القول في تبدل أوضاعنا

كان من أنواع الانقلابات السياسية والاجتماعية والصناعية في القرن التاسع عشر أثرٌ كبيرٌ في تبدُّل حالة أهله قد لا يتأتى وقوع مثله في عصور طويلة. تبدلت الأنظمةُ وقوانين الحكم، وتبدلت بتبدلها عقلية الشعوب ومطالب حياتهم، واستمتعوا بحرياتهم ومنها حرية القول وحرية الاجتماع، فجسر الصغار على الكبار، وارتفع الوهم وزال الوقار الذي كان ينتظم الطبقات العالية، وطالبتْ الطبقات النازلة بحقوقها ولطالما خضعت للحكومات وأرباب القوة خضوعًا أعمًى. وكان تناوُل أعمال الكبير بالنقد والتجريح مما ينافي الأدب، ويُحسب خروجًا على الطاعة وقانون الجماعة، فسُلب هذا الكبير بعض ما كان له من امتياز، وغَدَا في الجملة لا اعتبارَ له إلا بقدر ما يملك ولا قيمة له إلا ما يُحسن.

نشأ معظم ما حدث من التبدل في الأوضاع والطباع من انتشار المعارف وسهولة التعلم، فتهيأتْ للفقراء أسباب التثقيف، وكان ذلك، مِنْ قَبْلُ، خاصًّا بالمياسير والأعيان فشارك الوضيعُ الرفيعَ والفقيرُ الغنيَّ في نعمة الانتفاع بالأفكار، وبَطَلَ احتكارُ العلم وكان في الدهر السالف وقفًا على طبقة خاصة، وكُشفت المضنونات، فعرف ابنُ الكوخ الحقير ما يعرفه ابنُ صاحب القصر الكبير، وتَبَدَّلَتْ أحاديثُ الناس في مجالسهم، وكانوا إلى عهد قريب لا حديث لهم إلا الكلام في الأطعمة والأشربة والشهوات، والمستنير منهم يشغل جانبًا من وقته في اقتناص المنامات والخيالات، ويَعُدُّ من كمال الإيمان أن يفكر في الآخرة أكثر مما يفكر في الدنيا. أما اليوم فإن الطبقات النازلة قد تبحث في المسائل العامة، وتُقَلِّبُ أحيانًا وجوه الرأي في حكومتها وحالتها، وقد تخوض في السياسة وتعرض للاقتصاديات، ولكل ما كان لها به اتصال مباشرةً.

كان الناس في القرن الماضي أقرب إلى سلامة الفطرة وسلامة الطويَّة، وإلى هدي الدين وتعاليم الحكمة. وبهجوم المدنية فجأة تَحْمِلُ من الشهوات ما يفتن ويغري، ومن المعارف ما وسعت العقول، تزعزعت المعتقدات وتطورت العادات، واشتدت شكيمة الأثرة، وكان الناس أقرب إلى الإيثار، ويرون من واجبهم أن يعطفوا على المَعُوز والمحروم، ويجاملوا الجار والعشير، وكانت روابطهم مستحكمة، ومن يبذل للمحتاج يَعُدُّ بذله فرضًا عليه.

كثرت الثروة بما أبدع الغرب من ضروب الصناعات، وفتح البخار والكهرباء منافذ الطرق لرواجها، فزادت علائق ابن الشرق بابن الغرب وابن الجنوب بابن الشمال، وامتزجت الأُمم امتزاجًا ما كان لها عهد ببعضه، ونَعِمَ ابن الشرق بمصنوعات ابن الغرب، وتوسع ابنُ الغرب بحاصلات ابن الشرق، وقام كل شيء على أساس المادة وتبادل المنافع.

كان الفرد يشتغل لنفسه، وينجح بحيلته ومهارته، ويحتمل وحده تَبِعَةَ جهاده، فشعر بالحاجة إلى التعاون مع غيره، لتشعب الأعمال وتشابكها، وعَجْز الأفراد عن الوفاء ببعضها، فتألفت الشركات التجارية والصناعية والزراعية تُفني الفرد في المجموع، وتجعل الكلمة العليا للجماعة، فنشأت من ذلك المذاهب الاشتراكية والشيوعية.

كانت النفقات محدودة معينة، يظن كل من يُطْعَمُ طعامًا عاديًّا، ويلبس لباسًا خشنًا، ويملك كوخًا ضيقًا أنه حاز السعادة، فلما أقبلت المدنية الجديدة كثرت المطالب، فاستلزمت الحياةُ الجديدةُ بالضرورة كدحًا متواصلًا وجهدًا مضنيًا. وكان التاجر إذا عمل ساعات قليلة يربح ما يكفيه أيامًا، فصار يصل الليل بالنهار ليكسب عيشه، وغدا أقل إهمال منه في عمله يطرحه إلى الحضيض جانبًا فيفلس ولا يجد من يرحمه.

اقتضت الحياة العصرية نفقات باهظة على الطعام والشراب، ونفقات على البيوت وفرشها، وعلى الكسوة والأزياء والمظاهر الخارجية، ونفقات على الرفاهية والراحة كالنزهات والرحلات والاصطياف. كانت المرأة تعيش بثوب واحد طول السنة، وملائتها وإزارها وجواربها وحذاؤها رخيصة بسيطة متينة تلبسها سنين، فأَمْسَتْ تحتاج إلى عدة أثوب وإلى ألوان من الأزياء، وقد تنفق في حذائها وجواربها من المال ما كان يكفي أُمَّها أو جدتها للباسها صيفًا وشتاء، وكان الرجل يلبس قَباء وعليه معطف، أو عباءة، أو فروة أو جبة أو برنس تجزئه السنين فلَزِمَتْه شُعَب من الثياب تشبه ما تشعب عند المرأة من أدوات الزينة كالمساحيق والأصباغ والتطرية والحَفِّ والنتف والكي واللَّيِّ مما شارك فيه النساءَ كثيرٌ من الشبان، وكان الفتيان يطلقون لحاهم في مَيْعَة الفُتُوَّة ويعدون حلق الجُمَّة واللحية من المثلة.

وما كان غيرُ الموسرين من أهل القرية أو الحي يتمتعون بلبس الجوخ والحرير، وقد يستعير الفقراء الجبة من الغنى فيهم ليلبسوها العروس يوم زواجه، كما يستعير النساء البذلة الطريفة من السيدة الغنية لتُكسى بها الفتاة ليل زفافها. يجمِّلون العروسين بطرائف غيرهما ساعة، ويعلق على الفقيرات في عرسهن من حلي الغنيات ومجوهراتهن، وما كان حلي المتوسطات والفقيرات يتجاوز الفضة والنحاس والخرز والودع.

ويطول بنا نفس القول إذا أردنا تعداد ما زاد من الأصناف للظهور والزينة والبذخ داخل البيوت وخارجها، حتى ارتفعت النفقات الكمالية، وأَرْبَتْ على النفقات الضرورية. ولقد تقتطع المرأة والرجل من طعامهما وطعام أولادهما جانبًا، ويتغذون بما اتفق، ولا يحول الأبوان عن الظهور بالمظهر الذي يعتقدان أنه يليق بهما أمام أهلهما وجيرانهما ومعارفهما. والفقير يحاول، في كل حال، أن يسير بخُطًى لا تتفق وقوته المادية، والمتوسط أبدًا على تقليد الغنيِّ، وكل طبقة تمشي على أثر طبقة أعلى منها من حيث تريد ولا تريد، يَتَشَبَّهُون في أمورٍ ما كان للأجداد مثلها، وما كانت مما يعرفونه.

وبديهي أن أفانين الحياة كانت موجزة، والبساطة الأصل في العيش، وكان من البساطة اقتصاد، ومن الاقتصاد ادخارٌ وغِنًى، فتضاعفت الأكلاف، والموارد على نسبتها إن لم تنقص لم تزد، ودعت حالة العصر إلى الإنفاق على أشياء ما كانت تخطر لأجدادنا ببال.

أُولع الناس بالسرعة في كل شيء، فبعد أن كان الحاج يصرف أكثر من سنة في ذهابه وإيابه برًّا من الغرب الأقصى إلى الأرض المباركة، أصبح يصرف شهرين، وهو لا يرضيه ما اقتصر له من الأبعاد، يود لو يحج بالطيارة في ساعات. وكان الرجل يقطع المسافة من بغداد إلى القاهرة في نحو شهرين، ويغتبط إذا حملتْه خيل البريد، فتيسر له اختصار ثلثي المسافة التي تلزم القوافل، والآن يقطع السائح المسافة نفسها في الطيارة في ست ساعات، وربما استطال هذا الوقتَ القصيرَ أيضًا ووَدَّ لو يكون ثلاث ساعات فقط.

وكأن الناس في أيامنا نسوا، وهم يجتازون البحر المتوسط من شرقه إلى غربه في بضعة أيام على السفن البخارية، أن أجدادهم كانوا يقطعون هذا الحوض في أشهر على السفن الشراعية، ثم إن سفنهم ما كانت تبحر إلا في موسم الصيف. أما قطع الصحاري فنعوذ ابن هذا القرن من تصورها، فضلًا عن المغامرة في اجتيازها، وكان أقل ما يلزم لاجتيازها الشهران والثلاثة، وصحراء إفريقية الكبرى وصحارى بلاد العرب والجزيرة وخراسان والجبال، متعِبة معطِشة مهلِكة، ولطالما أتعبت الإنسان والحيوان، وقد هلك فيها من أجناس الخلق مئات الألوف، واليوم تجتاز الصحراوات من طرف إلى آخر في يوم أو بعض يوم على متون السيارات والدراجات.

كان الفلاح يوافي الحواضر على بغله أو حماره أو فرسه أو جَمَله، فغدا اليوم لا تطيب نفسه إلا إذا تصدر في السيارة، وقطع المسافة بين مزرعته والمدينة في نصف ساعة أو ساعة، وكان يجتازها في يوم أو بعض يوم والفلاح لا يدري أن ما يخرج من جيبه لا يحتمله دخله، وأن مجموع ما يبذل في هذه السيارات لا يصدره هذا الشرق القريب، وأرضه لا تخرج بنزينًا ولا زيتًا ولا مطاطًا ولا حديدًا، ولا يحسن بنوه صنع سيارة ولا دراجة. وحكوماته لا تقدر إلا أن تسير باقتصاديات ممالكها إذ تفتح أبوابها لكل وارد من ديار الغرب.

ولقد خسرت الديار الشامية منذ الحرب العامة (١٩١٤–١٩١٨) في السيارات نحو أربعين مليون جنيه ذهبًا وما نفع الإسراف في هذا المال إلا المعامل التي تصنعها، فكم كانت يا ترى خسارة القطر المصري من هذا الصنف فقط؟ والناس مع كل ما أحسوا به من خسارة لا يرون إلا تقليد غيرهم في حب السرعة، ولو كلفهم استخدام السيارات في المساوف البعيدة والقريبة ما يذهب بثرواتهم، وهذا من بلايا عدم البصيرة في حساب الدخل والخرج.

والظاهر أن المدنية وحدة لا تتجزأ تدخل على الشعوب طوعًا أو كرهًا، ولا مناص لمن يقبلها إلا أن يرضى بما فيها من ربح وخسارة ومن محاسن ومقابح، ومَنْ سَرَتْ إليهم عدواها من الشعوب؛ وأخذها بحذافيرها على غير استعداد لها، خرج بما لقف منها عن نظامه القديم فجأة. ولما جاءت المدنية الغربية الأقطار العربية حملت إليها مساويها ومحاسنها، ومن البلاء أن أخذ الناس أكثر المساوئ وقليلًا من المحاسن.

جاءت المدنية تحمل في مطاويها المخدرات والمسكرات، وتأتي بالموبقات والمخزيات، وتنشر القمار وما يتصرف على القمار، وتسهِّل المضاربات والمغامرات، فافتقر بعض البيوت، وتجلى الفرق بين الابن وأبيه، والفتاة وأُمها في تكاليف الحياة، وزاد بؤس من أخذوا بالمذاهب الجديدة في عيشهم ولَمَّا يستعدوا الاستعداد الكافي، واسودت الدنيا في وجوه وبسمت لآخرين.

لا نقول: إن الشرق كان خاليًا مثلًا من المسكرات في القرن الماضي، بل نقول: إنه كان ولا يزال مبتلًى بموادَّ مضعفة للصحة والعقل، ومضارها أكثر من مضار المسكرات، عَنينا بها المخدرات الشرقية. فأهل اليمن تقتلهم حشيشة القات المخدرة، وأهل مصر يئنُّون من الحشيش؛ وأهل فارس يقرضهم الأفيون، والشرق، مع هذا، قلد الغرب حتى في أسباب سروره، فاختار من المسكرات ما قد يلائم طبيعة الغرب ولا يلائمه، اختار الويسكي والكونياك مثلًا، وهما شرابان كان في المسكرات القديمة من صنع هذه الديار ما يسد مسدهما، وربما كان أقل منهما ضررًا، واختار من المخدرات المُضرة الكوكايين والهيرويين، ونظرة خفيفة على كشوف الجمارك المصرية تكفي لنتصور كم تنفق مصر اليوم على المعسكرات والتدخين من الأموال مما لو صَحَّت النية على إنفاقه على التعليم والصحة لقلَّ الأُميون في وادي النيل، وندر المصابون بالبلهارسيا والأنكلستوما والملاريا من الأمراض الفتاكة. ومثل ذلك يقال في سائر الأشياء التي كان الناس في غنية عنها وتُعد اليوم الجزء الأساسي من حياتهم.

•••

وبعد، فقد كان الناس إلى الرضا والقناعة والطمأنينة والتؤدة في عامة أحوالهم، فأمسَوْا لا يعرفون للرضا معنًى ولا للقناعة طعمًا، ويتعجَّلون كل شيء قبل إبانه، يريدون أن تواتيهم الأقدار في كل ما يحبون لا يتريَّثون فيما تطمح إليه نفوسهم، يحاول الرجل أن يغتني في أشهُر معدودة، فإذا لم يحقق الزمنُ أمنيته، ولم يقلب له المولى نظام الكون، حنق لإخفاقه فيما كان يحاول الوصول إليه، واكتأب فعاد يندب سوء بخته، والسويداء تبرح به، لا يدخل المرح والهناء قرارة قلبه؛ ذلك لأن نفسه لا ترتاح إلا إذا حصل على المعقول وغير المعقول من رغائبه.

نعم كثُر المتشائمون، وقلَّت القناعة المعقولة، ووقع التكالُب على العيش، وعمَّ الجشع والنهم على صورة بشعة منكرة واستحل الناس الخروج في إرضاء شهواتهم على قوانين الأرض وقوانين السماء. وركب طلاب الغنى مركبًا خشنًا خلا أكثره من الشرف فاستحلوا أكل أموال غيرهم بالباطل، واستجازوا ارتكاب الغش والتزوير، وبعُدوا، بعدًا باعدًا، عن الصدق والأمانة، وارتفعت الثقة بين أهل البلد الواحد، بل البيت الواحد. وزورة قصيرة لإحدى المحاكم تنبئكم قضاياها الغريبة بذهنية الخلق في هذا الدهر.

وبالحرية، التي لم يفهم أكثر الناس حقيقتها، زاد الفحش، وبالانحلال من الدين كثر القتل والسلب والسعايات، واستحل المستحلون كل كبيرة إذا أدت إلى اكتساب مال، وإحراز جاه، والقضاء على عدو أو منافس، وبطل ما كان يتمتع به أسلافنا من التآلف والتراحم، وما أثر عنهم من الوفاء والمروءة وصدق الولاء وجميل العطف.

غدا في المدنية الحديثة كل فرد لا يهتم إلا لِذَاتِهِ، ولا يحرص إلا على لَذَّاتِهِ، وضعفت الشفقة من الصدور حتى على الأهل والولد، وخف عطف البنين على والديهم، وخرج الأبناء عن طاعة الآباء ورضاهم، وقَسَتِ القلوب وتحجرت الضمائر وكأن لسان حال كل إنسان: «إذا مُتُّ ظمآنًا فلا نزل القطر.» وكانوا ينشدون قول الشاعر:

فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادا

يقول الباحثون من علماء الأخلاق والاجتماع في الغرب: إن الأخلاق على الإطلاق سقط مستواها، بعد الحرب العامة، سقوطًا مريعًا، وحار بعضهم في تحليل هذا الانحلال الفجائي، ونحن نحلل السبب فيه، بحسب ما ظهر لنا من حال مجتمعنا ومجتمعهم، بأن الناس أصابهم في الحرب اضطرابٌ في الأعصاب والعقول لكثرة ما رأوا في ساحات الوغى من أهوال. شاهدوا أجسامًا شوهت، وحواسَّ عُطلت، ورأوا في بقايا السيوف المُقعد والأجذم والأقطع والأهتم والأعور والأعمى والمشلول والمفئود والمصدور والمجنون، وهالهم ما قُتل من أنفُس، ويتِّم من أطفال، وتَأَيَّمَ من نساء (والحرب مأيمة ميتمة). رأوا منظرًا من أفظع المناظر التي شهدها الإنسان.

بهذا تبدل نظر العالم في الحياة، فأقدموا على تَغَنُّم مباهجها ومناعمها، وبالغوا في الإسراف وتعجُّل اللذائذ، وغلوا في سبيل الفسوق والشهوات، وأوغلوا في تطلُّب الكماليات، وكانوا يرون بعض ما هم فيه من قبل منافيًا لقواعد الأدب، فيراعون فيما ابتلوا به اعتبارات الخلق، فلا يستهترون كفعل جماعة العري في بعض أصقاع أوربا تجردوا مما يستر عوراتهم حتى في صميم الشتاء، وزعموا أن عملهم للصحة والرجوع بالإنسان إلى الطبيعة.

جرءُوا، إلا من عصم الله، على ما كانوا يتخوفون منه، وكان المبتلى بالمنكرات يتوخى، إذا أتى أمرًا ينبو عن مصطلحات الجماعة، أن يكون ذلك منه في سر ليخفى على الأهل والجار. وبتأثير التمدن الجديد اليوم يرى بعضهم أن ما يأتيه هو من الأمور الطبيعية فلا يستمع إلى من ينكر عليه، ولا يخشى عذل عاذل، ولا يعبأ بنصح ناصح.

نعم فُتحت أبواب المنكرات والشهوات، وكثُر السرف في كل شيء على ما لا تتحمله حالة كل الطبقات، ودخلت الكبرياء والتعاظم في طبقة المتعلمين والممدنين، وعلى نسبة الترقي في العلم والمعارف كان التدلي في الأخلاق، إلا من رحم ربك. زاد التبجح والتنفج وإذا ببعض الشبان يزهدون في الزواج، ولا سيما في المدن فرارًا من تأسيس بيوت، يحاولون أن يكون الكمال آخذًا بكل ما فيها، وإذا هم يتخوفون من أن يولد لهم أولاد تضيق الصدور بتربيتهم، يَتَحَيَّلون للنجاة مما ينبغي للحياة الزوجية من كُلَف موجعة، فأحجموا عن الإحصان فاختلت، بالضرورة، نواميس التصوُّن والتعفف، وكسدت البنات وزاد العوانس، فزاد الفجور، وضُربت الفضائل في ديار الإسلام وديار الإفرنج في الصميم.

واختل بعد الحرب نظام الحجاب فجأة في أرضنا، فكان في السفور الذي لم تُعَدَّ له أدواته من تربية وتأديب مضارُّ غير قليلة، فأشبهت المرأة في مصر والشام إنسانًا طال عهده بالأكل فأتاه الفرج بأن جيء له بأطيب الألوان فأكل وأسرف في الأكل بعد صيامه وحرمانه، فتأثرتْ بما فعل صحته.

ونشأ عن غدو النساء ورواحهن، بدون محارمهن، في السيارات والقطارات والبواخر، ونزولهن في المصايف والمشاتي، وفي الفنادق والمنازل والمقاهي، والحمامات والملاعب والملاهي أمورٌ ما كان يجري مثلها إلا على الندرة، وفي شيء من التكتم.

ثم إن تجمير الجيوش — أي: إبقاء المجندين طويلًا في ساحات الحرب — أَبْعَدَ الرجال عن النساء فكان لبعضهم حُجَّةٌ للتحلل من القيود القديمة. وزاد في الفساد ارتفاعُ أثمان الحاجيات، وانسداد أبواب الرزق في بعض الأصقاع فتطلب النساء الرجال، وأصبحت حظوة الخلوة بين الجنسين زمان الحرب أقرب من التقاط الحصا من أرض محصبة، أو النبات المنثور في حقول مخصبة. ونشأ من ذلك جرأة على أنظمةٍ عاش البشر يراعيها ألوفًا من السنين، وتبع ذلك فسادُ الأسر والنسل بخروج بعض النساء والرجال عن أحكام الروابط الزوجية، وضعف الوازع وارتفع الحياء، وكثرت القِحَة والسلاطة وسوء الأدب، وما بقي لأحد أن يطالب غيره بحقه.

ومن العوامل التي زادت في هذا الاستهتار أن اغتنى كثيرون فجأة في الحرب، فنعموا بشقاء غيرهم، وسلبوا حصة الجائع والعريان، وملئوا جيوبهم بما جمعوا من أرباح، وإذ لم يتعبوا بما كسبوا أسرفوا في إنفاقه، فقلدتْهم الطبقات الأخرى في سفاهتهم، وكان القانون في جمع الثروات أن تجمع في المُدَد المتطاولة، وأن تُصرف بالحسنى، فصار الفرد المتخلف وراء صفوف المتحاربين إذا كان على شيء من الذكاء، وفُتح له باب من أبواب الكسب يُثرى بسرعة على ما لم يقدر له في جيل أو جيلين.

وقد سمعنا من جنون أغنياء الحرب العالمية ما لم يخطر للمفكِّر في خاطر. رأينا منهم من كان يُشعل لفافة التدخين بورقة مالية من ذات الخمسين دينارًا، ومن يُعطي في ليلة يقضيها في موبقاته بِضْعَ أوراق من ذات المائة دينار. وبَلَغَنا عن بعضهم أنه كان يجلس إلى منضدة اللعب فيخسر الألوف وهو باسمٌ، ومنهم من كان يغسل رجليه بعدة زجاجات من الشمبانيا، وكان ثمن الزجاجة الواحدة، من هذا الشراب العزيز، الدينارين والثلاثة. كانوا يأتون هذا السفه والخَلْقُ يموتون جوعًا ومرضًا.

•••

يقول أناتول فرانس: إن الجراثيم الضارة تربى في أرضنا على غاية من السهولة، وكانت بذور الجراثيم في الزمن الغابر تنمو في بعض النفوس الخاملة على خفاء، أما الآن فتنمو وتلوث جميع الرءوس التي أَلِفَت الرذيلة، ففساد السياسيين، وفضائح المضاربين، ومفاخرات السارقين، وجرائم المجرمين، كل أولئك يطير ويسير ويفسد النفوس بسرعة الصاعقة، أريد أن أقول بسرعة البرق، أي: على معدل ثلثمائة ألف كيلو متر في الثانية، قال: والصحافة أبدًا تسعى لإسقاط كل صاحب مكانة لتُضحك قراءها، وتعلِّمهم ثَلْم الأعراض، وكشف كل ستر، والقحة أول ما يتجلى في المجتمع الحديث، ثم احتقرت الثقافة الحق، واستعيض عنها بطلاء سطحي مستعار. وكان الخلق قبل هذه المخترعات الكبرى يتفاوضون قليلًا ويوجزون، فيقتصرون في تناجيهم على إيراد الأمور الجوهرية، والعالم طبقتان: علماء وجهلاء، أما الآن فقد قربت الأبعاد، وتَعَبَّدَ كل صعب، وسَهُلَ كل أمر، وأخذ كل واحد يتحف صاحبه بما عنده من التافهات والبلاهات، يتكلمان في كل شيء، ولا يحفلان شيئًا من الأشياء. قال ونحن مقبلون في كتيبة من الجهل والغرور على مستقبل فيه قِحَةٌ، وفيه بلبلة وفيه سفاهة، ولعله لا يخلو من بلاهة وغباوة.

أوردنا بعض العوامل المهمة التي نشأت منها هذه الظاهرة في تبدُّل الأوضاع والطباع، وقد رأينا الأخلاق انحطَّتْ انحطاطًا اضطرب له نظام الجماعات، وانحل كل عقد، أَوْ كاد، وعم البلاء وقَلَّ الخير، وندر من يبالي بمداواة هذه العلل بالتماس المخارج منها. وربما كان في ضعاف العقول من يهزأ بهذه الأفكار ويعدها من القديم البالي لا تَمُتُّ إلى المدنية بسبب. وكأنا بهذا الفريق يظن أن المتمدن لا حرج عليه فيما يأتي، وأن مسائل الأعراض والشرف من شأن المنحطين في المدنية أن يهتموا لها، والمتمدن يلتمس لها المخارج، وعندهم أنه لا حرج على من يحاول الهناء أن يرتكب كل كبيرة للوصول إلى شهواته، وأن كلمة الحلال والحرام يجب أن تحذف من المعاجم؛ لأنها من مواضعات عصور الظلمات، ولا يليق بابن هذا القرن أن يذهب مذاهب في الحياة هي مما أكل الدهر عليه وشرب. كلا إن البحث في منشأ هذه المخازي، والتوسل إلى مداواتها، من واجب العلماء المفكرين والوعاظ المرشدين، ومعالجتها من أقدس أعمال الصحافيين في صحفهم، والمؤلفين في مؤلفاتهم، والخطباء في مساجدهم ومعابدهم.

بقيتْ كلمة تلحق بتعليل هذا التبدل الطارئ على الطباع وهي: هل كان في الإمكان اتقاء هذا التبدُّل الذي ينافي عادات الشرق ومصطلحه، وهل كان الأَوْلى أن يمتنع عن قبول كل ما أتاه من الغرب، ويسد دونه أبواب أرضه ومنافذها؟ فالجواب على هذا غير عسير، إذا أدركنا أن المدنية كالسيل الجارف يكتسح كل من وقف أمامه، ومن المتعذر اقتباس الجميل كله، واتقاء القبيح كله.

دخلت مدنية الغرب كل صقع، ونفذت إلى البوادي والصحاري نفوذها إلى الحواضر والمدن، وقد قال المؤرخ الإنكليزي موير في كتابه «الوطنية والدولية» إنهم حاولوا قبيل الحرب العامة أن يجدوا في العالم أرضًا لم تطأها المدنية الغربية فلم يعثروا على غير ألف ميل مربع فقط. أي: أن القارات الخمس، بسهولها وجبالها وأوديتها وبحيراتها وأنهارها، سَرَى إليها روح الغرب طوعًا أو كرهًا. وأن الأُمم والشعوب كلها أخذت بحظ، ولو قليل، مما أَتت به هذه المدنية الحديثة، وأن أعلام دولها، وإن لم تخفق مباشرة على بعض الأصقاع، فقد جعلت تحت سيطرتها ونفوذها وانتدابها وحمايتها ووصايتها.

إن من ينكر حسنات هذه الحضارة كمن ينكر نور الشمس، وما حسناتها في الواقع إلا نعمة من النعم التي لم يصب البشر مثلها في أدوار تاريخه. ولكن هذه الحضارة نُسجت في القرون الطويلة حتى استقامت لأهلها، ونحن على تباين ما بيننا وبين من قامت على أيديهم من أُمم الإفرنج، حاولنا اقتباسها في أعوام قليلة، وفرقٌ بين ما يؤخذ بالتدريج فيرسخ على الزمن، وما يحاول استصفاءه بسرعة قد يضل بها المقتبس طريق الاحتذاء.

لو كانت البلاد الشرقية على شيء من الاستعداد منذ عصر النهضة في إيطاليا لتمثلت تلك الحضارة جرعةً جرعة مع من كان يتمثلها من الشعوب والأُمم العربية، وكان الخطب سهلًا في هذا التبدُّل لولا ما هنالك من فوارق عنصرية ودينية وإقليمية تُباعدنا قليلًا من أصحاب تلك الحضارة. ونحن على ضعفنا نجتهد أن نحتفظ بجميع هذه الميزات والمشخصات فينا دون أن نَمَسَّ أصلًا من أُصولنا.

قطَّعت الدول البائدة في الشرق أوصال أقطاره، حتى غدا ابن النيل لا يعرف ما عند ابن الفرات، ولا ابن الغرب الأقصى والأدنى يشارك أخاه في جزيرة العرب بشيء يعتد به، فكان ذلك في العصور الحديثة من العوامل التي هيأت للدول العظمى أن تؤدب من استولت عليهم الأدب الذي تريد لا الأدب الذي تتطلبه طبيعتهم، ولم تؤلف من مجموع هذا الجسم العظيم مجموعة صالحة في الجملة تصبر على المحن والشدائد، وتصدر في توحيد جهودها عن قوة وسلطان، وصار هَمُّ أهل كل بلد أن يعيشوا كيف اتفق، والحياة في مجموعها ليست أكلًا وشربًا وتناسلًا، بل فيها من ضروب المعنويات ما لا سبيل إلى لذاذة العيش بدونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤