ولم يرَ الرجل قدمه!

هذا محال، في غاية الاستحالة والشناعة.

ابن الهيثم، متحدثًا عن نظرية الرؤية بخروج شعاع من العين

عندما سُجن ابن الهيثم (٩٦٥–١٠٤٠م) في مصر بسبب عدم صلاحيَّة أفكاره — أو عدم تطبيقها بشكل جيد — فيما يخص بالتحكم في تدفق المياه في نهر النيل، قرر الابتعادَ عن التفكير في المياه، واتجه للتفكير في الضوء والبصريات. فكان السؤال الأبرز الذي واجهه: كيف نرى؟ هل تخرج أشعَّة ما من أعيننا إلى الجسم فنراه كما قال فيثاغورث؟ أم أن الضوء يسقط على الأجسام ثم ينعكس منها متجهًا إلى أعيننا، فنرى الأجسام كما قال أبيقور؟

استحسن ابن الهيثم قول أبيقور؛ إذ لو كنا نرى الأشياء بانبعاث أشعَّة من أعيننا، فلِمَ لا نرى في الظلام؟ فهذا — أي الرؤية بشعاع خارج من العين — كما يقول ابن الهيثم: «محال … في غاية الاستحالة والشناعة.»١
بدأ ابن الهيثم بفكرة أبيقور، ومضى في طريقه مستخدِمًا مهاراته الرياضية؛ ليكتشفَ الكثير مما نعرفه اليوم من خصائص الضوء من الانكسار والانعكاس، ودرَس العدسات المستوية والمحدَّبة والمقعَّرة، ثم وضع أفكاره في كتابه الثوري «المناظر» الذي تُرجِم للغة اللاتينية ووصل أوروبا في القرن الثالث عشر ميلادية،٢ ليبدأ الضوء رحلة علمية أخرى، ثم خيالًا علميًّا لاحقًا.

مبصر في مدينة العميان

عندما نزلتُ من الدَّرَج كانت هناك مشكلة غير متوقَّعة؛ لأنني لم أرَ قدمي أثناء النزول، برغم هذا كنت أشعر بإثارة كأنني مبصر في مدينة عميان، أردت أن أضرب الناس على ظهورهم وأجعل قبعاتهم تطير، عمومًا كنت أستمتع بهذا التفوق الاستثنائي.

كانت هذه كلمات «جريفين» تلك الشخصية التي صاغها أسطورةُ الخيال العلمي جورج ويلز H. G. Wells في روايته العبقرية «الرجل الخفي» The Invisible Man التي ألهبت خيال وعقل كل مَن قرأها، والتي كتبها عام ١٨٩٧م.٣

حاول العلماء، ربما قبل ويلز حتى، إنتاج موادَّ أو عباءات يمكن للبشر التخفي بها، وصولًا إلى العصر الحديث والذي بالتأكيد سيكون لعلمائه كلمةٌ في هذا الموضوع، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم وتسير محاولاتٌ حثيثة من العلماء من بلدان العالم المختلفة والتي سنسرد بعضًا منها، لإنتاج مثل تلك العباءات أو المواد، لكن قبل ذلك أود منك أن تتأمَّل النظرية التي استخدمها ويلز في التخفِّي، ولتعلم أن الخيال دائما كان منطلَقَ ومهدَ الكثير من الحقائق والابتكارات التي ربما تُحول مجرى حياتنا.

يقول ويلز على لسان «جريفين»: «الفكرة هنا معالجة المادة سواءٌ كانت سائلة أو صلبة دون تغيير خواصِّها؛ بحيث ينخفض معامل انكسارها ليُساوِيَ معامل انكسار الهواء. ظهور الأشياء يعتمد على تعاملها مع الضوء؛ إما يعكسها أو يكسرها أو يمتصها، لو لم يفعل أيًّا من هذا لن يكون ظاهرًا.»٤
«لكن هناك خطأ ما» هكذا يُعلق الكاتب الروسي المشهور ياكوف يبرلمان على هذه القصة. فقد أشار في كتابه «الفيزياء المسلية» Physics Can Be Fun (١٩١٣م) أنه من وجهة النظر العلمية فإن هذا الرجل «جريفين» سيكون أعمى! وذلك لأن العين الآدمية تعمل بامتصاص الضوء القادم إليها؛ وبذلك تتم الرؤية، لكن في حالة «جريفين» فإن الضوء سوف يمر كُليةً ولن تمتصَّه العين، وبالتالي لن يستطيع الرؤية.٥

إمكانية التحقق ليست بالبعيدة

ومن تلك المحاولات والتي أُجرِيَت بهذا الصدد تلك المادة التي ابتكرها علماء من جامعة بروكلي بالولايات المتحدة الأمريكية، هذه المادة يُمكنها أن تُحوِّل الضوء عن الأشياء ثلاثية الأبعاد مما «يُخفيها عن الأنظار»، وفقًا لما يُسمَّى بالانعكاس المقلوب أو السالب، وهو نفس مبدأ الفيزياء البصرية الذي يُعطي الانطباع بأن قشة وُضِعت في كوب من الماء تبدو كما لو كانت منكسرة.

لكن لسوء الحظ لا توجد هذه المادة في شكل عادي؛ فقد أُنتِجت على قياس متناهي الصغر يُناهز جزءًا من مليار جزء من المتر، وقد استُخدِمت مقاربتان؛ إحداهما استَخدمت كمية متناهية الصغر من الفِضة وفلورايد المجنيزيوم، والأخرى استُخدِمت فيها حبال متناهية الصغر من الفضة، ولم تمتصَّ هذه الأشياء الضوء كما لم تعكسه، «مثل ماء ينساب حول صخرة» حسَب تعبير أحد أعضاء الفريق العلمي، وكانت النتيجة أن الضوء الوحيد الذي يمكن رؤيته هو ضوء الخلفية، ويقول العلماء إن المبادئ التي يستند عليها الاكتشاف قد تُمكِّن في المستقبل من صنع عباءة «إخفاء»!

المشكلة والحل

لطالما كانت مشكلة الضوء العادي المنظور هي في قِصَر موجاته والتي تحتاج إلى موادَّ ذراتها صغيرة جدًّا كي تستطيع التلاعب بها، وإذا تم استخدام ذرات صغيرة سيكون هذا على الأسطح الصلبة غير القابلة للانحناء والتي تفتقد المرونة اللازمة لاستخدامها في التطبيقات المختلفة.

لكن بعض العلماء الاسكتلنديِّين استطاعوا أن يتغلبوا على هذه المشكلة؛ وذلك باستخدام أغشية مرنة تُثبَّت على الشيء المراد إخفاؤه بحيث إن هذه الأغشية بها ذرات تستطيع التحرر، وبذلك تستطيع التلاعب بموجات الضوء العادي. هذه المادة تُسمى «ميتافليكس» Metaflex ويمكن لهذه المادة أن تعمل مع موجات الضوء ذات الطول الموجي الصغير جدًّا حوالي ٦٢٠ نانومترًا (النانومتر يُساوي ١٠−٩ أمتار) وهذا المدى يقع فيه الطول الموجي لموجات الضوء المنظور وبالتالي نتغلَّب على مشكلة قِصَر موجاته.

ومن التطبيقات التي يُمكِن أن تُنتجها الميتافليكس «عباءة إخفاء» مثل تلك التي توجد في الفيلم الشهير «هاري بوتر».

سيتحقَّق ذلك — بحسب العلماء — عن طريق ترتيب مجموعة من تلك الأغشية بطريقة معينة بحيث تكون مع بعضها أقمشة ذكية Smart fabrics وينتج عنها تلك العباءة السحرية!

أقمشة فوتوغرافية Photographic Screen

محاولة أخرى أُجرِيَت في هذا الحقل في جامعة طوكيو باليابان، واستخدم فيها العلماءُ نوعًا من الأقمشة عاكسة للضوء retro-reflective والتي تعمل كأقمشة فوتوغرافية، يقول البروفيسور Susumu Tachi شارحًا لتلك العملية: «سوف تكون هناك كاميرا خلف الشخص الذي يرتدي تلك العباءة، الصورة من الكاميرا سيتم إسقاطها على العباءة؛ بحيث إذا نظرتَ لها من الأمام سوف ترى الصورة المسقطة من الكاميرا على العباءة، وبذلك تبدو وكأنها شفافة.»

ولا يَخْفى عليك أن هذه التقنية لها تطبيقات عديدة؛ فعلى سبيل المثال يمكن استخدامها في الديكورات بحيث توضع الكاميرات على الحوائط الخارجية، وعندما تكون بالداخل سيبدو لك أنك تنام في العَراء!

الاختفاء الكلي

ويبدو لنا مما سبق من محاولات أن معظمها لا يُحقق الاختفاء الكامل، أو قد يُحققه تحت ظروف معينة.

ولكن كانت هناك محاولة من شركة كندية زعمت أنها توصلَت بالفعل للاختفاء الكامل، وذلك عن طريق اختراع مادة لها القدرة الكاملة على أن تُحنِيَ الضوء حولها، فلا يُرى ما هو وراء تلك المادة بتاتًا، ولكن للأسف لم تُفصِح الشركة عن المزيد حول المادة أو حول استخدامها في الإخفاء؛ وذلك لمتطلبات السرية، فقد يتم استخدامها عسكريًّا وفقًا للشركة؛ فكل ما نعرفه عن تلك الأبحاث هو مجموعة من الصور تعرضها الشركة لتقنيتها، وتُعبِّر عن مدى التقدم الذي وصلت له.٦

ماذا بعد؟

بعد كل تلك المحاولات من شتى بقاع المعمورة، والتي تُجلِّي إصرار الإنسان على تحقيق مبتغاه، هل لاحظت أن منبع (أو منبع من منابع) كلِّ هذه الأفكار وملهمها كانت فكرة خيالية؟ — وإن كان لها أصل علمي — مِن كاتب يعيش في القرن التاسع عشر، أخرج ما في رأسه على وُرَيقات وصلَتنا، فألهبت عقول العلماء، وحثَّتهم على أن يُجاروها عِلميًّا؟

لقد قرر الإنسان منذ زمن أن المستحيل أصبح غريبًا على قاموسه، ووضع في عقله أنه لا بد أن يأتيَ اليوم الذي يُمسك فيه بلجام الكون ويسوقه كيف يشاء! هذا إن ظل الكون مسالمًا ولم يَفِضْ به الكيلُ منا ومن فضولنا اللامتناهي!

١  ابن الهيثم (٩٦٥–١٠٤٠م) من أشهر علماء البصريات عبر التاريخ، وبالإضافة لما ذكرناه من أعماله، فهو مَن أثبت بالتجرِبة بأن الضوء يسير بسرعة معينة ولا ينتقل لحظيًّا، مخالفًا بذلك آراء سابقيه من العلماء ممن سبقوه، منهم ابن سينا.
د. عبد الحليم منتصر، تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدُّمه، مكتبة الأسرة ٢٠١٢م، ص٩٦، ١٠٢.
٢  Bridgeman, Roger, 1000 Inventions and discoveries, DK Publishing Inc., New York: 2014, p66, 67.
٣  H. G. Wells, The Invisible Man 1897, GUTENBERG EBOOK 2004.
٤  معامل انكسار الضوء (Refractive index) هو مقياس لسرعة الضوء في المادة، ويُعبر عن درجة انحناء أشعة الضوء عندما تمر من وسط إلى آخَر؛ فبالطبع كلما كانت النسبة بين مُعامِلَي الانكسار للوسطَين أكبرَ كان الانحناء أكبر.
٥  توضيح بسيط لتفسير بيرلمان: تعمل العين عندما يسقط ضوءٌ على الشيء وينعكس على العين تقوم العدسة بتركيزه على الشبكية، وبذلك تتكوَّن الصورة وتتمُّ الرؤية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤