الفصل الثاني

لم يكن هناك أيُّ جزء مهمَل من أملاك بيمبرلي، لكن وعلى عكس المشجَر لم تكن الغابةُ في الجزء الشمالي الغربي تَحْظى بالكثير من العناية، ولم تكن كذلك في حاجةٍ إليها. فبين الحين والآخر، كان تُقطعُ شجرةٌ لاستخدامها في إشعال النار في الشتاء، أو لاستخدام خشبها في الإصلاحات الهيكليَّة للأكواخ، وكانت الشجيرات القريبة من الممرِّ على نحوٍ غيرِ مناسب تُقطَع ويُبعد جذعها. وكان هناك طريق ضيِّق عبَّدَته العربات التي تُحضر المؤنَ إلى مدخل الخَدَم، تصل بين بوابة الحراسة والباحة الواسعة في الجزء الخلفيِّ من أملاك بيمبرلي، وكانت الإسطبلات تقع خلف تلك الباحة. ومن تلك الباحة، كان هناك بابٌ في الجزء الخلفي من المنزل يؤدي إلى ممرٍّ وإلى غرفة السلاح، ومكتب مدير الأعمال.

كانت العربة المُثقَلة بالركَّاب الثلاثة والنقالة وحقيبتَي ويكهام والكابتن ديني، تتحرَّك ببطءٍ وقد جلس الركَّاب الثلاثة فيها صامتين، الأمر الذي اقترب بالنسبة إلى دارسي من خمولٍ أو بلادةٍ غيرِ قابِلَين للتفسير. وفجأةً توقَّفَت العربة. وبعد أن نبَّه دارسي نفسَه، نظر إلى خارج العربة وشعر بأُولى قطرات المطر الحادَّة تَخِزُه في وجهه. بدا له أنَّ هناك جرفًا متصدِّعًا يتدلَّى فوقهم، وبدا له أن الجرف كئيبٌ ومنيع، ولكنه حين كان ينظر إليه ارتجف الجرفُ وكأنه على وشك أن يقع. بعد ذلك عاد عقلُه إلى الواقع، فأخذت الصدوعُ في الجرف تتسعُ حتى أصبحت فجوةً بين أشجارٍ متقاربةٍ كثيرًا بعضها من بعض، وسمع برات يحثُّ الجياد العنيدة لتدخل إلى الممرِّ في الغابة.

ثم دلفوا في بطءٍ إلى ظلامٍ يعجُّ برائحة الطين. كانوا يتحركون تحتَ ضوء القمر المكتمل الذي كان يرتحل خلفهم وكأنه شبحٌ يُرافقهم، فكان يختفي فجأةً ثم يُعاود الظهور مرة أخرى. وبعد أن قطَعوا بِضع ياردات، قال فيتزويليام إلى دارسي: «من الأفضل أن نتحركَ على أقدامنا من الآن وصاعدًا. ربما لم يكن برات دقيقًا في تذكُّرِه للمكان ونحن في حاجةٍ إلى أن ننتبهَ إلى المكان الذي دلف منه ويكهام وديني إلى الغابة وإلى المكان الذي من المحتمل أن يكونا قد خرَجا منه. كما أننا من خارج العربة يمكننا أن نرى ونسمعَ بشكل أفضل.»

ثم خرَجوا من العربة يحملون مصابيحهم، وكما توقَّع دارسي، أخذ الكولونيل مكانه في المقدمة. كانت الأرضُ لينةً بفعل أوراق الشجر المتساقطةِ، فأصبحت خطواتُهم مكتومةً ولم يكن بمقدور دارسي أن يسمع سِوى صرير العرَبة، وأنفاسِ الجياد المحمومة وصليلِ زِمام الخيل. وفي بعض الأماكن كانت الأغصان فوق رءوسهم تتلاقى لتُشكِّل نفقًا كثيفًا مقوَّسًا لم يتمكَّن هو أن يلمح القمرَ من خلاله سوى بين الحينِ والآخر، ووسط سكون هذا الظلام لم يكن بمقدوره أن يسمعَ من الريح سوى حفيفٍ خافت بين الأغصان العلوية الرقيقة، وكأنها لا تزال تسكنها طيورُ الربيع المزقزقة.

وكعادته حين كان يسير في الغابة، تحوَّلت أفكار دارسي نحو جدِّه الأكبر. لا بد أن سحر الغابة بالنسبة إلى جورج دارسي المتوفَّى منذ زمنٍ بعيدٍ كان يكمن في التنوع الذي يسكن الغابة وفي ممراتها الخفية وآفاقها غيرِ المتوقَّعة. فهنا في ذلك المكان المنعزل الذي تحوطه الأشجار كالحراس، والذي تأتي فيه الحيوانات الصغيرة والطيور إلى منزله بحرِّية، كان الرجل يعتقد بأنه والطبيعةَ شخصٌ واحد، يتنفَّسان الهواء نفسَه وتُرشدهما الروح ذاتُها. وحين كان دارسي صبيًّا يلعب في الغابة، كان دائمًا ما يشعر بالتعاطف مع جَدِّه الأكبر، وأدرك منذ وقتٍ مبكِّر أن دارسي الذي لم يكن أحدٌ يأتي على ذكره كثيرًا — الذي تخلَّى عن مسئوليته تجاه التركة والمنزل — كان مصدرَ حرجٍ للعائلة. فقبل أن يقتل كلبَه سولدجر ويقتل نفسَه، كان قد ترك رسالةً قصيرةً يطلب فيها أن يُدفنَ بجوار الكلب، لكن العائلة تجاهلَت هذا الطلب الآثم ورقدَ جورج دارسي بجوار أسلافه في الجزء العائلي المغلق من باحة الكنيسة الخاصة بالقرية، في حينِ حصل سولدجر على قبره في الغابة بشاهدٍ من الجرانيت محفورٍ عليه اسمُه وتاريخُ وفاته فقط. ومنذ طفولته كان دارسي يُدرك أن والده كان يخشى أن يكون هناك ضعفٌ متوارَث في العائلة، فلقَّنه وغرَس فيه منذ وقتٍ مبكِّر الالتزاماتِ الكبيرةَ التي ستقع على عاتقه بمجرد أن يرث، تلك المسئوليات تجاه كلٍّ من التركة ومَن يعملون فيها ويعتمدون في حياتهم عليها، وهذا أمرٌ لا يمكن للابن الأكبر أن يرفضه أبدًا.

تقدَّم الكولونيل فيتزويليام بوتيرةٍ بطيئة، وكان يدور بمِصباحه يَمْنةً ويَسْرة، ويتوقَّف في بعض الأحيان من أجل أن يُلقِيَ نظرةً عن قربٍ أكثرَ على فروع النباتات المطبِقة بعضها على بعض، باحثًا عن أيِّ إشارةٍ تدل على أن أحدهم قد عبر من خلالها. وكان دارسي يفكِّر — وهو على علمٍ بأن تلك الفكرة تنمُّ عن الأنانية — في أن الكولونيل ربما كان يستمتع بما يقوم به حيث يُمارس حقَّه في تولي زِمام الأمور. وراح دارسي يسير أمام ألفيستون وهو يشعر بالمرارة وكأنه روحٌ محطَّمة وكان الغضب يتصاعد بداخله بين الحين والآخر كدفق المد. ألن يتحرَّر أبدًا من جورج ويكهام؟ تلك هي الغابة التي كانا يلعبان فيها حين كانا صبيَّين. كان ذلك الوقت الذي تذكَّر فيه ذاتَ مرة بأنه كان سعيدًا وخاليَ البال، لكن هل كانت تلك الصداقة بينهما أيامَ الصبا حقيقيةً فعلًا؟ هل كان ويكهام الصغيرُ حينها يُكنُّ له الحسد والضغينة والكراهية؟ تلك الألعاب الصِّبيانية الخشنة والمعارك الوهمية التي كان يخرج منها في بعض الأحيان مصابًا بالكدمات — هل كان ويكهام مفرطًا في شدَّتِه عليه ربما؟ تبادرَت إلى ذهنه الآن تلك العباراتُ الجارحة التي كانت ساكنةً في عقله الباطن سنواتٍ طويلةً. كم المدة التي كان ويكهام يُخطط فيها لانتقامه؟ وفكرة أن أخته تفادَت الوصمة الاجتماعية والعار؛ لأنه كان ثريًّا بما يكفي ليشتريَ سكوت غاويها المحتمل، كانت فكرةً مريرة للغاية حتى إنه كاد يتأوَّه ويصرخ بصوتٍ مرتفع. كان دارسي يُحاول أن يواريَ عن ذهنه ما عاناه من إذلالٍ في خضمِّ حياته الزوجية السعيدة، لكنَّ هذا الإذلال عاد الآن — وأصبح أقوى بفعل كَبْته له سنواتٍ طِوالًا — في شكلِ عبءٍ لا يُحتمل واشمئزازٍ من النفس، وأصبحت أشدَّ مرارةً بفعل تفكيره في أن ماله فقط هو ما أغرى ويكهام للزواج من ليديا بينيت. وكان سخاؤه هذا نابعًا من حبِّه لإليزابيث، لكن زواجه من إليزابيث هو ما أدخل ويكهام إلى العائلة وأعطاه الحقَّ في أن يدعوَ دارسي بنسيبه، وكذلك الحق في أن يكون عمًّا لفيتزويليام وتشارلز. ربما تمكَّن دارسي من إبعاد ويكهام عن بيمبرلي، لكنه لم يتمكَّن قط من إبعاده عن ذهنه وتفكيره.

وبعد خمس دقائقَ بلغوا جميعًا الممرَّ المؤديَ من الطريق إلى كوخ الغابة. كان الممرُّ مطروقًا بانتظامٍ على مدار سنواتٍ طوالٍ، وكان ضيِّقًا لكن لم يكن من الصعب العثورُ عليه. وقبل أن يتمكَّن دارسي من البدء في الحديث، تحرَّك الكولونيل نحو الممرِّ في الحال، حاملًا مِصباحَه في يده. ثم أعطى سلاحه إلى دارسي وقال: «من الأفضل أن تحملَ عني هذا. لا أتوقَّع حدوثَ أيِّ مشكلة كما أنه سيُثير مخاوفَ السيدة بيدويل وابنتها. سأتحقَّق من أنهما على ما يُرام وسأُخبر السيدة بيدويل ألا تفتحَ الباب وألا تسمحَ لأحد بالدخول تحت أيِّ ظرف. ومن الأفضل أن أُعلِمها أن الرجلين قد ضلَّا طريقهما في الغابة وأننا نبحث عنهما. فليس هناك داعٍ لأن أُخبرها بأي شيء آخر.»

ثم انطلق وغاب من فوره عن الأنظار، وخفَتَ صوتُ مغادرته وسط كثافةِ الغابة. ووقف دارسي وألفيستون صامتَين. وبدا لهما أن الدقائق تمرُّ ثقيلة، وبعد أن نظر دارسي في ساعته، وجد أنه ذهب منذ ما يقرب من ٢٠ دقيقة قبل أن يسمعا حفيفَ الفروع وهي تنشقُّ بعضها عن بعض، ليظهر الكولونيل مرةً أخرى.

وبعد أن استعاد مسدسه من دارسي قال باقتضاب: «كلُّ شيء على ما يُرام. لقد سمعَت السيدة بيدويل وابنتُها صوتَ الطلقات وهما تعتقدان أنها انطلقت بالقرب منهما، ولكن ليس خارج الكوخ مباشرةً. وقد أوصدتا الباب في الحال، لكنهما لم تسمعا شيئًا آخر. وكانت الفتاة — اسمها لويزا، أليس كذلك؟ — على شفا أن تُصاب بنوبةٍ هستيرية، إلا أن والدتها تمكَّنَت من تهدئتها. من سوء حظِّهما أن بيدويل ليس في بيته هذه الليلة.» ثم التفتَ إلى سائق العربة. قال له: «كن يقظًا وتوقَّف حين نصلُ إلى المكان الذي ترك فيه الكابتن ديني والسيد ويكهام العربة.»

ثم استعاد مكانَه مرةً أخرى في مقدمة تلك المسيرة الصغيرة وراحوا يتقدمون ببطءٍ. ومن وقتٍ لآخر كان ألفيستون ودارسي يرفعان مصباحيهما عاليًا، باحثَين عن أيِّ اضطراب في الأشجار المتشابكة، وكانوا يستمعون أثناء ذلك لأي صوت. ثم بعد مرور خمس دقائق، توقَّفت العربة.

قال برات: «أعتقد أن المكان هنا يا سيدي. أتذكَّر شجرة البلُّوط هذه وشجرَ التوت الأحمر هذا.»

وقبل أن يبدأ الكولونيل في حديثه سأله دارسي: «في أيِّ اتجاهٍ ذهب الكابتن ديني؟»

«إلى جهة اليسار يا سيدي. ليس هناك ممرٌّ يُمكنني رؤيته لكنه اندفع نحوَ الغابة وكأنَّ تلك الشجيرات لم تكن موجودة.»

«وكم مرَّ من الوقت قبل أن يتبعه السيد ويكهام؟»

«في اعتقادي ليس أكثرَ من ثانيةٍ أو اثنتين. وكما قلت يا سيدي، تمسكَت به السيدة ويكهام وحاولَت أن تمنعه من المغادرة، وراحت تصيح فيه بعد أن غادر. لكنه حين لم يَعُد وسمعَت هي صوتَ الطلقات أمرَتْني أن أبدأ في التحرُّك، وأن نذهب إلى بيمبرلي بأسرعِ ما يُمكننا. كانت تصرخ يا سيدي طَوال الطريق وتقول بأننا جميعًا سنُقتَل.»

قال دارسي: «انتظر هنا ولا تترك العربة.» ثم التفت إلى ألفيستون وقال: «من الأفضل أن نأخذ معنا النقَّالة. سنبدو كالأغبياء إن كانا قد ضلَّا طريقهما فقط، وكانا يتجولان من دون أن يُصاب أيٌّ منهما بأذًى، لكن تلك الطلقات تبعث على القلق.»

حلَّ ألفيستون النقالة وجرَّها من العربة. ثم قال لدارسي: «وسنبدو حمقى بشكلٍ أكبر إذا ما ضللنا نحن طريقنا. لكنني أتوقَّع أنك تعرف هذه الغابة معرفةً جيدة يا سيدي.»

قال دارسي: «آمُل أنني أعرفها جيدًا بما يكفي لأجدَ طريقَ خروجنا منها.»

ولم يكن من السهل المرورُ بالنقالة عبر الشجيرات المتشابكة، لكن وبعد التباحث بشأن المشكلة، حمل ألفيستون القماش الملفوف على كتفه وانطلَقوا.

ولم يُجِب برات على أمرِ دارسي بأن يبقى في العربة، لكن كان من الواضح أنه لم يكن سعيدًا بتركِه وحيدًا، ثم انتقل شعورُه بالخوف إلى الجياد التي بدا صَهيلُها واضطرابها لدارسي رفقةً ملائمةً لمغامرةٍ بدأ يشعر بأنها طائشة. راح الرجال يشقُّون طريقهم في صفٍّ واحد عبر الشجيرات المتشابكة التي يكاد يكون اختراقها مستحيلًا، وكان الكولونيل في المقدمة، وببطءٍ كان الرجال يُحرِّكون مصابيحهم يَمنةً ويَسرةً ويتوقَّفون عند أي إشارة قد تشير إلى أن أحدهم مرَّ من هنا، في حين كان ألفيستون يُراوغ بأعمدة النقالة الطويلة بصعوبة تحت فروع الأشجار المتدلِّية على مستوًى منخفض. كانوا يتوقَّفون بعد قطع بضع خطوات ويُنادون، ثم يتسمَّعون في صمت، لكن لم يكن هناك أيُّ استجابة. أما الرياح — التي أصبحت مسموعةً بالكاد — فقد توقَّفت فجأةً وبدا وسط الصمت أن الحياة السرية للغابة توقَّفَت بفعلِ وجودهم غير المألوف.

في البداية، ومن الأغصان الممزقة والمتدلية من بعض الشجيرات، ومن بعض العلامات التي قد تكون آثار أقدام، كان يَحْدوهم الأمل أنهم على الدَّرْب الصحيح، لكن وبعد مرور خمس دقائق أصبحت الأشجارُ والشجيرات أقلَّ كثافة، وكانت صيحاتهم لا تزال لا تجد جوابًا، فتوقَّفوا لينظروا في أمرِ أفضلِ طريقةٍ يُكملون بها مسيرهم. وكان الرجال يسيرون باتجاه الغرب وعلى مسافةِ بضع ياردات من بعضهم البعض؛ وذلك خشيةَ أن يفقدوا التواصل فيما بينهم في حالِ ضلَّ أحدُهم طريقه. والآن كانوا قد قرَّروا أن يعودوا إلى العربة بأن يتوجَّهوا نحو الشرق باتجاه بيمبرلي. فقد كان من المستحيل على ثلاثةِ رجالٍ فقط أن يُغطوا كاملَ مساحة الغابة الشاسعة؛ وإن لم يُسفر تغييرُ الاتجاه هذا عن أي نتيجة فسيعودون إلى المنزل، وإن لم يَعُد ويكهام وديني إلى المنزل عند الصباح فسيستدعون الخَدَم وربما يستدعون الشرطة لِيُجروا بحثًا أكثرَ شمولًا.

ثم تقدَّم الرجال في مسيرهم حين لاحظوا فجأةً أن حاجزًا من الشجيرات المتشابكة أصبح أقلَّ كثافة ولمحوا من خلاله فُرجةً يُنيرها القمر على شكلِ حلقةٍ بلونٍ فِضيٍّ ضعيف من أشجار البتولا. أكمل الرجال تقدُّمَهم وقد تجدَّدت طاقتهم متوغِّلين عبر الأشجار المتشابكة، فرِحين بتحرُّرهم من سجن الشجيرات المتشابكة والأغصان الغليظة الصلبة وعبورهم نحو الحرية والضوء. في تلك البقعة لم يكن هناك مظلةٌ متدلية فوقهم من الأغصان وحوَّل ضوءُ القمر الساقطُ على الجذوع الضعيفة ذلك المنظرَ إلى مشهدٍ جميل أقربَ إلى الخيال منه إلى الحقيقة.

والآن كانت تلك الفُرجة أمامهم. وحين كانوا يتقدَّمون ببطءٍ، وشعورٌ بالروعة يملؤهم وبين اثنين من الجذوع النحيلة، تصلَّب الرجال وكأنهم متجذِّرون في الأرض وقد عقد الرعبُ ألسنتَهم. كانوا يقفون أمامَ لوحةٍ من الموت ذاتِ ألوان برَّاقة مناقضة تمامًا للضوء الخافت حولها. لم ينبس أحدُهم ببنتِ شَفة. تقدَّم الرجالُ في بطءٍ وكأنهم رجلٌ واحد، وكانوا يرفعون مصابيحهم عاليًا؛ فكانت أشعة ضوء المصابيح القوية التي تُغطي على أشعة ضوء القمر الرقيقة تَزيد من كثافة اللون الأحمر الساطع على سُترة ضابط، وعلى الوجه الشنيع المغطَّى بالدم وعلى عينَين جاحظتين تنظران إليهما.

كان الكابتن ديني راقدًا على ظهره وعينُه اليُمنى ملطَّخة بالدم وعينه اليُسرى مثبتة، بغير رؤية، على القمر البعيد. وكان ويكهام راكعًا فوقه ويداه مخضَّبتان بالدماء ووجهه ملطَّخ به. كان صوت ويكهام مبحوحًا وأجشَّ، لكن كلماته كانت واضحة. «لقد مات! يا إلهي، لقد مات ديني! كان صديقي الوحيدَ وقد قتلتُه! قتلته! كانت غلطتي.»

وقبل أن يتمكَّنوا من الرد عليه مال على وجهه وراح ينتحبُ نحيبًا شديدًا مزَّق حلقه ثم انهار فوق جثة ديني حتى كاد الوجهان الداميان يُلامسان بعضهما بعضًا.

انحنى الكولونيل فوق ويكهام ثم اعتدلَ وقال: «إنه مخمور.»

قال دارسي: «وماذا عن ديني؟»

«لقد مات. لا، من الأفضل ألا تمَسَّه. أستطيع أن أكتشف الموت متى نظرت إليه. لنحمل الجثة على النقالة وسأُساعدك في حملها. أنت الأقوى بيننا يا ألفيستون، فهل تستطيع أن تُساعد ويكهام في العودة إلى العربة؟»

«أعتقد ذلك يا سيدي. فهو ليس ثقيلَ الوزن.»

وفي صمتٍ رفع الكولونيل جثة ديني على النقالة ذات النسيج الغليظ. ثم تحرَّك الكولونيل ليُساعد ألفيستون في إنهاض ويكهام. كان ويكهام يترنَّح لكنه لم يُقاوم. وقد لوَّثت أنفاسُه — التي كانت تخرج في شكل شهقات — جوَّ الفرجة برائحة الويسكي العفنة. كان ألفيستون أطولَ من ويكهام، وبمجرد أن تمكَّن من رفع ذراع ويكهام اليُمنى ووضعها على كتفه كان قادرًا على حمل جسده الخامل وجرَّه مسافة بضع خطوات.

كان الكولونيل قد انكبَّ على الأرض ثم استقام مرةً أخرى. وكان يُمسك مسدسًا في يده. تشمَّم الكولونيل فوَّهة المسدس وقال: «هذا على الأرجح هو السلاح الذي أُطلِقت منه النار.» ثم أمسك هو ودارسي بدعائم النقالة ورفعاها في شيءٍ من الصعوبة. ثم بدأ الموكب البائس طريق عودته الصعب إلى العربة، فكانت النقالة في المقدمة وألفيستون يسير خلفَهم ببضع ياردات مُثقلًا بويكهام. كانت آثار مرورهم واضحةً بما يكفي فلم يجدوا صعوبة في تتبُّعِها لكن الرحلة كانت بطيئةً ومضجرة. وكان دارسي يسير خلف الكولونيل والكآبة تُغلِّف روحه، فتبادرَ إلى ذهنه الكثيرُ من الأفكار المخيفة والمثيرة للقلق، فجعلت من المستحيل عليه أن يُفكِّر تفكيرًا منطقيًّا. لم يكن دارسي قد سمح لنفسه قبل ذلك أن يُفكِّر في مدى قُرب إليزابيث من وويكهام حين كانت بينهما صداقةٌ في لونجبورن، لكن الآن كانت الشكوك التي تنمُّ عن الغيرة تتزاحم في عقله، وقد اعترف بأنها غيرُ مبرَّرة وواهنة. وفي لحظةٍ من الانزعاج كان يأمُل لو أن جثة ويكهام هي ما يُثقل كاهله، وقد روَّعَته فكرةُ أنه كان يتمنَّى الموت لعدوِّه حتى ولو للحظةٍ واحدة.

كان الارتياح باديًا على برات حين رأى عودتهم، لكنه حين رأى النقالة بدأ يرتعد من الخوف ولما انتقلَت رائحة الدماء إلى الخيل أصبحَت خارجة عن السيطرة، ولم يتمكَّن برات من السيطرة على الجياد إلا بعد أن وجَّه إليه الكولونيل أمرًا قاطعًا. أنزل دارسي والكولونيل النقالة على الأرض وأخذا غطاءً من العربة وغطَّيا به جثةَ ديني. كان ويكهام هادئًا أثناء مسيرهم في الغابة، لكنه الآن أصبح عُدوانيًّا، وشعر ألفيستون بالارتياحِ أكثرَ حين ساعده الكولونيل على إدخاله إلى العربة وجلس بجانبه. ثم أمسك الكولونيل ودارسي مرةً أخرى بدعائم النقالة، وحملا حمولتهما على أكتافهما التي أصابها الألم. كان برات قد سيطرَ على الجياد أخيرًا، وفي إعياءٍ جسديٍّ وذهني كبيرَين بدأ دارسي والكولونيل مسيرهما الطويل الصامت خلف العربة عائدَين إلى بيمبرلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤