تمهيد

عائلة بينيت من لونجبورن

اتفقت النساءُ المقيمات في ميريتون فيما بينهنَّ عمومًا على أن السيد بينيت وزوجته كانا محظوظَين كثيرًا في التخلُّص من أربع بناتٍ لهما من أصلِ خمسٍ بتزويجِهن. وميريتون — وهي بلدةٌ صغيرةٌ للتسوق في هيرتفوردشاير — لا تُعد وجهةً لجولات الترفيه؛ ذلك أنها لا تمتاز بجمال المكان ولا تتمتع بتاريخٍ مميَّز، في حينِ أن المنزل الوحيد الرائع بها — وهو نيذرفيلد بارك — غيرُ مذكور في الكتاب الذي يتحدَّث عن أبرز أشكال العمارة فيها رغم أنه مثيرٌ للإعجاب. وتتمتَّع البلدة بمكانٍ لتجمُّع المواطنين بها، وتُقام فيه حفلات الرقص بانتظام، لكن ليس بها مسرح، وتُقام الأحداث الرئيسية للترفيه في المنازل الخاصة، حيث تُقلل الثرثرةُ والنميمة من حِدَّة الملل الذي يُصاحب حفلات العشاء وألعاب الويست حيث لا تتغيَّر الصحبة في كلِّ مرة.

ومن المؤكَّد أن عائلةً لديها خمسٌ من البنات غيرِ المتزوجات ستجذب اهتمامَ جيرانها وشفقتَهم، خاصة حين تقلُّ وسائلُ التسلية الأخرى، وكان موقف عائلة بينيت بائسًا للغاية. ففي ظل غيابِ وريثٍ ذكَر، كانت أملاك السيد بينيت ستَئول بالوراثة إلى ابن أخيه الموقَّر ويليام كولينز، الذي كانت السيدة بينيت تتذمَّر منه بصوتٍ عالٍ، وتقول بأنه سيُخرجها وبناتها من المنزل قبل أن تبردَ جثةُ زوجها في قبره. وفي واقع الأمر، حاول السيد كولينز بقدرِ ما أُوتي من قوةٍ أن يَجبُر شيئًا كهذا. فقد اتخذَ قرارًا غيرَ ملائمٍ له، لكن وبموافقة راعيته الجليلة الليدي كاثرين دي بيرج، غادر السيد كولينز أبرشيته في مدينة هانسفورد بمقاطعة كِنت؛ ليزور عائلة بينيت بهدفٍ خيِّر، وهو اختيارُ عروسٍ له من البنات الخمس. وقد قابلتِ السيدة بينيت نيتَه تلك بِتَرحاب وحماسةٍ من جانبها، لكنها نبَّهَته إلى أن الآنسة بينيت — وهي الابنة الكبرى — كانت على وشكِ عقْد خِطبتها في غضونِ وقتٍ قصير. وكان اختياره لإليزابيث — وهي الابنة الثانية من حيث العمرُ ومستوى الجمال — قد قُوبل برفضٍ قاطع، فكان مضطرًّا إلى البحث عن استجابةٍ ودِّيةٍ أكثرَ إزاء طلَبِه؛ وذلك من جانب الآنسة تشارلوت لوكاس صديقة إليزابيث. وقد قبِلت الآنسة لوكاس عرضَه بابتهاجٍ أثلجَ صدرَه، وسُوِّي الأمر بشأن المستقبل الذي يُمكن للسيدة بينيت وبناتها أن يتطلَّعن إليه، ولكن ليس بالشكل التامِّ مما أشعرَ جيرانهم بالأسف عمومًا. فعند وفاة السيد بينيت، سيُودِعهم السيد كولينز في أحد الأكواخ الكبرى التي تقع ضمن ملكية السيد بينيت حيث يتسنَّى لهم أن يحصلوا على الرعاية الكنَسية من إدارته كما يمكنهم الحصولُ على قوتِهم من بقايا مطبخ السيدة كولينز، ويَزيد على ذلك هدايا من الطرائد أو من لحم الخنزير المقدَّد تُقدم إليهم من آنٍ لآخر.

لكن عائلة بينيت تمكَّنَت لحُسن حظِّها من الخروج من هذا المأزق. فبحلول نهاية عام ١٧٩٩، كانت السيدة بينيت تُهنِّئ نفسها لكونها أمًّا لأربعِ بناتٍ متزوجات. في حقيقة الأمر فإن زفاف ليديا — وهي الابنة الصُّغرى وعمرها ١٦ عامًا فقط — لم يكن مبشِّرًا بخير. فقد هرَبَت ليديا مع الملازم جورج ويكهام، وهو ضابطٌ بالقوة العسكرية المتمركزة في ميريتون، وكان من المتوقَّع لهروبها هذا أن ينتهيَ — كما تنتهي كل المغامرات من هذا النوع — بهجرانِ ويكهام لها، وطردِها من منزلها، ورفضِ المجتمع لها، وفي النهاية وصمِها بأشياءَ يمنع الاحتشامُ السيداتِ من الحديث عنها. لكن الزواج تمَّ على الرغم من ذلك، وأول مَن أتى بالخبر كان جارًا لهم يُدعى ويليام جولدنج، وذلك حين كان يمتطي حِصانه ومرَّ أمام عربة لونجبورن، فوضعَت السيدة ويكهام المتزوجةُ حديثًا يدَها على النافذة حتى يتسنَّى له رؤيةُ الخاتَم فيها. وكانت أختُ السيد بينيت — وتُدعى السيدة فيليبس — حريصةً على تمرير روايتها عن هذا الهروب، التي تقول بأن الزوجَين كانا في طريقِهما إلى جريتنا جرين، لكنهما توقَّفا وقتًا قصيرًا في لندن من أجل أن يتمكَّن ويكهام من إخبارِ أمٍّ له بالمعمودية بزفافه المنتظَر، وحين وصل السيد بينيت أثناءَ بحثه عن ابنته، قَبِل الزوجان باقتراح الأسرة بأنَّ الزواج يمكن أن يتم في لندن. ولم يُصدِّق أحدٌ هذا التلفيقَ من جانبها، لكن أقرَّ الجميعُ بأن براعةَ السيدة فيليبس في حياكةِ خيوطِ تلك القصة كانت تستدعي التظاهرَ بتصديقها على الأقل. ولم يكن استقبالُ جورج ويكهام في ميريتون ممكنًا إطلاقًا بعد هذا بالطبع؛ حتى لا يتسنَّى له أن يسرق عذريةَ الخادماتِ، أو أرباحَ أصحابِ المتاجر، لكن اتُّفِق على أنَّ ليديا إن حلَّت بينهم زوجةً للسيد ويكهام، ينبغي استقبالُها بسماحةٍ ورحابةِ صدر كما كان يُفعَل معها حين كانت تُدعى الآنسة ليديا بينيت.

وكان هناك الكثير من التكهنات حول الكيفية التي تم بها الزواج المتأخِّر. كانت قيمة تركة السيد بينيت بالكاد تساوي ٢٠٠٠ جنيه في العام، ويُرى عمومًا أن السيد ويكهام كان يمتلكُ ما يساوي ٥٠٠ جنيه مع دفعِ كلِّ فواتيره، وذلك قبل إتمام الزواج. ولا بد أنَّ أخا السيدة بينيت — وهو السيد جاردنر — هو مَن دبَّر المال. فقد كان من المعروف عنه أنه رجل طيبُ القلب، لكنه كانت لديه أسرة يعولها، ولا شك أنه كان يتوقَّع أن السيد بينيت سيردُّ إليه المال. وكانت عائلة لوكاس لودج تشعر بالكثير من القلق من أن ميراث صِهْرهم سيتقلَّص بسبب هذا العوَز، لكن حين لم يتم قطعُ أيِّ أشجار ولا بيعُ أي أرض ولا تسريح أيٍّ من الخدَم، وحين لم يُبدِ الجزار أيَّ نفور من إرسال الطلب الأسبوعي للسيدة بينيت، كان من المفترض أنه لم يكن هناك ما يخشاه السيد كولينز وتشارلوت، وأنه حين يُدفنُ السيد بينيت كما يليق، يمكن للسيد كولينز أن يستحوذَ على مِلكية لونجبورن وهو واثقٌ تمامَ الثِّقة أنها لا تزال على حالها.

لكنَّ الخِطبة التي تبعَت زواج ليديا بمدةٍ قصيرة — وهي خِطبة الآنسة بينيت والسيد بينجلي من نيذرفيلد بارك — لاقَت إعجابًا كبيرًا. فقد كانت غيرَ متوقَّعةٍ إطلاقًا؛ وكان إعجابُ السيد بينجلي بجين واضحًا منذ أول لقاء بينهما في إحدى الحفلات. وكان حُسنُ الآنسة بينيت ورِقَّتُها وتفاؤلها الساذَجُ حيالَ الطبيعة البشرية، الذي منعها من التحدُّث بسوءٍ عن أي أحد، قد جعلتْ منها شابةً محبوبة بوجهٍ عام. لكن وفي غضون أيام من إعلان خِطبةِ كُبرى بناتها إلى السيد بينجلي، شاعت أخبارُ انتصارٍ أكبرَ تحصَّلَت عليه السيدة بينيت وقُوبلت تلك الأخبار في البداية بجوٍّ من التشكُّك. ذلك أن الآنسة إليزابيث بينيت كانت ستتزوج من السيد دارسي وهو مالك بيمبرلي، وهو أحد أكبر المنازل في ديربيشاير، وتردَّدَت الشائعات أن دخله يساوي ١٠ آلاف جنيه في العام.

وكان من المعروف بصورةٍ عامة في ميريتون أن الآنسة ليزي كانت تكره السيد دارسي، وكان ذلك الشعور يُكنُّه بوجهٍ عام كلُّ الرجال والنساء الذين حضَروا الحفل الأول الذي حضره السيد دارسي بصحبة السيد بينجلي وأختَيه، وقد أظهر في ذلك الحفل لكلِّ الحضور من الأدلة ما يكفي على تكبُّره وازدرائه المتغطرِس؛ فقد أوضح تمامًا أنه لا توجد امرأةٌ ممن يحضرن الحفل تستحقُّ أن تكون شريكةً له؛ وذلك رغم تشجيع صديقه السيد بينجلي له على البحث عن إحداهن. وبالفعل حين قدَّم السير ويليام لوكاس إليزابيث إلى السيد دارسي رفضَ أن يرقص معها، وقد أخبر السيد بينجلي أنها لم تكن جميلةً بما يكفي لتجذبه للرقص معها. ولذا كان من المسلَّمِ به أن أيَّ امرأة لن تكون سعيدةً حين تتزوج بالسيد دارسي، وذلك كما أشارت ماريا لوكاس قائلةً: «مَن سيرغب في أن يجلس أمام ذلك الوجهِ البغيض على الإفطار كلَّ يوم لبقية حياته؟»

لكن لم يكن هناك داعٍ لإلقاء اللوم على الآنسة إليزابيث بينيت لتبنِّي وجهةِ نظرٍ أكثرَ حكمةً وتفاؤلًا. فالمرء لن يحصل على كلِّ ما يبتغيه في الحياة، وأيُّ فتاة شابةٍ في ميريتون على استعدادٍ لأن تتحملَ ما هو أكثرُ من مجرد وجهٍ بغيض على طاولة الإفطار لتتزوج شخصًا يتقاضى ١٠ آلاف جنيه في العام ولتُصبح سيدةَ بيمبرلي. وكانت سيداتُ مدينة ميريتون — كما يقتضي الواجبُ — سعيداتٍ لأن يتعاطفن مع المبتلَى ويُهنئن سعيدَ الحظ، لكن ينبغي أن يسودَ الاعتدالُ في كل شيء، وكان ما ظفرَت به الآنسة إليزابيث كبيرًا جدًّا. ورغم أنهنَّ جميعًا كنَّ يُجْمِعن على أن الآنسة إليزابيث جميلةٌ بما يكفي، وتتحلَّى بعينَين جميلتين، فإنها لم تكن تمتلك أيَّ شيءٍ آخَر يُزكِّيها لرجلٍ يحصل على ١٠ آلاف جنيه في العام، ولم يمرَّ وقتٌ طويل حتى انتشرت مجموعةٌ من الشائعات المؤثِّرة في محاولةٍ لتفسير الأمر؛ كانت الآنسة ليزي حريصةً على أن تجذب السيد دارسي منذ اللحظةِ الأولى لأولِ لقاءٍ بينهما. وحين اتَّضحَت معالمُ استراتيجيتها، اتفقَ الجميع على أنها لعبت أوراقها بمهارةٍ كبيرة منذ البداية. وعلى الرغم من أن السيد دارسي رفض أن يُراقِصَها في الحفل؛ فإن عينه كانت تتبعها باستمرارٍ هي وصديقتها تشارلوت التي أصبحت بارعةً في تحديد الإشارات التي تدلُّ على الانجذاب المحتمل — وذلك بعد أن قضت سنواتٍ طِوالًا في محاولة الحصول على زوجٍ لها — وقد حذَّرَت تشارلوت صديقتَها إليزابيث من أن تسمح لانجذابها الواضحِ نحو الملازم جورج ويكهام الوسيم والمحبوب أن يُسيء إلى رجلٍ يفوقه منزلةً ﺑ ١٠ أضعاف.

ثمَّ كانت هناك حادثةُ عشاء خِطبة الآنسة بينيت في نيذرفيلد حين أصرَّت أمُّها على أن تذهب على صَهْوة الجواد بدلًا من الذَّهاب في عربة الأسرة، وحينها أُصيبت جين بالأنفلونزا، وكما خطَّطَت السيدة بينيت، كانت جين مجبرةً على البقاء عدةَ ليالٍ في نيذرفيلد. وقد ذهبت إليزابيث إليها سيرًا على الأقدام لتزورَها، وقد فُرِض على الآنسة بينجلي بسببِ أخلاقها الحسَنة أن تعرض على الزائرةِ الثقيلةِ ضيافتَها حتى تستعيدَ الآنسة بينيت عافيتَها. ولا بد أن قضاء ما يقرُب من أسبوعٍ في صحبة السيد دارسي قد عزَّز من آمال إليزابيث في تحقيق النجاح، كما أنها لا بد أن تكون قد استغلَّت مثل هذه الأُلفة المفروضة أفضلَ استغلال.

ومن ثمَّ وبإلحاحٍ من صُغْرى فتياتِ عائلة بينيت، أقام السيد بينجلي حفلًا في نيذرفيلد، وفي تلك المرة رقصَ السيد دارسي مع إليزابيث. وقد رفعَت الوصيفات، الجالساتُ في كراسيِّهن المستندةِ إلى الحائط مناظيرَهن ورُحْن، مثل بقية الحاضرين، يُحملِقن فيهما بإمعان وهما يشقَّان طريقهما عبر الصف. ولا شك أن هناك محادثةً صغيرة دارت بينهما، لكن حقيقة أن السيد دارسي قد طلب من الآنسة إليزابيث أن ترقص معه، وأنها لم ترفض ذلك كان أمرًا مثيرًا للاهتمام والتكهنات.

وكانت المرحلةُ التالية في خُطة إليزابيث هي زيارتَها إلى السيد والسيدة كولينز في بيت القَسِّ في مدينة هانسفورد بصحبة السير ويليام لوكاس وابنته ماريا. كانت تلك دعوةً من الطبيعي أن ترفضها الآنسة ليزي. فما هي أوجهُ المتعة التي يمكن أن تحصلَ عليها امرأةٌ عاقلة من قضاء ستةِ أسابيعَ بصحبة السيد كولينز؟ وكان من المعروف بوجهٍ عام أن الآنسة ليزي كانت اختيارَه الأول كعروسٍ له قبل أن تقبل به الآنسة لوكاس. ومن ثَم كان ينبغي أن تكون الكِياسة — وبعيدًا عن أيِّ اعتبارٍ آخرَ — هي السببَ في عدم ذَهابها إلى هانسفورد. لكنها كانت على علمٍ بأن الليدي كاثرين دي بيرج كانت جارةَ السيد كولينز وراعيَتَه، وأن ابن أخيها السيد دارسي سيكونُ في روزينجز بينما يوجد الزوَّار في بيت القس. أما تشارلوت — التي كانت تُطلِعُ أمَّها على كل تفصيلةٍ من حياتها الزوجية، ويشمل ذلك صحةَ أبقارِها ودواجنها وزوجها — فقد كتبَت إلى والدتها تقول إن السيد دارسي وابنَ عمه الكولونيل فيتزويليام — الذي كان في زيارةٍ إلى روزينجز أيضًا — كانا يزوران بيتَ القس باستمرار أثناء وجود إليزابيث، وأن السيد دارسي ذاتَ مرةٍ جاء إلى بيت القس من دون ابن عمه حين كانت إليزابيث وحدَها. وكانت السيدة كولينز واثقةً تمامًا من أن هذا التمييز يؤكد أن السيد دارسي وقعَ في غرام إليزابيث، وكتبَت قائلةً إنها تعتقد أن صديقتها سرعان ما ستقبل بأيٍّ من الرجلَين إذا ما عُرضا عليها؛ لكن الآنسة ليزي عادت إلى منزلها من دون الاستقرار على شيء.

لكن في النهاية آلتِ الأمورُ إلى مآلها الصحيح حين دعَت السيدة جاردنر وزوجها — وهو أخو السيدة بينيت — إليزابيث لتصحَبَهما في جولةِ استمتاعٍ صيفية. كان من المفترض أن تكون الرحلةُ إلى البحيرات، لكن من الواضح أن مسئوليات أعمال السيد جاردنر كانت تُملي أن تكون الرحلةُ أكثرَ محدودية، وأنهم لن يذهَبوا شمالًا إلى ما هو أبعدُ من ديربيشاير. وكانت كيتي — وهي الابنة الرابعةُ من بنات عائلة بينيت — هي مَن نقَلَت تلك الأخبار، لكن لم يُصدِّق أحدٌ في ميريتون تلك الأعذار. فأسرةٌ ثرية كتلك يُمكنها أن تسافر من لندن إلى ديربيشاير في إمكانها أيضًا أن تُطيل رحلتها لتصل إلى البحيرات إذا ما أرادوا ذلك. كان من الواضح أن السيدة جاردنر — باعتبارها شريكًا في مخطط ابنة أختها للزواج — قد اختارت ديربيشاير لأن السيد دارسي سيكونُ في بيمبرلي، وبالفعل كانت عائلةُ جاردنر وإليزابيث يزوران المنزلَ حين عاد السيد دارسي، ولا شك أنهم في أثناء ذلك سألوا في الفندق عن موعدِ وصول سيد منزل بيمبرلي. وكان من الطبيعيِّ — على سبيل المجاملة — أن يتمَّ تقديم عائلة جاردنر ودعوتهم إلى العشاء في بيمبرلي، وإن كان هناك أيُّ شكوك تُساوِر الآنسةَ إليزابيث حيال حَصافة مخطَّطِها للإيقاع بالسيد دارسي، فإن أول نظرةٍ منها على بيمبرلي كانت كافيةً للتأكيد على إصرارها على الوقوع في حبِّه في أول لحظةٍ مناسبة. ومِن ثَمَّ فقد عاد السيد دارسي وصديقُه السيد بينجلي إلى نيذرفيلد بارك ولم يُضيِّعا وقتًا في الذَّهاب إلى لونجبورن حيث ظفرَت الآنسة بينيت والآنسة إليزابيث بالسعادة أخيرًا. وكانت الخِطبة أقلَّ إمتاعًا من خِطبة جين، على الرغم من فخامتها. فإليزابيث لم تكن شهيرةً من قبل، وكانت سيدات ميريتون الأكثرُ إدراكًا يُساوِرُهن الشكُّ أحيانًا أن الآنسة ليزي كانت تضحك عليهن سرًّا. كما اتهَمْنها أيضًا بأنها تهكُّمية وساخرة، ورغم أنهن لم يكنَّ واثقاتٍ تمامًا من معنى الكلمة، فإنهن كنَّ يعلمن أن تلك الصفةَ مذمومةٌ في النساء، ذلك أنها صفةٌ لا يُحبها الرجال في نسائهن. أما الجيران الذين فاقت غيرتُهم مما ظفرت به إليزابيث حدودَ أيِّ اقتناع بنجاح تلك الزِّيجة، فكانوا يُواسون أنفسَهم بأن غرور السيد دارسي وتكبُّرَه ولذاعةَ سخرية زوجته هي أشياءُ تكفي ليعيشا معًا في شقاءٍ وبؤسٍ شديدَين لا يمكن أن يُعوِّض عنهما الحصولُ على بيمبرلي وعلى ١٠ آلاف جنيه كلَّ عام.

وبالسماح لتلك الرسميات التي لا تكون الأعراسُ الكبرى وجيهةً إلا بها — مثل رسم الصور، وانشغال المُحامين، وشراء عرَبات وأزياء الزفاف الجديدة — زُفَّت الآنسة بينيت على السيد بينجلي والآنسة إليزابيث على السيد دارسي في اليومِ نفسِه في كنيسة لونجبورن مع القليل من التأخير المفاجئ. كان اليوم سيغدو أفضلَ أيام حياة السيدة بينيت لو أنها لم تُصِبها نوباتُ زيادةِ سرعة نبضات القلب أثناء القدَّاس، والسبب في ذلك كان خوفَها من أن عمَّة السيد دارسي الشديدةَ البأس — وهي الليدي كاثرين دي بيرج — قد تَظهر على باب الكنيسة لتمنع إتمامَ الزيجة، ولم تتمكَّن من أن تهنأَ بما ظفرت به حتى تُليت المباركة النهائية.

ومن غير المؤكَّد ما إذا كانت السيدة بينيت تفتقدُ صحبة ابنتها الثانية، لكن لا شك أنَّ زوجها فعَل. فلطالما كانت إليزابيث هي ابنتَه المفضَّلة. فقد ورِثت ذَكاءه وشيئًا من خفة ظلِّه واستمتاعه بنقائص جيرانهم وتناقضاتِهم، وكان منزل لونجبورن يبدو موحشًا أكثرَ وأقلَّ عقلانيةً من دونها. وكان السيد بينيت رجلًا ذكيًّا يحب القراءة وتُشكِّل مكتبته ملاذًا له ومصدرًا لأسعدِ أوقاته. وسرعان ما وصل هو ودارسي إلى استنتاج أنَّهما أحَبَّا أحدهما الآخر، وبعدَئذٍ — وكما هو شائعٌ بين الأصدقاء — تقبَّل كلٌّ منهما السِّماتِ الشخصيةَ المختلفة للآخَر كدليلٍ على تفوُّقه الفكري. وكانت زياراتُ السيد بينيت إلى بيمبرلي — التي كان يقوم بها حين لا يكون من المتوقَّع منه ذلك — غالبًا ما تقتصر على وجوده في غرفة المكتبة، التي كانت إحدى أفضلِ المكتبات الخاصة، وكان إخراجه منها صعبًا حتى ولو كان من أجل تناولِ الطعام. وكانت زيارته لعائلة بينجلي في هايمارتن أقلَّ وتيرةً؛ حيث لم يكن هناك الكثيرُ من الكتب والدوريات الجديدة لإغرائه؛ وذلك بعيدًا عن انشغال جين المفرط براحة زوجها ورفاهيته، حيث كان السيد بينيت أحيانًا ما يجد ذلك مضجِرًا. كان المصدرُ الأصلي لأموال السيد بينجلي هو التِّجارةَ. فهو لم يَرِث مكتبةً عن الأسرة ولم يُفكِّر في إنشاء واحدة إلا بعد أن اشترى منزل هايمارتن. وفي ذلك المشروع كان يُسعِد دارسي والسيد بينيت أن يُقدما يدَ العون. فهناك القليل من الأنشطة التي تكون مقبولةً جدًّا مثل إنفاق أموال صديقك فيما فيه رِضاك ومنفعتُه، وإن كان المشترون يشعرون بالإغراء بصفةٍ دورية نحو التبذير في الإنفاق، فقد كانوا يجدون لأنفسهم عَزاءً في فكرة أن بينجلي يستطيع تحمُّلَ تلك التكاليف. وبالرغم من أن أرفف المكتبة — التي كانت مُصمَّمةً وَفقًا لمواصفاتٍ وضَعها دارسي ووافق عليها السيد بينيت — لم تكن قد امتلأت بأيِّ شكل من الأشكال بعدُ، إلا أن بينجلي كان يفتخر بالترتيب الأنيقِ للكتب وبالجلد اللامع للكتب، بل وأحيانًا كان يفتح كتابًا منها، وشُوهد وهو يقرأ حين لا يكون الموسمُ أو الطقس ملائمًا لصيد الطَّرائد أو صيد السمك أو الرماية.

ولم يصحب السيد بينيت زوجته إلى بيمبرلي إلا في مناسبتَين اثنتين فقط. وقد استقبلها السيد دارسي بالتَّرْحاب والكرم، لكنها كانت تخشى زوجَ ابنتِها كثيرًا، فلم ترغب في تَكْرار التجرِبة. وبالفعل شكَّت إليزابيث أن أمَّها كانت تستمتع أكثرَ بإبهاج جيرانها بعجائب بيمبرلي وبحجم الحدائق وجمالها، وبعظَمة المنزل وفخامته، وعدد الخَدَم وروعة طاولة الطعام أكثرَ ممَّا تستمتع هي نفسُها بهم. ولم يكن السيد بينيت ولا زوجته يتردَّدان كثيرًا على زيارة أحفادهما. فمسألة أن يُولَد لهما خمس بنات في تتابعٍ سريعٍ لم تُخلِّف لديهما إلا ذِكْرى حيةً عن النوم المتقطِّع في الليل وصراخ الأطفال وكبيرة ممرضات كثيرة الشكوى، وعن تمرُّد خادمات الحضانة. وكان الفحص الأوَّلي الذي يُجرى بعد ولادةِ كلِّ حفيدٍ لهما بوقت قصير يؤكد زعم الوالدَين أن الطفل جميلٌ للغاية، ويُظهر بالفعل قدْرًا كبيرًا من الذكاء، وبعد ذلك كانا يقنعان بتسلُّم تقارير مرحلية منتظمة.

وفي حفلة نيذرفيلد أعلنَت السيدة بينيت — مما أزعج ابنتَيها الكبيرتين كثيرًا — أنها كانت تتوقَّع أن زفاف ابنتها جين على السيد بينجلي سيفتح البابَ أمام بناتها الأصغر للزواج برجالٍ أثرياء، ومما أدهشَ الجميعَ أن ماري كانت هي مَن حقَّقت تلك النبوءة الأمومية الطبيعية. فلم يكن هناك أحدٌ يتوقَّع أن تتزوجَ ماري. كانت ماري مُدمنةً على القراءة لكن من دون تمييزٍ أو فَهْم، وكانت مواظبةً على عزف البيانو، لكنها كانت لا تتمتع بالموهبة، وتتحدَّث دومًا بكلامٍ مبتذَل يفتقر إلى الحكمة والفِطنة. ومما لا شكَّ فيه أنها لم تكن تُبدِي أيَّ اهتمام بالرجال. وكانت الحفلات بالنسبة إليها كفَّارةً تتحملها فقط؛ لأنها تُمثِّل فرصةً لها لتحتلَّ مركزَ الصدارة في عزف البيانو وتذهل الجمهورَ حدَّ الخضوع عن طريق الدوس بحكمةٍ على إحدى دواسات البيانو. لكن وفي غضون عامين من زواج جين، كانت ماري زوجةً للقس ثيودور هوبكنز وهو رئيس الأبرشية المتاخمة لهايمارتن.

كان قسُّ هايمارتن متوعكًا، وتولَّى السيد هوبكنز أمرَ القدَّاس لثلاثة أسابيع. كان رجلًا نحيلًا وسوداويًّا يبلغ من العمر ٣٥ عامًا، وذلك بالنظر إلى عِظاته التي تتميَّز بإسهابٍ مفرط ونظرياتٍ لاهوتية معقَّدة، ومن ثَم فقد اكتسب بطبيعةِ الحال سُمعةً كونه رجلًا ماهرًا، ورغم أنه يكاد يُوصف بالثراء، فإنه كان يتمتَّع بدخلٍ خاصٍّ أكثرَ من كافٍ، وذلك بالإضافة إلى راتبه. وفي أحد الأيام التي كان يُقدِّم فيها عظاتِه، كانت ماري قد حلَّت ضيفةً على هايمارتن وقد قدَّمَتها أختُها له عند باب الكنيسة بعد القدَّاس، وسرعان ما أُعجِبَ بها بسبب إطرائها على كلامه، وإقرارها بتفسيره الذي استخرجه من النصِّ وإشاراتها المتكررة إلى أهمية عظات فوردايس؛ مما جعل جين تَدْعوه إلى العشاء في اليوم التالي، وذلك بسبب تلهُّفِها على تناول غداء يوم الأحد مع زوجها، الذي يتكوَّن من اللحوم الباردة والسلطة. وتبعت تلك الدعوة دعوات أخرى، وفي غضون ثلاثة أشهر أصبحَت ماري السيدة ثيودور هوبكنز، وكان اهتمام العامة بأمر زواجها محدودًا، وقد دلَّ على ذلك عددُ الأشخاص الذين حضَروا مراسم زفافها.

وكانت إحدى المميزات التي حَظِيَت بها الأبرشية أن الطعام في مقر القس قد تحسَّن بصورة كبيرة. كانت السيدة بينيت قد ربَّت بناتها على تقدير أهمية طاولةِ طعامٍ جيدةٍ في تعزيز التناغم الأسري، وجذبِ الذكور من الزوار. وكان الجمعُ في عظاته يأمُل أن تتسبب رغبةُ القس في العودة سريعًا إلى حياته الزوجية السعيدة في تقصيرِ مدةِ موعظته، لكن على الرغم من أنه أصبح بدينًا أكثر، فإن عِظاته الطويلةَ ظلَّت على حالها. وكان الزوجان قد استقرَّا معًا في اتفاقٍ مثالي، عدا في البداية حين طالبت ماري بأن يكون لها غرفةُ كتبٍ خاصةٌ بها يمكن لها أن تقرأَ فيها بسلام. وقد حصلت على ذلك بتحويلِ غُرفة النوم الإضافية الوحيدة؛ لِتفيَ بغرضِها، وفي ذلك مَيزةُ تعزيز الوئام الأسريِّ بينما كان من المستحيل عليهما دعوةُ أقاربهما للمكوث لديهما.

وبحلول خريف عام ١٨٠٣، كانت السيدة بينجلي والسيدة دارسي تحتفلان بمرور ستِّ سنوات على الزواج السعيد لكلٍّ منهما، لم تُنجب السيدة بينيت سوى ابنةٍ اسمها كيتي ولم تجد لها أيَّ زوج. ولم تكن السيدة بينيت أو كيتي قلقتَين كثيرًا بشأن الفشل في الزواج. فقد كانت كيتي تستمتعُ بحَظْوةٍ وتدليلٍ لكونها الابنةَ الوحيدة في المنزل، وبزياراتها الكثيرةِ لجين — حيث كانت مفضَّلةً كثيرًا لدى الأطفال — كانت تستمتع بحياةٍ لم تكن مريحة بهذا الشكل من قبل. وكانت زيارات ويكهام وليديا هي بالكاد دعايةً للزواج. فكانا يَصِلان في صخبٍ من روح الدعابة فتستقبلهما السيدة بينيت بسخاء؛ ذلك أنها كانت تفرح دومًا برؤية ابنتها المفضَّلة. لكن تلك الرغبة الحسنة المبدئية سرعان ما تحوَّلَت إلى مشاجراتٍ واتهامات وشكاوى حادةٍ من الزوار عن فقرهما وشحِّ إليزابيث وجين في دعمِهما المادِّي، حتى إن السيدة بينيت أصبحَت تفرح بمغادرتهما كما تفرحُ بقدومهما في زيارتهما التالية. لكنها كانت بحاجةٍ إلى ابنةٍ لها في المنزل، وكانت كيتي تُبلي بلاءً حسَنًا؛ فقد تحسنَت كثيرًا فيما يتعلَّق بأُنسها والمنفعة منها منذ رحيل ليديا. ومِن ثمَّ بحلول عام ١٨٠٣، كان من الممكن اعتبارُ السيدة بينيت امرأةً سعيدة بقدْر ما سمحَت به طبيعتها، بل وعُرِف عنها أنها تجلس على العشاء إلى طاولةِ طعامٍ تتكوَّن من أربعة أطباق في حضور السير ويليام والليدي لوكاس من دون أن تُشير مرةً إلى جَور تقسيم التركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤