الفصل الرابع

كانت الساعة هي الرابعةَ بعد ظهر اليوم حين سمعوا صوت خطواتِ أقدام، ثم أصواتَ أشخاص، وعرَفوا أن القادمين من أولد بايلي قد وصَلوا أخيرًا. وعندما نهض دارسي على قدمَيه، كان مدركًا حالةَ الانزعاج الحاد. كان دارسي يعرف إلى أيِّ مدًى يعتمد نجاحُ الحياة الاجتماعية على التطلعات الوثيرة للأعراف والتقاليد المستحسَنة، وكان منذ طفولته يدرس الأفعال المتوقَّعة من الرجال النبلاء. ولا شك أن والدته بين الحين والآخر كانت تُفصح له عن وجهة نظرٍ لطيفة أكثر، وهي أن حُسن السلوك يتألَّف في الأساس من مُراعاة مشاعر الآخرين وتقديرها، خاصة لو كان المرء يتعامل مع شخصٍ من طبقةٍ اجتماعية أدنى، وكان ذلك أمرًا تُغفله عمتُه الليدي كاثرين دي بورج بشكلٍ ملحوظ. لكن الآن أصبح في حيرةٍ من أمره بفعل كلٍّ من الأعراف والنصح المُسدى إليه. فلم تكن هناك قواعدُ لاستقبال رجلٍ يقضي العرفُ بأن يُناديَه بنسيبه الذي حُكم عليه بالموت شنقًا على الملأ قبل بِضع ساعاتٍ مضت. بالطبع كان دارسي فَرِحًا بنجاة ويكهام من حبل المشنقة، لكن أكان ذلك في مصلحة راحة باله وسُمعته كما هو في مصلحة الحفاظ على ويكهام؟ إن مقتضيات الأخلاق والشفقة تفرض عليه بالطبع أن يُسلِّم عليه بحرارة، لكن تلك الإيماءة بدَت له غيرَ ملائمة كما كانت غير صادقة.

وكان السيد والسيدة جاردنر قد أسرَعا خارِجَين من الغرفة بمجرد أن سَمِعا وقْعَ الأقدام، واستطاع دارسي الآن سماعَ صوتَيهما يعلو بالتَّرحاب، لكنه لم يتمكَّن من سماع الرد. ثم فُتح الباب ودخل آل جاردنر، وكانوا يحثُّون ويكهام على الدخول وإلى جواره ألفيستون بلطفٍ ودماثة.

أمَل دارسي ألا تظهر على وجهه أماراتُ الصدمة والذهول. فقد كان من الصعب تصديقُ أن الرجل الذي استجمع قوَّتَه من أجل الوقوف منتصبًا في قفص الاتهام والتأكيد على براءته بنبرةٍ واضحة وعازمة وثابثة كان هو ويكهام نفسَه الذي يقف أمامه الآن. بدا ويكهام الآن هزيلَ الجسد وكانت الملابس التي كان قد ارتداها من أجل المحاكمة قد بدَت كبيرةً عليه جدًّا، فبدت رخيصةً ورديئة وذات مقاسٍ غيرِ مناسب لرجلٍ لم يكن من المتوقَّع أن يرتديَها وقتًا طويلًا. وكان وجهه لا يزال يحمل أماراتِ الشحوبِ غيرِ الصحِّي الناتج عن مُكوثه في السجن، لكن حين التقَت أعينُهما وثبَّت كلٌّ منهما عينَيه على الآخر لحظةً، رأى دارسي في عينَي ويكهام لمحةً من نفسه السابقة، رأى نظرةً تنمُّ عن الحذر وربما عن الازدراء. وفوق كلِّ شيء، بدا ويكهام منهَكًا، وكأنَّ صدمة الحكم عليه بالإدانة والارتياحَ الناتجَ عن إرجاء تنفيذ العقوبة كانا أكثرَ مما يمكن للجسد البشري احتمالُه. لكن ويكهام القديم كان لا يزال حاضرًا ورأى دارسي الجهدَ والشجاعة اللتَين حاول بهما أن يقف منتصبًا ويُواجه أيًّا مما سيأتي.

قالت السيدة جاردنر: «سيدي العزير، أنت في حاجةٍ إلى النوم. ربما تكون في حاجةٍ إلى الطعام، لكنك في حاجةٍ إلى النوم أكثرَ من أيِّ شيء آخر. يُمكنني أن أصحبَك إلى غرفةٍ يمكنك الحصولُ فيها على قسطٍ من الراحة، ثم يمكننا أن نُحضر لك فيها بعضَ الطعام. ألن يكون من الأفضل أن تنام، أو على الأقل تستريح ساعةً قبل أن تتحدَّث؟»

ومن دون أن يُشيح بعينَيه من على المجموعة المجتمعة أمامه، قال ويكهام: «شكرًا لك سيدتي، على كريمِ لطفك، لكنني حين أنام فسأنامُ ساعاتٍ طِوالًا، وأخشى أنني معتادٌ على الأمل بألا أستيقظَ أبدًا. لكنني في حاجةٍ إلى التحدُّث مع الرجال هنا، ولا يُمكنني الانتظار. إنني بحالٍ جيدة بما يكفي يا سيدتي، لكن إن كان هناك شيءٌ من القهوة المركَّزة وربما بعض المرطبات …»

فرمقت السيدة جاردنر دارسي بنظرةٍ سريعة ثم قالت: «بالطبع. أُعطيت الأوامر بالفعل، وسأُشرف على تنفيذها في الحال. سنترككَ أنا والسيد جاردنر هنا لتحكي قصتك. وعلى حد علمي فالقسُّ كورنبندر سيأتي لزيارتك قبل العشاء وهو يعرض عليك ضيافته لك الليلة؛ حيث ستكون في منأًى عن الإزعاج، وستحصل على قسطٍ هانئ من النوم. وسنُعلِمك أنا والسيد جاردنر بمجرد وصوله.» وبهذا خرَجا من الغرفة وأُغلِق الباب في هدوء.

نبَّه دارسي نفسَه من حالةٍ من التردد والحيرة غمرَته لحظةً، ثم تقدَّم نحو ويكهام بذراعٍ ممدودة، وقال بنبرةٍ بدَت له رسميةً وباردة: «أُهنئك يا ويكهام على شجاعتك التي أظهرتَها أثناء مكوثك في السجن، وعلى نجاتك من هذه التهمة الجائرة بأمان. من فضلك خُذ راحتك، ويُمكننا أن نتحدَّث حين تتناولُ شيئًا من الطعام والشراب. هناك الكثير لنتحدَّث بشأنه لكن يمكننا أن ننتظر.»

فقال ويكهام: «أُفضِّل أن أتحدَّث الآن.» ثم غاص في الكرسيِّ واتخذ الآخرون مجالسهم. وساد صمتٌ غيرُ مريح بينهم حتى أغاثَهم بعد لحظات فتحُ الباب ودخولُ خادم ومعه صينية كبيرة تحمل إبريقَ قهوة، وطبقًا من الخبز والجبن واللحم البارد. وبمجرد أن غادر الخادم الغرفة، صبَّ ويكهام قهوته وشربها. وقال: «معذرةً على سوء آدابي. فقد كنت مؤخرًا في مدرسةٍ رديئة لمُمارسة السلوك الحضاري.»

وبعد عدَّة دقائق أكل فيها ويكهام الطعامَ بنهمٍ أزاح الصينية جانبًا وقال: «حسنًا، ربما من الأفضل أن أبدأ. سيتمكَّن الكولونيل فيتزويليام من تأكيد الكثير مما أقول. أنتم تعتبرونني شريرًا بالفعل؛ لذا فإنني أشكُّ أن شيئًا مما أقول وأضيف إلى قائمة آثامي التي ارتكبتها سيُثير ذهولكم.»

فقال دارسي: «لستَ في حاجةٍ إلى الاعتذار. فقد واجهت هيئةً من المحلَّفين، ونحن لسنا بهيئةٍ أخرى منهم.»

أطلق ويكهام ضحكة، فكانت أقربَ إلى نُباحٍ عالٍ وقصيرٍ وأجشَّ. ثم قال: «إذن عليَّ القول بأنني آمُل أن تكون أقلَّ تحيُّزًا. وأتوقَّع أن الكولونيل فيتزويليام قد أطلعَك على الحقائق الأساسية.»

قال الكولونيل: «ما قلت إلا ما علمت، وهو قليل، ولا أعتقد أن أيَّ أحدٍ منا يُصدِّق أن الحقيقةَ الكاملة قد قيلت أثناء محاكمتك. ولذا فقد انتظرنا عودتَك لنسمع منك القصة كاملةً ويحقُّ لنا ذلك.»

ولم يتحدَّث ويكهام من فوره. فقد جلس ينظر إلى يدَيه المشبوكتَين، ثم رفع رأسه وكأنه لا يجد الطاقةَ لفعل ذلك، وبدأ يتحدَّث بنبرةٍ تكاد لا تنمُّ عن أي تعبير، وكأنه يحفظ قصته عن ظهر قلب.

«لا بد أنكم عرَفتم أنني والدُ الطفل من لويزا بيدويل. لقد التقينا المرةَ الأولى في الصيف قبل الماضي حين كانت زوجتي في هايمارتن حيث كانت تحبُّ أن تقضيَ هنا بضعة أسابيع في الصيف، وحيث إنني لم أكن مرحَّبًا بي في ذلك المنزل، فقد جعلتُ من عادتي أن أمكث في أرخصِ الحانات المحلِّية التي يُمكنني إيجادها، وحيث يمكنني أن أُرتِّب للقاء ليديا بين الحينِ والآخر وعن طريق الصدفة. كانت الأرض في هايمارتن ستُصاب بالتلوث لو أنني سِرت هناك ذاتَ مرة، وكنتُ أحبُّ أن أقضيَ وقتي في غابة بيمبرلي. فقد أمضيتُ بعض أسعد ساعات طفولتي فيها، وقد عاد إليَّ شيءٌ من تلك السعادة الطفولية حين التقيت بلويزا. صادفتها تتجوَّل في الغابة. كانت تشعر بالوحدة كثيرًا. وكانت حبيسةَ الكوخ مدةً طويلة لتهتمَّ بأخيها المريض بمرضٍ عضال، وكانت لا تستطيع رؤية خطيبها إلا نادرًا، وكانت أعمال خطيبها وطموحاته تُبقيه منشغلًا في بيمبرلي. ومما قالت عنه رسمَت له صورةَ رجل عجوز غبي، لا يُولي اهتمامه إلا إلى استكمال خِدمته ولا يتمتَّع بالرؤية التي تُمكِّنه من معرفة أنَّ خطيبته كانت تشعر بالضجر والقلق. وكانت لويزا ذكيةً أيضًا، وهي مَيْزة فيها لم يكن ليُقدِّرَها حقَّ قدرها حتى ولو كان يتمتَّع بالذكاء ليُدرك وجودها فيها. وأعترف أنني أغويتها، لكنني أؤكِّد لكم أنني لم أُجبرها على شيء. فأنا لا أجد أنَّ من الضروري أبدًا أن أغتصبَ امرأة، ولم أعرف قط من قبلُ شابةً تتوق إلى الحب مثلها.

وحين اكتشفَت لويزا أنها تحمل طفلًا كان ذلك يُمثل فاجعةً لكلٍّ منا. فقد أوضحت لي في حزنٍ شديد أنه ينبغي ألا يعرف أحدٌ بهذا الأمر أبدًا، إلا والدتها بالطبع التي كان من الصعب إخفاءُ الأمر عنها. وشعرت لويزا أنها لن تستطيعَ أن تُثقل أخاها بهذا العبء في آخرِ شهوره في الحياة، لكنها اعترفت له حين خمَّن ما حدث. وكان أكثر ما يُقلقها هو ألا تُصيب والدها بالحزن. فقد كانت تلك الفتاة المسكينة تعرف أن احتمال جلبِ العار على بيمبرلي سيكون أسوأَ له من أيِّ شيء آخرَ قد يحدث لها. ولم أستطِع أن أُدرك لماذا يُمثِّل طفلٌ ناتجٌ عن الحب أو اثنَين كلَّ هذا العار، فتلك مشكلةٌ شائعة كثيرًا في العائلات الكبيرة، لكن كان هذا هو ما تشعر به. وكانت فِكرتها أن تذهبَ لأختها المتزوجة — بتستُّرٍ من والدتها — قبل أن تُصبح حالتها ملحوظةً أكثر، وأن تمكث هناك حتى بعد أن تضع وليدَها. وكانت الفكرة تقضي بأن يُعرِّف الطفل على أنه لأختها، واقترحتُ أنا عليها أن تعود به بمجرد أن تتمكَّن من السفر لتُرِيَه لجَدَّته. فقد كنت في حاجة إلى التأكد من أن هناك طفلًا حيًّا يتمتَّع بالصحة قبل أن أُقرِّر أفضلَ ما ينبغي القيامُ به. واتفقنا على أنني سأجدُ المالَ بطريقةٍ ما من أجلِ إقناع عائلة سيمبكنز بأن تأخذ الطفل وتُربيه على أنه طفلٌ لهم. حينها أرسلت إلى الكولونيل فيتزويليام نداءً يائسًا طالبًا مساعدتَه، وحين أتى الوقتُ الذي سيعود فيه جورجي إلى عائلة سيبمبكنز أعطاني ٣٠ جنيهًا. في رأيي أنكم تعرفون كلَّ هذا بالفعل. وقال الكولونيل بأنه تصرَّف بدافع التعاطف مع جنديٍّ خدم تحت إمرته، لكن لا شك أنه كانت لديه أسبابٌ أخرى؛ وهي شائعات ونميمة سمعتها لويزا من الخَدَم بأن الكولونيل ربما يبحث لنفسه عن زوجةٍ في بيمبرلي. ورجل حصيف ومتباهٍ مثله — وخاصة لو كان ثريًّا ومن الطبقة الأرستقراطية — لا يُصاهر فضيحةً أبدًا، لا سيَّما شأنًا وضيعًا وشائنًا كهذا. ولم يكن الكولونيل فيتزويليام ليُصبح أكثرَ قلقًا من دارسي حين يرى ابني غير الشرعي وهو يلعب في غابة بيمبرلي.»

فسأله ألفيستون: «أعتقد أنك لم تُخبر لويزا قط بهُويتك الحقيقية؟»

«سيكون هذا من الحماقة، ولم يكن ليُؤدي إلا إلى زيادة شعورها بالحزن. لقد فعلتُ ما يفعله معظمُ الرجال وهم في موقفي. وأهنِّئ نفسي على أن قصتي كانت مقنعة، ومن المرجَّح كثيرًا أن تُحرِّك العاطفة في أيِّ امرأةٍ شابة سريعة التأثُّر. لقد أخبرتها أن اسمي فريدريك ديلانسي، فدائمًا ما كنتُ أحب تلك الحروف الأولى، وأنني جندي جريح في الجيش الأيرلندي — وكان هذا صحيحًا إلى حدٍّ كبير — وأنني عُدتُ إلى الوطن لأجدَ زوجتي الحبيبة العزيزة قد ماتت وهي تلد، وأن ابني مات معها. لقد زادت تلك القصة الطويلة الملحميَّة من حب لويزا وإخلاصها لي، وكنت مضطرًّا إلى زخرفةِ هذه القصة بقولي إنني سأذهب فيما بعدُ إلى لندن لأبحثَ عن وظيفة، وإنني سأعود لاحقًا لأتزوج بها، وحينها يُمكن لطفلنا أن يُغادر عائلة سيمبكنز ويأتيَ للعيش معنا كعائلة. وكما أصرَّت لويزا، حفَرنا أحرفَنا الأولى سويًّا على جذوع الأشجار على سبيل التعهُّد بحبي والتزامي. وأعترف أنني كنت آمُل أن تتسبَّبَ تلك الأحرفُ الأولى بالأذى. وقد وعدتُ بأن أُرسل الأموال إلى عائلة سيمبكنز بمجرد أن أجدَ مسكنًا لي في لندن وأدفع أجرته.»

فقال الكولونيل: «كانت تلك حيلةً شائنةً يا سيدي، على فتاة ساذَجة وبريئة. وأفترض أنك بعد ولادة الطفل كنت ستختفي للأبد، وستكون هذه هي النهاية.»

«أعترف بالحيلة، لكن نتيجتها بدَت لي مرغوبًا فيها. فلويزا سرعان ما ستنساني وتتزوج من خطيبها، وسيتربَّى الطفل لدى أشخاصٍ هم عائلته. لقد سمعتُ بطرقٍ أسوأ بكثير من تلك في التعامل مع الأبناء غيرِ الشرعيِّين. ولكن لسوء الحظ سارت الأمور بشكلٍ خاطئ. وحين عادت لويزا إلى المنزل مع طفلها، والتقينا كعادتنا عند قبر الكلب، كانت تحضر رسالةً من مايكل سيمبكنز. لم يَعُد مايكل سيمبكنز يرغب في أن يقبل بالطفل بشكل دائم، حتى ولو كنت سأدفع له مبلغًا كبيرًا من المال. فقد كان لديه وزوجته ثلاث بنات بالفعل، ولا شك أنه كان سيحصل على المزيد، ولم يكن ليفرحَ إطلاقًا بأن يكون جورجي هو الذكرَ الأكبر في أسرته، ويتمتَّع بأسبقيةٍ على أيِّ ابنٍ مستقبلي له من صُلبه. ومن الواضح أيضًا أنه كانت هناك مشكلاتٌ بين لويزا وأختِها حين كانت معهم تنتظر وضع الطفل. وأعتقد أن الأحوال نادرًا ما تسير على ما يُرام إن كانت هناك امرأتان في مطبخٍ واحد. وقد بُحْت للسيدة يونج بأن لويزا كانت تحمل طفلًا، وقد أصرَّت على رؤية الطفل، وقالت إنها ستُرتِّب للقاءِ لويزا والطفل في الغابة. وقد وقعَت السيدة يونج في حب جورجي، وكانت تُصر على أن تأخذه لتتبنَّاه. كنت أعرف أنها كانت ترغب في الأطفال، لكن لم يكن لديَّ أدنى فكرةٍ أن حاجتها إلى الأطفال كانت بهذا الإلحاح إلا في ذلك الحين. وقد كان الطفل وسيمًا، كما كان من صلبي بالطبع.»

شعر دارسي أنه لم يَعُد يستطيع أن يبقى صامتًا. كان هناك الكثيرُ من الأشياء التي يرغب في معرفتها. فقال: «أعتقد أن السيدة يونج كانت هي تلك المرأةَ الداكنة التي لمحَتها الخادمتان في الغابة. كيف لك أن تشركها في أيِّ مخطَّط يتعلَّق بمستقبل طفلك، وهي امرأةٌ يظهر من سلوكها — على حد علمي — أنها من بين أكثرِ بني جنسها انحطاطًا وخسَّةً ووضاعة؟»

والآن كاد ويكهام يقفز من كرسيِّه. كانت مفاصلُ أصابعه على ذراعي الكرسي بيضاء، واحمرَّ وجهه فجأةً من شدة الغضب. «ربما تعرف الحقيقة أيضًا. إن إلينور يونج هي المرأة الوحيدة التي أحبَّتني، ولم تفعل أيُّ امرأة أخرى — ومن بينهنَّ زوجتي — أن منحَتني الرعايةَ والعطف والدعم والإحساس بأنني مهمٌّ لها كما فعلَت أختي. أجل، هذه هي الصلة، إنها أختي غيرُ الشقيقة. أعرف أن هذا سيُثير اندهاشكم. فوالدي كان يتمتَّعُ بسمعة كونه الأكثرَ كفاءة وولاءً وإثارة للإعجاب من بين خدم السيد دارسي الراحل، وكانت تلك هي حقيقته بالفعل. أما أمي فكانت صارمةً متزمِّتة معه، كما كانت معي؛ فلم يكن هناك الكثيرُ من الضحك في منزلنا. وكان أبي رجلًا يُشبه الكثيرَ من الرجال، وحين كان يذهب إلى لندن لأداء أعمالٍ للسيد دارسي لأسبوع أو اثنَين، كان يعيش حياةً مختلفة. ولا أعلم شيئًا عن المرأة التي كان يُرافقها، لكنه على فِراش موته باح لي بأنه كانت له ابنة. ولكي أمنحه الفضل، فلا بد أن أقول إنه فعل ما بوُسعه ليُقدِّم لها الدعم، لكنني لم أعلم عن حياتها الأولى سوى القليل، فلم أعرف سوى أنها كانت في مدرسة في لندن، ولم تكن تلك المدرسةُ بأفضلَ من الملجأ. وقد هرَبَت أختي منها حين كانت في الثانيةَ عشرة من عمرها، وفقد أبي التواصل معها من بعد ذلك، ولمَّا كان تَقدُّمه في السن وزيادةُ المسئوليات عليه في بيمبرلي أثقلَ مما يستطيع هو تحمُّلَه، فلم يتمكن من البحث عنها بنفسه. لكنه كان يُفكِّر فيها دائمًا، وقد توسَّل إليَّ من أجل أن أفعل كلَّ ما يُمكنني. كانت المدرسة قد أغلقَت أبوابها منذ وقتٍ طويل، وكان مالكُها غيرَ معروف، لكنني تمكَّنت من التواصل مع أشخاصٍ في المنزل المجاور كانوا على علاقةِ صداقة بفتاةٍ كانت لا تزال على تواصلٍ معها. وكانت تلك الفتاة هي مَن أعطتني التلميحاتِ الأولى التي تُشير إلى المكان الذي يمكن أن أجد إلينور فيه. وفي النهاية وجدتها. وحينها كانت بعيدةً كلَّ البعد عن الفقر والعوَز. فقد تزوجت مدةً قصيرة من رجلٍ أكبرَ منها ترك لها مبلغًا كافيًا من المال لشراء منزل في ميريلبون، حيث كانت تستقبل الساكنين، الذين كان معظمهم من الشباب الذين يتحدَّرون من أسرٍ وعائلات ذاتِ شأن، وكانوا قد ترَكوا منازلهم من أجل العمل في لندن. وكانت أمهاتهم اللائي يُحبِبنهم ممتنَّاتٍ كثيرًا لتلك السيدة المبجَّلة الحَنون التي كانت تُصر على ألَّا تستقبل أيَّ امرأة شابةٍ في المنزل، سواءٌ كساكنة أو كزائرة.»

فقال الكولونيل: «كنتُ أعرف هذا. لكنك لم تذكر الطريقةَ التي كانت أختُك تعيش بها، ولم تذكر الرجال تعيسي الحظِّ الذين كانت تبتزُّهم.»

واجه ويكهام صعوبةً في السيطرة على غضبه. فقال: «لقد تسبَّبَت في حياتها كلِّها بأضرارٍ أقلَّ مما يتسبَّب به الكثيرُ من المدبِّراتِ ذاتِ الشأن. إن زوجها لم يترك لها صَداقًا مُؤجَّلًا للوفاة، وكانت مجبرةً على أن تتحصَّل على عيشها من ذكائها. سرعان ما وقع كلٌّ منا في غرام الآخر، ربما لأننا كنا نتشارك الكثيرَ من الأشياء. كانت أختي ماهرة. وقالت إن أفضل ميزة أتمتَّع بها — وربما هي الميزة الوحيدة — أن النساء يُحبِبني وأنني أتمتَّعُ بالبراعة التي تجعلني مقبولًا لديهن. وأفضلُ آمالي لتجنب الفقر وتفاديه كان عن طريق الزواج من امرأةٍ ثرية، وكانت أختي ترى أنني أتمتَّع بالصفات التي تُؤهلني لتحقيق ذلك. وكما تعلمون فقد انتهى أملي الأول والواعد إلى لا شيء حين ظهر دارسي عند رامزجيت ولعب دور الأخ الساخط.»

هبَّ الكولونيل واقفًا على قدمَيه قبل أن يتحرَّك دارسي. وقال: «هناك اسمٌ لا يمكنك أن تنطقه بشفتَيك، ليس في هذه الغرفة ولا في أيِّ مكان آخر إن كنت تجد لحياتك قيمةً أيها السيد.»

حدَّق إليه ويكهام بشيءٍ من ثقته القديمة. وقال: «لستُ بجديد على هذا العالم أيها السيد، بحيث أعلم أن هناك سيدةً لها اسمٌ لا يمكن أن تُلوثه الفضيحة، وأنها تتمتع بسمعةٍ عفيفة بالفعل، وأعلم أيضًا أن هناك نساءً يُساعد أسلوبُ حياتهن في حماية تلك العفة وحراستها. وأختي كانت واحدة من أولئك. لكن لنعُد إلى المسألة التي نُناقشها. لحسن الحظ أن رغبات أختي قدَّمت حلًّا لمشكلاتنا. والآن وحيث إن أخت لويزا رفضَت أن تأخذ الطفل، كان لا بد لنا أن نجدَ له منزلًا بطريقةٍ ما. فأبهرت إلينور لويزا بقصصٍ عن الحياة التي سيَحْياها الطفل، ووافقت لويزا أن تأتيَ إلينور إلى الكوخ في صباح يوم الحفل الذي يُقام في بيمبرلي وأن تأخذ الطفل وتذهبَ به إلى لندن حيث سأبحث عن عمل، وسترعاه هي بصورةٍ مؤقتة حتى نتمكنَ أنا ولويزا من الزواج. وبالطبع لم نذكر لها عُنوانَ أختي هناك.

ثم سارت الخُطة على نحوٍ خاطئ. وعليَّ أن أعترف أن ذلك كان خطأ إلينور؛ فهي لم تكن معتادة على التعامل مع النساء، وكان من سياستها ألَّا تتعامل معهن. فقد كان التعامل مع الرجال بسيطًا، وكانت تعرف كيف تُقنعهم وتتملَّقهم. فحتى بعد أن كانوا يدفعون لها المال، لم يكن الرجال ليُصبحوا في عداوةٍ معها إطلاقًا. ولم تكن إلينور تُطيق صبرًا على تذبذبات لويزا العاطفية. فبالنسبة إليها كان الأمر مسألةَ تفكير سليم؛ فقد كانت هناك حاجةٌ ماسة وضرورية لإيجاد منزل لجورجي، وكان بإمكانها هي أن توفِّر منزلًا أعلى مقامًا من منزل عائلة سيمبكنز بكثير. وببساطة لم تكن لويزا تُحب إلينور وبدأت ثقتُها فيها تتزعزع؛ فقد كانت إلينور تتحدَّث كثيرًا عن ضرورة حصولها على الثلاثين جنيهًا التي وعدنا بها عائلة سيمبكنز. وأخيرًا وافقت لويزا على أن يُؤخَذ الطفل بحسب المخطَّط، لكن كانت هناك دائمًا المخاطرةُ التي تتمثَّل في عناد لويزا في اللحظة التي ستبتعدُ فيها عن طفلها. لهذا السبب كنتُ أريد ديني معنا حين ذهبنا لنأخذ جورجي. كنت واثقًا من أن بيدويل سيكون في منزل بيمبرلي، وأن كل خادمٍ آخرَ سيكون مشغولًا للغاية، وكنت أعرف أنه لن تكون هناك مشكلةٌ في أن تدخل عربةُ أختي من البوابة الشمالية الغربية لعزبة بيمبرلي. فمن المذهل ما يُمكن لشلن أو اثنين أن يفعَلاه من تذليلٍ لمثل هذه الصعوبات الصغيرة. كانت إلينور قد رتَّبت من قبلُ لقاءً في حانة كينجز آرمز في لامتون مع الكولونيل في الليلة السابقة للحفل من أجل أن تخبره بتغيُّر الخطة.»

قال الكولونيل فيتزويليام: «بالطبع لم أرَ السيدة يونج منذ كنا نُجري معها مقابلةً للعمل كمربية. وقد أذهلتني بسحرِها الآن كما فعلَت حينها. كما قدَّمَت لي تفاصيلَ عن وضعها المالي. وقد أخبرتُ دارسي عن أنني كنت مقتنعًا بأن ما تُقدمه من اقتراح سيكون هو الأفضلَ من أجل الطفل، وبالطبع ما زلتُ أومن أنه سيكون من الأفضل للسيدة يونج أن تتبنَّى جورجي. وبعد أن أخذتُ على عاتقي الذَّهابَ إلى كوخ الغابة حين كنا في طريقنا للتحقُّق من أمر طلقات النار، فكَّرت أنه من الصواب أن أُخبر لويزا أن عشيقها هو ويكهام، وأنه متزوجٌ وأنه وصديق له كانا مفقودَين في الغابة. بعد هذا لن يكونَ هناك أيُّ أمل أبدًا للسيدة يونج — وهي صديقة ويكهام وكاتمة أسراره — أن تحصلَ على الطفل.»

فقال دارسي: «لكن لم يكن هناك أيُّ خلاف قط على أن تكون لويزا قادرةً على اتخاذ قرار بهذا الشأن.» ثم التفتَ دارسي إلى ويكهام. واستطرد: «كنت تضعُ في حسبانك أنك ستأخذ الطفلَ عنوةً لو لزم الأمر.»

فقال ويكهام في لا مبالاةٍ واضحة: «كنتُ سأفعل أيَّ شيء، أيَّ شيء، لأجعلَ إلينور تحصلُ على جورجي. إنه ابني، وكان مستقبله هو ما يُهم كِلَينا. ومنذ تقابَلْنا أنا وإلينور وأنا لم أكن قادرًا قط على إعطائها أيَّ شيء في مقابل دعمها وحبها. والآن كان لديَّ شيء يُمكنني أن أعطيَها إياه، شيء كانت تريده هي بشدة، ولم أكن لأسمح لغباءِ لويزا وتردُّدها أن يُعرقلا ذلك.»

فقال دارسي: «وما هي تلك الحياة التي كان ذلك الطفل ليحياها، حين تُربيه امرأةٌ كتلك؟»

لم يُجبه ويكهام. كانت أعينهم جميعًا مثبتةً عليه ورأى دارسي — من بين خليط من مشاعر الذعر والشفقة — أن ويكهام كان يُكافح من أجل أن يُسيطر على انفعالاته. كان سلوك الثقة الذي كان يروي به قصتَه — والذي يكاد يرقى إلى اللامبالاة — قد اختفى. مدَّ ويكهام يده المرتجفةَ ليحصل على القهوة، لكنَّ عينَيه كانتا غارقتَين بالدموع، فلم يكن يرى شيئًا، ولم يفعل سِوى أنه أسقط القهوةَ مِن على الطاولة. لكنَّ أحدًا لم يتحدَّث، ولم يتحرَّك حتى انحنى الكولونيل ووضع إبريقَ القهوة في مكانه بعد أن التقطه من على الأرض.

وفي النهاية وبعد أن سيطر ويكهام على نفسه قال: «كان الطفل سيجد الحبَّ، أكثر مما وجدتُ أنا في طفولتي، أو أنت في طفولتك يا دارسي. إن أختي لم تلد طفلًا قط، والآن كانت هناك فرصةٌ أن تُولي رعايتها لطفلي. ليس لديَّ شك أنها طلبت المال، فتلك كانت الطريقةَ التي تعيش بها، لكنها كانت ستُنفق ذلك المال على الطفل. لقد رأته أختي. إنه طفلٌ جميل. ابني طفل جميل. والآن لن أتمكنَ من رؤية أيٍّ منهما مرةً أخرى أبدًا.»

جاء صوت دارسي خشنًا. «لكنك لم تستطِع أن تُقاوم مغرياتِ الإفضاء إلى ديني. لم يكن أمامك للمواجهة سوى امرأةٍ عجوز ولويزا، وآخرُ شيء كنت تُريده هو أن تُصاب لويزا بالهستيريا وترفض أن تُسلِّم الطفل. كان لا بد أن يتم كلُّ شيء في هدوء إن كنت لا تريد أن تُثير انتباهَ الأخ المريض. كنت في حاجةٍ إلى رجلٍ آخر، صديق يمكن لك أن تعتمدَ عليه، لكن ديني لم يكن ليشارك قط في الأمر بمجرد أن فَهِم أنك ستأخذ الطفل عنوةً إن لزمَ الأمر، رغم أنك وعدتَها بالزواج، وهذا هو سبب تركه للعربة. كان اللغز أمامنا هو سبب ابتعاد ديني عن الطريق الذي كان سيعود من عليه إلى الحانة، أو لماذا لم يظلَّ في العربة على نحوٍ معقولٍ أكثرَ حتى تصل العربةُ إلى لامتون عندما كان سيُصبح بمقدوره أن يُغادر من دون تفسير. لقد مات لأنه كان في طريقه ليُحذِّر لويزا بيدويل من نواياك. والكلمات التي نطقت بها على جثته كانت حقيقيَّة. أنت قتلتَ صديقك. لقد قتلتَه كما لو أنك ضربتَه بسيف. أما ويل، الذي كان يحتضر وحيدًا، فقد ظنَّ أنه كان يحمي أخته من غاوٍ لها. وبدلًا من ذلك فقد قتل الرجل الوحيد الذي كان قد أتى من أجل تقديم المساعدة.»

لكن ويكهام كان يُفكِّر في موتِ شخص آخر. فقال: «حين سمعت إلينور كلمة «مذنب» كانت حياتها قد انتهت. كانت تعلم أنني سأكون ميتًا في غضون ساعات. كانت ستقف عند سفحِ المشنقة وتشهد آخِرَ معاناتي إن كان في ذلك راحةٌ لي في خاتمتي، لكن هناك بعض الفظائع والأهوال التي لا يُمكن حتى للحبِّ أن يصمد أمامها. ليس لديَّ شكٌّ أنها كانت قد خطَّطت لموتها من قبل. فقد خسرَتني أنا والطفل، لكن على الأقل كان بإمكانها أن تحرص على أنها سترقدُ مثلي في قبرٍ مدنَّس.»

كان دارسي على وشك أن يقول إن تلك المهانة الأخيرة كان تفاديها ممكنًا، لكن ويكهام أخرسَه بنظرةٍ منه وقال: «كنتَ تزدري إلينور في حياتها، فلا تتفضَّل عليها الآن وقد ماتت. إن القس كورنبندر يقوم بما هو ضروريٌّ ولسنا في حاجةٍ إلى مساعدةٍ منك. فهو يتمتعُ بسلطةٍ في مجالاتٍ بعينها في الحياة لا يتمتَّعُ بها حتى السيد دارسي مالك بيمبرلي.»

لم ينطِق أحدٌ بكلمة. وفي النهاية، قال دارسي: «ماذا حدث للطفل؟ أين هو الآن؟»

وكان الكولونيل هو مَن أجابه. «أخذتُ على عاتقي مهمة معرفة ذلك. لقد عاد الطفل إلى عائلة سيمبكنز؛ ومِن ثَم فالجميع يعتقد أنه مع والدته. لقد تسبَّب مقتلُ ديني في الكثير من القلق والاضطراب في بيمبرلي، ولم تجد لويزا صعوبةً في إقناع عائلة سيمبكنز أن يستعيدوا الطفلَ ويُبعدوه عن الخطر. وقد أرسلتُ لهم مبلغًا كبيرًا من المال من دون الإفصاح عن هُويتي، وعلى حدِّ علمي لم يكن هناك أيُّ مقترح بأن الطفل سيترك العيش مع عائلة سيمبكنز، رغم أن المشكلات قد تنشأ في العاجل أو الآجل. لكنني لا أرغب في أن أكون مشاركًا في هذا الشأن أكثرَ من ذلك؛ ومن المرجَّح كثيرًا أنني سأتولَّى شأنًا أكثرَ أهمية. إن أوروبا لن تتحرَّر من بونابارت حتى يُهزم شرَّ هزيمة في البرِّ والبحر، وآمُل أن أكون من بين أولئك الذين سيحظَون بشرف المشاركة في تلك المعركة الكبرى.»

كان الجميع الآن منهكًا ولم يجد أحدٌ شيئًا آخرَ لديه كي يُدلِيَ به. وكان من المريح لهم أن فتح السيد جاردنر الباب ليُعلن عن قدوم السيد كورنبندر في وقتٍ أبكرَ من المتوقَّع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤