الفصل الرابع

الجينوم البشري في علم الأحياء والطب

مشروعان ورؤيةٌ واحدة

يُشار كثيرًا إلى المرحلة الأولية من تحديد تسلسل الجينوم البشري باسم مشروع الجينوم البشري. لكن هذا الإطار شهد إقامة مشروعَين مختلفَين بالطبع؛ أحدهما مموَّل من القطاع الحكومي والآخر بدعم من شركة خاصة. وكذلك لا توجد إجابة بسيطة على السؤال عن هوية أصحاب الجينومات التي حُدد تسلسلها. فالمشروع الحكومي استند إلى عينات حمض نووي مستخرَجة من خلايا دم بيضاء تبرَّع بها عدد من الرجال والنساء المجهولين. وقد ورَدَ أنَّ الجزء الأكبر من بيانات التسلسل استُخلص من متبرِّع واحد في مدينة بافلو بولاية نيويورك. أما في حالة المشروع المنافس الذي أقيم بتمويل خاص، ونفَّذته شركة سيليرا جينوميكس التي يملكها كريج فينتر، فقد أُخذَت عينات الحمض النووي التي حُدِّد تسلسلها من خمسة أفراد (منهم فينتر نفسه).

تذكَّر أن المشروعَين اختلفا اختلافًا كبيرًا في الاستراتيجيات الأساسية التي اتبعاها. فالمشروع الحكومي اعتمد بشدة على إنتاج ما يُسمى بالخريطة المادية التي شارك في وضعها عددٌ كثيف من الباحثين، والتي تُعَد تمثيلًا دقيقًا لبِنية كل كروموسوم يُمكن أن تُربط به قِطع أصغر من التسلسلات المجمَّعة في النهاية. وقد استغرق المشروع ثلاثة عشر عامًا (١٩٩٠-٢٠٠٣)، وكلَّف إتمامه ما يُقدَّر بنحو ٣ مليارات دولار أمريكي. أمَّا مشروع فينتر، الذي بلغت تكلفته ٣٠٠ مليون دولار أمريكي، وبدأ في عام ١٩٩٨ مستعينًا بأحدث أجهزة تحديد التسلسل بتقنية سانجر، فكان قائمًا على نهج التشظية؛ إذ تركَّزت الجهود على توليد قراءاتِ تسلسلاتٍ مفردة وتجميعها في متجاورات وسقالات أكبر حجمًا. (يُزعم أن تجميع فينتر اعتمد على البيانات الأولية الصادرة عن المشروع الحكومي، وقد كان هذا الادعاء موضع خلاف؛ لأنَّ عملية التجميع، من المنظور الحرفي، لم تكن اختبارًا حقيقيًّا لنهجٍ قائم على تحديد التسلسل بالتشظية فقط.) وعمليتا التجميع اختلفتا من حيث عدد الفجوات التي احتوت تسلسلاتهما عليها، ومن حيث البنية المادية لجينومَيهما، وعدد الجينات التي توقَّعتاها. ولكن مع أخذ جميع الأمور في الحُسبان، فإنهما كانتا متشابهتين كثيرًا؛ فقد اعتُبر أنَّ كلا الجينومين «مكتمل» بنسبة تُناهِز ٩٠ في المائة في وقت النشر عام ٢٠٠١.

تجدر الإشارة مجددًا إلى أنَّ كلا المشروعَين استخدم عينات حمض نووي من أكثر من شخص واحد، ومع أنَّ تلك الخطوة اعتُبرت ضرورية من أجل تقليل التعارض مع المعايير القانونية والأخلاقية، فإنها أدت إلى إنتاج تسلسلات جينومية مركبة. وفي عام ٢٠٠٧، نشر فريق كريج فينتر أول جينوم لفرد واحد (وقد كان جينوم كريج فينتر نفسه). ثم نُشر بعدها بفترة قصيرة التسلسل الجينومي لجيمس واطسون، الأمريكي المشارك في اكتشاف بنية الحمض النووي، وكان تسلسلًا جديرًا بالملاحظة؛ لأنه أول تسلسل يُحدد باستخدام إحدى تقنيات الجيل الثاني (وهي طريقة تحديد التسلسل القائمة على إطلاق البيروفوسفات، ارجع للفصل الثاني). وبذلك كان جينوما فينتر وواطسون علامة على بداية عصر دراسة الجينومات الشخصية، الذي يمضي بوتيرةٍ متسارعةٍ وتطور متزايد باستمرار. أسفرَ أول مشروعَين للجينوم البشري عن الجينوم «الموحد»؛ وهو جينوم حُدِّد تسلسله واعتُبر أنه يُعبِّر عن جينومات البشر كلهم. ولكن لا يوجد في الحقيقة شيءٌ مثل هذا الجينوم البشري «الموحد». وهذه الحقيقة تمثل أساس مفهوم الطب المشخصن (أو الدقيق).

بنية الجينوم البشري

fig9
شكل ٤-١: بنية الجينوم البشري وما يحتوي عليه من كروموسومات. يحمل الإنسان اثنين وعشرين كروموسومًا جسديًّا ونوعين مختلفين من الكروموسومات الجنسية؛ إكس وواي. يشير رأس السهم إلى القُسَيم المركزي في الكروموسومات. وتمثل المناطق المُظلَّلة باللون الرمادي مناطق كروموسومية مميزة تُرى عند إجراء عملية الصبغ في التحليل الوراثي الخلوي. أما المناطق الملوَّنة بالأسود، فتمثِّل أكبر مناطق الجينوم البشري التي لم يُحدَّد تسلسلها بعد و/أو التي تتضمن أجزاءً لم يوضَّح تسلسلها بدقة كافية، مثل التسلسلات المتكررة التي تُشفِّر الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي. يظهر في الشكل الجينوم الميتوكوندري البشري أيضًا (لكنه ليس مرسومًا وفق مقياس محدد).
يتوزَّع تقريبًا ٣٫٢ مليارات زوج قاعدي من الحمض النووي في البشر على ثلاثة وعشرين زوجًا من الكروموسومات (انظر الشكل ٤-١). وفيما عدا البويضات والحيوانات المنوية، فإن خلايا البشر خلايا ثنائية المجموعة الكروموسومية، بمعنى أنَّ لديها نسختين من كل كروموسوم؛ وبذلك يوجد حوالي ٦٫٤ مليارات زوج قاعدي من الحمض النووي في نواة كل خلية. تُرقَّم الكروسومات التي تُسمَّى كروموسومات جسدية أو لا جنسية بأرقام من ١ إلى ٢٢، ويتراوح حجمها بين حوالَي ٢٥٠ مليون زوج قاعدي (الكروموسوم ١) إلى حوالي ٥٠ مليون زوج قاعدي (الكروموسوم ٢٢). وعلى الرغم من الاختلاف الشديد بين الكروموسومين الجنسيين «إكس» و«واي»، فإنهما يعتبران زوجًا كروموسوميًّا. إذ أظهرت أبحاث أنهما انبثقا مما كان في الأصل زوجًا متطابقًا من الكروموسومات الجسدية منذ ما يزيد على ١٨٠ مليون سنة في مرحلة مبكرة من تطور الثدييات. تحمل الإناث نسختين من الكروموسوم إكس في كل خلية (أحدهما موجود في شكل بنية منضغِطة صغيرة يُطلَق عليها جسم بار)، بينما يحمل الذكور كروموسومين؛ أحدهما إكس والآخر واي.
يصل حجم كروموسوم إكس إلى ١٥٣ مليون زوج قاعدي، ويحتوي على حوالَي ألفي جين. أمَّا الكروموسوم واي، فيقل حجمه عن نصف تلك القيمة (إذ يبلغ ٥٩ مليون زوج قاعدي)، وهو بمثابة أرض جينومية بور؛ فاعتبارًا من عام ٢٠٠٣، توقَّف عدد جيناته عند ثمانية وسبعين جينًا. ومن بين جميع الكروموسومات البشرية، أثبت الكروموسوم واي أنه الأصعب في تحديد تسلسله. فهو يمتلئ بالمناطق المتكررة، وحتى باستخدام التقنيات الحديثة، ما زال أكثر من ٥٠ في المائة منه غير مُحدَّد تسلسله (ارجع للشكل ٤-١). وقد استطاع بعض الباحثين، بالتفحص الدقيق، تمييز حفنة من الجينات الإضافية مؤخرًا، وهو اتجاه من المرجَّح أن يستمر مع توصيف المزيد من خصائص الكروموسوم واي. ورغم طبيعته الانحلالية، فمن الواضح أن الكروموسوم واي هو الكروموسوم المحدد لنوع الجنس. إذ يوجد جين معين، وهو جين المنطقة المُحدِّدة للجنس في الكروموسوم، يشفِّر بروتينًا مشاركًا في نمو الخصيتين، وتوجد جينات أخرى متموضعة في الكروموسوم واي تؤدي دورًا في تكوين الحيوانات المنوية.
يوجد على أحد طرفَي كلٍّ من الكروموسومات البشرية ١٣ و١٤ و١٥ و٢١ و٢٢ منطقة كبيرة غير محدد تسلسلها بدقة كافية. وهنالك تقع الجينات المُشفرة للحمض النووي الريبوزي الريبوسومي، التي توجد في مقاطع متكررة تكرارًا ترادفيًّا لم تُكتشف بناها الدقيقة إلى الآن. ويقع بالقرب من القسيمات المركزية أجزاءٌ كبيرة أخرى غير مُحدَّد تسلسلها مكوَّنة من عدة كروموسومات (ارجع للشكلين ١-٢ و٤-١)، وهذه تمثِّل مناطق جينومية مهمة لتقسيم الكروموسومات إلى خلايا ابنة أثناء عملية انقسام الخلية. وتتناثر أجزاء جينومية مختلفة أصغر حجمًا وغير مُحدد تسلسلها عبر الكروموسومات الجسدية الاثنتين والعشرين والكروموسومين الجنسيين. وعمومًا، تتميز مثل هذه المناطق بوجود تسلسلات متكررة من الحمض النووي، وتحتوي على قلة من الجينات أو تخلو منها أصلًا. وتوجد أجزاء صغيرة من الجينوم حُدد تسلسلها، لكنها، لأسباب مختلفة، لم تُربَط بكروموسوم معين. وفي عام ٢٠١٥، استفاد الباحثون من القراءات الطويلة التي أنتجها جهاز باسبيو الذي يستطيع تحديد تسلسلات جزيئات مفردة من أجل استكشاف بنية أكثر من ٥٠ في المائة من الفجوات المتبقية في الجينوم المرجعي (علمًا بأنَّ التسلسل المستمد من المشروع الذي نُفِّذ بتمويل حكومي هو المرجع الذي عادةً ما تُقارَن به الجينومات الأخرى). ولكن بعد أكثر من خمسة عشر عامًا، ما زالت توجد مناطق عديدة من الجينوم البشري غير مرتَّبة وغير مُحدَّد تسلسلها.

الجينوم الميتوكوندري البشري

سهلٌ أن ننسى أنَّ كل واحد منا لديه جينومان. إذ كنا منهمِكين في الحديث عن الحمض النووي الموجود في نواة الخلية، لكن الميتوكوندريا الموجودة لدينا أيضًا تحتوي على حمض نووي. تُعَد الميتوكوندريا حُجيرات مهمة مُحاطة بغشاء مزدوج، وأشهر وظائفها إنتاج مُركَّب أدينوسين ثلاثي الفوسفات، الذي يُعَد بمثابة عملة الطاقة للخلية. إذ يُستخدم الأدينوسين الثلاثي الفوسفات لتوفير الطاقة للتفاعلات الكيميائية في جميع أنواع الخلايا المختلفة لدينا، بل في كل أشكال الحياة الخلوية. وقد تطورت الميتوكوندريا من بكتيريا كانت غير تطفلية عن طريق التكافل الداخلي (انظر الفصل الخامس). ومن الواضح جدًّا أنَّ جينات الميتوكوندريا لدى كل الكائنات الحية الحقيقية النواة، بما في ذلك البشر، تتشابه تشابهًا شديدًا مع تلك الموجودة لدى طائفة معينة من البكتيريا تُسمى متقلبات ألفا.

يتكون الجينوم الميتوكوندري البشري من جزيء حلقي يبلغ حجمه ١٦٥٦٩ زوجًا قاعديًّا (ارجع للشكل ٤-١)، ولا يحتوي إلا على ثلاثة عشر جينًا مُشفرًا للبروتين، واثنين من جينات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي، واثنين وعشرين جينًا لجزيئات الحمض النووي الريبوزي الناقل التي تنقل الأحماض الأمينية إلى الريبوسوم أثناء تخليق البروتين. وتجدر الإشارة إلى أنَّ معظم الجينات التي تُشفِّر البروتينات اللازمة لاحتفاظ الميتوكوندريا بفاعليتها، والبالغ عددها أكثر من ألف بروتين توجد في الجينوم النووي. وتُترجم هذه البروتينات في سيتوبلازم الخلية، وتوجَّه إلى العضية بعد تصنيعها. ومن منظور طبي حيوي، ثبَت ارتباط عدد متزايد من الأمراض بحدوث طفرات في الجينات الميتوكوندرية والجينات النووية المُشفِّرة للبروتينات الميتوكوندرية. وتختلف أنماط وراثة هذه الطفرات بناءً على موقع الجين. وذلك لأنَّ الميتوكوندريا والحمض النووي الميتوكوندري لدى البشر والعديد من الحيوانات الأخرى لا ينتقلان إلى النسل إلا من أمهاتهم. وتعني هذه العملية التي تُسمَّى «الوراثة الأمومية» أنَّ الذكور لا يورِّثون طفرات الحمض النووي الميتوكوندري إلى أطفالهم. أمَّا الطفرات الحادثة في الجينات النووية التي تُشفِّر البروتينات الميتوكوندرية، فيمكن أن تُورَّث من أيٍّ من الوالدين بطريقة الوراثة المندلية القياسية. وكما سنرى في الفصل الخامس، ثبَت أنَّ الخصائص التي تميز الحمض النووي الميتوكوندري مفيدة في مجالات علمية متنوعة، من بينها علم الأدلة الجنائية، وعلم الأنساب، ودراسة أنماط الهجرة البشرية.

كم عدد الجينات؟

تُعَد مسألة عدد الجينات الموجودة في جينوماتنا النووية محل جدال مستمر. فقد ثبَت أنَّ التوقعات الأولى التي تراوحت بين ٤٠ ألف و١٠٠ ألف جين مُشفِّر للبروتين أكبر بكثير من العدد الفعلي. إذ تنبَّأ مشروعا الجينوم البشري الخاص (أي: مشروع فينتر) والحكومي، بناءً على التسلسلين الجديدين المُحسَّنين اللذين نشراهما في عام ٢٠٠٣، بوجود حوالَي ٢٦ ألف و٣٠ ألف جين على التوالي. ولكن حتى وقت كتابة هذه السطور، يبلغ عدد الجينات البشرية المُشفرة للبروتين الموضَّحة تفاصيلها في قواعد البيانات العامة أكثر بقليل من٢٠ ألف جين، بينما اقترحت دراسة قائمة على علم البروتيوم في عام ٢٠١٤ أنَّ العدد الحقيقي للجينات قد يكون قليلًا إلى حدٍّ يبلغ حوالي ١٩ ألفًا. ولا تشمل هذه التقديرات معظم الجينات الزائفة في الجينوم التي يتوقَّع أن عددها حوالَي ١٣ ألفًا (وتلك الجينات هي التي ثُبِّطت بسبب حدوث طفرات). يُعتبر العديد من الجينات الزائفة نتاج تضاعف الجينات؛ ففي بعض أكبر العائلات المتعددة الجينات، يصنَّف أكثر من نصف الجينات بأنها جينات زائفة. وكذلك لا تشمل هذه الأرقام التقديرية عددًا لا حصر له من جينات الأحماض النووية الريبوزية غير المشفِّرة التي اكتُشفت حديثًا، والتي كان يتوقَّع في البداية أن كثيرًا منها مُشفِّر للبروتين.

ومن المؤكَّد أنَّ المستقبل سيشهد اكتشاف جينات جديدة مُشفِّرة للبروتينات كلما أُضفيت تحسينات على الجينوم البشري المرجعي، ومع ظهور إجماع على الخوارزميات الأدق في اكتشاف الجينات. وستُحذف جينات أخرى من القائمة باعتبارها نتائج إيجابية زائفة. ولكن بغض النظر عن العدد الدقيق للجينات، فإنَّ عدد جيناتنا يُقارِب عدد جينات العديد من الكائنات الحية الأخرى «الأبسط» مثل ذباب الفاكهة (التي يبلغ عدد جيناته ١٤ ألف جين تقريبًا)، والديدان الخيطية (حوالي ٢٠ ألف جين)، ونبات الأرابيدوبسيس الذي يعد فأر التجارب النباتي (حوالي ٢٦ ألف جين). ماذا علينا أن نفهم من هذا؟ مع أنَّ عدد جينات البشر يبلغ حوالي ٢٠ ألف جين فقط، تشير الأبحاث إلى أن الجسم البشري مؤلَّف من ١٠٠ ألف بروتين مختلف على الأقل. وهذا يعني أن كل جين من جيناتنا، في المتوسط، قادر على تخليق بروتينات متعددة ومختلفة من حيث الوظيفة عن طريق عملية التضفير البديل. وكثيرًا ما يُعبَّر عن هذه البروتينات المختلفة في أنسجةٍ مختلفة، وهذا نتيجة لعوامل التضفير الخاص بالأنسجة، التي توجِّه آلية التضفير إلى إنتاج جزيئات حمض نووي ريبوزي مرسال مختلفة بخلط إكسونات مختلفة معًا (ارجع للشكل ٣-٢). ومن ثَم، يساعد التضفير البديل في تفسير كيفيَّة تفاوت درجة «التعقيد» تفاوتًا كبيرًا بين بعض الكائنات الحيَّة ذات الأعداد المتشابهة من الجينات.

الجينات القافزة والحمض النووي «العديم الفائدة»

إحدى السمات اللافتة حقًّا في الجينوم البشري هي قلة عدد الجينات التي تتضح «فائدتها» بالفعل. فهي لا تمثل إلا ١ في المائة تقريبًا من الشفرات الجينومية المُشفرة للبروتين؛ إذ يتألف ربع الجينوم تقريبًا من إنترونات (وهي التسلسلات التي تفصل بين الإكسونات المشفرة للبروتين وتُزال من الحمض النووي الريبوزي المرسال قبل بدء عملية الترجمة) (انظر الشكل ٤-٢). ويتكوَّن تقريبًا نصف الجينوم البشري من عناصر قابلة للانتقال. ويشار إلى هذه العناصر الجينية أحيانًا باسم «الجينات القافزة»، وذلك لسبب وجيه؛ فهي تسلسلات من الحمض النووي يمكنها أن تغيِّر موقعها. وتُعَد العناصر القابلة للانتقال القهقرية هي الفئة الأوفر بين فئات العناصر القابلة للانتقال في الجينوم البشري. تتضاعف العناصر القهقرية عبر آلية «نسخ ولصق»، حيث تُنسخ إلى حمض نووي ريبوزي، ثم تُنسخ عكسيًّا إلى الحمض النووي، ثم تُدمج في مكان جديد في الجينوم.
fig10
شكل ٤-٢: تركيب الجينوم البشري. موضَّح الفئات المختلفة للعناصر الجينية القابلة للانتقال.

صحيح أنَّ كثيرًا من العناصر القابلة للانتقال القهقرية الموجودة في جينوماتنا تُعَد خاملة أو في طريقها إلى الخمول؛ لأنَّ تسلسلاتها التي تغيَّرت بالطفرات لم تعد قادرة على الحركة، وتتلاشى في الخلفية الجينومية. ولكن توجد عناصر قابلة للانتقال قهقرية أخرى نشطة وآخذة في الانتشار بسرعة. ومن أبرز أنواع العناصر القابلة للانتقال القهقرية «إيه إل يو»، وهو عنصر قصير موجود في أكثر من مليون نسخة متناثرة عبر كروموسوماتنا (علمًا بأنَّ هذا العنصر المفرد القابل للانتقال الذي يبلغ طوله ٣٠٠ زوج قاعدي يُشكِّل حوالي ١١ في المائة من الجينوم بأكمله). وقد كشفت دراسات علم الجينوم المقارَن أن نشأة عنصر «إيه إل يو» نتجت من اندماج قطعتين من أحد جينات الحمض النووي الريبوزي الصغيرة منذ حوالي ٦٥ مليون سنة؛ ومنذ ذلك الحين، أخذت تتكاثر داخل جينومات الرئيسيات. من الواضح أن عناصر قابلة للانتقال قهقرية أخرى، مثل «إل ١»، قد تطورت من فيروسات قهقرية، وهي فيروسات خاصة تقضي جزءًا من «حياتها» مدمجة في جينوم الكائن المضيف لها. وتشكل التسلسلات الفيروسية القهقرية حوالي ٨ في المائة من الجينوم البشري.

وإجمالًا، يمكن اعتبار العناصر القابلة للانتقال عناصر وراثية «أنانية»؛ فهي تنتشر لمجرد أنها قادرة على الانتشار، مفترِضةً بذلك أنها لا تُثقِل كاهل مُضيفها؛ وبذلك ستستمر في التكاثر. وقد ثبت أنَّ عددًا متزايدًا من إضافات العناصر القابلة للانتقال القهقرية المُدمَجة من جديد مسئولٌ عن بعض الأمراض التي تصيب الإنسان. فعلى سبيل المثال، رُبطت إضافات عناصر «إيه إي يو» بأنواع معينة من الهيموفيليا، وسرطان القولون والمستقيم، وسرطان الثدي، وسرطان الدم، والتليف الكيسي. وثبت أنَّ حالات الانتقال القهقري للعنصر «إل ١» تتسبب في الإصابة بسرطان القولون، والحثل العضلي الدوشيني المرتبط بالكروموسوم إكس. وفي بعض الحالات، تنبع المشكلة من أنَّ العنصر القابل للانتقال دمج نفسه مباشرة في جين مُشفِّر للبروتين، فأعاق بذلك قدرته على إنتاج بروتين وظيفي نشط. وفي حالات أخرى، يدخل العنصر في حمض نووي «منظِّم» غير مشفِّر؛ وبذلك يُعدِّل عملية التعبير عن جينات قريبة بالغة الأهمية. وبينما يظل كثير من الأمور المتعلقة بالعناصر القابلة للانتقال مجهولًا، فمن الواضح أن أنشطتها قد أثَّرت — ولا تزال تؤثر — في بيولوجيا البشر والرئيسيات الأخرى.

وفي عام ٢٠٠٣، أطلق المعهد الوطني الأمريكي لأبحاث الجينوم البشري مشروع موسوعة عناصر الحمض النووي (إنكود). صحيح أنَّ هدفه على الورق كان بسيطًا، وهو تحديد جميع العناصر الوظيفية في الجينوم البشري. ولكن عمليًّا، تضمن ذلك استخدام مجموعة من النُّهج التجريبية والمعلوماتية الحيوية لمحاولة تحسين فهم أجزاء الجينوم غير المشفِّرة للبروتين. وبعد خضوع المشروع لعدة تحسينات متكررة، قاد إلى اكتشاف عدة آلاف من جزيئات افتُرض أنها جينات صغيرة من الحمض النووي الريبوزي تختبئ ضِمن ما كان يُعتبر حمضًا نوويًّا غير مشفِّر. وصحيح أنَّ أغلب هذه الجينات الصغيرة لم يُتحقَّق منها بالتجربة بعد، ولكن تبين أنَّ بعضها يُنظم التعبير عن الجينات المُشفِّرة للبروتين.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الادعاء الأعم والأكثر إثارة للجدل الذي خرج به مشروع إنكود هو أن ٨٠ في المائة أو أكثر من الجينوم البشري له وظيفة كيميائية حيوية. واستند هذا الادعاء إلى ملاحظة أنَّ حوالي ٨٠ في المائة من الجينوم يُظهر دليلًا على أنه نُسِخ إلى حمض نووي ريبوزي، أو أنه مرتبط ببروتينات، أو موجود داخل كروماتين مُعدَّل تعديلًا خاصًّا. وقد وُصِفت النتائج (خصوصًا في وسائل الإعلام) بأنها بمثابة شهادة وفاة مصطلح الحمض النووي «العديم الفائدة»، ذاك المصطلح المُحمَّل بمعانٍ ضمنية الذي لطالما استُخدم لوصف الجزء الكبير من الجينوم البشري (وجينومات العديد من حقيقيات النواة الأخرى) الذي ليس له وظيفة معروفة. ومن الواضح أنَّ جزءًا كبيرًا مما يُعتبر في العموم حمضًا نوويًّا عديم الفائدة مستمدٌّ من الانتشار الأناني للعناصر القابلة للانتقال؛ فالنسبة البالغة ٤٥ في المائة الموضحة سابقًا (ارجع للشكل ٤-٢) لا تشمل إلا تلك التي يمكن اكتشافها عن طريق تشابهات التسلسلات (أي: إنَّ النسبة الحقيقية ربما تكون أعلى من ذلك بكثير). وكذلك أظهرت أبحاث أنه يمكن التعبير عن جينات زائفة غير وظيفية. لذا فإن ادعاءات مشروع إنكود أثارت غضب عدد ليس بقليل من علماء الجينوم المؤمنين بنظرية التطور الذين يعترضون على عدة أمور، من بينها استخدام المشروع لمصطلح «الوظيفة». وبالرغم من غموض مفهوم الوظيفة البيولوجية، فإنه محوري لتعريف الجين، الذي يتطور هو نفسه باستمرار. ومن المؤكَّد أنَّ الجدل سيتواصل بينما يستمر العلماء في فكِّ تعقيدات الأجزاء غير المشفرة من جينومنا.

خريطة الهاب ماب المؤدية إلى الطب المشخصن

كان الهدف الرئيسي الذي يسعى إليه مشروع الجينوم البشري منذ بدايته هو إحداث تغيير فارق في الأبحاث الطبية الحيوية، وفي ممارسة الطب نفسها في النهاية. ومن أجل ذلك، أنشِئ مشروع هاب ماب الدولي استنادًا إلى الجينوم البشري المرجعي ليكون نظامًا لتحديد المتغايرات الجينية البشرية المرتبطة بالصحة والمرض. وكان السبيل إلى تحقيق ذلك هو إنشاء ما يُسمَّى «خريطة النمط الفرداني». والنمط الفرداني هو مجموعة تسلسلات محددة من الحمض النووي موروثة كوحدة. وبمعاينة التنوع الجيني عبر مجموعات سكانية مختلفة من البشر، يمكن تمييز الأنماط الشائعة لتباين تسلسلات الحمض النووي. ويمكن استخدام هذه المعلومات لتحسين فاعلية دراسات الارتباط على مستوى الجينوم بالكامل التي تُستخدم لتحديد الارتباطات بين الأشكال المتعددة للنيوكليوتيدات المفردة والسمات البشرية، شاملةً كل شيء من طول القامة ولون الشعر إلى ارتفاع ضغط الدم ولُزوجة قوام شمع الأذن. تُعرَف الأشكال المتعددة للنيوكليوتيدات المفردة بأنها تغيُّرات في موضع نيوكليوتيدة مفردة لدى أكثر من ١ في المائة من السكان. ويؤدي العديد من الأشكال المتعددة للنيوكليوتيدات المفردة إلى حدوث تغيُّرات في تسلسل بروتين ما، لكن أغلبها لا يؤدي إلى ذلك.

بدأ مشروع هاب ماب في عام ٢٠٠٣ قبل ظهور الجيل الثاني من تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي. لذا كان المشروع متواضعًا من حيث عدد الأشخاص الخاضعين للدراسة (كان عددهم في البداية حوالَي ٢٧٠ فردًا) وحجم البيانات المُجمَّعة (استُخدمت مصفوفات التنميط الجيني القائمة على التهجين بدلًا من التحديد الفعلي لتسلسل الحمض النووي). ومع التقدمات التكنولوجية، تحسَّنت كثافة بيانات الخريطة والفائدة العائدة منها تحسنًا هائلًا. فجرى التعرُّف على مئات الآلاف من الأشكال المتعددة من النيوكليوتيدات المفردة، ورُبط ما يزيد على الألف منها بأنماط ظاهرية محددة لبعض الأمراض. وهكذا فإنَّ دراسات الارتباط على مستوى الجينوم بالكامل قد منحت الباحثين في مجال الطب الحيوي أساسًا أقوى يرتكزون عليه للتوصل إلى الأسس الوراثية لأمراضٍ مثل فقر الدم المنجلي، والتليف الكيسي، وبعض أنواع السرطان القابلة للانتقال بالوراثة. لكن هذه الدراسات لها عيوبها أيضًا. صحيح أنها مفيدة في تحديد «الارتباطات بين» تباين تسلسلات الحمض النووي والأمراض، لكنها بحدِّ ذاتها لا تستطيع تحديد «السبب». ويعتمد نجاح مثل هذه الدراسات على نوعية مُصمَّمة تصميمًا ملائمًا من أنظمة أخذ العينات تشمل أعدادًا غفيرة من الأفراد في المجموعة المتأثرة بالمرض والمجموعة الضابطة كلتيهما. وبوجهٍ أعم، تعرَّضت تلك الدراسات لانتقادات بسبب تركيزها المبالغ فيه على الجوانب الجينية للصحة والمرض، واستهانتها في خِضم ذلك بأهمية عوامل أخرى مثل النظام الغذائي والبيئة.

جينومات بالآلاف

مع أنَّ هذا قد يبدو غريبًا، لم يعد ممكنًا تحديد عدد الجينومات البشرية التي حُدِّد تسلسلها. وفي الوقت الحالي، فالاستراتيجية المُفضَّلة هي إعادة تحديد تسلسل الجينوم الكامل (ارجع للفصل الثالث)، بحيث تتضمن ربط بيانات التسلسل المستمدة من تقنيات الجيل الثاني بمواضعها في الجينوم المرجعي. وقد أسفرت عن نتائج باهرة. إذ نجح اتحاد مشروع الألف جينوم (الذي يُعبِّر اسمه عنه تعبيرًا مناسبًا) والمُختتم مؤخرًا في وضع قائمة بحوالَي ٨٥ مليون شكل متعدد من أشكال النيوكليوتيدات المفردة، و٣٫٦ ملايين طفرة قصيرة من طفرات الإضافة أو الحذف، و٦٠ ألف متغاير بنيوي أكبر في إطار عملية عالمية لأخذ عينات مُعبِّرة عن التنوع الجيني البشري. وهذه البيانات تُحفِّز الأبحاث بطرق متوقَّعة وغير متوقَّعة. فبخلاف أنها تتيح مصدرًا غنيًّا بالبيانات تستفيد منه دراساتٌ على شاكلة دراسات الارتباط التي تركز على الأمراض، يستخدمها العلماء أيضًا للتعرف على نظامنا البيولوجي الأساسي، بعدما فوجئوا بصعوبة تحقيق ذلك حينما لم يكن متوفرًا سوى زوجٍ من الجينومات. ومن الأمثلة على ذلك أنَّ إحدى دراسات الارتباط الأخيرة، التي استفادت من بيانات مشروع الألف جينوم، نجحت في التعرُّف على عشرة جينات مرتبطة بنمو الكلى ووظيفتها، وهي جينات لم تُربط سابقًا بهذا الجانب البالغ الأهمية من وظائف الأعضاء البشرية.

وفي عام ٢٠١٦، أعلن فريق كريج فينتر تحديد تسلسل ١٠٥٤٥ جينومًا بشريًّا. وبالإضافة إلى أنَّ تكلفة تلك الدراسة كانت منخفِضة إلى حدٍّ باهر (إذ تراوحت بين ألف وألفي دولار أمريكي لكل جينوم)، وجودتها كانت عالية (إذ تراوح معدل التغطية بين حوالي ٣٠ و٤٠ مرة)، فإنها كانت مهمة في التلميح إلى أعماق تنوع الجينوم البشري التي لم تُكتشف بعد. إذ جرى تحديد أكثر من ١٥٠ مليون مُتغاير جيني في المناطق المُشفِّرة وغير المُشفِّرة من الجينوم على حدٍّ سواء، علمًا بأنَّ كل جينوم مُحدد التسلسل كان يتضمن ٨٦٠٠ متغاير جديد في المتوسط. وعلاوةً على ذلك، اكتُشف أنَّ كل جينوم جديد يحتوي على تسلسل طوله ٠٫٧ مليون زوج قاعدي ليس موجودًا في الجينوم المرجعي. وهذا يؤكد الحاجة إلى ابتكار طرُق في مجال اكتشاف التباينات البنيوية في بيانات الجينوم الشخصية. ولكن إجمالًا، خلص المشاركون في وضع الدراسة إلى أن «البيانات المولَّدة من التحديد العميق لتسلسل الجينوم تتَّسم بالجودة اللازمة لاستخدامها في أغراضٍ إكلينيكية».

وحتى الوقت الذي تُخط فيه تلك السطور، يُطلِعني شريط المستجدَّات في الموقع الإلكتروني لمشروع المائة ألف جينوم البريطاني بأنهم قد حدَّدوا تسلسل ٣٩٥٤٠ جينومًا بشريًّا (سأعود لأتحقَّق مرة أخرى في غضون ساعة تحسُّبًا لأن يكون العدد قد زاد). وتهدف هذه المبادرة الطموحة المموَّلة من الحكومة إلى تحديد تسلسل جينومات المرضى التابعين لهيئة الخِدمات الصحية الوطنية، مع إيلاء تركيز خاص على الأمراض النادرة والمُعدية وأنواع معينة من السرطان. ويوجد اتفاق واسع النطاق على أنَّ تشخيص السرطان وعلاجه هما أكثر جانبين سيستفيدان من تحديد تسلسل الجينوم، من بين جميع الأمراض التي تصيب الإنسان.

علم الجينوم السرطاني

من الشائع اعتبار السرطان مرضًا واحدًا، لكنه في الحقيقة مجموعة من الأمراض تتميز بالنمو الجامح للخلايا، وغزو الخلايا السرطانية للأنسجة، والانبثاث (أي: الانتشار). وقد استطاع الباحثون تعريف مئات الأنواع المختلفة من السرطانات والأورام، التي يتضح أنَّ الغالبية العظمى منها تتضمن وجود تعديلات في الحمض النووي. إذ يمكن للطفرات المتوارَثة الموجودة من قبلُ أن تجعل الأفراد عُرضةً للإصابة بالسرطان، لكن معظم السرطانات تنشأ من تراكم طفرات وتغيرات جينومية أخرى على مدار حياة الفرد. ولهذه الأسباب، تؤثر أبحاث الجينوم تأثيرًا عميقًا في فهمنا للأسس الجينية والكيميائية الحيوية والبيولوجية لخلايا السرطان، وكيفية اكتشافه وعلاجه.

يوجد نوعان أساسيان من الجينات يُسهِمان في الإصابة بالسرطان وتطوره. أحدهما هو الجينات المثبِّطة للأورام؛ وتلك هي التي، حينما تُعدَّل بفعل طفرة معينة أو تصبح خاملة، تؤدي إلى النمو الجامح للخلايا. وكثيرًا ما تعمل تلك الجينات المثبِّطة للأورام، مثل الجين المشفر لبروتين يُسمَّى «بي ٥٣»، على تشفير بعض عوامل النسخ (أي: البروتينات التي تتمثل وظيفتها في تنظيم التعبير الجيني). وتُعَد عوامل النسخ «مراكز» جزيئية؛ فالطفرات التي تُنشطها أو تُثبطها لها تأثيرات بعيدة المدى بفعلِ تعديل التعبير عن جينات أخرى، الذي قد يؤدي بدوره إلى حدوث مزيد من الاختلالات في الخلايا. هذا وقد وُصف بروتين الأورام «بي ٥٣» بأنه «حارس الجينوم»؛ إذ إنَّ حوالي ٥٠ في المائة من السرطانات المعروفة تتضمن حدوث طفرة في الجين «بي ٥٣» (أو بعض الاختلالات غير المباشرة في الوظيفة الطبيعية للبروتين «بي ٥٣»). أمَّا النوع الثاني، فهو الجينات الورمية الأولية، وهذه هي الجينات التي لا تؤدي نواتجها البروتينية إلى تطوُّر السرطان إلا حينما تنشط نشاطًا مُفرِطًا؛ فهي عادةً ما تنتمي إلى المسارات الكيميائية الحيوية المشارِكة في عملية انقسام الخلية. وعلى غرار الجينات المثبِّطة للأورام، فإن الجينات الورمية الأولية جيناتٌ «طبيعية». ولا تصبح جينات ورمية إلا إذا عدَّلتها طفرة على نحوٍ يؤدِّي إلى التكاثر الجامح للخلايا.

وليس شرطًا أن تحدث الطفرات المرتبطة بالسرطان داخل تسلسلات جينية. فلأنَّ المناطق غير المشفِّرة يُمكِن أن تكون مهمة في تنظيم التعبير عن الجينات المحيطة بها، فإنَّ الطفرات أو تغيرات الإضافة أو الحذف التي تحدث لمثل هذه التسلسلات «المنظِّمة» يُمكِن أن تُسهِم في الإصابة بالسرطان. وكذلك تنطوي الإصابة بالسرطان على حدوث تغيرات جينومية تؤثر في كيفية تفاعل الخلية مع ما يحيط بها. وهذا يشمل التهرُّب من الجهاز المناعي، وتحسين تدفق الدم إلى الورم (وهو ما يُساعِد على نموه إلى حجمٍ أكبر)، وتزايد احتمالية غزو الخلايا السرطانية للأنسجة وانتشار الورم. وقد بدأت بعض التحليلات التي تُحلِّل أنواعًا متنوعةً من الأورام على نطاق الجينوم بالكامل تُسلط الضوء على كيفية إثارة هذه الأحداث.

وكان من الأبحاث الفارقة مشروع أطلس الجينومات السرطانية الذي اكتمل مؤخرًا. فعلى مرِّ ثماني سنواتٍ بدأت من عام ٢٠٠٣، طرح المشروع تحليلات لجينوماتِ حوالَي ١٠ آلاف ورم، واضعًا بذلك أساسًا مهمًّا لعمليات التطوير المستقبلي في هذا المجال. وبعدئذٍ ظهر فهمٌ عميق لأصول السرطان نتيجة تحديد تسلسل عدة مئات من جينومات الأورام من جديد. وبات واضحًا الآن وجود حوالَي ١٤٠ جينًا بشريًّا يُمكِن، إذا تغيَّرت بفعل طفرة ما، أن تُحفز نمو الأورام. ويحتوي أيُّ ورم معين على عدد يتراوح بين اثنتين وثمانٍ من هذه الطفرات التي يُطلَق عليها الطفرات «السائقة» — وكلٌّ منها يؤثر بطريقة ما في نمو الخلية أو بقائها حية أو الحفاظ على سلامة الجينوم — بالإضافة إلى عدد يتراوح بين عشرات وآلاف التغييرات الإضافية في النيوكليوتيدات المفردة (التي تُسمَّى الطفرات «الراكبة») وطفرات الإضافة أو الحذف الصغيرة.

وقد تبيَّن كذلك أنَّ بعض التغييرات الجينومية الأشد جذريةً تؤدي أدوارًا مهمة في السرطان. ومن الأمثلة البارزة على ذلك جينوم «هيلا». كان جينوم هيلا هو أول خط خلايا بشرية تُستنبت له مزرعة دائمة؛ ويشير اسمه إلى هنريتا لاكس، المريضة الأمريكية التي استُخرجت منها الخلايا الأصلية (دون موافقتها)، وتُوفيت على إثر إصابتها بسرطان عنق الرحم في عام ١٩٥١. ونظرًا إلى خلود خلايا هيلا، ظلت دعامة أساسية لأبحاث علم الأحياء الجزيئي والخلوي طوال عقود عديدة.

ويتميز جينوم هيلا بأنه يحتوي، بالنسبة إلى الجينوم المرجعي، على حوالَي ١٫٧ مليون متغاير من متغايرات النيوكليوتيدات المفردة، وحوالَي ٧٥٠ طفرة كبيرة من طفرات الحذف، وعدد هائل من التغيرات المتمثلة في إعادة ترتيب الكروموسومات وتضاعفها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ الكثير من التغيرات التي رُصدَت في خلايا هيلا، وتحديدًا التغيرات التي شملت الكروموسوم ١١، رُصدَت أيضًا في بعض سرطانات عنق الرحم الأخرى، وكذلك سرطان الثدي وسرطانات البلعوم الأنفي والرأس والرقبة. ويتمثل شذوذ خلايا هيلا في وجود ثلاث أو أربع نُسخ من بعض الكروموسومات في كل خلية (أي: ما يتراوح بين ستة وسبعين وثمانين كروموسومًا في كل خلية إجمالًا).

ولا عجَب في أنَّ أبحاث علم الترانسكريبتوم أظهرت كذلك أنَّ أنماط التعبير الجيني في خلايا هيلا تختلف بشدة عن خلايا الأنسجة الطبيعية، وهي حقيقة قد تعقِّد تفسير نتائج البحث المستمدة من استخدام خلايا هيلا كخط خلايا نموذجي. وليس واضحًا كَم تعديلٍ جينومي من بين هذه التعديلات قد نشأ من الورم الأصلي أو حدث خلال السنوات الكثيرة التي زُرعت فيها خلايا هيلا في مختبراتٍ في أنحاء العالم. ولا يبدو واضحًا في كثير من الحالات مدى الدور الذي تؤديه تغيرات إعادة ترتيب الكروموسومات وتضاعفها في نمو الخلايا السرطانية وتطورها (بدلًا من أن تكون نتيجة لذلك).

ومع ذلك، أكَّد تحديد تسلسل الجينوم ما كان الأطباء الإكلينيكيون يظنونه منذ فترة طويلة، ألا وهو أنَّ الأورام تتطور. إذ تمكَّن الباحثون باستخدام أحدث التقنيات من «إعادة تشغيل شريط» تطور السرطان، بدءًا من المرحلة التي يكون فيها نسيجًا طبيعيًّا ثم تحوله إلى ورمٍ أولي، وصولًا إلى مرحلة انتشاره. وقد أدى ذلك إلى استنتاجات غير متوقَّعة، من بينها حقيقة أنَّ السرطانات المنتشرة يمكن أن تنشأ من عدة سلالات خلوية سرطانية مختلفة داخل ورمٍ أولي. وهذا يتعارض مع وجهة النظر التقليدية القائلة بأن تطور السرطان عملية خطية تحدث فيها طفرات جديدة بناءً على طفرات موجودة من قبل.

وتُعد الغاية النهائية التي يرمي إليها علم الجينوم السرطاني هي منح الأطباء القدرة على تخصيص نظام لعلاج المريض ليس بما يتوافق مع نوع السرطان فحسب، وإنما أيضًا مع إجمالي مجموعة الطفرات التي يُظهرها الورم المحدد لدى المريض. وسوف يستلزم تحقيق هذه الغاية إحراز خطواتٍ متقدمة في عدة جبهات، أهمها التوصُّل إلى فهمٍ أدق بكثير فيما يخصُّ نِسب إسهامات الطفرات «السائقة» و«الراكبة» في تطور السرطان. ولكن في الوقت الحالي، ما زالت كفاءة تقنيات تحديد التسلسل غير كافية لاكتشاف كل الطفرات بدقة وسرعة، وحتى لو استطعنا تحقيق ذلك، فنحن لا نعرف في معظم الحالات كيفية استخدام البيانات لاتخاذ قرارات متبصِّرة بشأن العلاج. ومن المشكلات المرتبطة بهذا السياق أنَّ الأورام تكون متباينة في كثير جدًّا من الأحيان، وأنَّ الجينومات التي نحدد تسلسلها من هذه الأورام عبارة عن مزيج مختلط من جميع الجينومات الموجودة في العينة، شاملةً الطفرات. وهنا يتيح استخدام التقنيات الترانسكريبتومية والجينومية القائمة على الخلايا المفردة فرصًا جديدة لنا (انظر الفصل السادس). وتُعَد الآفاق أكثر إشراقًا في حالة السرطانات المنتقلة بالوراثة، على الأقل بقدر ما يُمكِن أن يُسهِم تحديد تسلسل الجينوم الشخصي في الفحص والتشخيص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤