان يعرف أن هناك بعض الوقت، ما دامت مجموعة الشياطين سوف تطير من «روما» إلى «برن»، وقال في نفسه: لعلها إحدى جرائم السطو على البنوك، فسويسرا مشهورة بأنها بلد المال، حيث يضع أثرياء العالم ثرواتهم في بنوكها. استغرق في استعراض أحداث المغامرتَين السابقتَين، اللتين تُعتبران مغامرة واحدة طويلة، استطاع الشياطين خلالهما أن ينقذوا العالِم دكتور «بالم»، واختراعه المذهل، وأن ينتصروا على واحدةٍ من أكبر عصابات العالم، في نفس الوقت الذي حقَّقَت فيه مجموعةٌ أخرى من الشياطين انتصارًا آخَر على نفس العصابة، عندما أنقذت «الطائرة المخطوفة»، وهي إحدى طائرات الشياطين المُجهَّزة بطريقةٍ خاصة، يندر أن يكون لها مثيل في طائرات العالم كله، بما فيها طائرات التجسُّس. كان «أحمد» يركب قطار الشرق السريع، الذي يقطع أوروبا كلها، وقد اختار القطار للسفر، حتى يُعطي لنفسه فرصةً للراحة بعد أحداث المغامرتَين السابقتَين، في نفس الوقت يُعطي فرصةً لمجموعة الشياطين أن يصلوا إلى «برن»، فقد كان أقرب منهم إليها. قفز في رأسه سؤال: هل يحمل الشياطين رسالةً خاصة من رقم «صفر» تحدِّد لهم المغامرة الجديدة، أو أن أحد الشياطين سوف يطير من المقر السري، حيث يلقاهم في «برن»، ليحمل لهم تفاصيل المغامرة؟! أخذ يقلِّب الأسئلة في ذهنه دون أن يصل إلى جواب، لكنه في النهاية قال لنفسه: لعل عميل رقم «صفر» لديه كل التفاصيل!

ألقى نظرةً على الحقول الممتدة أمامه بلا نهاية. كان اللون الأخضر يغطِّي كل شيء، فيبدو المنظر مُريحًا للعين والنفس معًا، نظرَ في ساعة يده فعرف أنه قد اقترب من دخول الحدود السويسرية، وبعدها يكون في الطريق إلى «برن»، التي تقترب من الحدود الجنوبية لسويسرا، ولم تنقضِ نصفُ ساعة حتى كان القطار يقف عند نقطة الحدود لتتم كل الإجراءات، ثم ينطلق القطار مرةً أخرى داخل الأراضي السويسرية، يقطع أوروبا كلها من البداية للنهاية، كان اهتزاز القطار رتيبًا يحض على النوم؛ ولذلك، فقد ترك نفسه لهذه الرغبة، فاستغرق في النوم فعلًا، ولم يستيقظ إلا على صوت عجلات القطار، وهي تصدر صوتًا مرتفعًا، وتهزه هزةً قوية، فتح عينَيه ونظر من النافذة، فعرف أنه قد وصل مدينة «برن». نظر حوله، فلم يجد أحدًا ممَّن كانوا في العربة، فابتسم وهو يتحرك بسرعةٍ ويقول لنفسه: كان يمكن أن أستمر في النوم لولا عجلات القطار، إننا هنا في عالم لا يسألك فيه أحد، ولا يريد أن يعرف، إلى أين أنت ذاهب، حتى لو كنت ذاهبًا إلى الجحيم!

أسرع يقطع العربة في اتجاه الباب، ثم يقفز ليصبح على رصيف المحطة، وقف ينظر حوله، وتمنَّى في هذه اللحظة أن يكون الشياطين معه، فقد شعر بالوحدة وسط زحام الناس، قال في نفسه: إن الجماعة مسألةٌ ضرورية للإنسان، فالإنسان وحده لا يستطيع أن يواصل رحلة؛ لأنها ستكون شاقة. أخذ طريقه إلى الخارج، ثم وقف على الرصيف، يرقب حركة الشارع في هذا الوقت المتأخِّر من النهار. كانت أضواء النهار تنسحب من الوجود في هدوء، فيتلوَّن الجو بلونٍ رمادي رقيق، بينما كانت برودة محبَّبة تلذع وجهه، فيشعر بكثيرٍ من النشاط بعد ذلك النوم الطويل الذي نامه في القطار. سأل نفسه: أين الشياطين الآن في هذه المدينة الكبيرة؟ في أي فندق أو بنسيون؟ فكَّر قليلًا ثم قال: لعلَّ مكالمة تليفونية إلى عميل رقم «صفر» يمكن أن تجيب عن السؤال. نظر حوله يبحث عن تليفونٍ عموميٍّ، لكنه فجأةً ابتسم، مدَّ يده إلى جيبه الداخلي يتحسَّس شيئًا ما … اتسعت ابتسامته، وعندما أخرج يده من جيبه كان قد ألغى فكرة الاتصال بالعميل رقم «صفر»، وفي نفس الوقت، كان قد عرف، أين يوجد الشياطين الآن!

لقد استقبل جهاز الاستقبال رسالةً من الشياطين، كانت الرسالة تقول: نحن في فندق «جوته»! اتجه إلى داخل المحطة حيث توجد خريطة كبيرة للمدينة، وقفَ أمامها وأخذ يحدِّد مكان الفندق، عرف أن فندق «جوته» ليس بعيدًا، وأنه يستطيع أن يستمتع الآن بالسير في هذا الوقت الطيب، فالفندق يقع على مسيرة عشر دقائق فقط من المحطة. في نشاطٍ اتجه إلى الخارج، ثم أخذ طريقه في اتجاه الفندق، كانت الشوارع نصف مزدحمة، فكثيرون قد عادوا إلى بيوتهم، والآخَرون في الطريق إليها، فاليوم منتصف الأسبوع، وكعادة الأوربيين، يعملون بجدٍ ونشاط طوال أيام الأسبوع، ثم يستمتعون بإجازتهم في يومَي السبت والأحد، قال في نفسه: ليتنا نستطيع أن نفعل ذلك، أن نعمل جيدًا طوال أيام الأسبوع، وأن نقضي إجازة نهاية الأسبوع بطريقةٍ جيدة أيضًا!

مضت الدقائق، ومن بعيدٍ ظهر بناءٌ قديم، جعل «أحمد» يبتسم، فقد كان البناء هو نفسه فندق «جوته». وفي مكتب الاستعلامات سأل عن الشياطين، فعرف أنهم ينزلون في الطابق الأول، في حجرات ١ و٣ و٥. لم يتجه إلى المصعد، إنما أخذ طريقه إلى السلم الرخامي الناصع البياض، وفي خطواتٍ رشيقة، قفز السلالم إلى حيث يوجد الطابق الأول، وقف عند نهاية الدرجات يحدِّد أماكن الحجرات، كانت كلها على يمينه بشكلٍ متتابع، تقدَّم حتى الحجرة رقم ١، ثم طرق الباب بطريقةٍ غريبة، دقَّة، ثم دقَّتَين، ثم دقَّة أخرى. لم تكن هذه طريقة الشياطين، لكنه أراد أن يجعلها مفاجأة لهم. في نفس الوقت، وضع يده على «العين السحرية» الموجودة في منتصف الباب، حتى لا يكتشفوا وجوده، لم يُفتح الباب مباشرةً، فقد مرَّت دقيقتان، ثم فجأةً فُتح الباب بطريقةٍ حادة، نظر لمَن فتح الباب، ثم غرق في الضحك، لقد كان «مصباح» هو الذي فتح الباب، تعانَقَ الشياطين في حرارة، ثم جلسوا في حوار.

لم تكن رسالة رقم «صفر» قد وصلت إليهم؛ ولذلك دار الحديث عن مغامرة «الطائرة المخطوفة»، كان الشياطين يتبادلون وصف المغامرة، و«أحمد» يستمع إليهم، سعيدًا بالنجاح الذي حقَّقوه، فقد كانت مغامرةً مثيرة؛ فقد أرادت العصابة فك الطائرة وما فيها من معداتٍ نادرة، في نفس الوقت، كانت الحراسة حولها شديدة، بينما كان «كابتن ن» قائدها ومَن معه من بحَّارة، يقبعون في مغارات العصابة، التي تقع في مكانٍ قريب، وكانوا يتعرَّضون لأقسى ألوان التعذيب، حتى يبوحوا بما لديهم من معلوماتٍ، لكن أحدًا منهم لم ينطق، ومع ذلك استطاع الشياطين أن ينتصروا انتصارًا مذهلًا، فيخطفوا الكابتن ورجاله، ويهربوا بنفس الطائرة أيضًا.

في النهاية قال «رشيد»: لقد كانت «زبيدة» رائعة؛ فهي التي استطاعت أن تنفِّذ خطة خطف طاقم الطائرة.

ثم قام الشياطين بدورهم على أتم وجه … وعندما انتهى الشياطين من الحديث عن مغامرة الطائرة المخطوفة، سأل «قيس» عن تفاصيل مغامرتَي «رجل المستقبل» و«مزارع العنب»، أخذ «أحمد» يحكي لهم بالتفصيل بداية المغامرة الأولى، وعندما وصل في الحديث إلى لحظة اللقاء مع «بالم ١» و«بالم ٢» دقَّ جرس التليفون القريب من «زبيدة»، سكت «أحمد»، ورفعت «زبيدة» السماعة، ثم بدأت تسمع، ظهر الاهتمام على وجهها، حتى إن ذلك جذب اهتمام الشياطين، وعندما وضعت السماعة دون أن ترد، سألها «أحمد»: ماذا هناك؟!

قالت «زبيدة»: لقد وصلت رسالة رقم «صفر»، إن المتحدث هو عميله في «سويسرا»، والرسالة عبارة عن تقريرٍ طويل، سوف يصل إلينا خلال ربع ساعة!

بالرغم من أن الشياطين كانوا ينتظرون التقرير بفارغ الصبر، إلا أنهم أيضًا كانوا يريدون سماع بقية تفاصيل مغامرة «رجل المستقبل»، غير أن «أحمد» قال: سوف نجد الوقت لنعود إلى الحديث مرةً أخرى، عندما ننتهي من مغامرتنا الجديدة، إن المغامرة تجعلني في حالةٍ لا أستطيع معها الحديث عن شيءٍ غيرها … صمت لحظةً ثم قال: إن هناك سؤالين يفرضان نفسَيْهما على ذهني منذ أن وصلتني رسالة رقم «صفر» وحتى هذه اللحظة. السؤال هو: هل تقع المغامرة في «برن» نفسها؟ وإذا كانت جريمة من جرائم المال، فلماذا لم تقع في «جنيف» حيث البنوك الكبيرة؟!

قال «بو عمير»: ولماذا تظن أنها جريمة مال؟ لماذا لا تكون شيئًا آخَر؟

كان «أحمد» قد طرح السؤال حتى يبتعد عن تفاصيل المغامرات السابقة، فقد كانت المغامرة الجديدة تشغل باله كثيرًا، بجوار أنه كان يريد أن يستعد نفسيًّا للمغامرة الجديدة، قال «أحمد»: قد يكون هذا صحيحًا، فالجريمة لا تحتاج إلى مكانٍ معيَّن، إنها تقع في أي مكان في العالم، وإن كانت بعض الأمكنة تفرض لونًا معيَّنًا من الجرائم! مرَّت لحظات صامتة ثم قال «مصباح»: لعلها مغامرة لم تخطر لنا ببالٍ، فنحن في عصرٍ يشهد جديدًا كلَّ يوم!

قالت «زبيدة»: هذا صحيح!

فجأةً؛ دقَّ جرس التليفون، رفعت «زبيدة» السماعة لمدة دقيقةٍ واحدة، ثم وضعتها وقالت: الرسالة ستكون أمام الفندق بعد دقيقة واحدة!

بسرعةٍ، كان «قيس» قد قفز في اتجاه الباب، ثم اختفى. قال «أحمد»: لا بد أن عميل رقم «صفر» قد حضر لتسليمها لنا! مرَّت دقائق سريعة، ثم فتح الباب، وظهر «قيس» كان يحمل مظروفًا أبيض اللون، عليه لغة لا يفهمها سوى الشياطين، كانت اللغة عبارة عن أرقامٍ متجاورة، ففهم الشياطين أن الرسالة قد أُرسِلَت بطريقة الشفرة السرية، التي لا يعرفها أحدٌ، حتى عملاء رقم «صفر»، فهي شفرةٌ خاصة بين رقم «صفر» والشياطين، وهي تتغيَّر كلَّ فترة، كلما احتاج الأمر تغييرها، قدَّم «قيس» المظروف إلى «أحمد» الذي قرأ عليه هذه الأرقام: «١ – ٢٣ – ٢٨» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٨ – ١ – ١٦ – ٢٨ – ٢٥» وقفة «٢٦ – ١ – ٢٤» وقفة «٢٧» وقفة «١٢ – ١٠ – ٢٨» وقفة «٢٣ – ٢٣ – ١٩ – ١ – ٢٨ – ٢٦» وقفة «٢٣ – ١» وقفة «٢٨ – ٣ – ٦» وقفة «١ – ٢٣ – ١» وقفة «٢٤ – ٢٨» وقفة «١ – ٢٣ – ٢٤ – ٥ – ٢٤ – ٢٧ – ١٨ – ٢٦»، ترجم «أحمد» هذه الأرقام تبعًا للشفرة السرية فكانت: إلى الشياطين، هام وسري للغاية، لا يُفتح إلا مع المجموعة.

فتح المظروف، كانت هناك عشر ورقات فولوسكاب تغطِّيها الأرقام، وكان هذا يعني أن الرسالة طويلة، وأنه ينبغي أن تُترجم بسرعة، وحتى لا تستغرق وقتًا، فقد أعطى لكل واحدٍ من الشياطين ورقة، ليبدأ في ترجمتها، ثم في النهاية، يجتمعون لقراءة الرسالة مكتملة، انهمك الشياطين في ترجمة الرسالة، وحتى يعرف «أحمد» مضمون الرسالة بسرعة، فقد أخذ الورقات الثلاث الأخيرة ليترجمها هو، وأعطى «لقيس» ورقتَين، وأعطى «بو عمير» ورقتَين، وأعطى الباقي للشياطين، كل منهم ورقة واحدة، وبينما كان مستغرقًا في الترجمة، كانت عيناه تمُرَّان على وجوه الشياطين، ليرى مدى تأثير التفاصيل عليها، لم تمضِ عدة دقائق، حتى كانت الدهشة تغطي وجوه الشياطين، حتى إن «قيس» قال دون أن يرفع عينَيه عن الورقة التي أمامه: إنها رسالة مرتبطة بالتجسُّس. بعد لحظاتٍ أخرى قالت «زبيدة»: نعم، معلوماتٌ تباع. إلا أن ذلك لم يجعل «أحمد» ينفصل عن الأوراق التي أمامه، فقد استغرق فيها، بعد أن رأى تأثيرها على الشياطين، فجأةً؛ هتف «رشيد»: إنها مغامرة جديدة تمامًا … لكن أحدًا لم يلتفت إليه، كانت التفاصيل مثيرة جدًّا، إلى درجة أنها جذبت كلًّا منهم، كانت عينا «أحمد» تجري على الأرقام، في نفس الوقت الذي كانت يده تكتب ترجمتها، فجأةً؛ توقَّفَ وشرد قليلًا، كان يقول لنفسه: الآن فهمت، لماذا مدينة «برن» بالذات … ثم استغرق في الترجمة، كان الصمت قد لفَّ كلَّ شيء، ولم يكن يسمع سوى صوت صرير الأقلام على الورق. مضت نصف ساعة، ثم قالت «زبيدة»: لقد انتهيت، إننا أمام لغز!

وقال «بو عمير»: إنها مسألة مثيرة فعلًا!

وقال «مصباح»: نحن ندخل مغامرةً يقف العلم فيها موقفًا غريبًا!

وضع «أحمد» قلمه بجوار الأقلام، ونظر إلى الشياطين، كانوا قد انتهوا جميعًا من الترجمة، وبدأ كلٌّ منهم يقدِّم له ورقته، أخذ يرتِّب الأوراق حسب أرقامها، وعندما اكتملت، نظر الشياطين إلى «أحمد» في تركيزٍ واهتمام، فهم الآن سوف يستمعون إلى تفاصيل المغامرة التي سوف يقومون بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤