علم الجينوم التطوري
يَرِد في المعاجم أنَّ تعريف «الطِّرس» هو «مخطوطة أو قِرطاس تُسطر عليه كتابات لاحقة فوق كتابات سابقة مطموسة». وهكذا فإنَّ الجينوم يُشبِه الطِّرس كثيرًا؛ إذ يمكن أن يُرى أسفل النص الحالي آثار متبقية من إسهامات سابقة من «مؤلفين» مختلفين في أزمنة مختلفة. ومع أننا قد ندَّعي، بناءً على أسس عقلانية مقبولة، أننا نُتقِن لغة الجينوم، فإننا ما زلنا نتعلم كيف نفهم ما يريد أن يخبرنا به تسلسل الجينوم. والطرس الجينومي يمنحنا نافذة على تطور الحياة لا يمكن أن تفتحها أي وسيلة بحثية أخرى، وقد نضج مجال علم الجينوم المقارن لدرجة أننا أصبحنا نملك فهمًا عميقًا لبعض أهم المسائل الأساسية في علم الأحياء. دعونا نستكشف بعض الأمثلة، بدءًا من الوقت الحالي وبالعودة إلى وقت أسبق في زمن التطور.
الجزيئات بمثابة ساعات
تُعَد فكرة استخدام الجزيئات أدواتٍ لتتبُّع تاريخ التطور قائمةً منذ وقت طويل، أطول في الواقع من وقت استخدام تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي. ففي عام ١٩٥٨، وضع فرانسيس كريك (المشهور باكتشاف البنية اللولبية المزدوجة للحمض النووي) تصورًا لتخصصٍ أسماه علم تصنيف البروتين:
هو معني بدراسة تسلسلات الأحماض الأمينية المكوِّنة لبروتينات أحد الكائنات الحية ومقارنتها فيما بين أنواع الكائنات الأخرى. ويمكن القول إنَّ هذه التسلسلات هي أدق تعبير عن النمط الظاهري للكائن الحي، وإنها قد تخفي داخلها كميات هائلة من المعلومات عن التطور.
تُمثِّل هذه الكلمات التنبُّئية جوهر المجال الذي يُعرف اليوم بالتطور الجزيئي.
غير أنَّ الساعات الجزيئية أبعد ما تكون عن المثالية. إذ أظهرت أبحاثٌ أنَّ معدلات حدوث طفرات في الحمض النووي قد تتأثر بعدة عوامل. فمن المعروف أنَّ بعض القوى الخارجية مثل الإشعاع والعوامل الكيميائية المسبِّبة للطفرات تُتلف الحمض النووي، لكن الطفرات في الواقع جزء طبيعي حتمي من بيولوجيا الجينوم. وتتباين معدلات الطفرات التي تحدث بفعل عوامل داخلية متأصلة تباينًا كبيرًا من سلالة إلى أخرى بناءً على بعض العوامل، مثل دقة تضاعف الحمض النووي وكفاءة آليات إصلاح الحمض النووي بالخلية. وكذلك يُمكن أن تتباين معدلات حدوث الطفرات بين الجينومات الموجودة في أجزاء مختلفة من الخلية نفسها، كما هي الحال في الميتوكوندريون والنواة في الخلايا الحقيقيات النواة. ومَردُّ ذلك إلى أنَّ سلامة الجينوم تُحفَظ بفعلِ آليات مختلفة موجودة داخل الخلية في عضيات مختلفة، بالإضافة إلى أنها تُعرَّض لبيئات كيميائية حيوية مختلفة قليلًا (فعلى سبيل المثال، يتعرض الحمض النووي الميتوكوندري لأنواع تفاعلية ضارَّة من الأكسجين تتولَّد موضعيًّا عن طريق التنفس الهوائي).
وعند النظر إلى المناطق المُشفِّرة من أحد الجينومات (أي الجينات المُشفِّرة للبروتين وجينات جزيئات الحمض النووي الريبوزي البنيوية مثل جزيئات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي)، نجد أنَّ معدلات تباعد التسلسلات محدودة تحدُّدًا صارمًا بما تسمح به البنية والوظيفة؛ فعملية الانتقاء الطبيعي ستتخلص من الكائنات الحية التي تغيَّر تسلسلها إلى حدٍّ يجعل نجاح عملية تكاثرها مهدَّدًا بالخطر. وبالطبع فإنَّ دقة استنتاجات التطور المعتمدة على الساعات الجزيئية لا تتجاوز دقة عمليات المعايرة الحفرية التي تُربَط بها الاستنتاجات. ومع ظهور بيانات جديدة، لا يتوقف الباحثون عن إعادة اختبار أساليبهم وتحسينها لفهم تعقيدات عملية التطور الجزيئي بدقة أكبر. وهكذا فإنَّ أي ساعة جزيئية، مُعايَرة بدقة ومُستخدَمة للغرض المرجو منها، يمكن أن تكون بمثابة إطار قيِّم جدًّا لتقدير الوقت الذي ظهرت فيه سلالات معينة من الكائنات الحية وتطورت فيه صفاتها البيولوجية في الزمن السحيق.
دراسة الجينوم السكاني لآدم وحواء
كان من أوائل تطبيقات الساعة الجزيئية القائمة على الحمض النووي وأكثرها إثارةً للجدل هو استخدامها لفهم تطور جنسنا البشري فهمًا أفضل. وقد أثبت الحمض النووي شبه البكتيري الموجود في الميتوكوندريون أنه ذو فائدة بالغة في هذا الصدد. تذكَّروا أنَّ الكروموسوم واي حكرٌ على الذكور فقط، وأن الميتوكوندريا تُورَّث من الأمهات رغم وجودها في كلٍّ من الذكور والإناث. ومن ثَم، فإن استمرار النمط الجيني للميتوكوندريا والكروموسوم واي (إن وُجد) لدى أي فرد معين لفتراتٍ زمنية طويلة داخل مجموعة سكانية هو احتمال يتأثر تأثرًا شديدًا بالطبيعة العشوائية لسلسلة الأنساب. وقد صاغ الباحثون مصطلحَي «آدم الكروموسوم واي» و«حواء الميتوكوندريا» للإشارة إلى أحدث الأسلاف المشتركة لهذين المكونين الجينيين المختلفين للجينوم البشري، وكما سنرى، استُخدم علم الجينوم المقارن للعودة بالزمن إلى الوراء من أجل اقتفاء أثر تلك الأسلاف. ومع أنَّ ذلك قد يبدو مُنافيًا للبديهة، فإن آدم وحواء لم يوجدا معًا بالضرورة في الزمن نفسه أو في المكان نفسه.
إن عُمر حواء الميتوكوندريا ظل ثابتًا نسبيًّا منذ المرة الأولى التي جرى فيها التنبؤ به، عام ١٩٨٧، في دراسة فارقة نشرَها آلان ويلسون، عالِم الوراثة بجامعة كاليفورنيا (في بيركلي) والمولود في نيوزيلندا، وزملاؤه. وقد استعان فريق ويلسون بنهج الساعة الجزيئية ليستنتج أن جزيئات الحمض النووي الميتوكوندري في جميع البشر المعاصرين يعود أصلها إلى سيدة واحدة كانت تعيش في أفريقيا منذ حوالَي ٢٠٠ ألف سنة. وباستخدام منهجيات مماثلة، كان متوقَّعًا في البداية أنَّ آدم الكروموسوم واي أصغر بكثير في العمر؛ وذلك لأن السلف المشترك الذي انحدر من الجزء غير المُعاد اتحاده من الكروموسوم واي، المنتقل من الآباء إلى الأبناء، استُنتج أنه كان يعيش قبل الوقت الحاضر بحوالَي ١٠٠ ألف عام. ولكن مع تراكم المزيد من البيانات الجينومية المستمدة من ذكور ينتمون إلى مناطق جغرافية متنوعة، أُرجعَ عمر آدم مرةً أخرى إلى زمنٍ أبعد يتراوح بين ٢٠٠ ألف و٣٠٠ ألف سنة مضت.
هذا ويتواصل تَحسُّن فهمنا لتطور الكروموسوم واي والحمض النووي الميتوكوندري بفضل ظهور معلومات جديدة. وتجدر الإشارة بالأخص إلى حقيقة وجود استثناءات لدى البشر وبعض الحيوانات الأخرى تشذُّ عن القاعدة الصارمة التي تقضي بوراثة الميتوكوندريا من الأم، على ما يبدو. وحتى الإسهامات الأبوية الصغيرة والمتقطعة في الأنماط الجينية الميتوكوندرية الحالية تؤثر في كيفية نمذجة الباحثين لعملية تسلسل الأنساب؛ وبذلك يُمكن أن تُثبت خطأ التقديرات التي تتوقع عُمر حواء استنادًا إلى الساعات الجزيئية. ومع استمرار تراكم كميات هائلة من البيانات الجينومية الخاصة بالجماعات السكانية البشرية، شرع الباحثون في المهمة الشاقة التي يسعون فيها إلى إظهار التشابهات والاختلافات بين تاريخ تسلسل نسب الميتوكوندريا والكروموسومات واي وتاريخ تسلسل نسب بقية الجينوم البشري؛ أي الكروموسومات الجسدية التي يُعاد اتحادها جنسيًّا ونتوارثها من أمهاتنا وآبائنا. وتُنتِج تلك المهمة فُسيفساء جينومية معقدة عبر المكان والزمان، لكنها متوافقة مع نموذج تطور البشر الذي يُسمَّى «الخروج من أفريقيا». وقد تعقَّدت الصورة بظهور دليل يشير إلى أنَّ البشر الأوائل تزاوجوا مع أفراد سلالة النياندرتال وسلالات أخرى منقرِضة بعد تطورهم في أفريقيا قبل أكثر من ١٠٠ ألف عام، وبدءوا ينتشرون في جميع أنحاء العالم.
الحمض النووي القديم: من العظام إلى الجينومات
من الناحية الجيولوجية، يُسمَّى العصر الذي نعيش فيه حاليًّا عصر الهولوسين، وهو يمتدُّ من الوقت الحاضر على مرِّ حوالَي ١١٧٠٠ عام مضت إلى نهاية العصر الجليدي الأخير. وتندرج دراسة الكائنات الحية التي عاشت قبل عصر الهولوسين تحت مجال علم الحفريات، الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تفسير السجل الحفري. وقد أتاحت التطورات التي أُحرزت في البيولوجيا الجزيئية وعلم الجينوم دراسة المادة الوراثية للكائنات المنقرضة؛ لتقدِّم بذلك طرقًا جديدة ومثيرة لإنشاء نماذج تُحاكي التاريخ التطوري بالتعاون مع الأبحاث القائمة على علم التشكُّل.
بدأ مجال أبحاث الحمض النووي القديم يتشكل في ثمانينيات القرن العشرين، بالتزامن مع ابتكار تقنية مختبَرية يُطلق عليها تفاعل البوليميريز المتسلسل «بي سي آر»، بل إنَّ هذه التقنية هي التي جعلت تشكُّل هذا المجال البحثي ممكنًا. ويَستخدم تفاعل البوليميريز المتسلسل، الذي اخترعه العالِم الأمريكي كاري موليس الحائز على جائزة نوبل، إنزيم بوليميريز، وزوجًا من «بادئات» الحمض النووي القصيرة (التي يحتاج إليها الإنزيم لبدء تخليق الحمض النووي)، ونيوكليوتيدات ثلاثية الفوسفات منقوصة الأكسجين لتضخيم قطعة الحمض النووي المعنية تضخيمًا أسيًّا من عينة حمض نووي مركبة. يتسع نطاق استخدام هذه التقنية ليشمل كل شيء، بدءًا من اختبارات الأبوة وتحريات مسرح الجريمة إلى دراسةِ إيكولوجيا الأحياء الدقيقة (انظر الفصل السادس). وما يجعل هذه التقنية فعالة جدًّا في أبحاث الحمض النووي القديم، أنها تتيح للباحث دراسة كميات الحمض النووي البالغة الصغر المتبقية في البقايا البيولوجية مثل الأنسجة والأسنان والعظام المتيبِّسة. فحالما يُضخَّم الحمض النووي القديم باستخدام تفاعل البوليميريز المتسلسل إلى كميات يُمكن التعامل معها عمليًّا، يمكن عندئذٍ تحديد تسلسله ومقارنته بالحمض النووي لكائنات حية حالية باستخدام تقنيات معلوماتية حيوية قياسية. وتُعَد تسلسلات الحمض النووي القديم بمثابة المكافئ الجزيئي لآلة الزمن؛ فهي يُمكن أن تمنحنا معلومات عن بيولوجيا كائنات لم تعد موجودة.
إنَّ أكبر تحدٍّ يواجهه العلماء الذين يدرسون الحمض النووي القديم هو تفتت عينة الحمض النووي؛ فكلما كانت الحفرية أقدم، زادت احتمالية تجزُّؤ الحمض النووي إلى قِطع صغيرة. فالخلايا الحية تحتوي على إنزيمات النيوكليز، وهي إنزيمات تعمل على فك روابط الحمض النووي الريبوزي والحمض النووي ويكون نشاطها محكومًا بشدةٍ صارمة في الحالة الطبيعية. ولكن عند الموت، تبدأ هذه الإنزيمات في العمل عشوائيًّا دون تمييز، ولأنَّ آليات إصلاح الحمض النووي في الخلية لم تعد تؤدي وظيفتها عندئذٍ، يتكسَّر الحمض النووي إلى قِطع أصغر فأصغر. وكذلك تصبح هذه القطع الصغيرة من الحمض النووي معدَّلة كيميائيًّا بمرور الوقت، وهذا يُمكن أن يثبِّط إنزيمات بوليميريز الحمض النووي المستخدمة في تحديد التسلسل ويؤدي إلى دمج نيوكليوتيدات غير صحيحة (ومن ثَم وقوع أخطاء في عملية تحديد التسلسل). ويعتمد معدل تفتُّت الحمض النووي اعتمادًا كبيرًا على البيئة التي استقر فيها الكائن بعد موته. وبوجهٍ عام، يبقى الحمض النووي فترةً أطول في الأنسجة التي تُجمَّد أو تُجفَّف سريعًا عند الموت؛ لأنَّ هذه الظروف تمنع إنزيم النيوكليز من ممارسة نشاطه في خلايا الكائن الميت، وكذلك في خلايا الميكروبات التي تعيش بالقرب منه.
وعلى غرار كثير من مجالات العلوم المتطورة، تنال أبحاث الحمض النووي القديم نصيبها من الجدل. إذ يُحتَّم أن تُتخذ تدابير استثنائية لضمان أنَّ تسلسلات الحمض النووي القديم مأخوذة حقًّا من الكائن محل الاهتمام، وليس من الشخص الذي استخرج الحمض النووي، أو من علماء الحفريات الذين تعاملوا مع الحفرية بأيديهم، أو من تجمُّع الميكروبات الذي كان موجودًا على الحفرية وداخلها وقت جمعها (قد تكون هذه الميكروبات نفسها قديمة أو حديثة). فتفاعل البوليميريز المتسلسل يتَّسم بحساسية بالغة لدرجة أنَّ الكميات الضئيلة جدًّا من المعدات المختبرية والكواشف الحديثة التي تلوث الحمض النووي، قد تجعله يُنتِج نواتج يُمكن أن يُعتقد خطأً أنها جزيئات حمض نووي قديم. بل حتى الحمض النووي المحمول في الهواء يُمكن أن يُضخَّم ويُحدَّد تسلسله إذا وصل إلى داخل أوعية تفاعل البوليميريز المتسلسل. لذا يعتقد كثيرون أنَّ أول التقارير المنشورة عن تسلسلات الحمض النووي القديم المأخوذة من حشرات محبوسة في الكهرمان ونباتات متحفرة، وحتى عظام الديناصورات، تُمثِّل عينات ملوثة من كائنات حية عصرية. وعادةً ما تُجرى أبحاث الحمض النووي القديم الآن في «غُرف نظيفة» مُعقَّمة بعوامل مُبيِّضة وأشعة فوق بنفسجية لتقليل احتمال التلوث إلى أدنى حد. ويبدو أن المدة الزمنية القصوى لبقاء حمض نووي قديم تبلغ حوالَي مليون سنة، وهذا لا يحدث إلا في الحالات التي يُجمَّد فيها الكائن.
وبالرغم من الصعوبات والمشاق المصاحبة لتطوُّر مجال أبحاث الحمض النووي القديم، استطاع الباحثون استعادةَ تسلسلاتِ حمضٍ نووي قديم أصلية من كائنات متنوعة تنتمي إلى نطاق شاسع جدًّا من الأزمنة المختلفة. فعلى سبيل المثال، استعاد بعض الباحثين تسلسلات حمض نووي ميتوكوندري من مومياوات مصرية كانت تعيش قبل ألف عام، ومن «أوتزي» رجل الجليد الذي عاش قبل حوالَي ٥٢٠٠ عام واكتُشفت جُثته متجمِّدةً عام ١٩٩١ في نهر جليدي في أعالي جبال الألب بولاية تيرول النمساوية. وقد أتاحت تحليلات هذه التسلسلات رؤًى عميقة عن أنماط الهجرة البشرية وأصول الأنماط الجينية الميتوكوندرية في البشر المعاصرين. وكما سنستعرض في الفصل السابع، حُدِّد تسلسل أجزاء جينية، بل جينومات نووية كاملة، من بقايا متجمدة من بعض حيوانات الماموث الصوفي التي يعود تاريخها إلى أكثر من ٤٠ ألف سنة مضت، وكذلك من دببة كهفية يعود تاريخها إلى حوالَي ٣٠٠ ألف سنة مضت. بل استعان الباحثون بتفاعل البوليميريز المتسلسل لتحديد تسلسلات أقدم من هذه بكثير؛ إذ ضخَّموا به تسلسلات نباتية وحيوانية مُستخرَجة من عينات جليدية جوفية أسطوانية في جرينلاند يعود تاريخها إلى حوالَي ٨٠٠ ألف سنة قبل الوقت الحاضر. ويأتي أقدم جينوم نووي حُدِّد تسلسله حتى الآن من إحدى عظام حصان برِّي كان يعيش منذ حوالي ٧٠٠ ألف سنة، وقد عُثر عليها متجمِّدة في إقليم يوكون شمال غرب كندا.
جينوم سلالة النياندرتال
كان من بين أبرز الإنجازات التي توصلت إليها أبحاث الحمض النووي القديم تحديدُ تسلسل جينومات نووية من بعض أفراد سلالة نياندرتال وغيرهم من أقرباء الإنسان الذين صاروا منقرضين الآن. وقد نشرت دورية «ساينس» العلمية أول جينوم من هذا القبيل في عام ٢٠١٠ ضِمن بحث بقيادة أحد الباحثين الرئيسيين في هذا المجال، وهو سفانته بابو العالم السويدي في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ألمانيا. وكان بابو عاكفًا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين على إجراء دراسات رائدة عن بقاء الحمض النووي في مومياوات بشرية، وبعض حيوانات الكسلان المنقرضة، ودببة كهفية، وفي عام ١٩٩٧، قاد أول محاولة ناجحة لتحديد تسلسل أجزاء حمض نووي ميتوكوندري مستخرَج من إحدى عظام أحد أفراد سلالة النياندرتال يعود تاريخها إلى حوالي ٤٠ ألف عام. وقد قدَّمت البيانات دعمًا تجريبيًّا يؤيد الفرضية التي أصبحت تلقى قبولًا عامًّا الآن، والتي تفترض أنَّ جميع البشر المعاصرين تنحدر أصولهم من أفريقيا.
كان بابو من أوائل الذين أدركوا أنَّ الجيل الثاني من تقنيات تحديد التسلسل لديه القدرة على إحداث تغيير فارق في أبحاث الحمض النووي القديم، على غرار ما فعلته تقنية تفاعل البوليميريز المتسلسِل. وكما نُوقِش في الفصل الثاني، كان من عيوب أولى تقنيات الجيل الثاني قِصَر طول قراءات التسلسل؛ إذ كان يبلغ حوالَي خمسين نيوكليوتيدة في البداية. وبناءً على حجم الجينوم المستهدَف ومدى تعقيده، قد يفرض ذلك تحديًا كبيرًا يهدِّد دقة تجميع الجينوم. ولكن لأنَّ العينات المستخرَجة من الحمض النووي القديم مجزَّأة جدًّا بالفعل، لا يرقى طول القراءة إلى أن يُمثِّل مشكلة. الأهم هو معدل الإنتاجية خلال مدة معينة من زمن التشغيل، وأنظمة الجيل الثاني من تقنيات تحديد التسلسل تُنتج كمية كبيرة جدًّا من البيانات لدرجة تُتيح الحصول على مستويات مُرضية من التغطية حتى عند تحديد تسلسل جينومات حيوانية كبيرة. وفي الحالات التي يتوافر فيها بالفعل جينومٌ مرجعي عالي الجودة مُحدَّد تسلسله من أحد الكائنات القريبة الصلة، تُصبح عملية تجميع الجينوم من جديدٍ غير ضرورية (ارجع للفصل الثالث)، بل كل ما هنالك أنَّ قراءات تسلسل الحمض النووي القديم «تُربَط» بمواضعها على الجينوم المرجعي فحسب؛ وبذلك يمكن تحديد الاختلافات في النيوكليوتيدات بين الجينوم القديم والجينوم الحديث. وهكذا فإنَّ هذه هي الاستراتيجية التي استُخدمت لتحديد تسلسل جينوم سلالة النياندرتال، حيث كان الجينوم البشري بمثابة المرجع، وفي حالة الماموث الصوفي المنقرِض، حيث حُدِّد موضع القراءات استنادًا إلى تسلسل جينوم أحد الأفيال الآسيوية (انظر الفصل السابع).
كان مشروع جينوم النياندرتال إنجازًا تقنيًّا ومعلوماتيًّا حيويًّا عظيمًا. وأول ما نشره فريق بابو في إطار هذا المشروع كان تسلسل حمض نووي لأحد أفراد النياندرتال طوله حوالَي مليون زوج قاعدي، وقد نشروه في عام ٢٠٠٦، وحصلوا عليه باستخدام تقنية تحديد التسلسل القائمة على إطلاق البيروفوسفات بالتعاون مع شركة ٤٥٤ لايف ساينسز. وصحيح أنَّ هذه الدراسة المعيارية أظهرت أنَّه من الممكن، نظريًّا، تحديد تسلسل جينوم نووي كبير مُستخرَج من عينة حمض نووي قديم تحديدًا كاملًا، لكنها أوضحت أيضًا أنَّ ذلك سيستلزم اتباع ما يُعرَف بنهج القوة الغاشمة أو البحث الشامل. فنسبة الحمض النووي الذي يخصُّ الحفرية بالفعل لا تتجاوز ١ في المائة من إجمالي الحمض النووي المُستخرَج منها إلَّا في حالات نادرة؛ لذا اضطر الباحثون إلى تفحص العديد من عظام النياندرتال المختلفة من أجل العثور على عظام يمكنها إنتاج مادة بادئة كافية لتحديد التسلسل (فضلًا عن إقناع المتاحف بالاستغناء عن حفرياتها الثمينة). وقد استقر الباحثون على عظام خاصة بثلاثة أفراد مختلفين كانوا يعيشون منذ فترة تتراوح بين حوالي ٤٠ ألف و٥٠ ألف سنة، عُثِر عليها في كهف فينديجا في كرواتيا. وكذلك تَوجَّب تعديل الإجراءات المتبَعة لإنتاج مكتبات الحمض النووي اللازمة لتحديد التسلسل؛ وذلك لتقليل الكمية المفقودة من الحمض النووي. ثم اكتمل الجينوم أخيرًا باستخدام تقنية إلومينا، القائمة على «تحديد التسلسل بالتخليق»، التي تُنتج قراءاتٍ مفردةً أقصر من القراءات التي تُنتجها طريقة تحديد التسلسل القائمة على إطلاق البيروفوسفات، لكنَّ إجمالي عدد القراءات التي ينتجها جهاز تقنية إلومينا في مرة التشغيل الواحدة أكبر بكثير. ومع تشغيل الجهاز مئاتٍ عديدةً من المرات، أمكن الحصول على ما يكفي من القراءات المستمدة من تسلسل النياندرتال، لدرجةٍ أتاحت تغطية الجينوم حتى عمقٍ مقداره ١٫٣ مرة تقريبًا (بطولٍ إجمالي يزيد على ٤ مليارات زوج قاعدي). وقد تجاهل الفريق أكثر من ٩٥ في المائة من قراءات التسلسل الأولية في النهاية بعدما ارتأوا أنها ملوَّثة. ولكي يساعد بابو وزملاؤه في التمييز بين القراءات القديمة الأصلية وقراءات الجينوم البشري المعاصر، حدَّدوا تسلسل جينومات خمسة أفراد يعيشون في مناطق متفرِّقة من العالم. ثم قُورِنت كل قراءات جينوم النياندرتال والجينوم البشري بجينوم الشمبانزي، ولأنَّ صلة قرابة الشمبانزي بكلٍّ من الإنسان والنياندرتال أبعد بكثير، كانت مقارنة جينوم كلٍّ منهما بجينوم الشمبانزي بمثابة نقطة مرجعية حاسمة لتقدير حجم التباعد بين تسلسل جينوم النياندرتال والجينوم البشري، وعنصرٍ ضابط لتأثير التلوث (فحيوانات الشمبانزي لا تجمع حفريات ولا تُوظَّف في منشآت تحديد التسلسل!).
ما الذي يجعلنا بشرًا؟
تكشف المقارنات التي أُجريت بين جينومات النياندرتال والدينيسوفان وجينومات حيوانات الشمبانزي والبشر أنَّ حوالي ١٠٠ طفرة استبدال فقط، من بين حوالي ثلاثة آلاف طفرة استبدال خاصة بالبشر تحدث في مناطق من الجينوم البشري يُتوقَّع أنها تنظم التعبير الجيني، هي التي أدَّت بالفعل إلى حدوث تغيير في الأحماض الأمينية (أي: حدوث تغيير في النمط الظاهري). وفي الوقت الحالي، لا يفهم الباحثون سوى قلة قليلة من وظائف هذه البروتينات المعدَّلة فهمًا كافيًا ليجعلها مصدرًا غنيًّا بالمعلومات، ولكنَّ من بينها بروتينًا مشاركًا في حركة الحيوانات المنوية واثنين آخرين مرتبطين بالجلد. وقد أظهرت تحليلات حديثة للبيانات الهائلة المنبثِقة من مشروع الألف جينوم وجودَ توزيع غير عشوائي لحمض نووي مستمد من سلالة النياندرتال عبر الكروموسومات البشرية. وبوجه عام، كثيرًا ما تحتوي المناطق الغنية بالجينات في الجينوم البشري على عدد أقل من الأليلات النياندرتالية، وقد رُصد انخفاضٌ مذهل بمقدار خمس مرات في كمية الحمض النووي النياندرتالي على الكروموسوم إكس. (يُستخدم مصطلح «الأليل» للإشارة إلى أشكالٍ مختلفة لجزء واحد من الحمض النووي.) وعلاوةً على ذلك، فالجينات المعبَّر عنها بمستويات عالية في خصيتَي الإنسان (وليس في أنسجة أخرى) هي أيضًا خالية إلى حد كبير من الأليلات المستمدة من سلالة النياندرتال. تتوافق هذه النتائج مع الفكرة القائلة بأنَّ بعض نسل أفراد النياندرتال وأسلاف البشر المعاصرين كانوا محرومين من الإنجاب، مع أنَّ أسلافهم تزاوجوا بكل وضوح. وعلى النقيض من ذلك، فالجينات الغنية بالأليلات النياندرتالية تتضمن جينات مُشفِّرة لبروتينات مهمة في الشعر والجلد، خصوصًا الكيراتين، وهو ما يشير إلى أن اكتساب هذه الامتدادات الحمضية النووية أدى دورًا في تكيف الإنسان مع البيئات الأبرد خارج أفريقيا.
تأثير التطور
ومن الأمثلة الأخرى على تأثير التطور البشري التباينُ في عدد الجينات المشفِّرة لإنزيم الأميليز اللعابي «إيه إم واي ١»، المسئول عن هضم النشا وتحليله إلى سكريات بسيطة. فقد كشف أحدُ الأبحاث عن وجود علاقة مباشرة تربط بين عدد نُسخ جين الأميليز وكمية بروتين الأميليز في أفواهنا، وبينما يحمل الشمبانزي جينًا واحدًا من الأميليز، يُمكن أن يكون لدينا نحن البشر ستة جينات منه أو أكثر. ومن المثير للاهتمام أنَّ الأفراد المنتمين إلى جماعات سكانية يعتمد نظامها الغذائي على الزراعة ويحتوي على «نسبة نشويات عالية»، كاليابانيين، كثيرًا ما يكون عدد جينات الأميليز في جينوماتهم أكبر من عددها عند أولئك الذين يتبعون أنظمةً غذائية «منخفضة النشا»، كالمجتمعات البدائية التي تعيش على الصيد وجمع الثمار. ويوصف المثال السابق بأنه مثال للانتقاء الإيجابي، حيث أدى تضاعف الجينات إلى زيادة عدد نُسخ جين الأميليز وبروتين الأميليز، وبذلك أتاح فائدةً تعزز الصلاحية البيولوجية لأنه سمح باستخلاص الطاقة من النشا بكفاءة أكبر.
هذا وقد اكتُشف تكيفٌ جينومي مع عنصر الزرنيخ السام لدى قاطني مدينة سان أنطونيو دي لوس كوبريس في شمال غرب الأرجنتين. صحيح أنَّ مستويات الزرنيخ الطبيعية الموجودة هناك أعلى ١٠ مرات من المستوى الذي تعتبره منظمة الصحة العالمية آمنًا. لكن المنطقة يعيش فيها بشر منذ أكثر من ١٠ آلاف عام، ويحمل سكانها الحاليون أشكالًا متغايرة من جينات معروف أنها تؤدي دورًا في أيض الزرنيخ، وهي متغايرات أقل تواترًا بكثير لدى أقرب أقربائهم ممن يعيشون في مناطق ذات مستويات منخفِضة من الزرنيخ.
وأخيرًا، أظهرت أبحاث جينومية دليلًا على حدوث انتقاء في مجموعات سكانية تتعرض بانتظام لبعض مسبِّبات الأمراض مثل المتصورة الطلائعية المسبِّبة للملاريا (التي تُنقَل عن طريق لدغات البعوض)، والمثقبيات المسبِّبة لداء النوم الأفريقي، والبكتيريا المسبِّبة لمرض الكوليرا. ومن وجهة نظر تطورية، فمثل هذه الأمثلة مثيرة للاهتمام؛ لأنَّ الأليلات المعينة المرتبطة بمقاومة بعض العوامل المسبِّبة للمرض يمكن كذلك أن ترتبط هي نفسها بإحداث أحد الأمراض. فعلى سبيل المثال، يمكن للمتغايرات الجينية التي تمنح القدرة على مقاومة الملاريا أن تؤدي أيضًا إلى الإصابة بفقر الدم المنجلي واضطرابات أخرى في الدم. لذا ففي المجموعات السكانية المعرَّضة لمسبِّبات الأمراض، يُتعمَّد الحفاظ على هذه الأليلات المرتبطة بالأمراض في تجميعة الجينات.
الحيوانات وتعدُّد الخلايا
لقد ركَّزنا حتى الآن على الأمثلة التي تستند فيها الاستنتاجات التطورية إلى تحليل الحمض النووي. وصحيح أنَّ هذا النهج فعال، لكنه محدود. فالساعة الجزيئية «تدق» بسرعة فيما يتعلق بتسلسلات النيوكليوتيدات، خصوصًا في الحمض النووي غير المشفر، وبالإضافة إلى تأثيرات إعادة ترتيب الجينوم، قد يستعصي تمييز المناطق الجينومية المتماثلة بين الكائنات الحية التي تربطها صلة قرابة بعيدة. وكذلك يُمكن أن تصبح الجينات نفسها «مشبعة»؛ فإذا كان وقتٌ كافٍ قد مر، فسيكون نفس الموضع النيوكليوتيدي قد شهد طفرات استبدال مرارًا بعد تشعُّب الأنواع وتباعدها، وهو ما يؤدي إلى محو الإشارة المُعبِّرة عن التطور وإضافة «ضجيج». وعندما يُعرف بوجود تشبُّع أو يُشتبه في وجوده، يتجه الباحثون إلى تحليل تسلسلات البروتينات (أي: الأحماض الأمينية) التي يمكن استنتاجها بدقة من التسلسلات الجينية نظرًا إلى الطبيعة العامة للشفرة الجينية. ويُمكن المقارنة بين المخزونات الجينية لدى كائناتٍ حية مختلفة، جنبًا إلى جنب مع إنشاء الأشجار التطورية القائمة على البروتينات، من أجل إعادة تمثيل أحداث مهمة في التطور. وفي هذا الصدد، تُعَد نشأة تعدد الخلايا مثالًا رائعًا ذا صلة.
فعلى مرِّ فترة تتراوح بين مليار ونصف سنة ومليارَي سنة بعد ظهور الحياة لأول مرة، كانت الكائنات الحية ميكروبية فقط. لذا فإنَّ ما يُجسِّد تعدد الخلايا الحقيقي هو نطاقُ حقيقيات النواة؛ فبخلاف الأمثلة البيِّنة المتجسدة في الحيوانات والنباتات، تطورت كائنات متعددة الخلايا تطورًا مستقلًّا من أسلاف وحيدة الخلية أكثر من اثني عشر مرة على مرِّ اﻟ ٨٠٠ مليون سنة الماضية، ضمن الفطريات والأعشاب البحرية كالطحالب الحمراء وعشب البحر البني، على سبيل المثال. وقد أتاح علم الجينوم هذه الرؤى العميقة بطريقتين. أولاهما نهج تحليلي اسمه «التحليل الجينومي التطوري» والذي أتاح استنتاج العلاقات بين كائنات حية تشعَّبت قديمًا، وذلك بتجميع تسلسلاتِ بروتيناتٍ كثيرة مختلفة معًا في تحليل واحد. وتُعد هذه خطوة ضرورية؛ لأنَّ حجم المعلومات التي يمكن استخراجها من بروتين واحد كثيرًا ما يكون محدودًا، كما أن تحليل العلاقات بين عدة تسلسلات في وقت واحد يزيد من نسبة «الإشارة إلى الضجيج». والآن أصبحت التحليلات الجينومية التطورية لمئات البروتينات في وقت واحد إجراءً معتادًا، وقد أمدَّت الباحثين ﺑ «خارطة طريق» للعلاقات بين حقيقيات النواة. أمَّا الطريقة الثانية، فهي أنَّ ربط وجود الجينات الرئيسية المرتبطة بتعدد الخلايا وعدم وجودها بشجرة حقيقيات النواة قد أتاح فهمًا عميقًا بخصوص الوقت الذي نشأ فيه كل جين في كل مجموعة من المجموعات المختلفة وكيفية نشأته. وبينما أبرزت هذه التحليلات أفكارًا أساسية شائعة، فإن أهم فكرة مُستفادة هي أنَّ الأنظمة الجزيئية التي يرتكز عليها تعدد الخلايا تختلف من مجموعة إلى أخرى. فالتطور يؤثِّر بما هو متاح.
هذا ويُعَد تطور بعض الخصائص الحيوانية المميِّزة الأخرى، مثل العضلات والجهاز العصبي، أقل وضوحًا. ففي التحليلات الجزيئية، يتضح أنَّ المشطيات، التي تحمل خلايا عصبية وعضلات أثرية، هي الأعمق تشعُّبًا تباعديًّا من بين كل الحيوانات الحقيقية، وهو ما يشير إلى أن هذه الخصائص تطوَّرت قبل ظهور أولى ثنائيات التناظر منذ فترة تتراوح بين ٥٠٠ و٦٠٠ مليون سنة بكثير. ولكن في تحليل جينومي تطوري حديث أُجري على ١٧١٩ بروتينًا لتقليل النتائج التجريبية الزائفة في عملية إعادة إنشاء الشجرة التطورية، وُجد أن الإسفنجيات هي الأعمق تشعبًا. ومع أنَّ الإسفنجيات لديها أنسجة، فإنها تفتقر إلى عضلات وخلايا عصبية حقيقية؛ لذا ربما تكون هذه الخصائص قد تطوَّرت لاحقًا في سلف مشترك بين المشطيات واللاسعات (مثل قنديل البحر)، والصفيحيات، وثنائيات التناظر (ارجع للشكل ١٥). وتُعَد الصفيحيات («الحيوانات المسطحة») بالأخص من السلالات التي تمثل إشكالية كبيرة في هذا الصدد. فمع أنَّ هيئتها ظاهريًّا تشبه الأميبا، من الواضح أنها حيواناتٌ من حيث تعدد الخلايا وموضعها في الشجرة الجينومية التطورية، وهكذا ربما تكون قد فقدت العضلات والأعصاب في مرحلة ثانية. تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا لغزٌ ينشأ مرارًا وتَكرارًا عند المقارنة بين بيانات جزيئية وبيانات خاصة بالتشكُّل، وهو ما يشدِّد على أهمية وجود إطار تطوري لتُربَط به خصائص الكائنات الحية.
حقيقيات النواة والعضيات
حُدِّد تسلسل أول الجينومات العتائقية في تسعينيات القرن العشرين، وقد أيَّدت تحليلاتها الرأي الذي يفترض أنَّ الحياة مكوَّنة من «ثلاثة نطاقات»، ومفاده أنَّ البدائيات وحقيقيات النواة نطاقان شقيقان مختلفان من الناحية التطورية ومستقلَّان عن البكتيريا التي تُمثِّل نطاقًا ثالثًا. ولكن عندما خضعت بروتينات موزَّعة توزيعًا عامًّا لتحليلات جينومية تطورية، تبيَّن أنَّ بعض حقيقيات النواة انبثق من داخل العتائق أحيانًا. أثيرت هذه الفكرة لأول مرة في عام ١٩٨٤، وكان مَن أثارها هو جيمس ليك، أستاذ علم الأحياء التطوري في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، الذي لاحظ تشابهات تشكلية بين ريبوسومات حقيقيات النواة وبعض العتائق تحت المجهر الإلكتروني، وهذه كانت ملاحظة لافتة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ فكرة احتمالية انبثاق حقيقيات النواة من داخل سلالة عتائقية متنوعة أصلًا قد أيَّدها الاكتشاف الحديث الذي عُثر فيه على مجموعات عتائقية جديدة في رواسب مأخوذة من بيئات قاسية الظروف مثل «قلعة لوكي»، وهو حقل في أعماق البحر به منافس حرارية مائية، ويقع بين جرينلاند والنرويج. وقد سُمِّيت هذه العتائق التي تنتمي إلى ما يُسمَّى عتائق أسجارد، والتي عثر عليها فريق من العلماء بقيادة زييس إتيما في جامعة أوبسالا، نسبةً إلى آلهة إسكندنافية؛ لتصبح مسمَّياتها عتائق لوكي، وعتائق ثور، وما إلى ذلك. تتكون جينوماتها من مزيج غريب من جينات مُشفِّرة لبروتينات عتائقية «عادية» و«بروتينات مُميِّزة خاصة بحقيقيات النواة»، وهي بروتينات يُفترض في الأصل أنها لا توجد إلا في العمليات الداخلية لحقيقيات النواة. وتشتمل هذه البروتينات المُميِّزة لحقيقيات النواة على بروتينات تشكِّل الهيكل الخلوي الصلب وتنقل الحويصلات من الموقع أ إلى ب في الخلايا الحقيقيات النواة. وبذلك فإن عتائق أسجارد يُمكن أن تُغيِّر فهمنا للخلية المضيفة المحيِّرة التي تتشارك مع السلف البكتيري للميتوكوندريون. ومع الأسف، كل ما نعرفه عن النظام البيولوجي الخاص بها مجرد استنتاجات من جينومات رُقِّعت معًا من تسلسلات حُصِل عليها مباشرة من عينات حمض نووي بيئي عن طريق دراسات ميتاجينومية (انظر الفصل السادس)؛ أي: إنَّ الخلايا الفعلية لم تُشاهَد قَط، فضلًا عن إنشاء مزرعة لها أو دراستها في المختبَر. ولذا فوظائف البروتينات المُميِّزة لحقيقيات النواة في صنف عتائق أسجارد غيرُ معروفة.
تنقسم الفرضيات الخاصة بتطور حقيقيات النواة إلى نوعَين عامَّين. وهما نموذج «الميتوكوندريا المتأخرة» الذي يفترض أنَّ السمات البارزة لبيولوجيا الخلايا الحقيقية النواة، مثل النواة ونظام الغشاء الداخلي والهيكل الخلوي، قد تطوَّرَت قبل نشأة الميتوكوندريون من التكافل الداخلي. وهنا تُعتبر القدرة على ابتلاع الفريسة (باستخدام الهيكل الخلوي) شرطًا سابقًا أساسيًّا لتطوُّر الميتوكوندريا. وعلى العكس من ذلك، يفترض سيناريو «الميتوكوندريا المبكرة» أنها تطوَّرت في كنف مُضيفٍ بدائي النواة، وأنَّ الخلية الحقيقية النواة لا يمكن أن تكون قد نشأت من دون تطور هذه العضية التقليدية النموذجية. وهكذا قد يُمثِّل صنف عتائق الأسجارد، مع بروتيناتها المُميِّزة لحقيقيات النواة، «الحلقات المفقودة» بين بدائيات النواة وحقيقيات النواة، ولكن في الوقت الحالي، لا تتوفر بيانات كافية للتمييز بين النموذجَين.
أهي شجرة الحياة أم شبكة الحياة؟
ولكن بعيدًا عن التكافل الداخلي، يدور جدالٌ حول مقدار النقل الجيني الأفقي الذي يحدث في حقيقيات النواة. يشتهر النقل الجيني الأفقي، الذي يُعرَف بأنه تبادل المادة الجينية عبر الأنواع، بأنه محرك التجديد في بدائيات النواة، وقد أوضِحَت ثلاث آليات يحدث النقل من خلالها. أولاها هي الاقتران، وهي آلية تتضمن مرور الحمض النووي بين خلايا بدائية النواة متصلة ماديًّا عبر أنبوب رفيع يُسمى خيطًا شعريًّا. وثانيها آلية التحول، وهي تحدث حينما تمتص إحدى بدائيات النواة حمضًا نوويًّا غريبًا طليقًا، مثل ذلك الحمض النووي المُطلَق من الخلايا الميتة. أمَّا الثالثة فهي النقل بالوساطة، وهي تتضمن حدوث تبادل جيني بوساطة من الفيروسات التي يمكنها التقاط قطع من الحمض النووي من إحدى الخلايا ونقلها إلى خلية أخرى. وصحيح أنَّ الأهمية النسبية لهذه الأشكال الثلاثة من التبادل الجيني تتفاوت فيما بين سلالات البكتيريا والعتائق المختلفة وداخلها، ولكن ثبَت بالتجربة وبالأدوات المعلوماتية الحيوية أن كل آلية منها قادرة على نقل الحمض النووي من سلالة إلى أخرى. وباستثناء آلية نقل الجينات بوساطةِ الفيروسات، لم تُوضَّح آلياتٌ كهذه في حقيقيات النواة، مع أنَّ علم الجينوم المقارن أظهر دليلًا على وجود نقل جيني أفقي من بدائيات النواة إلى حقيقيات النواة ومن حقيقيات النواة إلى حقيقيات النواة في الطلائعيات والنباتات وبعض الحيوانات.
وينتشر النقل الجيني الأفقي وسط البكتيريا والعتائق انتشارًا كبيرًا، لدرجة أن العديد من العلماء صاروا يعتبرون شجرة حياة بدائيات النواة أشبه بشبكة. لنضرب هنا مثلًا بالبكتيريا الإشريكية القولونية التي حُدِّد تسلسل ما يزيد على ألفي جينوم لها. فحتى اللحظة التي تُخط فيها تلك السطور، يحتوي الجينوم الشامل للإشريكية القولونية على حوالي ٩٠ ألف جين، وبعبارة أخرى، يوجد حوالي ٩٠ ألف جين مختلف اكتُشف في جينوم سلالة أو أكثر من سلالات الإشريكية القولونية، ويستمر حجم الجينوم الشامل في الازدياد بمقدار ثلاثين إلى خمسين جينًا كلما حُدِّد تسلسل جينوم جديد. وهذا أمرٌ مذهل نظرًا إلى أنَّ عدد الجينات في أي سلالة معينة من الإشريكية القولونية نادرًا ما يتجاوز ٤ آلاف جين. وتجدر الإشارة إلى أنَّ العديد من تلك الجينات الخاصة بسلالات الإشريكية القولونية تُسهِّل التكيُّف مع البيئات الجديدة والقدرة على الإمراض (فعلى سبيل المثال، تُعَد الاختلافات المشئومة بين بكتيريا الإشريكية القولونية «أو ١٥٧: إتش ٧» المسببة للإسهال، والإشريكية القولونية الطبيعية في أمعائنا ناتجةً من جينات مُستمَدة من نقلٍ جيني أفقي في تلك البكتيريا الأولى). وفي المقابل، فالجينوم الأساسي للإشريكية القولونية — أي مجموعة الجينات المشتركة بين كل جينومات هذا النوع — يحتوي على حوالي ألف جين فقط، ويتضاءل بمرور الوقت. وبأخذ كل الجينومات البكتيرية المُحدَّد تسلسلها في الحُسبان، يكون حجم الجينوم الأساسي أقل من ١٥٠ جينًا! وسواءٌ أكان الشكل المُعبِّر عن الحياة شجرةً أو شبكة (أو كلتَيهما)، فإن جينومات بدائيات النواة متنوعة ومستمرة التغيُّر إلى حدٍّ استثنائي. وكما سنرى في الفصل السادس، فإننا لم نلمح سوى غيض من فيض تنوُّع الجينومات. وهنا أيضًا تواصل الأدوات الجينومية الحديثة فتح مسارات جديدة للاستكشاف.