فجأة … حدث ما لم يكن يتوقَّعه!

قبل أن ينصرف الشياطين من غابة الحور، كان «أحمد» قد حدَّد بالضبط مكان الشجرة الغريبة، وعندما ضمهم الاجتماع، عرض وجهة نظره، قال: لقد لفتت نظري شجرة غريبة بين الأشجار، فهي تختلف عن أشجار الغابة في كل شيء، بجوار أنها تتميَّز بساقٍ ضخمة، إنني لا أعرف أي نوع من الأشجار هي، لكني أظن أنها مجهزة تجهيزًا ذكيًّا … توقف فجأة، بينما كان الشياطين يرقبونه وهو يعرض وجهة نظره، كان ما يقوله غريبًا فعلًا، فماذا يمكن أن تؤديه شجرة في غابة، حتى لو كانت شجرة غريبة؟!

سألت «زبيدة»: إنني لا أفهم بالضبط ما تعنيه؟!

قال «أحمد» بعد لحظة: أنتم تعرفون أن العلم اختصر الآن كل شيء، ويمكن أن تكون هناك أجهزة دقيقة جدًّا تحتل مساحةً صغيرة، ونحن مثلًا نحمل أجهزةً دقيقة للغاية … وهذا ما يجعلني أقول إن هذه الشجرة الغريبة يمكن أن تكون هي نفسها مركز الرصد والاستقبال والإرسال والترجمة وكل شيء … صمتَ لحظةً، ثم أضاف: إنني في حاجةٍ إلى معلوماتٍ دقيقة عن الأشجار، وأماكن زراعتها، والأجواء التي تنبت فيها.

قال «مصباح» بسرعة: يمكن أن ننزل الآن إلى إحدى المكتبات، للحصول على كتابٍ يعطينا هذه المعلومات التي نريدها، كان اقتراح «مصباح» طيِّبًا، فوافق الشياطين عليه، وفي دقائق كانوا يأخذون طريقهم إلى الخارج، وقبل أن يخرجوا من باب الفندق، قال «أحمد»: ينبغي ألا نتحرك معًا، حتى لا نلفت نظر أحد، فمَن يدري؟ قد تكون هناك بعض العيون التي ترصدنا. وهكذا انقسم الشياطين إلى نفس مجموعتَي الغابة، مجموعة تضم «أحمد» و«مصباح» «بو عمير»، ومجموعة أخرى تضم «قيس» و«رشيد» و«زبيدة» … كانت المجموعة الأولى تسير في المقدمة، وعلى بُعد عدة أمتارٍ منها، تسير المجموعة الثانية، كانت الأحاديث التي تدور أحاديث عادية بعيدة عن المغامرة، كان المساء قد بدأ يزحف على الشوارع التي بدأت تُضاء، وكان هذا يعني أن المحلات توشك أن تغلق أبوابها … ولذلك فقد أسرعت المجموعة الأولى حتى لا يضيع الوقت. وفي شارع ٣٦ ظهر عدد من المكتبات، وعند أول مكتبة، توقفت المجموعة، ودخل «أحمد» وحده، اتجه إلى البائع، وطلب الكتاب الذي يريده، فنظر له الرجل مبتسمًا، وهو يعتذر اعتذارًا رقيقًا، عاد «أحمد» وتحركوا إلى المكتبة المجاورة، لكنهم أيضًا لم يجدوا سوى الاعتذار، طال البحث دون العثور على الكتاب المطلوب، قال «أحمد» في النهاية: يبدو أننا يجب أن نلجأ إلى عميل رقم «صفر» … وأمام ذلك قرروا العودة إلى الفندق، كانت المجموعة الثانية تتبعهم عن بُعد، لكن فجأةً توقَّفَ «أحمد» وهو يضع يده على جهاز الاستقبال، نظر له «مصباح» و«بو عمير» فقد عرفوا أن هناك رسالة ما، مرَّت دقيقة ثم التفت «أحمد» في هدوء، وكانت الرسالة قد انتهت، نظر بطرف عينَيه بينما كان قد بدأ يتحرك من مكانه، ثم علَت ابتسامة هادئة وجهه، وهمس: تمامًا كما توقَّعت، إن هناك عيونًا ترقبنا!

لم يلتفت أيٌّ من «مصباح» و«بو عمير»، فهما يعرفان أن ذلك يمكن أن يلفت النظر إليهما، وسارا بجوار «أحمد» في هدوء، في نفس اللحظة التي أرسل فيها رسالة إلى المجموعة الثانية، يطلب منهم أن يتجهوا إلى الفندق، ثم همس في هدوء: إن رجل الغابة، يتبعنا! سار الثلاثة في خطواتٍ بطيئة، يمكن أن تعطي للرجل فرصة اللحاق بهم، أخرج «بو عمير» مرآة صغيرة، ثم وجهها في اتجاه الرجل، ونظر فيها، جاءت صورة الرجل في المرآة واضحة تمامًا، فقال: إنه يسير خلفنا، على بُعد عشرين مترًا.

سأله «أحمد»: وأين الشياطين؟ ظلَّ «بو عمير» يرقب المرآة بحثًا عن الشياطين، كان عدد المارة قليلًا، مما أتاح له فرصة البحث جيدًا، قال بعد لحظاتٍ: يبدو أنهم غيَّروا طريقهم واتجهوا إلى الفندق، فهم لا يظهرون خلفنا … أسرع «أحمد» يرسل رسالة إلى الشياطين، يطلب منهم الاتصال بعميل رقم «صفر»، للحصول على معلوماتٍ عن أشجار الحور، وأشجار الصنوبر، ثم قال في نهاية الرسالة: استعدوا، فقد نبدأ المعركة الليلة! ظلَّ شياطين المجموعة الأولى في طريقهم، وكان «بو عمير» يراقب المرآة بين كل لحظةٍ وأخرى، وينقل إلى «أحمد» و«مصباح» المسافة التي يبعدها الرجل. همس «أحمد»: ينبغي أن نغيِّر اتجاهنا حتى نتأكد، فربما يكون اللقاء مصادفة! عند أول شارع انحرفوا فيه، واستمروا بنفس سرعة المشي. بعد دقائقٍ رفع «بو عمير» المرآة، ونظر فيها ثم همس: لقد ظهر عند ناصية الشارع … بعد قليلٍ أضاف: لقد انضم إليه آخَر، وهما يسيران خلفنا!

قال «أحمد»: إذَن، لقد شكَّ الرجل في أمرنا، نحن الآن نقترب من لحظة الصدام … مرَّ بعض الوقت وهم يسيرون، ثم قال «مصباح»: أقترح أن نجلس في أحد الأماكن العامة؛ لنرى ما سوف يحدث!

انتهى الشارع، فانحرفوا إلى شارعٍ آخَر، ظهر أحد المقاهي في منتصفه، فقال «مصباح»: سوف نجلس في هذا المقهى! تقدموا أكثر حتى دخلوا المقهى وجلسوا فيه. كان «مصباح» يجلس ووجهه إلى الباب، في نفس الوقت، جلس «أحمد» و«بو عمير» أمامه، وظهرهما إلى الباب، قال «مصباح» بعد دقائقٍ: لقد دخلا المقهى، وجلسا في أحد الأركان بالقرب من الباب. جاء الجرسون، فطلبوا شيئًا ساخنًا وتشاغلوا بالحديث، بينما كان «مصباح» يرقب الرجلَين بين كل لحظةٍ وأخرى. مرَّ بعض الوقت، وجاءهم الشاي الساخن، الذي كان البخار يتصاعد منه، همس «أحمد»: سوف أخرج لبعض الوقت وأعود، فارقبا حركتهما جيدًا!

قام في هدوءٍ وانصرف، دون أن يُلقي نظرةً على الرجلين، وعندما اختفى خارج المقهى، قال «مصباح»: يبدو أن أحد الرجلين سوف ينصرف! ولم يكد ينتهي من جملته، حتى كان أحد الرجلين قد انصرف فعلًا، وكان هو نفسه رجل الغابة، قال «مصباح»: هل أتبعه؟

ردَّ «بو عمير» بسرعة: إن ذلك سوف يلفت نظر الرجل الآخَر، دع الأمور تسير في مجراها الطبيعي! مرَّت نصف ساعة، كان الرجل الآخَر لا يزال في مكانه دون أن يتحرك، بدأ «مصباح» و«بو عمير» يشعران بالقلق، «فأحمد» لم يعُد، كما أنه لم يرسل لهما رسالة … همس «مصباح»: أفكِّر في أن ننصرف! مرَّت دقائق وقال «مصباح»: ينبغي أن ترسل رسالة إلى الشياطين … فكَّر «بو عمير» قليلًا ثم وضع يده في جيبه، وبدأ يلمس الجهاز لمساتٍ رقيقة، ليرسل إلى الشياطين الرسالة، وعندما انتهى منها انتظر، كانت الرسالة خاصة ﺑ «أحمد»، فجاءه الرد: «لا توجد أخبار، المعلومات وصلت من العميل!»

فجأةً؛ ظهر «أحمد»، كانت تبدو على وجهه ابتسامة هادئة وانضم إلى الآخَرين، وعندما جلس همس: يجب أن نبدأ العمل، فقد ظلَّ الرجل يتبعني طوال هذه الفترة، بالرغم من أنني غيَّرتُ طريقي أكثر من مرة!

ثم أخرج من جيوبه بعض قطع الشيكولاتة والبسكويت، وقال مبتسمًا: خذ هذه، حتى لا يشك في أنني كنت ألاعبه! ابتسم «مصباح» و«بو عمير»، وهما يأخذان بعض قطع الشيكولاتة، قال «بو عمير»: لقد وصلت المعلومات إلى الشياطين في الفندق! فكَّر «أحمد» قليلًا وقال: لا ينبغي أن نعود إلى الفندق الليلة، لقد ذهبت إلى حيث تقف سيارتنا «الستروين» هناك، ثم ركبتها وعدت، ومع ذلك ظلَّ رجل الغابة ورائي، يجب أن نحصل على المعلومات، ثم نتدبر أمورنا!

قال «مصباح»: يمكن أن ننصرف الآن، وعن طريق تليفون السيارة نستطيع أن نحصل على المعلومات! فكَّر «أحمد» قليلًا، ثم تساءل: ترى، هل سجلت العصابة هذه الرسائل التي تتبادلها مع الشياطين؟!

صمت الاثنان قليلًا، ثم قال «بو عمير»: لهذا؛ يجب أن نسرع بالانتهاء من المغامرة! استدعى «مصباح» الجرسون، ثم دفع الحساب وانصرفوا، كانت «الستروين» الخضراء تقف قريبًا من المقهى فركب الثلاثة، كان «بو عمير» يجلس إلى عجلة القيادة، فوجَّهَ مرآة السيارة في اتجاه باب المقهى، ليرقب خروج الرجلين، في نفس الوقت أسرع «أحمد» بالاتصال بالشياطين، وهو يهمس: «غيِّرْ لون الزجاج» … ضغط «بو عمير» على زر في تابلوه السيارة، فأخذ الزجاج يتلوَّن بلونٍ أخضر غامق، فيُخفي مَن بداخلها، وإن كان لا يحجب الرؤية عنه، تحدَّث «أحمد» إلى «قيس» الذي أخذ يقرأ له في إيجاز، معلوماتٍ سريعة عن شجرة الحور، ثم شجرة الصنوبر، وعندما انتهت المكالمة، قال «بو عمير»: لقد خرجنا منذ فترة، وها هما يقفان على رصيف الشارع، قال «أحمد»: تحرَّكْ إذَن! أدار «بو عمير» محرِّك السيارة، وأخذ يتحرك في هدوء، ثم قال: إن هناك سيارةً تقترب منهما! قال «أحمد» بسرعة: يجب أن نختفي قبل أن تصل إليهما! ضغط «بو عمير» بنزين السيارة فانطلقت فجأة.

قال «أحمد»: انحرِف عند أول شارع، ثم أعطِني فرصةً للنزول، واطلب سيارة تنتظرني عند الدرجة ٩٠ عند أول شارع … في هذه اللحظة قال «بو عمير» لقد ظهرت السيارة … وعندما دخل الشارع أبطأ السرعة، فقفز «أحمد» بسرعة، واختفى في باب أحد المنازل، في نفس الوقت الذي انطلق فيه «بو عمير» بالسيارة. مرَّتْ دقيقتان، وشاهد «أحمد» من مكانه سيارةً بُنِّية اللون، تنطلق بسرعة، واستطاع أن يرى في الكرسي الأمامي رجل الغابة، ابتسم في رضا، ثم خرج من المنزل، واتجه إلى النقطة التي حدَّدَها عند الدرجة ٩٠ من الشارع الرئيسي، قال في نفسه: ينبغي أن أقوم بمغامرةٍ، وهي لن تتم إلا في الليل … كان يسير بسرعة، حتى يصل إلى النقطة التي حدَّدَها، وبعد ربع ساعة، وصل إلى هناك، كانت سيارة «رينو» سوداء تقف وحيدة فاقترب منها، وقد أخرج مفتاحًا خاصًّا، وضعه فيها، ثم فتح الباب، وفي لحظاتٍ كان يمرق في الليل، إلى حيث توجد غابة الحور، ترك مدينة «برن» خلفه، ولم يكن أمامه سوى الحقول التي تمتد في عمق الليل، ومصابيح بعيدة تلمع وسط الظلام، قال لنفسه: لماذا اخترت شجر الحور وشجر الصنوبر، ظلَّ يعيد السؤال في رأسه ثم قال لنفسه: لماذا لا تكون شجرة بلوط؟! إن شجرة البلوط أكثر ضخامة، ويمكن أن يستوعب أي شيء! أخذ يتذكَّر تلك الشجرة الغريبة التي لفتت نظره في الغابة، ويستعيد صورتها، قال لنفسه: إن أكثر ما لفت نظري لها، هو درجة نموها، فهي تبدو ذابلة قليلة بجوار أن ساقها مختلفة فعلًا عن بقية الأشجار، كما أنها أضخم وأكثر ارتفاعًا، وهذا يُعطي فرصة لتنفيذ هذه الفكرة الجهنمية، كان قد اقترب من الغابة، التي كان يلفها الليل، أوقف السيارة على جانب الطريق في مكانٍ آمن، ثم غادرها في هدوء … سار في حذر حتى ابتعد عنها، ثم استدار يُلقي نظرةً على السيارة، فلم يرها.

ابتسم وقال في نفسه: «إنه اختيار جيد»، تقدَّم في حرص، حتى وقف على مشارف الغابة، تلفَّتَ حوله، يرقب ما يمكن أن يظهر، فهو يعرف أنه من الضروري أن تكون هناك حراسة ما، إذا كان كل ما فكَّر فيه صحيحًا! خطا فوق الحشائش الخضراء، التي كانت تعطيه فرصة للتقدُّم، فهي لا تُصدر أيَّ صوت. ألقى نظرة وسط الظلام يحدِّد مكان الشجرة، كما رصده في النهار، لكنه فجأةً؛ سمع صوتًا يتحدَّث، تجمَّدَ في مكانه، ثم نزل على ركبتَيه في هدوء، وأخذ يتقدَّم على مهل، اقتربت الأصوات أكثر، وإن كان لم يستطع تمييزها جيدًا، توقَّفَ عن التقدُّم، وظلَّ ينصت إلى الأصوات في تركيزٍ شديد، سمع صوتًا يقول كلماته في بطء: إن الرسالة الأخيرة التي التقطت من ألمانيا سوف تكون صفقة طيِّبة بالنسبة لنا، فهي تهمُّ أمريكا تمامًا!

ردَّ عليه صوت آخَر يقول كلماته بطريقةٍ جافة: إنها أيضًا تهم الاتحاد السوفيتي، فهي تحمل معلوماتٍ عسكرية غاية في الخطورة … صمت كل شيء، حتى الأصوات التي كانت تتكلم اختفت، ظلَّ في مكانه لا يتقدَّم لبعض الوقت، ثم فجأةً، ظهرت الأصوات من جديدٍ، لكنها كانت بعيدة، فعرف أن صاحبَيها قد ابتعدا، تقدَّم أكثر في اتجاه الشجرة، ثم توقَّف عندما اقترب منها، مدَّ يده يتلمسها، ثم تلمس أخرى قريبة منها، كانت الاثنتان قريبتَين تمامًا، قال في نفسه: إنني أخطأت الطريق، فكَّر قليلًا، ثم استعاد المكان في ذاكرته، تحرَّك من مكانه في اتجاه اليمين قليلًا، ثم مدَّ يده، يتلمَّس أقرب شجرة إليه، لكن يده توقفت فوق ساق الشجرة، وقد تناهى إلى سمعه أصوات أجهزة تعمل، كانت الأصوات هادئة جدًّا، حتى إنه لا يمكن سماعها بسهولة، اقترب من الشجرة أكثر، ثم وضع أذنه عليها، وبدأ يتسمَّع، علَت الدهشة وجهه، لكن فجأة؛ حدث ما لم يكن يتوقعه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤