أوهام فضائية!

ولا أنا في تلك الحديقةِ زهرةٌ
ولا أنا في تلك المجرَّةِ كوكبُ
ابن اللبانة الداني؛ شاعر أندلسي

لأن وُلوجَها صعب، ولأن طَرْق أبوابها كان من المستحيلات، احتفظت السماء، تلك القُبة اللامتناهية، بقُدسية خاصة لدى شعوب العالم عبر تاريخ البشرية الممتدِّ لآلاف السنين؛ فنسجت حولها الأساطير، منها ما هو خرافة بحتة، ومنها ما اصطبَغ بصِبْغة عِلمية وبعد ذلك ثبَت خطؤه، ومنها ما ثبَت علميًّا صحته وأصبح ضمن موسوعات العلم والمعارف.

هناك أرضٌ واحدة، هكذا قال أرسطو. أرض واحدة ينقسم الفضاء حولها إلى قسمين: عالمنا المتغير، وعالم نَجْمي ويتكون من مادة غير المواد التي تُكوِّن المواد التي نعرفها. ويحكمها قوانين غير القوانين التي تحكم أرضنا. هكذا كانت النظرة القديمة التي توحي بخصوصية للسماء حتى في القوانين الفيزيائية التي تحكمها.

حرب العوالم!

موعدٌ آخرُ مع أبي الخيال العلمي «جورج ويلز» H. G. Wells، ومع رواية نشرها في العام ١٨٩٧م، بعنوان حرب العوالم War of the worlds يتخيل فيها غزوًا مريخيًّا للأرض من قِبل كائنات مدمِّرة تعيث في الأرض فسادًا، إلى أن يحدث لها ما لم يكن في حُسبانها أو في حُسبان البشر.

الرواية حُوِّلت لفيلم مثير جدًّا، كما مع أغلب روايات ويلز، الفيلم كان من بطولة النجم الأمريكي توم كروز، وصدر تحت نفس عنوان الرواية في عام ٢٠٠٦م.

ربما كانت هذه الرواية بالذات تجليًا للنظرة البشرية للفضاء باعتباره مجهولًا لا نعرف عنه الكثير؛ فتاريخ صدور الرواية تزامن مع فترةٍ بدأ فيها العلمُ في أوروبا باتخاذ منحًى جديد تماما أهَّلَه بعد ذلك لِسَبرِ أغوار الفضاء. يكفي أن تعلمَ مثلًا أن بعد صدور الرواية بسنتَين بدأ «ماكس بلانك» Max Planck (١٨٥٨–١٩٤٧م) بطرح النظرية الكمومية، تلي ذلك بعدة سنوات، وفي عام ١٩٠٥م، نظريةُ النسبية الخاصة لأينشتاين، وسبق هذا كلَّه الثورةُ الصناعية التي انتشرت في ربوع أوروبا كلها، خاصة في بريطانيا حيث صدرَت الرواية.

لذا كانت الرواية، بالرغم من خياليَّتها، خيرَ معبِّر عن نظرة استشرافية للمستقبل الذي ينتظره البشرُ في خضمِّ هذا التدفق العلمي والصناعي.

واستمرارًا لذلك التخوف من مجاهيل الفضاء، أحدثت تمثيلية إذاعية أُذيعت عام ١٩٣٨م، استمع لها مواطنو الولايات المتحدة، فزعًا كبيرًا، واستقَت تلك التمثيلية أحداثها من الرواية نفسِها، فتحدثت عن مريخيِّين يغزون الأرض، فظن الناسُ أن الأمر حقيقي، ويُقال إنهم ساعتها هاجوا وماجوا في الشوارع، وتلقَّت الشرطة الآلاف من المكالمات التليفونية!١

ولو تعمقنا أكثرَ في التاريخ سنجد قصةً أكثرَ غرابةً للعالِم المسلم «ابن سينا» لبطل يُدعى «أبسال» صعد للسماء وترحل لعوالمها الغريبة، فوصف لنا سكان القمر بجذوعهم القصيرة وحركتهم السريعة، كذلك فقد وصف سكان الزهرة الطيبين والذين تحكمهم امرأة، أما المشترى فسكانه حكماء!

أما المريخ فيقطنه متوحشون، متعطشون للدماء والقتل، ويحكمهم حاكمٌ أحمر! وربما لاحظت وجهَ الشبه هنا بين نظرة ويلز للمريخ وسكانه المتوحشين وبين نظرة ابن سينا لنفس الكوكب؛٢ فقد كانت النظرة الدامية هي ما يربط البشر دومًا بالكوكب الأحمر الشهير، ربما اعتمادًا على لونه الأحمر الدامي؛ لذا أطلق عليه الرومان اسمَ إله الحرب (مارس).

ربما ستتعجَّب من خيالية تلك القصص القديمة نوعًا ما، ماذا إذا لو حاولنا تقصِّيَ رأي العلماء في منظورهم للفضاء، ووجدنا آراء بعضها ستعتبرها أنت أغرب وأكثر خيالية من هؤلاء المريخيين المدمرين؟

سنتجول في تلك الأفكار الفضائية في عقول العلماء من قرون مضَت حتى عصرِ الفيزياء الحديثة، ربما يَحْسُن أن نُسمِّيَها «أوهامًا فضائية» وليس «أفكارًا فضائية».

القمر المسكون!

في عام ١٦٠٩م وجَّه العالم الفيزيائي والفلكي الإيطالي «جاليليو جاليلي» Galileo Galilei (١٥٦٤–١٦٤٢م) المنظار المقرِّب Telescope للسماء بوصفه أوَّلَ شخص يفعل ذلك.٣ وعلى الرغم من أن قوةَ تكبيره لم تتجاوز ٣٣ مرة، إلا أن هذا الابتكار مثَّل خطوةً ثورية في مجال الأبحاث الفضائية، فاستطاع به تحديدَ بعض الجبال والفوهات على القمر، وأصبح التلسكوب منذ ذلك الحين نافذتَنا على السماء؛ نافذة من خلالها عرَفنا الكثير والكثير عن قُبة السماء المقدسة.
استخدَم العالم البريطاني (مكتشف كوكب أورانوس) «ويليام هيرشل» William Herschel (١٧٣٨–١٨٢٢م) تلسكوبًا ضخمًا بناه في دراسة القمر حوالي عام ١٧٧٠م، فوجده مُلِئ بالحفر التي تأخذ الشكل الدائري والتي أطلق عليها Circus، فأيقن أن هذه الدوائر لا بد وأنها ناجمة عن حضارة ذكية، خصوصًا وأن لها أشكالًا دائرية بلغَت الكمال في دائريتها، فلا يمكن للطبيعة أن تُنتج مثل هكذا أشكال في رأيه. كذلك فقد برَّر دائرية تلك الأماكن التي يسكنها «القمريون»؛ فالقمر لا يوجد به غلاف جوي يعكس أو يكسر أشعة الشمس؛ لذلك فتلك الحفر سيسقط الضوء عليها فيجعل نصفها مضاءً مباشرة بضوء الشمس، والنصف الآخر مضاءً بانعكاس ضوء الشمس على النصف الأول.
figure
تليسكوب «هيرشل» الضخم.
ليس هذا فحسب، بل إنه فسر نقاطًا بدَت له على سطح القمر على أنها غابات وأشجار تملأ سطح القمر!٤

المريخ مرة أخرى

ربما لن يتخلصَ البشر أبدًا من عقدة المريخ، تلك التي لازمَتهم منذ قِدَمهم، فحتى في القرن العشرين، كان لسكانه حضورٌ في عقول العلماء.

«برسيفيل لويل» Percival Lowell (١٨٥٥–١٩١٦م)، فلكي أمريكي آخر تطلَّع للمريخ، مستخدمًا هذه المرة تليسكوبَ جاليليو. لاحظ «لويل» خطوطًا متقاطعة على سطحه الأحمر. فكان لا بد من وضع تفسيرٍ لوجودها.
درَس تلك الخطوط لسنوات وسنوات، إلى أن توصَّل في النهاية إلى وجود حضارة ذكية على المريخ أنشأت هذه «القنوات» لتصل بالمياه من القطبَين إلى المناطق الأخرى من الكوكب.٥ فقد كان المريخ (كما اعتقَد) مليئًا بالحياة النباتية، ولكن مياهه جفَّت، فأصبح قاحلًا، وحاول سكانه إنشاء تلكم القنوات لإنقاذه!٦
figure
قنوات المريخ التي تصورها «برسيفال لويل».

حسبك، لا، لم تنتهِ تلك الآراء الغريبة بعد، بل انتظِر أغربَها في السطور القليلة التالية.

فلاميريون والمريخ والأرواح المسافرة!

آمن الفلكي الفرنسي الشهير «كاميل فلاميريون» Camille Flammarion (١٨٤٢–١٩٢٥م) بصحة أفكار «لويل» عن قنوات المريخ ودافع عنها بشدة. وأضاف أن سكان المريخ لا بد أن يكونوا متفوقين عنَّا تكنولوجيًّا بمراحل. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أنهم قد حاولوا الاتصال بنا — نحن البشرَ — مرارًا، عندما كانت البشرية تخطو خطواتها الأولى، وفي عصورها السحيقة حين كان البشر لا يزالون يصطادون الماموث! ولكنهم للأسف عندما لم يتلقَّوا ردًّا، أقلعوا عن محاولاتهم تلك!
figure
«ربما يكون المريخيون متقدمين جدًّا بالنسبة للبشر، يعتقد «كاميل فلاميريون» أن المريخيين حاولوا الاتصال بالبشر منذ عصور» عنوان مقال نُشِر في جريدة النيويورك تايمز، بتاريخ ١٠ نوفمبر ١٩٠٧م.٧

تكهَّن كذلك — كما استنتج سابقًا هيرشيل — بوجود كائنات تعيش على القمر!

عفوًا! … القمر؟! لعلي نسيت أن أذكر لكم أن «جورج ويلز» كتب رواية أخرى من الخيال العلمي أسماها «أول الرجال فوق سطح القمر» The First Men in the Moon عام ١٩٠١م، يتحدث فيها عن رحلة إلى القمر قام بها صديقان، ومقابلاتهما مع الكائنات القمرية، ومغامراتهما على سطحه!

أما رأيه — أي فلاميريون — الأكثرُ غرابة، هو أنه آمنَ بانتقال أرواح البشر بعد الموت إلى كواكب أخرى! وللحقِّ فقد بدأ هذا الاعتقاد قبله منذ بدايات عصور التنوير الأوروبية، ولكن صديقنا الفلكي فلاميريون أخذ بناصيته للقرن العشرين، ثم أن يصدر هكذا رأي من فلكي في بدايات القرن العشرين، فهذا أمرٌ آخر.

هنا على الأرض!

الكون المنظور عبارة عن كرةٍ نصف قُطرها ٤٦ بليون سنة ضوئية، (والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة أي حوالي ٩٤٦٠٧٣٠٤٧٢٥٨٠كم) ويبلغ عدد مجراته نحو ١٠٠ بليون مجرة. فهل يُعقَل أن هذا الكون الهائل لا يوجد به سوى الأرضيون؟ وأن الحقيقة المرة التي تأبى عقولنا تصديقها هي أننا وحيدون في ذلك الظلام الدامس الذي يملأ جنبات الكون؟ كان السؤال حتميًّا قديمًا وحديثًا. ولأن السؤال مُلِح، كانت له إجابة، صحيحة كانت أم خاطئة. كان اليوفو إجابة غنية جدًّا بالإثارة التي ينشدها البشر من هكذا اكتشاف.

اليوفو UFO اختصار لجملة Undefined flying objects، وهي بالعربية «أجسام طائرة غير مُعرَّفة» تلك التي تهبط من السماء حاملة كائنات غريبة عن الأرض، وبالطبع، الكثير من سكان الأرض من مختلِف قارت العالم يدَّعون أنهم رأَوا مثل هذه الأطباق الطائرة، ومن هؤلاء الرئيس الأمريكي جيمي كارتر؛ فكما نشرت الصحف أنه قد لمح شيئًا غريبًا في السماء بولاية جورجيا عام ١٩٧٧م!

أما تاريخيًّا، فعندما نعود إلى الوراء نجد بعض الإشارات التي ربما كانت دليلًا على وجود مثل هذه الأطباق الطائرة. فمن أشهر الأقاويل أن الأطباق الفضائية ظهرت في مصر القديمة.

وسجل الملك أمنحتب الثالث رؤيتها حتى إن البعض قالوا إن الفضائيين هم مَن بنَوُا الأهرامات، واتخذوا مبررات لرأيهم أهمها وجود شيء بيضاوي الشكل يظهر على أحد النصوص المنحوتة في مقبرة أمنحتب الثالث، وفسره هؤلاء على أنه طبق طائر، لكن تم إثبات أن ذلك ليس طبقًا طائرًا في الواقع، ولكنها كرات البرق، وهي ظاهرة طبيعية نادرة والتي يظهر فيها البرق على شكل كرة بَرقيَّة مضيئة وتكون قريبة من الأرض، وهي إحدى الكوارث الطبيعية النادرة. وذهب بعضهم إلى أنَّ مَن بنى الأهرامات كائنات فضائية، واستدلوا على ذلك ببعض النقوش التي تُظهر ما اعتقدوا بأنه أطباق طائرة، وكذلك تحجَّجوا بأن المِصريِّين القدماء دائمًا في كتاباتهم كانوا يُشيرون إلى أضواء قادمة من الفضاء.

لكن تلك المشاهدات والاستنتاجات لم تَرُق لكثير من العلماء الذين شكَّكوا في وجود مثل تلك الأطباق، وفي نزولها على الأرض، فإذا كان هناك مثلُ تلك الأطباق فلماذا لم تظهر في الفضاء، بالرغم من أن الفضاء حول الأرض ممسوح بالعديد والعديد من الأقمار الصناعية والتلسكوبات الفضائية؟!

حتى إن إسحاق أسيموف Isaac Asimov (١٩٢٠–١٩٩٢م)، كاتب الخيال العلمي وهو رجل يُعَد منفتحًا بحكم كتاباته، أنكر وجود الأطباق الطائرة تمامًا بقول قاسٍ حاسم: «أرى أن أي فرد يعتقد بوجودها ما هو إلا أخرقُ كالإناء المتصدع.»

أينشتاين والكون

أينشتاين، واحد من أعظم العقول التي أنجبتها البشرية، من مؤسِّسي الكوانتم (وحصل بتلك المساهمة على جائزة نوبل لاحقًا)، وأبو نظرية النسبية بشِقَّيها الخاصة (١٩٠٥م) والعامة (١٩١٥م)، كان له من تلك الأوهام الكونية نصيب، وإن لم يكن بغرابةِ ما سبق أن ذكرنا.

في بدايات القرن العشرين، كانت النظرة المقبولة والسائدة لدى العلماء بخصوص الكون، هي أنه ثابت، لا يتمدَّد ولا ينكمش؛ فهو على هذه الصورة منذ وُجِد.

ولم يختلف أينشتاين في نظرته عن تلك النظرة السائدة في تلك الفترة، فأضاف لنظريته «النسبية العامة» ما يُعرَف ﺑ «الثابت الكوني» Cosmological constant عام ١٩١٧م، وهو يُعبِّر عن قيمة كثافة طاقة الفراغ، وقد وضعه حتى تتفقَ معادلاته مع المفهوم المعروف بإستاتيكية الكون وعدم تمدده!
في عام ١٩٢٩م اكتشف العالم الأمريكي «إدوين هابل» Edwin Hubble (١٨٨٩–١٩٥٣م) أن المجرات خارجَ مجموعتنا المحلية تتباعد عن بعضها البعض، مستنتجًا أن الكون في مجموعه يتوسع.
(ملحوظة: كان اكتشاف توسع الكون عن طريق ما يُسمَّى ﺑ الإزاحة الحمراء Red Shift وهي تُمثل انزياحًا في الطول الموجي للضوء القادم من المجرات التي تتباعد عنا.)

ويُقال إن أينشتاين بعد أن اكتشف خطأه، وصف عدم قَبوله بالمعادلات التي تتنبَّأ بالكون غير الثابت، وإضافة الثابت الكوني، بأنه «الخطأ الأكبر في حياته»، وكما يقول أينشتاين نفسُه: «مَن لم يُخطئ، لم يُجرب شيئًا جديدًا.»

ومع ذلك فقد اكتُشِف حديثًا أن الثابت الكوني له قيمة غيرُ صِفرية، فلم يكن أينشتاين مُغرِقًا في وهمه إذن!

فلم تَسلم حتى أعظم العقول من الأخطاء فيما يخص ذلك المجهول الذي لا نعلم مِن بحره قطرة؛ الفضاء!

إن الخطأ، هو شعلة التقدم، وإنْ بدا عكس ذلك، هو الجندي المجهول الذي يقف خلف أعظم النظريات العلمية من خلال تصويبات لاحقة؛ فلولا الخطأُ ما كان الصواب، ومن لم يُخطئ لم يُصِب.

١  حمدي شعبان، المريخ في انتظارنا، سلسلة العلم والحياة (١٢٢)، ١٩٩٩م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص٢٩.
٢  Alan Boyle, Strange Historical Ideas About Aliens (http://listverse.com/2014/05/17/10-strange-historical-ideas-about-aliens), May 17, 2014.
٤  Esther Inglis-Arkell, The man who saw circuses on the moon (http://io9.com/5911019/the-man-who-saw-circuses-on-the-moon), 5/18/12.
٥  Astrobiology Course, Edinburgh University, Prof. Charles Cockell Coursera.com.
٦  Richard Milner, Astrobiology Magazine, Tracing the Canals of Mars (http://www.space.com/13197-mars-canals-water-history-lowell.html), October 06, 2011.
٧  “Martians Probably Superior to Us; Camille Flammarion Thinks Dwellers on Mars Tried to Communicate with the Earth Ages Ago”. New York Times. November 10, 1907.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤