مِنْ هناك

المجهول، غير المبرهَن؛ هذا ما تقوم عليه الحياة، فالجهل هو دافع التفكير، وغير المُثبَت هو دافع الفِعل.

أورسولا لو جوين، يد الظلام اليسرى

هناك، حيث السكونُ جاثم، والظلام دامس، حيث لا حياة تدب كما نعتقد، فضاءٌ واسع لا نهاية له، ننظر فنرى ملايينَ من النجوم تَزينُ سوادَ السماء ليلًا، وندرس فنعرف أن هناك ملايين المجرات، ومليارات الكواكب، عوالم لا نعرف عن أجوائها شيئًا، وعوالم نعرف عنها القليل.

ونتأمَّل، ماذا كانت تلك المنطقة التي نجلس بها الآن قبل أن توجد حياة على وجه الأرض، كيف كان يبدو كوكبنا وهو هادئ ساكن قبل هذا الصخب الذي حل به.

وفجأةً تبرق في أذهاننا فكرةٌ ربما كانت غريبة، ربما كانت شاذةً؛ هل يكتفي الفضاء بأن يُرسِل إلى الأرض تلك الصخورَ المشتعلة التي تأتينا من حينٍ لآخر؟ أم أن هناك شيئًا في أحشاء تلك الصخور جاء يومًا إلى الكوكب الأزرق الزاهي، فغيَّر من شأنه وقلَب بيئته رأسًا على عَقِب، وكان سببًا لوجودي ووجودك في مكانَيْنا الحاليَّين؛ أنا أكتب، وأنت تقرأ؟

في عام ١٩٦٩م كتب «مايكل كرايتون» Micheal Chrichton (١٩٤٢–٢٠٠٨م) رواية رائعة من الخيال العلمي بعنوان «سلالة أندروميدا» The Andromeda Strain، وكرايتون طبيب وكاتبُ خيال علمي من الطِّراز الرفيع، وأشكُّ أنك لم ترَ فيلم «الحديقة الجوراسية» Jurassic Park أو «حديقة الديناصورات» كما نُسميه، فهو الذي ألَّفه أيضًا، وأفادته مهنته بوصفه طبيبًا في كتاباته كثيرًا، وخصوصًا في الرواية التي بين أيدينا الآن «سلالة أندروميدا». وحُوِّلت الرواية لفيلم بنفس العنوان، وعُرِض عام ١٩٧١م.

سُلالة أندروميدا

تبدأ القصة بسقوط قمر صناعي تابع للجيش فوق «بيدمونت» ﺑ «أريزونا»، فيحل الخراب بهذه المنطقة ويموت جميع من فيها، ما عدا طفلًا رضيعًا وشيخًا مسنًّا.

يجمع الجيش علماءه ليُحاولوا تفسير ما حدث، فيكتشفوا أن هذا الجسم العائد لم يسقط وحده، بل أتى من الفضاء بكائن عضوي هو مَن سبَّب تلك العدوى التي انتشرت بين أهالي المنطقة وأدَّت لهلاكهم.

ولهذا الكائن العضوي بعض الخصائص المهمة؛ فهو لا يعيش إلا في وسط الأسِّ الحمضي له (pH) من ٧٫٣٩ ﻟ ٧٫٤٣، وهو ما جعله يعيش في دماء الأجسام البشرية، حيث إن الدماء البشرية تقترب حُموضتها من نفس الرقم. ولنفس السبب عاش الطفلُ الرضيع والشيخ المسن؛ فكلاهما كان له معدل حموضة غير طبيعي.

وبالرغم من أن الرواية مكتظَّة بالعلم والحقائق العلمية، والتي بسببها لن تعرف الفاصلَ بين العلم والخيال في الرواية، إلا أننا سنُركز على النقطة الأخيرة موضوعًا لهذا الفصل، ألا وهي نقطة «قدوم كائن حي على متن جسم قادم من الفضاء؛ أرضيًّا كان أم خارجيًّا».

الآن، لنفترض وجود حياة ميكروبية في الفضاء، هل هناك احتمالية لأن تنتقل هنا بهذه الطريقة؟ وكيف سيتمكَّن هذا الكائن من الحياة في البيئة الفضائية القاسية بالنسبة لكائن حي؟ وهل هذا التنقل اعتباطي أم لهدف؟

أسئلة سنُحاول الإجابة عنها في الأسطر القادمة، ثم سنُنهي الفصل بمحاولة استقصاء بعض الآراء القائلة بأن الحياة الموجودة على الأرض ليست أرضيةً في الأساس، وإنما قدمت لكوكب الأرض محمولةً على تلك الأجسام الساقطة عليها من الفضاء الغامض!

لغرضٍ وليس اعتباطًا!

بالرغم من ضَعف تلك الاحتمالية، إلا أن البعض يعتبر أنه، لو حدث وأن سقط أيٌّ من تلك الأحياء الميكروبية على الأرض، فإن ذلك سيكون له مغزًى أعمقُ مِن كونه سقوطًا عشوائيًّا من حياة غير عاقلة ساقَتْها الأقدارُ لكوكبنا الوديع!

لنفترض أن هناك حضارةً عاقلة تُريد إعلامَ باقي الحضارات العاقلة في الكون أنها موجودة، ماذا ستفعل؟

هل ستستخدم موجات الراديو المعتادة؟

موجات الراديو كغيرِها من الموجات تضعف مع المسافات الكبيرة، وكلُّنا يعلم أن المسافات الفضائية شاسعةٌ بحيث لن تُصبح الموجات قادرةً على الوصول للأماكن البعيدة بنفس شدتها، بل ستضعف وتضعف حتى تبلغ شدتها مقدارًا ضئيلًا لا يُمكن اكتشافه.

وكذلك الحال مع موجات الضوء، وغيرها من الموجات.

فما الحل إذن؟

الحل ذكره كرايتون في الرواية، وهو حل اقترحه «جون ر. صامويل» John R. Samuels وهو مهندس اتصالات، ويتلخص هذا الحلُّ في استخدام كائنات عضوية نُصمِّم لها شفرةً وراثية، ونُدمج بهذه الشفرة الرسالةَ التي نُريدها، ثم نُرسل هذا الكائنَ للفضاء الفسيح، فيتكاثر هذا الكائن لعدد لا محدود من الكائنات، وتبقى الرسالة على قوتها حتى تصل لحضارة عاقلة أخرى، فتُفسر هذه الشفرة، وبذلك تتواصل الحضارات! وسمَّى هذه الطريقة في التواصل ﺑ «نظرية الرسول» Messenger Theory.١

لذا لو سقط فوق منزلكم أيٌّ من تلك الأحياء، فاعلم أن هناك رسالةً محمولة في أحشائه من حبيب في مجرة «أندروميدا» إلى محبوبته القاطنةِ في ضواحي مجرة «درب التبانة»، فاحرص على توصيلها لها!

أصل فكرة تنقل الحياة بين الكواكب

يُسمَّى انتقال الأحياء الميكروبية بين الكواكب بواسطة الأجسام الفضائية ﺑ «البذور الكونية» Panspermia وأصل الكلمة يوناني بالمناسبة.
في الحقيقة هذه الفكرة قديمة جدًّا؛ فأول مَن ذكَر المصطلح هو الفيلسوف اليوناني «أناكساغوراس» Anaxagoras في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم بعد ذلك بدأ المصطلح يتخذ طريقًا علميًّا أكثر على يد «برزيليوس» Berzelius و«كلفن» Kelvin وغيرهما في القرن التاسع عشر.٢

إذن، ما هي احتمالية وصول هذه الأحياء للأرض في الظروف الفضائية الصعبة؟

لعل الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح الرئيسي لِفَهم إمكانية تنقل الكائنات الميكروبية بين الكواكب وبعضها عن طريق الشهُب أو النيازك أو غيرها.

يقسم العلماء عملية الانتقال هذه لثلاث مراحل:
  • أولًا: الانطلاق من الكوكب الأم، وتشمل هذه العمَلية ضغطًا عاليًا جدًّا.
    أجرى العلماء محاكاة لعملية الإطلاق، واستخدَموا عدة أنواع من الأحياء الدقيقة، محاولين معرفة تأثير ضغط الإطلاق عليها. فوجدوا أن هناك أنواعًا تستطيع تحمل ضغوط تصل إلى عشرات الملايين من وحدات الجيجا باسكال!٣
  • ثانيًا: يدخل الجسم الحامل لهذا الكائن إلى مرحلة طويلة تمتدُّ لسنوات في الفضاء.
    ولفَهم هذه المرحلة وتأثيرها على الأحياء الدقيقة، قامت «وكالة الفضاء الأوروبية» European Space Agency بإطلاق بعض الميكروبات إلى الفضاء وتركِها هناك لفترات طويلة، ثم استعادتها مرة أخرى.

    فوُجِد أن بعض الأنواع تستطيع أن تحيا في الفضاء لفترات تصل إلى عام ونصف العام!

  • ثالثًا: عملية الدخول في الغلاف الجوي للكوكب المضيف.

    المشكلة الكبرى في هذه المرحلة بالذات هي درجة الحرارة العالية جدًّا التي تُصاحب اختراق الأجسام للغلاف الجوي للكوكب المضيف.

    ولكن، لحسن الحظ — بالنسبة لذلك الكائن الزائر طبعًا — فإن هذه الحرارة لا تستمرُّ إلا لوقتٍ قليل جدًّا؛ لذلك فإن الحرارة ستُؤثر على الأجزاء الخارجية للصخرة لدرجةٍ قد تجعلها تذوب، أما الأجزاء الداخلية ستبقى حرارتها مناسبةً جدًّا للحياة الميكروبية (قد تكون درجات الحرارة في قلب الصخور أقلَّ من ٦٠ درجة سيليزية) وبالطبع كلما كانت الصخرة أكبر، قلَّ التأثير الحراري على الأجزاء الداخلية لها.

لذلك؛ نستطيع أن نستنتج من المراحل الثلاثة ومن الدراسات التي تمَّت على تلك المراحل، أن الأحياء لديها فرصة كبيرة جدًّا في الانتقال عبر الكواكب.

ملحوظة: قد نُلاحظ هنا أن المرحلة الثانية هي أقل المراحل تلاؤمًا مع الانتقال؛ إذ إن فترة سنة ونصف قد لا تكون كافيةً للوصول إلى كواكب بعيدة عن الكوكب المصدر، ولكن مع هذا، فمبدأ الانتقال نفسُه أصبح متاحًا ولو بين الكواكب المتقاربة.٤

وبالعودة إلى «سلالة أندروميدا» سنجد أن الكائن الحي الذي أقبل مع القمر الصناعي قد مرَّ بتلك المراحل منذ انتقاله من مصدره للقمر الصناعي ثم سقوطِه على الأرض؛ لذا فاحتمالية حدوث مثل هكذا حادث ليست بالبعيدة.

ماذا عنَّا؟

ربما ارتبطت أفكارٌ كثيرة بهذا الموضوع، منها العلمي ومنها الخرافي، ومنها كما رأينا ما تم تناوله في الخيال العلمي.

ومن تلك المواضيع التي ظهرت هي الأخرى من فترة ليست بالقريبة سؤال يُتداوَل في الأوساط العلمية: ماذا عنَّا نحن؟ هل كان أصل الحياة البشرية خارجيًّا وانتقل يومًا للأرض بطريقةٍ ما؟ يعتقد بعض العلماء باحتمالية ذلك، خصوصًا بوجود بعض الدراسات التي تُثبت أن عمر الحياة قد يصل إلى عشرة بلايين سنة وهو ما يزيد عن عمر الأرض البالغ ٤٫٥ بليون سنة.٥
كما سبق وأن ذكرنا في بداية الفصل، فإنَّ فكرة انتقال الحياة للأرض من كوكبٍ آخرَ ليست جديدة. ولكن ربَّما تدهش إذا علمت أنَّ فرانسيس كريك Francis Crick (١٩١٦–٢٠٠٤م)٦ (صاحب أهم اكتشاف بيولوجي في القرن العشرين بصحبة زميلَين، وهو اكتشاف بنية اﻟ DNA) من مُناصري تلك الفكرة، أو على الأقل يراها ممكنة، وسأترك الحديث — للحظاتٍ — للعالِم الفذ: «لكي نستبعد تلفَ هذه الكائنات الدقيقة قبل وصولها للأرض؛ افترضنا أنها انتقلَت في مقدمة سفينة فضاء غير مأهولة أرسلَتها إلى الأرض حضارةٌ أعلى … وابتدأت الحياة على وجه أرضنا عندما سقطت هذه الكائنات في المحيط الأوَّلي، وابتدأت في التكاثر. وقد أطلقنا على هذه الفكرة اسم «البذور الكونية الموجهة» Directed panspermia.٧

ويمضي «كريك» في كتابه (الرائع بالمناسبة) «طبيعة الحياة» ليشرحَ تلك الإمكانيةَ بالتفصيل، بل ويشرح مواصفات تلك المركبة التي حملَت الحياة الأرضية على متنها.

واحد من أفضل أفلام الخيال العلمي التي تناولت الموضوع (أي أصل الحياة) فيلم «بروميثيوس» Prometheus إنتاج عام ٢٠١٢م. «بروميثيوس» من إخراج المخرج الشهير ريدلي سكوت Ridley Scott، ومن كتابة جون سباهتس Jon Spaihts، ودامون ليندلوف Damon Lindelof، والفيلم يتناول قصة مجموعةٍ من العلماء ذهبوا في رحلة فضائية، محاولين استكشاف أصول الإنسان على الأرض. ربما تناول الفيلم الفكرةَ بطريقةٍ أكثرَ خيالية، ولكنه يُلقي الضوء على تلك الاحتمالية (أي احتمالية أن يكون أصل الحياة غير أرضي) التي ربما تُتناوَل بعد عقود كحقيقةٍ علمية.

أسئلة فأسئلة فأسئلة، هذا هو دَيْدن العلم وعادتُه التي لا تنقطع، ربما سنُجيب، ولكن بكل إجابة جديدة، مئات الأسئلة ستُطرَح ليستمر نهر العلم في جريانه، ويستلم رايتَه جيلٌ بعد جيل، تلك الراية التي نتمنَّى تسلُّمَها يومًا.

وأترك الحديث — مجددًا — لكريك؛ إذ يقول: «بعد كل مرة أكتب فيها بحثًا عن موضوع الحياة أحلف بأنني لن أعود للكتابة فيه مجددًا؛ ذلك أن فيه الكثير من التأمل يجري خلف القليل من الحقائق، لكن لا بد أن أعترف أن للموضوع سِحرَه بالرغم من كل شيء، حتى لَيبدو أنني لن أخلص لقسمي أبدًا.»

١  الأمانة تقتضي أن أذكر أن نظرية الرسول تُذكَر على استحياء في كلِّ ما أجريتُ من بحوث؛ لذلك لا أدري بالضبط إن كانت حقيقية أم من وحي خيال المؤلف، وهنا تتجلى قدرة المؤلف على مَنطَقَة الأمور حتى لا تدريَ أهي واقع أم خيال.
٢  A-Margaret O’Leary (2008) Anaxagoras and the Origin of Panspermia Theory, iUniverse publishing Group.
B-Berzelius (1799–1848), J. J. Analysis of the Alais meteorite and implications about life in other worlds.
C-Thomson (Lord Kelvin), W. (1871). “Inaugural Address to the British Association Edinburgh”. “We must regard it as probably to the highest degree that there are countless seed-bearing meteoritic stones moving through space.” Nature 4 (92): 261–278 [262].
٣  الباسكال هو وحدةٌ لقياس الضغط، الضغط الجوي مثلًا يُساوي ١٠٠٠٠٠ باسكال.
٤  Three Stages of Transferring (Explanation and Experiments) From: Online Astrobiology Course, Edinburgh University (Coussera.com).
٥  Jillian Scharr, Could Life be older than earth itself, Discovery, April 17 2013, (http://news.discovery.com/earth/could-life-be-older-than-earth-itself-130417.html).
٦  فرانسيس هاري كومبتون كريك، عالم بريطاني شهير. من مواليد عام ١٩١٦م، حصل على جائزة نوبل في عام ١٩٦٢م في الفسيولوجيا والطب، مشاركةً مع زميلَين؛ نتيجة لاكتشافهم بِنْية اﻟ DNA.
٧  فرانسيس كريك، طبيعة الحياة، ترجمة د. أحمد مستجير، سلسلة عالم المعرفة، العدد ١٢٥، المجلس القومي للثقافة والفنون، الكويت، ص١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤