ساحر الفضاء!

لا بد أن الكون مليء بالأصوات، من النجوم لبعضها بآلاف اللغات، في يومٍ ما لا بد أن نلتحق بتلك المحادثة.

آرثر سي كلارك، إلى النجوم
بأهم وأفضل فيلم من الخيال العلمي في القرن العشرين، وبواحدة من أفضل روايات الخيال العلمي في ذات القرن، والتي بناها على الفيلم: ٢٠٠١: أوديسا الفضاء 2001: Space Odyssey يحتل آرثر كلارك مكانة لا يحتلُّها غيره في سماء الخيال العلمي.

سأكون أمينًا وأعترف وبكل أسف، لو لم تقرأ الرواية أو تُشاهد الفيلم، فقد فاتك شطرٌ من الخيال العلمي عظيم، ولكن اطمئن، بعد أن تقرأ هذا الفصل ستقرأ الرواية، وستُشاهد الفيلم، وستعرف المؤلف؛ لأنه مؤلف استثنائي، قلما جادت لنا البشرية بمثله.

لم يكن آرثر سي كلارك Arthur C. Clarke (١٩١٧–٢٠٠٨م) مجرد روائي يكتب روايات الخيال العلمي وحسب، لقد كانت تفاصيل تنبؤاته مثيرة للدهشة، منها ما تحقَّق ومنها ما هو في طَوْر التحقق، ومنها ما لم يدخل حيِّز التحقق بعد، ولعل أكثرَ ما ميَّز تنبؤاته هو كونُ أغلبها مرتبطًا بشكلٍ أو بآخرَ بالفضاء، وهذا ما دفعني لعنونة الفصل بعنوانه الحالي: «ساحر الفضاء».

من هو آرثر كلارك؟!١

كاتب خيال علمي، وُلد عام ١٩١٨م ببريطانيا، اهتم في طفولته كثيرًا بمشاهدة النجوم، وقراءة مجلَّات الخيال العلمي، واستمر شغفه بالعلوم والخيال العلمي، ولازمه طَوال عمره، ونشر أول أعماله عام ١٩٤٨م بعنوان حفلة الإنقاذ Rescue Party، ويُعَد هو وإسحاق عظيموف Isaac Asimov وروبرت هاينلاين Robert A. Heinlein أشهرَ ثلاثة كُتَّاب في الخيال العلمي في القرن العشرين.
حصل كلارك على جوائز عديدة تخص أدب الخيال العلمي، ومن أشهرها جائزة هوجو التي حصل عليها عام ١٩٥٦م عن قصته القصيرة «النجم» The Star. وهناك جائزة سنوية باسمه تُمنَح لأفضل قصة من الخيال العلمي نُشِرت في المملكة المتحدة في تلك السنة.٢
ذاع صيتُه كثيرًا بعد روايته المشهورة: 2001: Space Odyssey أو «٢٠٠١: أوديسا الفضاء»، لدرجة أنه تم تسمية السفينة التي انطلقت في رحلة أبوللو ١٣ باسم «الأوديسة» Odyssey.

إذن، لنبدأ، وبدون المزيد من التأخير، مع تنبؤات المدهش، ساحر الفضاء، آرثر كلارك.

أولًا: الأقمار الصناعية للاتصالات!

تُستخدَم أقمار الاتصالات الصناعية كما نعلم على نطاق واسع جدًّا في عصرنا هذا، وهي كما هو معروف أيضًا تربط نقاطًا متعددة من مناطق الكرة الأرضية، وفي الحقيقة هناك ما يُقارب ٢٠٠٠ من تلك الأقمار تدور حول الأرض، ناقلةً العديد من البيانات التناظرية والرقمية من أصوات وصور وفيديوهات.

ما دور كلارك ها هنا؟

آرثر كلارك كان من أوائل المتوقعين لانتشار مثل هذه التكنولوجيا على مستوى العالم. وقد نشر أفكاره تلك بورقة في مجلة Wireless World Magazine عام ١٩٤٥م، وكان عمره من السنوات سبعًا وعشرين، تحت عنوان Can Rocket Stations Give World-wide Radio Coverage أو «هل يُمكن لمحطات الصواريخ أن تُغطِّيَ موجات الراديو في جميع أنحاء العالم» وفيها اقترح أن يكون هناك أقمارٌ صناعية تدور في مدارات حول الأرض لتُكوِّن شبكة اتصالات عالمية.
وللأمانة فقد سبقه لذلك التوقع كاتب خيال علمي آخر هو «إدوارد إيفيريت هايل» Edward Everett Hale (١٨٢٢–١٩٠٩م)، فتوقَّع قمرًا صناعيًّا مصنوعًا من الطوب يبلغ قُطره نحو ٢٠٠ متر ينطلق من الأرض ويدور حولها، وساعد قمره هذا الملاحين في مهماتهم، قدم كلَّ ذلك في قصة بعنوان The Brick Moon أو «قمر الطوب»، نشرها في مجلة The Atlantic Monthly عام ١٨٦٩م.
figure
الأقمار الثلاثة التي اقترح كلارك أنها ستكون كافية لتغطية الأرض، والصورة من الورقة العلمية التي نشرها كلارك. يُمكنك قراءة الورقة كاملة من الرابط الموجود في المراجع المدرَجة نهايةَ الفصل. (ARTHUR C. CLARKE, EXTRA-TERRESTRIAL RELAYS Can Rocket Stations Give World-wide Radio Coverage?, lakdiva.org/clarke/1945ww/1945ww_oct_305-308.html.)
لكن كان الجديد في توقع كلارك، أنه كان عمَليًّا أكثر من قمر الطوب، فقد استنتج كلارك ارتفاع القمر المناسب، وهو ٣٥٧٦٨ كيلومتر، حيث إنه عند ذلك الارتفاع سيدور القمر بنفس السرعة التي تدور بها الأرض، وبالتالي سيُحافظ على موقع ثابت بالنسبة لنقطة ما على الأرض، وهو نفس المدار الذي تدور فيه الأقمار الصناعية اليوم، وتُسمى تلك المدارات التي تدور بها هذه الأقمار الصناعية حول الأرض ﺑ Geostationary orbit أو «المدار الثابت بالنسبة للأرض». وتشريفًا ﻟ «كلارك» تُسمى هذه المدارات في بعض الأحيان ﺑ «مدارات كلارك» Clarke Orbits.

واقترح كذلك من خلال حساباته في تلك الورقة أن ثلاثة من الأقمار الصناعية ستكون كافيةً لتغطية الأرض بالنسبة للراديو فيما عدا بعض المناطق القطبية، بحيث تكون تلك الأقمار الثلاثة متباعدةً عن بعضها البعض بمسافات متساوية.

وفي عام ١٩٦٤م وُضِع أول قمر صناعي في مدار حول الأرض، فقط بعد نشر تلك الورقة بحوالي ١٩ عامًا! وإن كان سبق ذلك القمرَ بعضُ الأقمار التي لم تُؤدِّ دورها بالشكل المطلوب، وكان اسم ذلك القمر «سينكوم ٣» Syncom 3، واستطاع أن ينقل تغطيةً حية لدورة الألعاب الأولمبية في طوكيو، اليابان عام ١٩٦٤م، وفي بدايات عام ١٩٦٥م تولى إدارتَه قسمُ الدفاع لاستخدامه في اتصالات عسكرية خصوصًا في حرب فيتنام.٣
ما لم يتوقَّعْه كلارك أن تكون تلك الأقمار بهذا الحجم الصغير جدًّا الذي تبدو عليه الآن؛ ذلك أن الترانستورات Transistors والدوائر المتكاملة Integrated Circuits لم تكن قد اختُرِعت بعد.

اليوم، اصدُقني القول: هل ستستمر الحياة بطبيعتها إن لم تُشاهد مبارَيات (دوري أبطال أوروبا) و(كأس العالم)، وتُشاهد «سيرجيو راموس» يُطيح بالكرات إلى الفضاء الخارجي، وتستمتع ﺑ «بيرلو» وهو يُسدد كراته في مناطق اختُرِعت له خصِّيصًا؟!

إذن، عندما تجلس على أريكتك الوثيرة تُشاهد تلك المباريات، وفي وسط إثارة كرة القدم التي تسبح فيها، لا تنسَ فضل ابن بريطانيا، أيقونة الخيال العلمي، ساحر الفضاء، «آرثر كلارك».

ثانيًا: مصعد الفضاء المذهل!

تخيَّلْ مصعدًا يرتفع بك آلاف الكيلومترات لأعلى، ستبدأ من على سطح الكرة الأرضية، وصولًا إلى الفضاء يحملك ويحمل بضائعك وكل ما تحتاج إليه! تُرى، هل تلك المصاعد ممكنة؟ هل يُمكننا فعلًا بناءُ برج بابل جديد، أو نبتة جاك٤ جديدة، لكن بنكهة عصور النانو ورائحة السيليكون وعائلته؟

كيف سنأتي بمادة يُمكنها تحمل تلك الأوزان لهذه المسافات الطويلة؟ المشكلة ليست في المصعد نفسه، بل هي في الأساس مشكلة الشريط الواصل بين الأرض والمنطقة المقصودة في الفضاء، والذي سيتسلَّقه المصعد، من أي مادة يمكن أن يُصنَع هذا الشريط الخارق؟

هل انحرفنا عن موضوعنا قليلًا؟ لا، بل هو في صُلب موضوعنا.

تحدث «كلارك» عن مصعد الفضاء هذا في رواية «ينابيع الجنة» Fountains of Paradise عام ١٩٧٩م، وفيها أنشأ مهندسٌ هذا المصعدَ الفضائي من موادَّ نيزكية من على قمة جبل في جزيرة على الأرض، ثم أعاد كلارك نشر فكرته في ورقه عام ١٩٨١م بعنوان «مصاعد الفضاء: تجربة ذهنية أم مفتاح للكون؟» يقول في بدايتها نصًّا:
WHAT I want to talk about today is a space transportation system so outrageous that many of you may consider it not even science-fiction, but pure fantasy. Perhaps it is; only the future will tell.٥

ما أود التحدُّث عنه اليوم عبارة عن نظام نقل فضائي، والذي يعتبره الكثيرُ من الناس غيرَ محتمَلٍ حتى في الخيال العلمي، وإنما هو — كما يعتقدون — خيالٌ بحت. حسنًا، ربما يكون كذلك! المستقبل فقط هو ما سيكشف لنا الحقيقة.

حديثًا، نُشِر العديد من الأبحاث حول الموضوع تُحاول حل المشكلات التي تعرض إنشاء مثل هذا المصعد الذي سيُوفِّر تكاليفَ كبيرة جدًّا، وإن كانت التكلفة التي سيتكلفها إنشاء المصعد كبيرةً هي الأخرى (حوالي ٢٠ مليار دولار حسَب أحد مهندسي ناسا في تقرير ﻟﻟ CNN)، وستبدو معه رحلات الفضاء نشاطًا يوميًّا روتينيًّا بدون تكاليف تُذكَر بالنسبة لما تتكلفه سفن الفضاء في رحلاتها، ويُقترَح أن تُولَّد الطاقة المستخدمة لتشغيل المصعد من خلال ألواح شمسية على طول المسافة التي سيقطعها المصعد.
ويكفيك أن تعلم أنه في عملية إطلاق السفن الفضائية، فإن كُلفة حمل كيلوجرام واحد تُقارب ٢٢٠٠٠ دولار! وستنخفض هذه الكلفة مع وجود المصعد الفضائي لتُقارب حوالي ٥٠٠ دولار لكل كيلوجرام واحد.٦
ويُقترَح أن تتكون حبال الشد التي ستحمل تلك المصاعد من أنابيب الكربون النانوية، حيث تملك قوة عالية جدًّا وهي أخفُّ من الفولاذ ﺑ ٢٠ مرة، المشكلة الأخرى التي يَأمُل العلماء في حلها هي كيفية حماية المصعد والأسلاك من النيازك وحُطام المركَبات والاقمار الصناعية التي تدور حول الارض؛ إذ إنَّ أي اصطدام بالأسلاك قد يؤدي إلى تلَفِها أو قطعها، تخيل كتلة مثل الكتلة العملاقة لذلك السلك المهول (في بعض التقديرات قد تبلغ كتلته مليون طن، حتى مع استخدام مواد خفيفة عالية المواصفات) يسقط على الأرض بسرعة ١٠ كيلومترات في الثانية الواحدة مُسببًا موجة صدم هائلةً على الأرض تُعادل عدة وحدات من الميجاطن من الديناميت!٧

إحدى الشركات اليابانية أعلنت مؤخرًا عن أن هذا المصعد سيكون جاهزًا للعمل بحلول عام ٢٠٥٠م وسيبدأ العمل فيه في عام ٢٠٢٥م، وسيتحرك هذا المصعد الياباني بسرعة ٢٠٠ كم في الساعة، يحمل داخله ثلاثين شخصًا، على أن يصل إلى المحطة المدارية خلال سبعة أيام.

ثالثًا: الإنترنت والكمبيوتر الشخصي

ربما سنهبط قليلًا إلى كرتنا الأرضية الزرقاء لنتحدث عن شيء نستخدمه يوميًّا، بل أزعم أن كل ساعة من ساعات يومك يتخلَّلها دقائقُ تستخدم فيها هذا الجهاز، الحاسوب، وتلك الشبكة العملاقة، الإنترنت.

في عام ١٩٧٤م ظهر «كلارك» في مقابلة على التليفزيون الأسترالي ومع قناة ABC، وكانت المقابلة في مركز ضخم من المراكز التي تحتوي على حاسبات آلية ضخمة، تلك التي كانت تبلغ أضعافَ أضعافِ أحجام الحاسبات الآلية في وقتنا هذا.

جاء مُقابِلُه الأسترالي ومعه ابنه الصغير، حوالي ٦ سنوات، وبدأ في سؤال صديقنا كلارك، وفي خلفية ثلاثتهم تلك الأجهزةُ العتيقة وهي تُدندن، ماذا يُخبئ المستقبل لابنه هذا وسائر جيله في عام ٢٠٠١م؟

وكان صديقنا كالمعتاد على قدر المهمة!

قال «كلارك» إن هذا الصبي الصغير سيمتلك في غرفته الخاصة جهازًا صغيرًا، بدلًا من تلك الأجهزة الضخمة التي تئنُّ في خلفيتهم، ليس هذا فحَسْب، بل إن هذه الأجهزةَ ستُمِده بكل ما يحتاج من معلومات، فقال بالحرف الواحد:
He will get all the information he needs for his everyday life: his bank statements, his theater reservations, all the information you need over the course of living in a complex modern society.

سوف يحصل طفلك على كل المعلومات التي يحتاجها لحياته اليومية: بيانات حساباته المصرفية، بل وحجوزاته للمسرحيات، كل المعلومات التي سيحتاجها للعيش في ذلك المجتمع الحديث المعقَّد.

وكل هذا سيظهر على شاشة صغيرة، (ثم أشار إلى شاشة من إحدى الشاشات) وذلك بضغطات من لوحات مفاتيح، ثم أضاف أن أيَّ رجل أعمال سيستطيع أن يُدير عمله عبر الكرة الأرضية خلال جهاز مثل هذا!

figure
آرثر كلارك في مقابلة مع قناة ABC أسترالية، حيث يظهر على يمينه المُحاور وابنه الصغير، وفي الخلفية أجهزة الكمبيوتر الضخمة.
عظَمة تلك المقابلة في أنها أجريت وسط هذه الأجهزة الضخمة بكل ملحقاتها وأصواتها، والتي كانت بعيدة كلَّ البعد عمَّا نستخدمه اليوم من أجهزة حاسبات حديثة لا تتعدى سنتيميترات في أبعادها، ولا يوجد لها صوتٌ يُذكَر.٨

نقطة أخرى من نقاط القوة التي تُضاف إلى التوقع، هو التوقيت الذي تنبَّأ به كلارك، وهو عام ٢٠٠١م، حيث إنه في ذلك العام كانت شبكة الإنترنت فعلًا تخدم طائفة كبيرة من البشر حول العالم، حيث يُقال إنه في ذلك العام كان ثلث البشر يدخلون على الشبكة العالمية فعلًا.

جديرٌ بالذكر كذلك أن كلارك وفي برنامج BBC Horizon في عام ١٩٦٤م، كان قد توقع أيضًا نظامَ تواصلٍ عالميًّا، بحيث نستطيع التواصل مع أصدقائنا في أي مكان على الأرض بدون أن نَعلم مَواقعَهم حتى، وفي نفس السياق يقول إنه ربما يكون الطبيب قادرًا على أن يقوم بجراحات المخ وهو في إدنبرة على مريض من نيوزيلاندا!٩

رابعًا: الآي باد أيضًا!

التكنولوجيا؛ التكنولوجيا، أداة العصر وسمته.

يستمر كلارك في إبهارنا بها، هذه المرة في جهاز حديث نوعًا ما وهو الآي باد (جهاز لوحي من شركة أبل).

في الفيلم الشهير الذي كتب كلارك السيناريو الخاصَّ به، فيلم 2001: Space Odessey والذي عُرِض في العام ١٩٦٨م (يُصنَّف الفيلم من قبل بعض المتخصصين فيلمًا من أفضل أفلام الخيال العلمي على الإطلاق)، في لقطة من لقطاته يظهر رائدَا فضاءٍ يتناولان الإفطار، ويُشاهدان بعض الأخبار على جهازَين لوحيَّين!
كانت أبل هي صاحبةَ السبق في هذه اللوحيات حديثًا، حيث أنتجت في العام ٢٠١٠م أولَ لوحي تحت اسم iPad. بعد عامَين من وفاة «كلارك».

الطريف أنه وفي مشكلة من مشاكل الشركتَين العملاقتين أبل وسامسونج التي لا تنتهي (في عام ٢٠١١م تحديدًا)، كانت شركة أبل قد اشتكت أن الأجهزة اللوحية تُمثل براءة اختراع تملكها، وأن المستهلك سيُشوَّش عند طرح سامسونج لتلك الأجهزة اللوحية، أما سامسونج فقد دافعَت عن نفسِها بتقديم فيديو مدته حوالي دقيقة واحدة يحتوي على الصورة السابقة من فيلم «٢٠٠١: أوديسا الفضاء»، وقالت إن الجهاز مُصمَّم مسبقًا، ولا تملك أبل حق انتاجه وبيعه وحدها.

وقدمت سامسونج للمحكمة وصفًا لشكل اللوحيِّ في الصورة من حيث شكلُه العام وحوافه الدائرية وسُمكه الصغير، وقالت إن هذا دليل على وجود تصميم اللوحي قبل أن تنتجه أبل بعشرات السنين.

مَن لا نريد أن نبخس حقَّه كذلك في توقُّع هذا الشكل شبه المتطابق مع اللوحيات الجديدة، مخرج الفيلم الأمريكي «ستانلي كوبريك» Stanley Kubrick (١٩٢٨–١٩٩٩م) الذي شارك كذلك في كتابة السيناريو الخاص بالفيلم، أما في الرواية نفسِها التي كتبها بِناءً على الفيلم، فقد قدم «كلارك» وصفًا لاستخدام الجهاز اللوحي الذي اسمه Newspad أو «لوحي الأخبار»، قائلًا إنه يُستخدَم في معرفة التقارير الإخبارية، ومشاهدة العروض التليفزيونية!

إذن، هل استقَت أبل فكرةَ وتصميم الجهاز من الفيلم فعلًا؟!

يقول عالم الأعصاب «ديفيد إيجل مان» David Eagleman إنه يُمكن أن نرى شيئًا ما في الماضي يتمُّ اختزانه ومعالجته وراء ستار العقل الباطن حتى يخرج لنا بعد فترات قد تصل لسنوات في شكل مُجَدَّد.١٠ فهل هذا ما حدث مع اللوحي الشهير، ومع مصمِّمه؟ ربما!

خامسًا: نظام الحماية من الأجرام الفضائية Space Guard

وهذا التنبؤ ﻟ «كلارك» لم يتحقق فقط بصفته، بل تحقَّق بنفس الاسم أيضًا.

في رواية «موعد مع راما» Rendezvous with Rama، في العام ١٩٧٣م، باختصار، كان البشر يعملون على مشروع حماية الأرض، أو حارس الفضاء Spaceguard من الأجرام الفضائية التي قد تتصادم معها، وكان ذلك في عام ٢١٣١م، عندما اكتشفوا أن هناك مسبارًا فضائيًّا خارجيًّا يندفع نحو مجموعتنا الشمسية، بكل تأكيد نحن هنا لا نتحدث عن المسبار المنتمي للفضائيِّين، بل سنتحدث عن نظام الحماية هذا! هل حدث وأن حاول البشر حمايةَ أنفسهم من تلك الأجرام العابثة؟
في عام ١٩٩٢م بدأت وكالة ناسا الأمريكية في المشروع المسمَّى، نعم كما توقعتَ، Spaceguard وهو محاولةٌ لرصد كل المذنَّبات التي يُمكن أن تُشكل خطرًا على الأرض، والهدف الذي تأمُله الولايات المتحدة الأمريكية مؤقتًا هو عمل خريطة تشمل ٩٠٪ من تلك الأجسام القريبة من الأرض Near Earth Objects (NEOs). بتكلفة تصل إلى ٥٠ مليون دولار وكلفة تشغيل سنوية تبلغ عشرة ملايين دولار.

ولنفس الهدف، بدأت بريطانيا مشروعًا مشابهًا بالمشروع الأمريكي فيما يخص تلك الأجسام التي ربما تُهدد كرتنا الزرقاء.

منجنيق كلارك!

ينتمي هذا التنبؤ إلى فئة تنبؤات كلارك التي لم تتحقَّق بعد، وإنما اقتُرِح لحل بعض المشكلات التي قد تُواجهنا في أبنية الفضاء المستقبلية.

إذا فكَّر البشر في منشآت عملاقة بغرض استعمارها، كأسطوانات أونيل التي تحدَّثنا عنها في فصل «حياة ما بين النجوم»، فإنهم سيحتاجون إلى كميات مهولة من المواد للإنشاءات المختلفة، وهو ما يعني رحلات كثيرة بأوزان كبيرة جدًّا إلى المنطقة المقصودة، ومؤدَّى ذلك استنزاف كميات كبيرة جدًّا من الوقود، بالإضافة للاحتكاك مع الغلاف الجوي للأرض، وعديد المشكلات الأخرى.

قمَرُنا العزيز لا يملك غلافًا جويًّا، وسرعة الهروب من جاذبيته صغيرة جدًّا بالنسبة للأرض. وعلى ذلك اقترح ساحرنا (عام ١٩٥٠م) منجنيقًا يقذف الحمولات إلى الفضاء، ولكنه لن يُستخدَم لنقل البشر وذلك لأن البشر لا يتحملون تسارعًا كبيرًا كالذي يُوفره المنجنيق الجديد. وفيزيائيًّا، يرى بعض العلماء أن وجود هذا المنجنيق محتمل إلى حدٍّ بعيد، حتى إن عالم الفيزياء «جيرالد أونيل» بنى عدةَ نماذج صغيرة منه.١١
وتكون كلفة النقل من القمر مباشرة مساويةً — في بعض التقديرات — فقط ٥٪ من كلفة النقل من الأرض، وبهذا تنخفض الكلفة العامة للرحلات، حتى مع ارتفاع تكاليف الاستخراج من القمر عنها من الأرض، ستكون التكلفة الإجمالية للنقل من القمر أقلَّ بكثير من تكلفة النقل من الأرض.١٢

النهاية

وكما كانت كل الروايات، انتهت رواية حياة صديقنا بنهاية حتمية في عام ٢٠٠٨م، بعد أن قضى ٩١ من الأعوام عامرة بالخيال، زاخرة بالعلم والشغف.

وتكريمًا لكلارك، سُمِّيت العديد من الأحداث والمؤسسات وحتى الكائنات الحية باسمه. فسُمِّي كُويكبٌ اكتشفه العالم «شيلتي جون بوس» Schelte J. Bus (١٩٥٦م–…) باسم Clarke 4923، وهو بالمناسبة اكتشف كويكبًا آخرَ في نفس اليوم أسماه Asimov 5020 على اسم كاتب الخيال العلمي الشهير إسحاق أزيموف! وسُمِّي كذلك نوعٌ من الديناصورات التي اكتُشِفت بقاياها في أستراليا باسم Serendipaceratops arthurcclarkei!
لقد كان لساحرنا «آرثر سي كلارك» من التوقعات ما لن تَكفِيَه كتب كاملة، فقط آثَرْنا اختيارَ أشهرها، وربما أوضحها تأثيرًا من بين عشرات التوقعات الأخرى، والتي ربما لم تتحقَّق بعد، مثل استخدام أقمار المريخ كمِحطات تهبط منها الصواريخ التي جاءت من الأرض إلى سطح المريخ، واستخدام بعض مكونات تلك الأقمار وقودًا يُزوِّد الصواريخ لتكملة الرحلة إلى المريخ، وكذلك عند الإياب.١٣

استخدم الساحر عصا الخيال ليبهر العالم بتوقعاته ورواياته التي كان الفضاءُ فيها عنصرًا أساسيًّا، فأضحى ملكًا لمملكة الخيال العلمي الفضائي في القرن العشرين، لا يُنازعه على سلطته مُنازع، ولا يقترب من كرسيِّه منافس.

١  Sir Arthur C. Clarke Biography, (http://www.arthurcclarke.net/?scifi=2).
٢  The Arthur C. Clarke Award, (www.clarkeaward.com).
٣  Syncom 3, nssdc.gsfc.nasa.gov/nmc/spacecraftDisplay.do?id=1964-047A.
٤  من «حكايات الأخوَين جريم»، وكان يستخدمها جاك للصعود للسماء.
٥  Arthur Clarke, THE SPACE ELEVATOR: “THOUGHT EXPERIMENT”, OR KEY TO THE UNIVERSE?, www.islandone.org/LEOBiblio/CLARK1.HTML.
٦  Graham Templeton, 60000 miles up: Space elevator could be built by 2035, says new study, www.extremetech.com/extreme/176625-60000-miles-up-geostationary-space-elevator-could-be-built-by-2035-says-new-study, March 6, 2014.
٧  نيكولا برانتزوس، أسفار في المستقبل، ترجمة علي نجيب محمد، مؤسسة أكاديميكا، ٢٠٠٩م، ص٦٧.
٨  Cade Metz, Arthur C. Clarke Predicts the Internet 1974, http://www.wired.com/2013/03/tech-time-warp-arthur-c-clarke, 3-22-2013.
٩  Future Predictions: Arthur C Clarke Predicting the future in 1964, Youtube.com.
١٠  David Eagleman, Book Incognito: the Secret Lives of the Brain.
١١  نيكولا برانتزوس، أسفار في المستقبل، ص٥٢، ٥٣.
١٢  William R. Snow and Henry H. Kolm, Electromagnetic Launch of Lunar Material, from book: Space Resources, Energy, Power, and transport (NASA SP-509, vol.2), Nasa, http://www.nss.org/settlement/nasa/spaceresvol2/electromag.html, 1992.
١٣  كان توقعه ذلك في عام ١٩٣٩م في مقال نشره في صحيفة «الجمعية البريطانية بين الكوكبية» مصدر: نيكولا برانتزوس، أسفار في المستقبل … ص٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤