الفصل الرابع

نامت إليزابيث بشكلٍ متقطِّع لفترات قصيرة من فقدان الوعي، وتخلَّل نومَها كوابيسُ أعادتها إلى الأرَق، وإلى إدراكٍ للرهبة الحقيقية التي ألقت بحالةٍ من الكآبة على منزل بيمبرلي. وبصورةٍ غريزيةٍ مدَّت يدها تجاه زوجها، إلا أنها تذكَّرَت أنه يقضي الليلةَ مع الكولونيل فيتزويليام في غرفة المكتبة. وكان دافعها للنهوض من الفراش والسير في أرجاء الغرفة يكاد يكون غيرَ قابل للسيطرة، لكنها حاولت أن تُهدئ من رَوعِها وتخلد إلى النوم مرةً أخرى. وكانت الأغطية المصنوعة من الكتان — التي عادةً ما تكون لطيفةً ومريحة — قد أصبحَت وكأنها حبلٌ يُكبِّلُها، كما أصبحت الوسائدُ المحشوَّة بالريش الناعم صُلبة وساخنة، فكان عليها أن تهزَّها وتُعدِّلها كثيرًا من أجل أن تجعلَها مريحة.

وتحوَّلَت أفكارها نحوَ دارسي والكولونيل. من العبث أن يكونا نائمَين أو يُحاولا النومَ في مثل ذلك المكانِ غيرِ المريح، خاصة بعد يومٍ مروِّع كالذي مرَّا به. ماذا كان يدور في عقل الكولونيل ليعرض أمرًا كهذا؟ كانت تعلم أن قضاء الليلة في المكتبة فِكرته. فهل كان لديه شيءٌ مهمٌّ يريد أن يُطلِع دارسي عليه؟ أيُمكن أنه يُطلِع دارسي على تفسيرٍ لرحلته الغامضة أثناء الليل، أم أن ذلك السرَّ له علاقة بجورجيانا؟ ثم خطر لها أنَّ دافعه في ذلك ربما يكونُ أن يمنعها ودارسي من أن يقضيَا وقتًا خاصًّا معًا؛ فهي لم تحظَ بفرصةِ قضاءِ وقتٍ مع زوجها، والتحدُّث في خصوصية إلا لدقائقَ قليلة؛ وذلك منذ عادت مجموعةُ البحث بجثَّة ديني. وحاولت أن تُبعد تلك الفكرة عن ذهنها بسبب سَخافتها، وحاولت مرةً أخرى أن تحصل على قسطٍ من النوم.

وعلى الرغم من أنها تعرف أن جسدَها منهَك، فإنَّ عقلها كان في أوجِ نشاطه. فراحت تُفكِّر في كمِّ الأشياء التي عليها القيامُ بها قبل وصول السير سيلوين هاردكاسل. سيتحتَّم عليها أن تُخبر ٥٠ منزلًا بإلغاء الحفل، ولكان من غير المُجدي محاولةُ إرسال الخِطابات في الليلة السابقة؛ حيث إن معظم مَن سيتلقَّونها سيكونون في فُرُشِهم؛ ربما كان عليها أن تبقى مستيقظةً لوقتٍ أطولَ، وبدأت على الأقلِّ في النظر في أمر تلك المهمَّة. لكن كان هناك مهامُّ عاجلة أخرى تعرف أنَّ لها الأولوية. كما أن جورجيانا كانت قد خلدَت إلى النوم في وقتٍ مبكِّر، ولم تعلم شيئًا بأمر المأساة التي وقعَت أثناء الليل. ولم يُستقبَل ويكهام في منزل بيمبرلي ولم يُذكَر اسمه فيه، حتى منذ محاولة إغوائه لها قبل سبع سنوات. وتم التعامل مع تلك الحادثة بأكمَلِها، وكأنها لم تحدث من الأساس. كانت تعلم أنَّ مقتل ديني سيَزيد من المشكلات الحاليَّة كما سيُثير مشكلاتِ الماضي من جديد. فهل كانت جورجيانا تُكنُّ أيَّ مشاعرَ لويكهام؟ وكيف ستتعامل جورجيانا مع رؤيته الآن في ظلِّ ظروف الشكِّ والرعب هذه، خاصةً أن هناك اثنَين من الخُطَّاب لها في المنزل؟ كانت إليزابيث ودارسي قد خطَّطا للقاءِ الخَدَم كلِّهم دفعةً واحدة بمجرد انتهاء إفطار الخَدَم لِيُطلِعوهم على أخبار تلك المأساة، لكن سيكونُ من المستحيل إخفاءُ سرِّ وصول ليديا وويكهام عن الخَدَم، خاصة أنهم سيكونون مشغولين بتنظيف الغرف وترتيبها، وإشعال النار بدءًا من الساعة الخامسة. كانت تعلم أن جورجيانا تستيقظ مبكرًا وأن خادمتها تفتحُ ستائرَ غرفتِها وتحضر لها شاي الصباح عند السابعة. لذا كان ينبغي على إليزابيث أن تتحدَّث إلى جورجيانا قبل أن تعرف الأخبار من شخصٍ آخرَ من دون قصد.

نظرت إليزابيث إلى الساعة المذهَّبة الصغيرة الموضوعة على الطاولة بجوار فِراشها، ورأت أن الساعة قد تخطَّت السادسة ﺑ ١٥ دقيقة. والآن وحيث كان مهمًّا ألا تغفوَ، شعرت بأن النوم يُداعب عينَيها أخيرًا، لكنها كانت في حاجةٍ إلى أن تكون مستيقظةً تمامًا بحلول السابعة، وقبل أن تُشير الساعة إلى السابعة بعشر دقائق، أضاءت إليزابيث شمعة وسارت بهدوءٍ في الممرِّ المؤدي إلى غرفة جورجيانا. كانت إليزابيث تستيقظ دائمًا على أصوات المنزل المعتادةِ وهو يستيقظ، وكانت تستقبل كلَّ يوم بحالة مِزاجية سعيدة متفائلة، وتُمضي ساعاتِ يومها في أداء مهامها والاستمتاع بملذَّاتِ مجتمعٍ يتعايشُ مع نفسه في سلام. والآن كانت تستطيع سماعَ أصواتٍ بعيدة خافتة كأصوات الخدش التي تُحدِثها الفئران، الأمر الذي يعني أن الخادمات كنَّ مشغولاتٍ في أعمالهن بالفعل. ولم يكن من المرجَّح أن تتقابلَ مع إحداهن في هذا الطابق، لكنهنَّ كن يبتسمنَ لها، ويقفن منتصباتٍ أمام الجدار بينما تمرُّ أمامهن.

طرَقَت إليزابيث باب غرفة جورجيانا بهدوء، وحين دخَلَت وجدت أنها كانت ترتدي ملابسَ النوم بالفعل، وكانت تقف أمام النافذة، وتنظر إلى الخارج نحوَ الفراغ المظلِم. ووصلت خادمةُ جورجيانا في اللحظةِ نفسِها تقريبًا؛ فأخذت إليزابيث منها الصينيَّة ووضعَتها على طاولة غرفة النوم. وبدا على جورجيانا أنها تشعر أنَّ هناك خطبًا ما. وبمجرد أن غادرَت الخادمة، أتت مسرعةً نحو إليزابيث وقالت في قلقٍ واضح: «تَبْدين متعبة يا عزيزتي إليزابيث. هل تشعرين بتوعُّك؟»

«ليس بتوعُّك وإنما بالقلق. لنجلس معًا يا جورجيانا، فهناك شيءٌ عليَّ أن أُخبرك به.»

«أليس بخصوص السيد ألفيستون؟»

«نعم، ليس بخصوص السيد ألفيستون.»

ثم قصَّت عليها إليزابيث باقتضابٍ أحداثَ الليلة الماضية. ووصفَت لها كيف كان ويكهام جاثيًا بجوار جثة ديني حين وجَدوها، وكيف كان مضطربًا، لكنها لم تُخبرها بما أخبرها به دارسي عمَّا قاله ويكهام. كانت جورجيانا هادئة أثناء حديث إليزابيث، وكانت تضع يدَيها على فخِذَيها. وحين نظرت إليزابيث إليها، وجدَت أن هناك دمعتَين تترقرقان في عينَيها وتحدَّرَتا على خدَّيها دون أن تكبحَهما. فمدَّت يدها وأمسكَت بيد جورجيانا.

وبعد أن ساد الصمتُ لحظة، كفكَفَت جورجيانا دموعَها وقالت: «لا بد أن الأمر يبدو غريبًا عليكِ يا عزيزتي إليزابيث، إنني أبكي على شابٍّ لم أُقابله من قبل حتى، لكنني لا أستطيع أن أتوقَّفَ عن تذكُّر كيف كنا معًا في غرفة الموسيقى، وأن الكابتن ديني يُقتل بطريقةٍ وحشية على بُعد أقلَّ من ميلَين بينما كنتُ أعزف الموسيقى وأُغني مع السيد ألفيستون. كيف سيستقبل والداه ذلك الخبرَ المريع؟ يا لها من خَسارة، ويا له من حزنٍ ذلك الذي سيُصيب أصدقائه.» ثم قالت حين رأت أماراتِ الدهشة على وجه إليزابيث: «يا أختي العزيزة، أكنتِ تعتقدين أنني أبكي على السيد ويكهام؟ إنه على قيد الحياة، وسرعان ما سيلتئمُ شمله بليديا مرةً أخرى. وأنا سعيدةٌ لهما. ولستُ متعجبةً من أن السيد ويكهام كان مضطربًا كثيرًا من مقتلِ صديقه، ومن أنه لم يكن قادرًا على إنقاذ حياته، لكن أرجوكِ يا عزيزتي، لا تظنِّي أنني منزعجةٌ من عودته مرةً أخرى إلى حياتنا. لقد مضى زمنٌ طويل على الوقت الذي كنتُ أظن فيه أنني أحبُّه، وأعلم الآن أن ما حدث كان مجردَ ذِكرى لعطفه عليَّ كطفلةٍ صغيرة وعرَّفاني تجاه عاطفته نحوي، وربما أضيفُ إلى ذلك شعوري بالوحدة، لكن ذلك لم يكن شعورًا بالحبِّ قط. وأعلم أيضًا أنني ما كنتُ لأهرب معه. إن تلك الفكرةَ حتى بدَت حينها كمُغامرة طفوليةٍ أكثرَ منها حقيقةً واقعية.»

«كان ينوي الزواجَ بك يا جورجيانا. هو لم يُنكر ذلك قط.»

«أوه، أجل، لقد كان جادًّا تمامًا في ذلك الشأن.» ثم احمرَّ وجهُها خجلًا وأضافت: «لكنه وعدني بأننا سنعيش كأخٍ وأخت حتى يتمَّ زواجنا.»

«وهل صدَّقتِه في ذلك؟»

وبدَت نبرةُ حزنٍ في صوت جورجيانا. «أوه، أجل لقد صدَّقته. تعرفين يا إليزابيث أنه لم يكن يُحبني، إنما كان يريد المال، دائمًا ما كان يريد المال. وليس هناك ما يُشعرني بالحزن سوى الألمِ والعناء الذي تسبَّب فيه هو لأخي، لكنني أفضِّل ألَّا أراه.»

قالت إليزابيث: «سيكون هذا أفضلَ كثيرًا، وليس هناك حاجةٌ إلى ذلك.» ولم تُضِف أن جورج ويكهام كان من المرجَّح كثيرًا أن يُغادر بيمبرلي وهو رهنُ الاعتقال إلا إذا كان محظوظًا للغاية.

احتسَت إليزابيث وجورجيانا الشايَ معًا. وحين نهضَت إليزابيث لتُغادر، قالت جورجيانا: «لن يذكر فيتزويليام أمرَ السيد ويكهام، ولا ما حدث منذ تلك المدةِ الطويلة. وسيكون من الأسهلِ لو أنه فعل. فمِن المهمِّ بالطبع أن يكون الأشخاصُ الذين يُحب بعضُهم بعضًا قادِرين على التحدُّث بحرِّية وصدقٍ حيال الأشياء التي تمَسُّهم.»

قالت إليزابيث: «أظنُّ ذلك أيضًا، لكن قد يكون من الصعب فعلُ ذلك في بعض الأحيان. فالأمر يعتمد على إيجاد التوقيت المناسب.»

«لن نجد التوقيت المناسب أبدًا. إن الشعور الوحيد الذي يُؤرِّقني هو الخجلُ من نفسي بسبب أنني أحبطت أخًا عزيزًا محبوبًا، وكذلك حقيقة أنه لن يثقَ بحكمي أبدًا. لكن السيد ويكهام ليس برجلٍ شرير يا إليزابيث.»

قالت إليزابيث: «ربما كان خطيرًا وأحمقَ فقط.»

«لقد تحدَّثَت عما حدث للسيد ألفيستون، وهو يعتقد أن السيد ويكهام ربما كان واقعًا في غَرامي، رغم أن المال كان دافعُه على الدوام. إنني أستطيع أن أتحدَّث بحرِّية إلى السيد ألفيستون، فلِمَ لا أفعل ذلك مع أخي؟»

قالت إليزابيث: «إذن فالسيد ألفيستون يعرف السِّر.»

«بالطبع، فنحن أصدقاءُ مقرَّبون. لكن السيد ألفيستون سيتفهَّم مثلي أنَّ صداقتنا لن تستمرَّ في حينِ تُخيِّم تلك المأساةُ الفظيعة على بيمبرلي. وهو لم يُفصح عن نواياه وليس هناك ارتباطٌ سرِّي. وما كنتُ لأُخفي سرًّا كهذا عنكِ قط يا عزيزتي إليزابيث، أو عن أخي، لكن كِلانا يعرف ما يشعر به وسنركن إلى الانتظار.»

وهكذا كان هناك سرٌّ آخَرُ في العائلة. كانت إليزابيث تظنُّ أنها تعرف لِمَ لم يتقدَّم هنري ألفيستون لطلب يدِ جورجيانا بعدُ، أو لِمَ لم يُفصح عن نواياه. كان الأمر ليبدو وكأنه يستغلُّ أيَّ مساعدة يُمكن أن يُقدِّمَها لدارسي، وكان كلٌّ من ألفيستون وجورجيانا حساسَين بما يكفي لأن يعرفا أنه لا يُمكن الاحتفاءُ بالسعادة الحقيقية لحبٍّ ناجحٍ تحتَ ظلال المشانق. ولم تستطِع إليزابيث أن تفعل شيئًا سوى أن تُقبِّل جورجيانا وتُغمغم لها عن مدى إعجابها بالسيد ألفيستون، وتُعبِّر عن أطيب أمنياتها لهما.

شعرت إليزابيث أن الوقتَ قد حان لترتديَ ملابسها وتبدأَ يومها. وأرهقَتها فكرة أنَّ هناك الكثيرَ من الأشياء التي ينبغي عليها القيامُ بها قبل وصولِ السير سيلوين هاردكاسل في تمام التاسعة. وكان الأكثرُ أهميةً من بين تلك الأشياء هو أن تُرسل الخطابات إلى الضيوفِ المدعوِّين تشرح لهم فيها — لكن من دون تفصيلٍ — سببَ إلغاء الحفل. قالت جورجيانا إنها طلبَت الإفطار في غرفتها، لكنها ستنضمُّ إلى بقية العائلة في غرفةِ تناولِ طعام الإفطار لتتناول القهوة، وإنها تُريد المساعدة. وتم توصيلُ طعام الإفطار الخاص بليديا إلى غرفتها ومعها جين، وبمجرد أن تُكمِل السيدتان ارتداء ملابسهما، ويُنتهَى من ترتيب الغرفة، سينضمُّ إليهما بينجلي، حيث كان يتوق كعادته ليُصبح برفقة زوجته.

بمجرد أن انتهَت إليزابيث من ارتداء ملابسها وتركَتها بيلتون لترى إن كانت جين في حاجةٍ إلى أيِّ مساعدة، بحثَت إليزابيث عن دارسي وذهبا معًا إلى الحضانة. في الغالب كانت تلك الزيارةُ اليومية تحدث بعد الإفطار، لكنَّ كِلَيهما كان يشعر بخوفٍ غيرِ مبرَّر أن الشرَّ الذي يُحدِق ببيمبرلي قد يُصيب الحضانة، وكانا في حاجةٍ إلى أن يطمئنَّا أن كل شيء على ما يُرام. لكنَّ شيئًا لم يتغيَّر في ذلك العالمِ الصغيرِ الآمنِ المكتفي بذاته. كان الصبية مسرورين كثيرًا لرؤيةِ والدَيهما في ذلك الوقتِ المبكر على غير العادة، وبعد المعانقة، أخذت السيدة دونوفان السيدة إليزابيث إلى أحدِ جوانب الغرفة، وقالت في هدوء: «السيدة رينولدز قد زارتني مع بُزوغ الفجر لتُخبرني بأمرِ مقتلِ الكابتن ديني. هذه صدمةٌ كبيرة لنا جميعًا، لكن تأكَّدي من أنني سأُخفي الأمر عن سيدي فيتزويليام حتى يشعرَ السيد دارسي بأنه من المناسبِ التحدثُ معه وإخباره، بقدرِ ما يحتاج طفلٌ إلى معرفته. لا تخشَي شيئًا يا سيدتي؛ لن تكون هناك خادماتٌ ينقلن الشائعاتِ إلى الحضانة.»

وحين غادر دارسي وإليزابيث، عبَّر دارسي عن شعوره بالارتياح والامتنانِ أن إليزابيث نقلَت الأخبار إلى جورجيانا وأن أختَه لم تستقبلها باضطرابٍ أكثرَ من الطبيعي، لكن إليزابيث شعرت أن شكوكَه ومخاوفه القديمة قد عاودَت الظهور مرةً أخرى، وأنه سيكون أكثرَ سعادةً لو مُنعت عن جورجيانا أيُّ أخبار قد تجعلها تتذكَّر الماضي.

وقبل الساعة الثامنة بقليلٍ دخل دارسي وإليزابيث غرفةَ الإفطار ليجدا أن هنري ألفيستون كان هو الضيفَ الوحيد الذي حضر أمام الطعام الذي لم يمسَسْه بعد، ورغم أنه تناول قدْرًا كبيرًا من القهوة، فإنه لم يمَسَّ سوى قليلٍ من طعام الإفطار المعتادِ المكوَّنِ من البيض ولحم الخنزير المقدَّد منزليًّا والنقانق والكُلى متروكة على المائدة تحت أغطيتها الفِضيَّة المقبَّبة.

كان الجوُّ العام أثناء تناوُل الطعام مثيرًا للارتباك، وهذا أمرٌ لم يعتادوا عليه حين يجتمعون، ولم يُساعد وصول الكولونيل إلى الغرفة وبعده جورجيانا بدقائقَ قليلة في تخفيف حدةِ تلك الأجواء. أخذت جورجيانا مقعدَها بين ألفيستون والكولونيل، وقال ألفيستون وهو يُساعدها في الحصول على القهوة: «ربما يُمكننا البدءُ في أمر الخِطابات يا إليزابيث بعد تناولِ الإفطار. ويُمكنني أن أبدأ في نسخِ الخطابات إذا ما حدَّدتِ صيغتها. وسيحصل كلُّ الضيوف على الخطاب نفسِه، ومن المؤكد أنه سيكون مقتضَبًا.»

ثم ساد صمتٌ شعر الجميع أثناءه بشعورٍ غيرِ مريح، وحينها تحدَّث الكولونيل إلى دارسي. «ينبغي على الآنسة دارسي أن تُغادر منزل بيمبرلي بالطبع. فمن غيرِ الملائم أن تُشارك في هذه المسألة بأيِّ شكل من الأشكال، ولا تخضعَ للاستجواب المحتمَل من قِبَل السير سيلوين أو الضباط.»

وكانت جورجيانا شاحبةَ الوجه، لكن نبرة صوتها كانت صارمة. «أريد أن أُقدِّم يدَ العون.» ثم التفتت إلى إليزابيث. وقالت: «ستكونين مشغولةً في وقتٍ متأخر من هذا الصباح في الكثير من الأمور، لكنكِ إن حدَّدتِ لي صيغةَ الخطابات فسأكتبها عنكِ ولن تكوني في حاجةٍ سوى لتوقيعها.»

واندفع ألفيستون في حديثه. فقال: «خُطَّة ممتازة. سنكون في حاجةٍ فقط إلى كتابة خطاباتٍ موجزة للغاية.» ثم التفتَ إلى دارسي. واستطردَ قائلًا: «اسمح لي أن أكون في الخِدمة يا سيدي. يُمكنني أن أساعد في توصيل الخطابات إذا ما حصلتُ على حصانٍ سريع وآخرَ إضافي. وسأكون قادرًا أكثرَ على تجنُّبِ تقديم تفسيرات لإلغاء الحفل؛ وذلك لكوني غريبًا على معظم الضيوف، الأمر الذي سيتسبَّب في تأخير أحد أفراد الأسرة. وإن استطعتُ أنا والآنسة دارسي النظرَ في خريطةٍ محليَّة، فيُمكننا أن نُحدِّد أسرعَ الطرقِ وأكثرَها منطقية. وقد تضطلعُ بعض العائلات التي تسكن إلى جوار بعضها بمهمةِ نشرِ الأخبار إلى جيرانهم المدعوِّين أيضًا.»

وفكَّرَت إليزابيث أن بعض تلك العائلات ستسعد بمثلِ هذه المهمَّة بالتأكيد. فإن كان هناك شيء يُعوِّض عن خَسارة الحفل فستكونُ هي الدراما التي تتكشَّف في منزل بيمبرلي. ولا شك أن بعض أصدقاء العائلة سيُحزنهم القلقُ الذي يعيشه الجميع في منزل بيمبرلي بكل تأكيد وسيُسرع هؤلاء في كتابة خطابات التعزية وتأكيد الدعم، وأكدت إليزابيث لنفسها بشكلٍ راسخ أن معظم تلك الخطابات ستكون نابعةً من عاطفةٍ صادقة واهتمامٍ حقيقي. وينبغي لها ألا تسمح للسخرية بأن تنتقص من دوافعِ التعاطف والحب.

لكن تحدَّث دارسي وكانت نبرتُه فاترة. «لن تُشارك أختي في أيٍّ من هذا. فهذا الأمر لا يَعْنيها بأي شكلٍ من الأشكال، ومن غير الملائم أبدًا أن تكون مَعنيَّةً به.»

كانت نبرةُ جورجيانا رقيقة، لكنها كانت على مستوى الصرامةِ نفسِه. فقالت: «لكنني قلقةٌ يا فيتزويليام. كلنا يشعر بالقلق.»

وقبل أن يُجيب، اندفع الكولونيل بحديثه. فقال: «من المهم أيَّتها الآنسة جورجيانا، ألا تَمكُثي في بيمبرلي حتى يُحقَّق في هذا الأمر بشكلٍ كامل. سأُرسل إلى الليدي كاثرين خطابًا بالبريد السريعِ هذا المساءَ، ولا شك عندي أنها ستدعوكِ إلى روزينجز على وجه السرعة. أعلمُ أنكِ لا تُحبين المنزل هناك على وجه التحديد، وأن الدعوة ستكون في غير محلِّ ترحيبٍ إلى حدٍّ ما، لكن رغبة أخيكِ تقتضي بأن تكوني في مكانٍ آمن بما لا يدعُ له ولا لزوجته السيدةِ دارسي مجالًا للقلق على سلامتك ورفاهتك. وأنا واثقٌ أنك ستستشفِّين حكمةَ هذا الاقتراح — والاحتشام المرجوِّ منه بالطبع — بمنطقِك السليم.»

فالتفتَت جورجيانا إلى دارسي متجاهلةً إياه. وقالت: «لستَ في حاجةٍ إلى القلق عليَّ. أرجوك لا تطلب مني أن أُغادر. إنما أريد أن أكون عونًا لإليزابيث، وآمُل أن أتمكَّن من مساعدتها. ولا أجد أن هناك بذاءةً في تصرفي هذا.»

هنا تدخَّل ألفيستون في الحديث. «عذرًا يا سيدي، لكنني أشعر برغبةٍ مُلحَّة في الحديث. أنت تُناقش ما على الآنسة دارسي فِعْلُه وكأنها طفلة. لقد بدأنا القرن التاسعَ عشر، ولسنا في حاجةٍ إلى أن نكونَ من أتباع السيدة ولستونكرافت لنشعرَ بأنه لا ينبغي أن تُحرَم المرأة من حقِّ الإدلاء برأيها في الأمور التي تخصُّها. لقد مرَّت عدةُ قرون منذ أن تقبَّلْنا فكرة أن المرأة تتمتع بروحٍ وكيان. أفلم يَحِن الوقت إذن لنقبلَ فكرة أنَّ للمرأة عقلًا أيضًا؟»

استغرق الكولونيل لحظةً ليمتلك زِمام نفسه. وقال: «أقترحُ يا سيدي أن تُوفر خُطبتك اللاذعةَ هذه لمحكمة أولد بيلي.»

التفتَ دارسي إلى جورجيانا. وقال: «لم يكن يَعْنيني فقط سوى سعادتِك ورفاهيتك. بالطبع يُمكنكِ المكوثُ إذا ما أردتِ ذلك؛ وأنا واثقٌ أن إليزابيث ستكون مسرورةً بمساعدتكِ لها.»

كانت إليزابيث تجلس هادئةً وتسأل نفسها إن كان بإمكانها أن تتحدثَ من دون أن تَزيد الأمورَ سوءًا. والآن قالت: «سأكون في غاية السرور بالطبع. ينبغي عليَّ أن أكون متفرِّغة للسير سيلوين هاردكاسل حين يصلُ، ولا أرى كيف سيُمكنني إيصالُ الخطابات اللازمة في وقتها من دون حصولي على مساعدةٍ من أحد. فهلَّا نبدأ إذن؟»

دفع الكولونيل كرسيَّه للخلف في شيءٍ من العنف، وانحنى انحناءةً صارمة لتحية إليزابيث وجورجيانا، ثم غادر الغرفة.

فوقف ألفيستون وتحدَّث إلى دارسي. «ينبغي عليَّ أن أعتذرَ يا سيدي، لتدخُّلي في شأنٍ عائلي لا يَعنيني. لقد تحدَّثتُ بصورةٍ غيرِ مستحسَنة، وبعنفٍ يفتقرُ إلى الحكمة والتهذيب.»

قال دارسي: «هذا الاعتذار مستحَقٌّ للكولونيل أكثرَ مما هو مستحَقٌّ لي. ربما كان تعليقك متجرِّئًا وغيرَ مناسب، لكن هذا لا يعني أنك لم تكن مُحقًّا.» ثم التفتَ إلى إليزابيث. وقال: «إن كنتِ تستطيعين الانتهاءَ من أمر الخطابات الآن يا عزيزتي، فأعتقد أن الوقت قد حان لنتحدَّث إلى الخَدَم الذين يعملون في المنزل والخَدَم الآخرين. لقد أخبرَتهم السيدة رينولدز وستاوتن بأن هناك حادثةً وقعَت وأن الحفل قد أُلغِي، وسيكون هناك قدْرٌ كبير من القلق والحيرة بين الخَدَم. سأدقُّ الجرس لأستدعيَ السيدة رينولدز الآن، وسأُخبرها بأننا سننزل لنتحدث إليهم في قاعة الخَدَم بمجرد أن تنتهيَ من صياغة خطاب لتنسخه جورجيانا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤