الفصل السادس عشر

تجارة الفرنسيين الأولى في سوريا – تعيين القناصل – قناصل بيروت يحمون المصالح الوطنية من المصريين – الكراهية التي توحيها مهمة القناصل.

***

يُعتقد أنه — حوالي القرن الثامن — كانت الجولة الأولى التي قام بها أبناء بروفانسيا، أبطال فرنسا — إلى شاطئ سوريا — حيث التقَوُا الفينيقيين الذين تَبيَّن أنهم تفوَّقوا في آسيا على جميع الشعوب التجارية الأوروبية، والحوادث التاريخية التي تناقلتها عدة كتب؛ تنبئنا بأن القناصل الأُوَل الذين عُرفوا في سوريا كانوا أيضًا فينيقيين.

إن أصحاب المراكب وربابنتها كانوا هم الذين ينتقون في البدء القناصل، وكانوا يختارونهم — دونما تمييز — من بين التجار المنتشرين في كل مكان لتعاطي أعمالهم التجارية، شرط أن يساعدوهم بإرشاداتهم ومكانتهم، ويسهِّلوا لهم بيع بضائعهم، وشراء ما هم بحاجة إليه عند عودتهم، وأن يحموهم على الأخص من المخاطر التي يتعرضون لها في البلاد. وبكلمة أدق، أن يقوموا بحمايتهم من كل تَعَدٍّ صادر عن الأجانب أو المواطنين، وذلك كله في مقابل جُعْلٍ ما.١

وعندما تبيَّن أنهم كانوا يضرون أكثر مما ينفعون مواطنيهم وتجارتهم، أصدرت عدة قوانين لم تمنح بموجبها المراكز الهامة إلا للأشخاص الذين هم من أصل شريف، وعريقي النسب، ومن رعية الملك، وذوي نفوذ واقتدار.

كانت زيارة الأماكن المقدسة — بادئ ذي بَدء — الباعث الذي اجتذب الأوروبيين إلى هذه البلاد. إلا أن حافز الطمع أخذ يمثل دوره فيما بعد، فهبَّ أسلافنا، الذين لا يقلون مقدرة عن أهل البلاد، إلى مزاحمتهم في التجارة التي تفرَّدوا بها في ذلك الزمان.

«وحينذاك — وهذا ما نقله السيد دي بوكافيل — شوهد حشد غفير من زائري الأماكن المقدسة ينزلون إلى شواطئ فلسطين، وقد أتَوْا مدفوعين بحبهم للتجارة أكثر منهم بالتقوى؛ لأن الفينيقيين وتجار فردان كانوا يتاجرون بالرقيق الأبيض، فيبيعون مواطنيهم من المغاربة ليستخدموهم في حراسة حريمهم.»٢

ومهما تكن الأسباب والدواعي، فإن العلاقات التجارية لم تستقر بصورة منظمة إلا في أثناء الحروب الصليبية حينما أُنشئت لها مؤسسات خاصة؛ عند ذاك تدخَّل الباباوات ليعاضدوا بسلطتهم الحقوق الممنوحة للتجار. ويروي السيد دي بوكافيل أن غريغوريوس التاسع أيَّد ببراءة الامتيازات التي منحها جان دي بلين لأهالي مرسيليا، وكان يومذاك سيد بيروت أيضًا.

إننا لا نزال نجد اليوم في مجموعة نظم مدينة مرسيليا قانونًا خاصًّا يتعلق بالقناصل، صدر عام ١٢٥٣. وتشير إحدى مواد هذا القانون إلى العهد الذي كان يقطعه القناصل على أنفسهم، حالفين اليمين بأنهم لا يصحبون معهم ولا يُدخلون إحدى بنات الهوى إلى البلاد الخاضعة لسلطانهم. وهذا — طبعًا — يمت بصلة إلى الاتجار بالرقيق الأبيض الذي استمر بطريقة سرية.

وكان يلحق بالقناصل — الذين كان يُقتضَى إبدالهم كل سنة — كاتب رسمي يقوم بوظيفة محرر.

على أن مغادرة الصليبيين سوريا كانت ضربة قاضية على المؤسسات التجارية التي لم يُفكر في إنعاشها إلا بعد انقضاء زمنٍ ما؛ فكنا كأنما نبتدئ من جديد. ويظهر أنه — بهذه المناسبة نفسها — قد تمكَّنا من تعاطي التجارة مجددًا في الشرق بواسطة الفينيقيين أيضًا؛ وهكذا وجَّه الإفرنسيون خُطاهم الأولى نحو مصر، وشعر لويس الحاديَ عشرَ بضرورة دعم هذه الأعمال التجارية الحديثة العهد، فمنع بضائع الشرق من دخول المملكة إلا إذا كانت محمولة على مراكب وطنية.

والمظنون أن تاريخ إعادة قنصليات فرنسا إلى طرابلس وسوريا وبيروت وقبرص يرقى إلى مطلع القرن السادس عشر. قال صاحب المذكرات التاريخية الديبلوماسية: «إن القناصل لم يكونوا يخرجون حتى إلى ردِّ الزيارة إلا تحت مظلات تُرفع بالأبهة نفسها التي نشاهدها في احتفالاتنا الدينية. وهذا التقليد — الذي يبدو لنا اليوم مستهجنًا — كان يراعَى يومذاك بدقة، وقد يكون ذلك حقًّا لأن الشرقيين عبيد يجب أن يبهرهم بهاء جهاز مهيب.»٣

وهذه العادة هي — فيما عدا ذلك — ذات صلة وثيقة بالزمان. إن موظفي السلطات التركية كانوا أنصاف آلهة؛ ولهذا وجب أن يحاط القناصل بكل ما يُستطاع من الإجلال.

تمتع الإفرنسيون الذين أقاموا في سوريا بسلطان الامتيازات التي أقرتها المعاهدات المختلفة المعقودة مع الباب العالي، وإنهم مدينون بهذا لنشاط القناصل الذين حافظوا عليها ولمقدرتهم، فلم تُمس في أثناء الاحتلال المصري. أراد الذين كانوا يحكمون بِاسم محمد علي أن يزعموا أنَّ سوريا ستُحكم طبقًا للشرائع المتبعة في مصر، وهي الشرائع التي تلغي الضرائب وغيرها من التقاليد البالية. بَيْدَ أنها لم تكن غير محاولات جُربت فباءت أخيرًا بالفشل.

إن هذا الإجراءات الهامة التي رأَوْها في أوروبا ضرورية، وهي في الحقيقة نافعة، لا تنتج إلا المساوئ متى كانت في أيدي سلطات تشبه السلطات السورية، هذه السلطات التي يقف منها الأوروبيون موقفًا شريفًا، في حين أن السوريين لا يتعاطَوْن معهم إلا بكراهية ظاهرة ناتجة عن قلة الثقة.

أما فيما يتعلق بالإفرنسيين فإن جميع المؤسسات يُعهد بها — في الأساكل — إلى الضباط الذين يوفدهم الملك ليقوموا بإدارتها، وكان السلطان قد منحهم السلطة المطلقة في تولِّي شئون مواطنيهم؛ فكانوا يمارسونها بحرًا وبرًّا.٤

وهكذا نتج عن هذا القرار الملكي أن الفرنسيين أمسَوْا خاضعين لشرائعنا في تعاملهم مع بعضهم. وهذا القرار مبني على المبدأ القائل بوجوب اعتبار المواطنين الفرنسيين الذين يقيمون في الشرق كأنما هم في مستعمرة، بقطع النظر عن شرائع البلد التي لم يُشعرهم بها قنصلهم.

وقد أثبتت التجارب الطويلة أن الضمانة التي يستطيع إفرنسيو أساكل المشرق الاعتماد عليها، والمنافع التي يجنونها من اتِّجارهم فيها، كانت ترتكز على حماية نشيطة وسياسة موالية لمبادئ دولة السلطان، والمعاهدة المعقودة مع هذه الدولة، وعُرْف رعاياها وعاداتهم.٥

أما المؤسسات الإفرنسية فهي — بلا شك — أحسن تنظيمًا في الشرق من مؤسسات الدول الأخرى، إلا أنه بعد الانقلابات التي حصلت في فرنسا لم تعد الأنظمة المطبَّقة في مؤسساتنا تتناسب وأنظمة وطننا الأم؛ ومن هنا نشأ الميل إلى العصيان، فذهب بعض المواطنين إلى أنه لا يجب الخضوع لقوانين تقتضينا أكثر مما تنص عليه شرائعنا. وقد ساعد على ذلك تردد القناصل المتواصل في تطبيق القوانين التي اعتبروها تتجاوز حدود سلطتهم بعد وضع نظامنا الجديد.

إن مخالفة الأنظمة تعود إلى عامل سياسي هو الخطأ في الرأي؛ فهو يلعب دوره في بعض الأحيان حتى في هذه البلدان البعيدة. لقد خلق لي مواطني عدة متاعب، إلا أني لم أشاهد بينهم دعاة سيِّئي النية يبشرون بمذهب التسامح السامي، ثم يخوِّفون الموظف المتقلقل فيُحجم عن استخدام مواهبه ونشاطه لخدمة الأمة؛ لأنهم يصوِّرون له صفاته القيِّمة كأنها منن الطبيعة الماكرة، وواجباته كأنها مشاكل معقدة؛ وهكذا تعجز السلطة — التي تعاكس في سيرها — عن ممارسة حقوقها؛ فتنحصر في نطاق ضيق ولا تعمل إلا عند الحاجة الملحة. وما هكذا يجب أن يخدم جلالته. إن أوامره مهما تكن تافهة، يجب أن تكون لها قوة القانون، ولكي تُحترم يجب العمل بها وتنفيذها بلا هوادة.

كانت وزارة الخارجية قد باشرت تحوير أنظمتنا عبر البحار وتصحيحها. إلا أنها توقفت عام ١٨٣٤ بعدما نقحت بضعة فصول من أحكام قانون عام ١٧٨١. ثم إنها في سنة ١٨٣٦ نشرت القانون الجديد المتعلق بقمع الجرائم وعقوبتها. وهذا العمل الأخير يرغب فيه كثيرًا مَن يميلون إلى التقيُّد بنظام، ويشعرون أن التقيد بالأنظمة المحكمة التنسيق تقيُّدًا دقيقًا، توطيدٌ لاتحاد الفرنسيين القاطنين في الشرق. وهذا الاتحاد هو الزاوية التي يُبنى عليها كيانهم، وفيه كل قوتهم؛ فالفوضى التي تسود اليوم أعمالنا في تركيا إنما هي دعوة إلى نهج مثل ذلك النهج للتملُّص من عنف قوانيننا. وبما أنه لم يُنظَّم شيء في هذه البلدان — ولو بصورة تقريبية — فمن الضروري إذنْ أن يكون لعلاقات مواطنينا برؤسائهم استقرار شرعي لا يمكن الانحراف عنه مطلقًا.

إنني بِناءً على هذا الأساس أرى مهمة القنصل توحي ارتياحًا تامًّا. إنها عادلة جازمة وصُلبة، وهذا ما يجعلها مفيدة ومحترمة.

إن قانون عام ١٧٨١ والأنظمة الملحقة به قد أدَّت إلى إحاطة قناصل الملك بكثير من الاعتبار، فاحتفظوا دائمًا بحق التقدم على جميع قناصل الدول. أما اليوم فأخذ وزراء السلطنة العثمانية يعاملونهم على قدم المساواة. إن عدم الاستقرار على حال — في هذه البلاد — يجعل المهمات القنصلية شاقة جدًّا؛ فتارة يتوجب على القناصل أن يقاوموا السلطة العليا للحصول على أوامر تعيد إلينا ما انتُقص من معاهدتنا، وطورًا يقتضي عليهم أن يداعوا المرءوسين الذين يحرِّفون مضمون هذه الأوامر. إن الأوامر الأكثر وضوحًا تُنسى في بحر شهر واحد في أغلب الأحوال، وهنا الطامة الكبرى، ولا سيما إذا استوجبت المطالبة بها مقاضاة الرئيس.٦

غير أن العمل في هذه البلدان لا يشبه العمل في أوروبا، وهو ينقلب رأسًا على عقب بين ساعة وأخرى. إن الصداقات الخاصة تُسهِّل العمل أكثر من الأوامر الصادرة عن العاصمة؛ ففي هذه الصداقات تمهيد عظيم لطرق القناصل، ويمكنني أن أكرر هنا بأن ارتشاء رجال السلطات أو لين جانبهم أمام الصداقات هو الذي يقينا شر تعصبهم وظلمهم. فالخدمات التي التمسها القناصل من ذوي السلطة قد حصلوا عليها في مناسبات شتى، إن رجال الدولة يحتاجون في حل مشاكلهم إلى وسطاء غير قابلي الرشوة. ولما كانوا جد حذرين فإنهم يتلمسونهم عندنا؛ ولهذا يتوسط الجهاز القنصلي — في حالات الثورة على الحكام — ليعيد الأمن إلى نصابه.

كانوا يعتبرون القناصل — فيما مضى — رهائن في الأساكل. بَيْدَ أنهم رهائن لطيفة يجب أن تُعامَل بلين؛ فما من عمل أجدى من مطالبة الدولة بحماية التجارة، والمحافظة على أمن صحيح في البلدان الخاضعة لأعمال القناصل، على أن تزورها غالبًا سفن جلالة الملك، فيرى الناس بدهشةٍ هيئتها الفخمة.

كنت على ظهر الباخرة «إيفجيني» التي تُقل صاحب السمو الأمير ده جوانفيل، فأعلنوا وصول حاكم بيروت، فتقدمتُ إلى جسر السفينة لأقوم بالترجمة، فرأيت عليه الاستغراب الذي فوجئ به عند وصوله إلى الشاطئ. ومع أنه شاهد منذ أيام قليلة أجمل بارجة أميركية، ومثل هذه البارجة لا تنزل إلى البحار إلا بعد أن تستكمل زينتها الخاصة، قال لي: لا وجه للمقابلة؛ فهنا الروعة والأناقة بأسمى معانيهما.

إن أكبر مرارة يشعر بها القنصل — في أثناء قيامه بمهمته — هي أن يرى نفسه مضطرًّا إلى الابتعاد عن وطنه، وأن يعيش شبه منسيٍّ. ففي فرنسا — سواءٌ أكان ذلك في الجيش أو في البحرية — تقدَّر أعمال كل امرئ دون أن يكون للوساطة يد في الدلالة على أعماله المشرفة. إن عدل الرؤساء يأبى أن يبقى واحد منهم منسيًّا؛ فالوزراء هم الذين يقترحون على الملك ترقية الموظفين ومكافأتهم، والحق يقضي أن يكافأ كل من أحسن العمل. إلا أنه في بعض الأمكنة التي تُزاوَل فيها وظيفتنا القنصلية، قد يُبدي القنصل المتفرد باستحقاقه دهاءً عجيبًا فلا يعود عليه ذلك بأقل شهرة. لقد رمَوْه في فم المهالك كخفير مُخاطَر به، ثم نسُوه، فأمسى ولا عزاء له سوى راحة ضميره وتهاني مواطنيه المحيطين به في دار غربته. إن هذا كثير بلا ريب، وهو كافٍ للإفرنسي الذي خُلق أقل حبًّا للفخفخة. إننا نود أن نُحَبَّ عندما نَخدم، فكيف نثبت أننا نلنا رِضَى رؤسائنا وحقَّقنا آمالهم إذا لم يُبدوا لنا سرورهم على سمع الناس وبصرهم؟

هوامش

(١) فالين، شرح النظام البحري، الجزء الأول، ص٢١٨.
(٢) مذكرات تاريخية وديبلوماسية، ص١٨
(٣) مذكرات تاريخية وديبلوماسية، ص٥٢.
(٤) معلومات عن قانون ١٧٨١، القسم الثالث، النبذة ١٧.
(٥) مقدمة قانون ١٧٨١.
(٦) إن هذه الملاحظة — التي كُتبت على عهد محمد علي وكان يمثله في دمشق ضابط سوري — لا تطبَّق اليوم إلا بالنظر إلى السلطة المحلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤